سعد سلوم
الحوار المتمدن-العدد: 1373 - 2005 / 11 / 9 - 13:01
المحور:
الصحافة والاعلام
الطبعة العربية من الأعلام الموجه
سعت الولايات المتحدة في السنوات القليلة الماضية إلى أن تعيد، مع المنطقة العربية؛ إنتاج تجربتها في الإعلام الموجه في أوروبا في ما بعد الحرب العالمية الثانية وفي حقبة الحرب الباردة. واغرتها النجاحات السابقة في التحدي الثقافي في الحرب الباردة بارتكاب أخطاء وخوض مجازفات بثقة زائدة عن الحد.(انظر قصة هذه النجاحات في كتاب: فرنسيس ستونر سوند رز،الحرب الباردة الثقافية، ترجمة طلعت الشايب، القاهرة، 2002)
ففي ألمانيا ما بعد سقوط النظام النازي، قامت سلطة الاحتلال الأمريكية في ما بعد سنة 1945، كما فعلت في أجزاء النمسا المحتلة أمريكياً؛ إلى إعادة تخطيط الساحة الإعلامية، على أمل تشكيل الرأي العام الألماني على أسس جديدة كلياً. وفي واقع الأمر؛ نجح المسؤولون الأمريكيون في هذا المسعى إلى حد كبير، وكان من إنجازاتهم تأسيس صحف وتسليمها تدريجياً إلى طواقم محلية، لتتابع المسيرة ضمن مسار وطابع يتفق مع الرؤى والمطالب الأمريكية، حتى مع استقطابها لأقلام ومحررين من بقايا العهد النازي طالما أنه لم يكن من ذلك بد، لتبقى هذه الصحف قائمة في معظمها حتى اليوم، مشكلة قصة نجاح أمريكية، سيُصار إلى محاولة إعادة إنتاجها في بؤر مأزومة أخرى.-وهو ما طبق في العراق، ضمن حدود معروفة وواضحة،مع اختلاف في الدرجة وتماثل في الهدف-
وقد أخذ المسؤولون الأمريكيون في السنوات الأخيرة يكثرون من استعادة هذه التجارب، مشددين على أهميتها في التعامل مع منطقتنا باتجاه تحقيق التحول ضمن ديمقراطية الموجة الرابعة(انظر مقالنا عن ديمقراطية الموجة الرابعة المنشور في ملف الحوار المتمدن عن الديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي) .وفي الأشهر الأولى لاحتلال العراق كان الخطاب السياسي والإعلامي الأمريكي يعقد المقارنة(إن لم نقل المماثلة) مع تجربة الولايات المتحدة مع ألمانيا واليابان، وهي التجربة التي كان لها مسار إعلامي أيضاً، بوصفها ستكون الوصفة الناجعة في العراق المحتل أيضاً، وهو أمر بات الواثقون من نجاحه، يتحاشون التطرق إليه لاحقاً مع الانغماس المتزايد في مشاكل التجربة العراقية الزاخرة بتعقيدات غير متوقعة. ولكن مع كل امتلاك الولايات المتحدة وسائل التأثير والتجربة التاريخية ،لماذا تنامى العداء تجاه الولايات المتحدة وفشل الاعلام الامريكي في وضع استراتيجية لتجاوزه ؟ولماذا فشلت الولايات المتحدة في معالجة جذور هذا العداء بل قامت بتعميقه وترسيخه ؟وهل هناك عوامل للنجاح غفلت عنها الولايات المتحدة بصورة عمدية او لعجز في قراءة الواقع ؟ قبل الإجابة عن هذه الاسئلة علينا تفحص جذور ومديات العداء لامريكا.
حاجز العداء النفسي في عصرنا
((لا تتفاجأوا إذا ما صرخنا في أوربا من أقصاها الى اقصاها:حذار، أمريكا هي الكلب المسعور!لنقطع كل رابطة تربطنا بها لئلا تعضنا ونصبح مسعورين أيضا)) جان بول سارتر
((باستثناء بعض الأفراد،أصبح الأمريكيون أمة من الاغنام،انهم خاضعون تماما ويفتقدون أي روح انتقادية))سيمون دي بوفوار
(( إذا أزلت معاداة الأمريكية، لايبقى هناك شيء من الفكر السياسي الفرنسي اليوم،على اليمين أو على اليسار على السواء)) جان فرانسوا ريفيل
يتعرض الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ريفيل في كتابه(رياح التغير الجديدة) الى اوسع الحواجز النفسية في عصرنا وهو(العداء لامريكا).ما هي مصادر العداء لامريكا وما هي مظاهره؟ يرى ريفيل انه من الصعب تبين الاولى دون وصف الثانية.فالدراستان لا تفترقان ابدا،رغم انه يمكن تحليل المظاهر اما الاسباب فيمكن تخيلها فقط(نتحفظ على ذلك لان منطقتنا تزخر باسباب عداء لها ثقل على ارض الواقع) ويرى انه عند تحليل المظاهر يصعب التفريق بين بين ما هو نابع من الانتقاد القائم على اسس ومعطيات صحيحة وبين ما هو ناتج عن عن فكرة ثابتة شاملة ترفض التقدير المعقول والمفهوم على الاقل.
ويرى ريفيل ان التنديد بأمريكا بسبب الحوادث التي تجري بها يشبه المثل القائل:يرى الخصم القذى في عين خصمه ولا يرى العمود الذي في عينه.وبهذا فهو يحاول تحليل جذور العداء لامريكا عن طريق المقارنة ليصل الى ان معظم اراء الاوربيين عن امريكا غير صحيحة واذا فرضنا انها كانت صحيحة فكيف يفسر الاوربيون ان موسوليني وهتلر ومحاكمات موسكو ومعسكرات الاعتقال والاضطهادات العنصرية والغستابو...الخ فكيف نفسر ان كل هذا حدث في اوربا لا في امريكا؟
ويضع تساؤلا اساسيا يفصح عن جوهر نقده للتعصب الاعمى ضد امريكا: فكيف استطاعت امريكا ان تحافظ دائما على سلامة مؤسساتها الديمقراطية حتى لو تعرضت للتهديدات والمخالفات ونجحت في عدم الوقوع في الفاشية بينما اجتاحت انظمة الحكم الدكتاتورية الجزء الاكبر من تاريخ اوربا في القرن العشرين؟ ويضع ريفيل الاراء السائدة على طاولة المفارقة بقوله: اذا صدقنا جميع الاراء المقبولة بصورة طبيعية فان جميع اسباب الفاشية كانت ولا تزال مجتمعة في امريكا ولكنها صدفة وبطريقة مبهمة لم تزدهر الا عندنا!
وبعد ان يضرب الكثير من الامثلة المقنعة يصل ريفيل الى استنتاج سيكولوجي رئيس يفضح الطابع المتحيز للعداء لامريكا حيث يذهب الى (ان العداء لامريكا يعزز حينا شعورنا بالتفوق الفكري والخلقي، ويرفض حينا الاقرار بما يمكن ان يؤثر في حكم مسبق،فيظهر هذا العداء عند ذلك، براعة لا حدود لها ،في تفسير أية حقيقة كانت،بشكل متحيز).
في نظر ريفيل كانت وظيفة المعاداة لاميركا هي السماح لاوربا والحركة اليسارية في اوربا بتنقية انفسها من كافة الاخفاقات الاخلاقية والاخطاء الايديولوجية وبهذا المعنى عملت معاداة الاميركية بمثابة طريقة تضمن بها فرنسا حماية ثقافتها.
ويذهب المثقف الفرنسي جاك جوليار -وهو مدير التحرير لمجلة لونوفيل ابسرفاتور الاسبوعية الفرنسية ومؤلف(معجم المثقفين الفرنسيين1999) في مقال له حمل عنوان(بؤس النزعة المعادية لأمريكا) صدر بمناسبة الرد على مقال جاك دريدا(ذهنية الارهاب) الذي اصدره لتحليل الحدث الدرامي المفاجيء في 11 من أيلول-: الى انه لا جديدفي انفجار النزعة الفكرية المعادية لأمريكا بعيد انقصاف مركز التجارة العالمي، وانه بعد انهيار الماركسية صارت النزعة المعادية لامريكا القيمة التي تلوذ بها الطبقة المتعلمة بآسرها وسالب كل الامال المنقضية وربما عتبة لاوهام جديدة.
وهو يرى ان بؤس القضية واحد بؤس المعادين وبؤس المعاداة وهو يهاجم الرؤية التي ترى ان عقاب الاميركيين جاء بقدر آثامهم وعوض ان يستحقوا الشفقة فن هذا البلية توجه اليهم أصابع الاتهام- ينطلق تفكيك جاك هنا من الكتاب المقدس-.
ويرى جوليار-أنه يسخر بالتأكيد- ان هناك منطقا هذيانيا يصدر من رؤية تجعل الولايات المتحدة مسؤولة عن البؤس في موزامبيق أو افغانستان، وتاريخيا حسب نظرته تماهى الحقد على أمريكا-من قبل المثقفين- ومنذ نهاية القرن التاسع عشر مع الحقد على التقدم وخصوصا التقدم التقني.ويضرب مثلا بكل من: رينان، جورج دوهاميل، وكل الذين على الضد من الايديولوجين وماركس،مرورا باوغست كونت وفكتور هيغو ممن يرون الانتقال من الشمعة الى الكهرباء تقهقرا للانوار.
ويهاجم جاك المثقفين الاشتراكيين الذين كانوا –من وجهة نظره- يفتنهم في الاشتراكية،السلطة وام ما سيفتنهم غدا في الارهاب المعدي للرأسمالية ليس العداء للرأسمالية بل رعب الارهاب!(أنظر ترجمة المقال في: ذهنية الارهاب،المركز الثقافي العربي،2003)
ألا ان اهم كتاب حلل أسس معاداة ألاميركية فهو كتاب(التفرد الامريكي) لمؤلفيه ستيفان هالبر وجوناثان كلارك وذلك في معرض تناول كتابهما لفهم عزلة أميركا المتزايدة ضمن المجتمع الدولي بعد احتلال العراق، حيث يرجعان بها الى تجربة 200 سنة أدت فيها التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والفروق الفلسفية على نشوء مفاهيم عالمية عن أمريكا تختلف عن أدراك الأمريكيين لأنفسهم –وان يكن الكتاب يتفحص جذور هذا العداء في اوربا وبريطانيا- ويفرق المؤلفان بين مخالفة الاميركية ومعاداة الاميركية:فالاولى تنطبق على الاميركيين في حين تشير الثانية الى غير الاميركيين. ويستشهدان بعدة تعاريف لمعاداة الاميركية منها تعريف ديفيد ستراوس"انها انتقاد حاد للسياسات الاميركية يؤدي في الغالب الى مظاهر عنيفة ضد رموز القوة الاميركية في الخارج"ويضيف ان ها قد تشير الى فلسفة أو إيديولوجية او اطار مرجعي استنادا الى افتراضات او مبادىء تخالف الموقف الاميركي. ويشير الكتاب الى تمييز هولاندر الانتقادات الموجهة الى امريكا عن معاداة الاميركية فهو يرى ان معاداة الاميركية غير عقلانية بذاتها وانها"وليدة دافع لايجاد كبش فداء تغذيه العديد من الاحباطات والمظالم"
وفي كتابه(من مانهاتن الى بغداد) يذهب الكاتب العربي حسن حنفي في معرض تقديمه جوابا عربيا لسؤال امريكي: لماذا تكرهوننا؟ الى ان سؤال الإعلام الأمريكي في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول(لماذا يكرهوننا) يوحي بأن هناك موقفا ثابتا معاديا من شعوب العالم كله تجاه الأمريكيين ينم ربما عن عنصرية أو حقد أو حسد منها وهي الفقيرة المتخلفة تجاه أمريكا-نموذج الثروة والتقدم- وهذا في رأي حنفي غير صحيح فالشعوب تكره أمريكا ليس لجوهر ثابت لدى الشعب الكاره تجاه الشعب المكروه،بل لأسباب سياسية واقتصادية وثقافية وتاريخية محددة.ويرى أنها تنصب على السياسة الأمريكية وليس على الشعب، على الإدارة وليس على البشر. ومن جانبنا سنشير إلى هذه الأسباب المحددة التي ترتبط أساسا اليوم بالتجربة العراقية،وذلك في الحلقة الثانية من هذا الموضوع.
#سعد_سلوم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟