|
كوابيس جمهورية الخوف الأولى - الجزء الثاني
طارق المهدوي
الحوار المتمدن-العدد: 5036 - 2016 / 1 / 6 - 23:27
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
(10) عملاً بمقولة أن خلافهم يكشف المستور نواصل رصد المتاح القليل من شهادات القضاة أنفسهم حول يوميات مباشرتهم لأعمالهم، حيث يتضح مدى الانحسار الحالي لتيار الاستقلال القضائي عقب تراجعه المتواصل بخطوات واسعة إلى الوراء طوال عهد الرئيس "حسني مبارك" الممتد بين عامي 1981 و2011، فها هو القاضي "مرتضى منصور" يروي في كتابه "ضد الفساد" واقعة أخرى حدثت معه شخصياً عام 1984 خلال عمله رئيساً لمحكمة بولاق الدكرور الابتدائية، عندما أصدر حكماً قضائياً بحبس عدد من مشاهير السينمائيين سنة واحدة مع الشغل وكفالة عشرة آلاف جنيه لوقف تنفيذ الحكم حتى يبت فيه الاستئناف، بعدما ثبت لديه ما هو منسوب إليهم بأوراق القضية رقم 2170 جُنَح بولاق الدكرور لعام 1984 من قيامهم بالاشتراك معاً في تأليف وإخراج وإنتاج وتمثيل فيلماً ساخراً يتهكم على القضاء والمحاماة وبعض المهن الأخرى، فشرعت السلطة التنفيذية في الضغط على القاضي "ممدوح عطية" وزير العدل ليصدر تكليفاً إلى مرؤوسه المحامي العام الأول لنيابات جنوب الجيزة بوقف تنفيذ الحكم المذكور بدون دفع كفالات حتى يبت فيه الاستئناف، الأمر الذي تم تنفيذه حرفياً ليسفر عن تجميد الحكم وكأنه لم يكن مما اعتبره "منصور" تدخلاً إدارياً سافراً فيما أصدره من أحكام قضائية دفعه لتقديم استقالة مسببة مفادها أن الاستجابة لتدخل السلطة التنفيذية بإعفاء مشاهير السينمائيين من تنفيذ حكم قضائي يعني عدم تطبيق القانون سوى على أبناء الوطن الضعفاء فقط وهو واقع يؤدي إلى اهتزاز العدالة، كما يروي "مرتضى منصور" نفسه في كتابه الشهير "حضرات السادة الطغاة" شهادته عن واقعة أخرى حدثت معه شخصياً عام 2007 خلال عمله كمحامي أمام المحكمة الإدارية العليا في مجلس الدولة، عندما نصب له رئيس المحكمة كميناً محبكاً أسفر عن صدور حكم ابتدائي بسجنه لمدة ثلاث سنوات خففها الاستئناف لاحقاً إلى سنة واحدة مع الشغل تم تنفيذها فوراً داخل ليمان طرة، في استجابة لضغوط بعض كبار مسئولي السلطة التنفيذية الذين كانت قد أزعجتهم الاندفاعات اللفظية المتهورة والمتكررة ضدهم على لسان "منصور" الحاد، ليتساءل في كتابه باستنكار كاشف عما يمكن أن يمارسه حضرات السادة القضاة من طغيان مع المواطنين البسطاء إذا كانوا قد مارسوا كل هذا الطغيان ضده، وهو حسب وصفه لنفسه رئيس نادي الزمالك ثاني أكبر الأندية المصرية ونائب برلماني سابق وقاضي سابق أي ابن كار مثلهم، بالإضافة إلى ما هو معروف عنه من أنه محامي بعض رموز الطغمة العسكرية المهيمنة على الدولة والمجتمع والسوق، وفي كتابه "حضرات السادة الطغاة" المشار إليه أورد القاضي "مرتضى منصور" نص الشكوى التي رفعها زميله القاضي "أسامة صلاح الدين علي حسانين" رئيس محكمة الوراق الجزئية عام 2008 إلى الرئيس "مبارك"، حول تفاصيل واقعة حدثت معه شخصياً عندما استدعاه رئيس محكمة شمال الجيزة الكلية باعتباره رئيسه الإداري المباشر، ليكلفه بأن يصدر حكماً بالسجن ثلاث سنوات مع الشغل والنفاذ على أحد المتهمين في قضية منظورة أمام "أسامة حسانين"، موضحاً له أن تلك هي تعليمات القاضي "ممدوح مرعي" وزير العدل لمراعاة خواطر بعض كبار مسئولي السلطة التنفيذية، فلما رفض "حسانين" تنفيذ تلك التعليمات استناداً إلى أن الموقف القانوني للمتهم المطلوب سجنه يستوجب الحكم ببراءته، صدر قرار إداري بسحب القضية منه وإرسالها لقاضي آخر غير مختص جغرافياً لكنه ملتزم بالتنفيذ الحرفي للتعليمات الإدارية الصادرة من وزير العدل عبر رئيس المحكمة الكلية، ليعقبه صدور قرار عزل "حسانين" من وظيفته القضائية بحجة عدم صلاحيته الفنية لممارسة القضاء، رغم استمرار جلوسه لمدة عشرين عاماً متتالية على منصة القضاء المصري ورغم كونه قاضي ابن قاضي حسب وصفه لنفسه في شكواه الرسمية المرفوعة إلى رئيس الجمهورية!!. (11) يعتبر فارق التوقيت الزمني بين عهدي الرئيس "أنور السادات" والرئيس "حسني مبارك" أحد أهم أسباب تراجع الاستقلال القضائي، بالنظر إلى أن حوالي ثلاثين دفعة من القضاة خريجي التعليم الحقوقي للعصر الليبرالي الذي ساد مصر قبل قيام جمهورية الخوف الأولى عام 1952، كانوا لا يزالون في الخدمة الوظيفية الرسمية عندما تسلم "السادات" الرئاسة المصرية عام 1970، وهو العدد الذي نقص منه خريجو إحدى عشرة دفعة عندما تسلم "مبارك" الرئاسة عام 1981 واستمر يتناقص تدريجياً حتى وصل إلى نقطة الصفر مع انتصاف تسعينيات القرن العشرين، بفعل تقاعد شيوخ القضاة الذين تركوا الساحة القضائية حكراً على أربعة عشر ألفاً من خريجي التعليم الحقوقي وشبه الحقوقي للعصر الشمولي يملأونها حالياً، لاسيما وقد سمحت قوانين ولوائح جمهورية الخوف لضباط الشرطة وأعضاء القضاء العسكري والأزهريين بالانتقال إلى مختلف المؤسسات القضائية الأهلية والإدارية والدستورية مع احتفاظهم بأقدمياتهم السابقة، ليعتلوا رئاسات تلك المؤسسات ومنها ينطلقون بسهولة نحو اعتلاء قمم الدولة والمجتمع، حتى أن أحدهم أصبح أول رئيس لجمهورية الخوف الثانية التي قامت في مصر عقب انقلاب الثالث من يوليو 2013 العسكري المموه، رغم الطابع الشرفي لرئاسة القاضي "عدلي منصور" في ظل استمرار كل السلطات الفعلية تحت سيطرة العسكر بقيادة وزير الدفاع "عبدالفتاح السيسي"، الذي سرعان ما أصبح رئيس الجمهورية الفعلي والرسمي عام 2014 بينما اعتلى الأزهري "أحمد الزند" وزارة العدل عام 2015 ليعقبه تولي ضابط الشرطة "نبيل صادق" موقع النائب العام، كما كانت هناك عدة أسباب ذاتية وموضوعية أخرى لتراجع الاستقلال القضائي نحو الخلف بسرعة صاروخية أوصلت القضاء المصري إلى حالة من الخضوع المخزي للمستبدين الذي يخون معه القضاة ضميرهم المهني وثقافتهم القانونية يومياً على كافة المحاور، سواء بموافقتهم على العودة للعمل في ظل حالة الطوارئ بما تقتضيه من محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، أو بتمريرهم للقوانين المعادية للحريات السياسية والمدنية تحت مسميات فضفاضة مثل تنظيم التظاهر ومكافحة الإرهاب وتحصين بعض قرارات كبار المسئولين التنفيذيين، ومد الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيق إلى مدة مفتوحة بما يوفر الغطاء القضائي للاعتقالات الإدارية الأبدية ضد الخصوم بمجرد إجراء أي تحقيق مفبرك معهم، لاسيما عقب افتضاح أمر اختراقات قانون الاعتقال السابق لكونه يلزم القضاء بالإفراج الوجوبي عن المعتقلين السياسيين الذين لم يتم توجيه اتهامات محددة ضدهم خلال خمسة شهور تالية على اعتقالهم، عبر حيلة الإفراج الوهمي عن المستفيدين من هذا الإلزام والمتمثلة في نقلهم خارج السجون العمومية مع استمرار احتجازهم عدة أيام بالمحابس السرية التابعة لأجهزة الأمن السياسي أو احتجازهم بضع ساعات داخل سيارات الترحيل الخاصة بتلك الأجهزة، ثم إعادتهم مرة أخرى إلى نفس سجونهم العمومية السابقة أو غيرها بموجب قرارات اعتقال جديدة سارية لمدة خمسة شهور تالية في دائرة تكرارية جهنمية لا تنتهي، أو بتوقيع القضاة لقرارات ضبط وإحضار وحبس احتياطي على نماذج ورقية بيضاء يسلمونها إلى أفراد الجيش والشرطة والأمن السياسي الذين يملأون بياناتها لاحقاً بهدف استخدامها في اعتقال الخصوم تحت الغطاء القضائي، أو بعقدهم لجلسات محاكمة المتهمين دون إحضارهم من محابسهم ثم إصدار القرارات والأحكام ضدهم وكأنهم غائبون أو هاربون رغم خضوعهم لولاية القضاء باعتبارهم قيد الحبس الاحتياطي على ذمة التحقيق، أو بتوسعهم في حبس القاصرين والقاصرات باتهامات واهية مع إفراطهم في تطبيق الحدود القصوى للعقوبات بشكل انتقامي على الخصوم الذين صدرت أحكام الإعدام في حق العديدين منهم عقاباً على أفكارهم ومقاصدهم وليس أفعالهم وجرائمهم، أو بانتقالهم إلى المقرات غير القانونية لاحتجاز الخصوم المتهمين واستجوابهم هناك لإصدار قرارات مد حبسهم بهدف إضفاء الطابع القانوني على أوضاع غير قانونية، حتى أن قضاة التحقيق الأربعة الذين تم انتدابهم تباعاً لاستجواب "محمَّد مرسي" رئيس الجمهورية المخلوع بانقلاب عسكري داخل محبسه السري، قد وافقوا على قيام السلطات العسكرية السابق لها خطف "مرسي" عقب خلعه يوم 3/7/2013 بتعصيب عيونهم أثناء تنفيذ مأموريات الانتداب، لكيلا يتعرفوا على موقع محبسه غير القانوني داخل قاعدة أبي قير البحرية العسكرية في الإسكندرية، بل أنهم حاولوا إقناعه بأن ضباط المخابرات الحربية السريين المرافقين لهم هم محامين متطوعين للدفاع عنه، أما القضاة الذين أغضبتهم تلك المخالفات القانونية فرفضوا مسايرتها وعددهم 75 قاضياً فقد أصدرت السلطات العسكرية أوامرها بشأنهم إلى وزير العدل القاضي "عادل عبدالحميد" وخلفائه ليتم عزلهم بعد التحقيق معهم أمام مجالس التأديب ولجان الصلاحية بدعوى ممارستهم أنشطة سياسية محظورة في ظل صمت مريب من زملائهم، ولما كان الخضوع المخزي للمستبدين هو أحد وجهي العملة المتداولة بمحاكم مصر المعاصرة فإن الوجه الآخر الحتمي لذات العملة هو تبديد أحلام العدالة المستحقة للمصريين، بين مطرقة التدخلات المباشرة العديدة لأولئك المستبدين في سير العدالة وسندان الحصانات القضائية العديدة الممنوحة لهم ولتوابعهم دون غيرهم، رغم أن "نوبار باشا نوباريان" أول رئيس وزراء لمصر عام 1878 كان قد كشف مبكراً عن إدراك النخبة المصرية لتعارض الاستبداد والحصانات مع العدالة، فيما أورده بالصفحة رقم 392 من مذكراته المنشورة عدة مرات بقوله: إن المحاكم هي الأداة الوحيدة التي ستوصلنا إلى العدالة بإنقاذها البلاد وحمايتها من السلطة المطلقة للوالي ومن الامتيازات المطلقة للأجانب في الوقت نفسه، لأن خضوع الوالي والأجانب لذات القانون الذي يخضع له المواطن العادي هو وحده الكفيل بمنح المواطنين الأمن والأمان!!. (12) خلال جمهورية الخوف الأولى اتسع نطاق سلطات الحاكم المطلق حتى أصبح يسيطر على كل مؤسسات الدولة والمجتمع، فهو رئيس الجمهورية والرئيس الأعلى لمجلس الوزراء ومجلس الدفاع الوطني والمجلس العسكري والقوات المسلحة، والرئيس الفعلي لكافة المجالس التشريعية عبر رئاسته لحزب الأغلبية، كما أنه يرأس المجتمع المدني بواسطة تعيينه لاثنين من توابعه في موقعي وزير التضامن الاجتماعي ورئيس اتحاد الجمعيات الأهلية ليمسك من خلالهما بتلابيب كل الأنشطة المدنية، إلى جانب سيطرته المطلقة على القضاء ليس فقط بتعيينه لتوابعه في مواقع وزير العدل والنائب العام ورئيس المجلس الأعلى للقضاء ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية العليا وغيرها من المفاصل القضائية، ولكن أيضاً باعتماده لحركة تعيينات معاوني النيابة على بداية السلم الوظيفي القضائي ولمجمل حركات الترقيات اللاحقة وصولاً إلى رؤساء المحاكم، وبالتبعية فقد اتسع أيضاً نطاق السلطات شبه المطلقة لأعضاء الدائرتين الأولى والثانية من منظومة الحكم لاسيما وزراء المجموعة السيادية ورؤساء الهيئات السيادية وقادة مؤسسة رئاسة الجمهورية والمؤسسات العسكرية والشرطية والأمنية، الذين أجادوا جميعاً استخدام سيف المعز وذهبه لاحتواء القضاء والسيطرة عليه بهدف توجيهه نحو مراعاة مصالحهم المخالفة للقوانين والخارجة عن العدالة، سواء عبر تلاعبهم العمدي في رسم الخريطة القضائية للإخلال بمعايير الاختيار والتعيين والتوزيع والتصعيد والانتدابات الداخلية والخارجية وقرارات الإشراف القضائي على مختلف أنواع الانتخابات وعضوية لجان فض المنازعات ومد الخدمة بعد سن التقاعد، أو عبر اختراقهم العضوي لأدوات معاونة القضاء كوحدات البحث الجنائي وتنفيذ الأحكام وإدارات الخبراء والطب الشرعي والصحة النفسية والشهر العقاري وأقلام الاستيفاء والمحضرين والدعم الأسري وأمناء السر والكتبة والسكرتارية، وغيرها من الأدوات القانونية التي هي في الأصل تابعة للسلطة التنفيذية رغم دورها المؤثر داخل السلطة القضائية، أو عبر تحريكهم لتوابعهم من المحامين داخل ساحات المحاكم لإضاعة حقوق المتقاضين أو على الأقل تعطيلها بالمخالفة للواجبات القانونية التي أقسموا عليها أمام نقيب محامين لم يسلم هو نفسه من الوقوع بالفخ ذاته، حيث أوضح القاضي "مرتضى منصور" في كتابه "حضرات السادة الطغاة" أن نقيب المحامين "سامح عاشور" يمتنع عن تأدية واجباته القانونية كمحامي أمام بعض المحاكم والدوائر لارتباطه بمصالح خاصة معها، وهو ما لم ينفه "عاشور" حتى اليوم رغم مرور عدة أعوام على صدور الكتاب، الأمر الذي دفع الأكاديمي "عمرو الشلقاني" للاعتراف في كتابه "ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية" بأن سمعة المحامين في مصر المعاصرة لم تعد حميدة بعد وصول نظرة المجتمع المصري لهم إلى حد الازدراء، ومع اتساع نطاق سلطات الفئات المميزة خلال جمهورية الخوف الأولى كان لابد من اتساع مواكب لنطاق الحصانات القضائية التي حصلت عليها تلك الفئات رأسياً وأفقياً، حتى أن نطاق السلطات والحصانات لم يعد قاصراً على شخص الحاكم المطلق وأعضاء الدائرتين الأولى والثانية لمنظومة الحكم كما هو شائع في الاستبداد التقليدي، بل أصبح يغطي أيضا الوزراء والمحافظين ورؤساء الهيئات والأحياء ونواب البرلمان والمحامين والصحفيين والأطباء والدبلوماسيين والعاملين في الأجهزة السيادية، سواء عبر ما تمنحه لهم القوانين واللوائح من استثناءات صريحة ومعلنة، أو عبر قصر سلطة إحالتهم إلى المحاكمات وتحريك الدعاوى الجنائية ضدهم على النائب العام حصرياً دون غيره من المحامين العموم ورؤساء ووكلاء وأعضاء النيابات المختصة، أو عبر وضع اشتراطات صعبة ومعقدة لضبطهم أثناء ارتكابهم لجرائمهم حتى في أكثر حالات التلبس وضوحاً، إلى جانب سلطات وحصانات واقعية منحتها جمهورية الخوف الأولى للبلاطجة الأوغاد أعضاء لجان "المواطنين الشرفاء" التابعة لتلك الأجهزة، والذين وصل عددهم عند نهاية حكم الرئيس "مبارك" عام 2011 إلى حوالي نصف مليون بلطجي وفق إعلان خلفه الرئيس "مرسي"، عقب اعتماد الأجهزة بشكل واسع على استخدام عصابات البلطجة الاحترافية المنتشرة بالحواري والأزقة العشوائية والشوارع السفلية في مصر المعاصرة ضد خصومها السياسيين لاسيما العقائديين منهم كالشيوعيين والجهاديين، سواء في مجالات المعلومات أو العمليات التي تصل أحياناً إلى درجة القتل بعد إخراجها بأشكال فنية مضللة للعدالة وصولاً إلى إعفاء الأجهزة السيادية من أية مسئولية قانونية عن جرائم توابعها البلاطجة الأوغاد، أما الحصة الأكبر من السلطات والحصانات فقد كانت من نصيب أعضاء السلك القضائي أنفسهم ليغطوا بها أيضاً من فرط اتساعها معاونيهم الفنيين والإداريين وسكرتيراتهم الحسناوات وذويهم وأقاربهم وجيرانهم، فالقاضي يستطيع التأثير سلباً على مجرى العدالة دون إمكانية لمعاقبته حتى لو كان عامداً متعمداً سواء فيما يصدره من أحكام جائرة أثناء جلوسه على منصته القضائية، أو فيما يصدره أثناء جلوسه على مكتبه الإداري من قرارات إحالة مبرمجة سلفاً لتوزيع الدعاوى على دوائر بعينها وصولاً إلى أحكام بعينها، أو عند دخوله في خصومة مع أي مواطن عادي حيث يكون القاضي هو الخصم والحكم في الوقت ذاته فهو يحرر ضد خصمه المنزوع السلطات والحصانات مذكرة يتم التعامل معها باعتبارها تحقيق وقرار إحالة لمحاكمة الخصم، الذي قد يجد نفسه متهماً بإهانة القضاء ومقاومة السلطات وإثارة الشغب والإضرار بالأمن العام أمام زملاء للقاضي يتنافسون في مراعاة خاطره، لمجرد أن الخصم المسكين حاول مثلاً أن يركن سيارته بمكان خالي على أحد جانبي الطريق العام دون انتباه منه إلى أن القاضي يرغب في استخدام هذا المكان لركن سيارته هو، وتكشف المقارنات المعمارية الهندسية بين مباني المحاكم والنيابات المشيدة قبل وبعد عام 1952 مدى خوف السلطة القضائية المعاصرة من ردود فعل عفوية طبيعية مشروعة لمواطنين مصريين بسطاء قد تفاقم غضبهم وسخطهم، تيس فقط تجاه أدائها لوظائفها الذي أصبح يتسم مرة بالتجاوز ومرة بالتقصير ومرات بالانحراف عن العدالة المرجوة، ولكن أيضاً تجاه وجودها ذاته الذي أصبح أحد الأعمدة الأساسية لجمهورية الخوف الأولى على أصعدة الفساد والاستبداد والتبعية بخلاف ما كان مأمولاً منها!!. (13) في إطار حرصها على استمرار احتكارها للسلطة السياسية في الحاضر والمستقبل تستخدم أنظمة الحكم الاستبدادية أجهزتها السيادية لإحكام السيطرة على كل البدائل ذات الحضور السياسي القائم فعلاً أو المحتمل قيامه، وقد تفوقت الأجهزة السيادية المصرية في مهمة السيطرة حتى أصبحت تشغل مراكز نسبية متقدمة على مختلف المستويات الكمية والكيفية في العالم المعاصر، فمن بين حوالي مائتي دولة تحتل المخابرات العامة المصرية بين نظرائها الترتيب الرابع بينما تحتل الاستخبارات العسكرية المصرية الترتيب الرابع عشر وسط نظرائها، وفقاً لتقرير منظمة "جلوبال فاير باور" العالمية المنشور بصحيفة "الشروق" يوم 13/10/2013، رغم ما تؤكده تقارير الأمم المتحدة من تراجع ترتيب الشعب المصري كله إلى المركز المائة وأربعين بالمقارنة مع نظرائه في التنمية البشرية، حيث تميزت تلك الأجهزة باستخداماتها المتعددة والمتنوعة لكافة شرور السيطرة على البدائل السياسية القائمة والمحتملة طوال العمر الزمني لجمهورية الخوف الأولى الممتد بين عامي 1952 و2011، سواء منها ما كان موروثاً عن استبداد العصور القديمة والوسطى في مصر ودول المشرق أو ما كان مستمداً من التاريخ الحديث لدول المحور الفاشية المهزومة في ألمانيا وإيطاليا واليابان، أو ما كان منقولاً عن دول حلف وارسو السابق بقيادته الروسية ودول حلف الأطلسي المستمر تحت القيادة الأمريكية، أو ما كان مبتكراً بواسطة أدمغة الشر العاملة داخل الأجهزة السيادية المصرية المعاصرة، والتي نجحت في السيطرة على غالبية البدائل السياسية باستخدام ثلاثة محاور مجتمعة أو منفصلة، وهي محور احتواء الشخص المستهدف تحت جناح أحد سواتر تلك الأجهزة لتحويله من الخصومة أو الاستقلالية إلى التبعية بواسطة الخداع الاستراتيجي والمناورات الالتفافية، ومحور التخلص من الشخص المستهدف عبر إزالته أو تقييده أو إتلاف عقله أو إصابته بإعاقة صحية بواسطة الأدوات المستترة الناعمة أو الخشنة المباشرة حسب أحواله والظروف المحيطة به، ومحور تشتيت الشخص المستهدف واستنزافه بهدف إرباكه وإنهاكه وصولاً إلى إشغاله التام عن أي أنشطة خارج دوامة التشتيت، ويتم تشتيت الشخص المستهدف باستخدام ثلاثة أساليب مجتمعة أو منفصلة، وهي أسلوب عرقلة خطواته في كل المجالات الشخصية والاجتماعية والمهنية والمالية والصحية بهدف إهدار وقته وجهده خلال سعيه المتكرر والمضني لإعادة بناء خطواته التي تتعرض مجدداً للتعطيل في دورة جهنمية لا تنتهي سوى بوفاته، وأسلوب دفعه نحو الاشتباك في عدة معارك جانبية زائفة ومفتعلة ومتدنية المستوى مع دعم خصومه للانتصار عليه بهدف تحطيم عقيدته القتالية وكسر روحه المعنوية وحرمانه من التوازن النفسي حتى نهاية عمره، وأسلوب استدراجه كي ينزلق داخل أفخاخ التيه القضائي الأشبه بمستنقعات رمال متحركة تملأها الألغام، حيث تستخدم الأجهزة توابعها من أعضاء السلطة القضائية والمحيطين بها لدفع الشخص المستهدف نحو مطاردة وهم إمكانية إحقاق الحقوق ورد المظالم عبر النظام القضائي القائم، وبمجرد أن يصبح رسمياً شاكياً أو مشكواً في حقه حتى يفاجأ بوقوعه تحت حصار تلك الأجهزة المختبئة في كل ثنايا العباءة القضائية، التي تبتلعه وتعتصره وتقوم بتدويره كلياً من أعلى إلى أسفل كخلاط الأسمنت لدرجة يمكن أن يفقد معها حريته عند وقوعه في أي خطأ غير مقصود، أو تودي بحياته تحت تأثير الإجهاد الجسدي والإحباط النفسي الناجمان عن تكرار فشل محاولاته لملاحقة الوهم المذكور، وعلى سبيل المثال التوضيحي إذا كان كاتب هذه السطور مقيماً في حي "الهرم" فإن الجهات القضائية الجنائية المسئولة عنه حسب الاختصاص الجغرافي تبدأ بقسم شرطة الهرم الواقع عند سفح الأهرامات على مسافة عشرة كيلو مترات غرباً، ثم نيابة ومحكمة الهرم الجزئيتين الواقعتين بمدينة "أكتوبر" على مسافة خمسين كيلو متر جنوباً ثم نيابة ومحكمة الجيزة الكليتين الواقعتين في ميدان "الجيزة" على مسافة عشرة كيلو مترات شرقاً ثم نيابة ومحكمة الاستئناف الواقعتين بمدينتي "الرحاب" و"التجمع الخامس" على مسافة مائة كيلو متر شمالاً، فيما أصبح عوام المصريين المعاصرين يسمونه "ركوب المراجيح القضائية" والتي كان أشهر المستدرَجين لركوبها خلال جمهورية الخوف الأولى هو الدكتور "عبدالمحسن حمودة" أستاذ الهندسة بالجامعات المصرية والاستشاري الهندسي العالمي، الذي حاول مبكراً إيجاد القواسم الوطنية المشتركة بين الماركسية والليبرالية منذ تشكيله لجناح الطليعة الوفدية الشبابي الماركسي داخل حزب الوفد الليبرالي في بداية خمسينيات القرن العشرين، إلى جانب الكاتب الصحفي والخبير الاقتصادي "عادل حسين" الذي حاول في بداية ثمانينيات القرن العشرين إيجاد القواسم الوطنية المشتركة بين الماركسية والإسلام السياسي!!. (14) لم يكن بمقدوري أبداً تحاشي استدراجي للانزلاق داخل أفخاخ التيه القضائي التي مازالت حتى اليوم تبتلعني وتعتصرني وتدور بي من أعلى إلى أسفل كخلاط الأسمنت، رغم تحذيرات "عبدالمحسن حمودة" و"عادل حسين" وهما يرويان لي في لقاءاتنا المتكررة تفاصيل مرعبة عن "ركوب المراجيح القضائية"، ذلك أن الأجهزة السيادية التي كانت قد صنفتني ضمن فئة الأشواك المحتملة الواقعة في ذيل جدول الأشخاص المستهدفين للسيطرة عقب مولدي في أواخر خمسينيات القرن العشرين لأبوين يتصدران صفوف المعارضة الماركسية، قامت بتصعيدي تدريجياً داخل الجدول المذكور منذ مشاركتي الشخصية مع زملائي السابقين بالحركة الماركسية في انتفاضة يناير 1977 الجماهيرية الاحتجاجية ذات الأبعاد الاجتماعية، حتى أدرجتني ضمن أعلى فئات الجدول والمخصصة للأعداء الخطرين الواجب إزالتهم مع بداية الثمانينيات، عندما أصدر حزب 8 يناير الشيوعي المصري إحدى دراساتي النظرية حول البدائل القتالية المتاحة لمواجهة العدو الصهيوني تحت عنوان "حرب التحرير الشعبية هي طريق الشعب المصري للتحرر الوطني"، وإزاء الفشل النسبي لجهود تلك الأجهزة الرامية إلى احتوائي أو التخلص مني أو تشتيتي بسبب الإرادة الإلهية النافذة، فقد قررت استدراجي للانزلاق داخل أفخاخ التيه القضائي بمجرد انتهاء صفتي الدبلوماسية بعودتي عام 1997 من مهمة رسمية طويلة المدى في السودان وشرق أفريقيا ومنابع النيل، لتتكاثر "مراجيحي" وتزداد سرعة دورانها بعد وفاة محامي العائلة "أحمد نبيل الهلالي" عام 2005، على النحو التفصيلي المرعب الذي كشفته أوراق ملفي الأمني السابق انتزاعه من أحد مقرات جهاز مباحث أمن الدولة عام 2011 بأيدي جماهير المحتجين الغاضبين، وحسب الأوراق الرسمية الصادرة عن الأجهزة السيادية والتي يحتويها ملفي الأمني بشقيه المعلوماتي والعملياتي، فإن توابع تلك الأجهزة قاموا بصفاتهم الشخصية والوظيفية بتنفيذ ما صدر إليهم من تعليمات فارتكبوا ضد حياتي وحقوقي ومصالحي المشروعة عدة جرائم ومخالفات وحماقات، بفجاجة مكشوفة واستفزاز واضح كان لابد معهما أن أدافع عن نفسي عبر لجوئي إلى أقسام الشرطة والنيابات والمحاكم المختصة، حيث تنتظرني هناك الأفخاخ التي سبق أن نصبتها لي الأجهزة بمهارة فائقة وإحكام شديد، ومع استناد أعضاء الهيئات القضائية إلى ثغرات لا تنتهي امتدت حبال القضايا إلى أعوام لا تنتهي فتراكمت وتداخلت ثم تشابكت حول رقبتي منزوعة السلطات والحصانات حتى كادت تخنقني، ابتداءً بقضية تحديد إقامتي ومنع سفري خارج البلاد عام 1997 نظراً لما في حوزتي من أسرار سيادية هامة بحكم عملي الدبلوماسي المنتهي، وانتهاءً بقضية سطو أحد الأوغاد على حقوق الملكية الفكرية الثابتة لي عام 2015، مروراً بعشرات القضايا أمام مختلف أقسام الشرطة والنيابات والمحاكم الإدارية والأهلية والعسكرية والدستورية والتي كشفت أوراق ملفي الأمني بعض خلفياتها التفصيلية بما احتوته من غرائب مضحكات مبكيات!!. (15) رغم معاناتي أسوةً بالمتقاضين الآخرين من كوابيس القضاء المصري المعاصر المتمثلة في إحالة الدعاوى إلى دوائر غير مختصة ليتم بعد ذلك إعادة إحالتها إلى الدوائر المختصة مما يترتب عليه سقوط الشق العاجل في الدعاوى، أو إحالة الدعاوى قبل البت فيها لدوائر أخرى تبدأ نظرها من نقطة الصفر، أو المتمثلة في انقطاع تواصل النيابات والمحاكم مع أدواتها الفنية المعاونة لاسيما وحدات الخبراء والطب الشرعي مما يترتب عليه تأجيل الدعاوى عدة أعوام انتظاراً للتقرير الفني، أو اعتبار رد الجهة المشكو في حقها تقريراً فنياً يأخذ به القضاء مما يعني استناد الحكم على شهادة الخصم المساوية لشهادة الزور، أو المتمثلة في اختفاء المستندات الهامة من داخل ملفات الدعاوى إن لم يكن اختفاء الملفات برمتها أو احتراقها بفعل إشعال النيران في المكاتب التي تحويها، أو المتمثلة في انتقال المحامين إلى الصف الآخر سواء بالانسحاب المفاجئ أو بإفساد القضايا أو بالتصالح مع الخصوم دون علم موكليهم، أو المتمثلة في عشرات الكوابيس الأخرى المعروفة جيداً لجميع المتقاضين داخل محاكم مصر المعاصرة، دون مراعاة لاحتواء بطاقة هويتي بوضوح على وظيفتي الرسمية الهامة التي تدرجت من مذيع إلى دبلوماسي إلى مستشار وزارة الإعلام إلى كبير الإعلاميين في رئاسة الجمهورية بخلاف ما هو معتاد، بل على العكس فقد كان هناك ما يخصني حصرياً من غرائب مازالت مراراتها تملأ جوفي لاسيما بعد إطلاعي على أوراق ملفي الأمني، حيث أوردتها الأجهزة السيادية باعتبارها أدلة ثبوت مدى التزام توابعها من أعضاء الهيئات القضائية والمحيطين بها في تنفيذ التعليمات الصادرة إليهم بشأني مقابل ما يحصلون عليه من مكاسب غير مستحقة، وفي سياق زهو تلك الأجهزة بتوابعها الملتزمين تضمنت أوراق ملفي الأمني بعض خلفيات الإلحاح في استدراجي نحو أفخاخ التيه القضائي، ومنها على سبيل الأمثلة لا الحصر واقعة إدارية حدثت عندما أرسلت لي إحدى الهيئات الثقافية الحكومية نسخة من طبعة جديدة لأحد مؤلفاتي القديمة التي أعادت الهيئة طباعتها ونشرها وتوزيعها لحسابها، بغير موافقتي ودون تقديمها لأي اعتذار أو استعداد لتسوية الموقف المالي، فاضطررتُ إلى اتخاذ الإجراءات القانونية بما أعقبها من انزلاقي نحو الاستدراج، وهو يشبه ما حدث في واقعة جنائية تم ارتكابها ضدي عندما منعتني شكوكي حول هوية الجاني من الإبلاغ لكيلا أظلمه فإذا به يزورني للاعتراف بارتكابه الواقعة دون تقديم اعتذاره أو إبداء استعداده لإزالة ما سببه لي من أضرار، لأجدني مرة أخرى مضطراً إلى اتخاذ الإجراءات القانونية بما أعقبها من انزلاقي مرة أخرى نحو الاستدراج، أما الواقعة الأكثر غرابة فقد حدثت عند فتح باب الترشح لانتخابات مجلس إدارة النادي الكبير الذي أنتمي إلى عضويته، حيث اعتقدت الأجهزة أنني أنوي ترشيح نفسي فأرسلت إحدى تابعاتها لتوزيع ورقة تدعي فيها قيامي بمغازلتها هاتفياً، ولما اطمأنت الأجهزة السيادية لعدم ترشحي اكتفت بتغيير مسار العملية وصولاً إلى استدراجي نحو أفخاخ التيه القضائي عبر استفادتها بما سبق أن أنفقته على السيدة صاحبة الورقة، حيث أبلغتني إدارة النادي بضرورة اتخاذي للإجراءات القانونية حتى يتم تمزيق الورقة ومنع دخول السيدة التي اتضح أنها ليست عضوة أصلاً في النادي، وأفادتني إدارة النادي بكل بياناتها الشخصية التفصيلية التي توضح أنها مسجلة "آداب" فاضطررتُ مجدداً لركوب "المراجيح"، وفي نفس سياق زهو تلك الأجهزة بتوابعها الملتزمين أوردت أوراق ملفي الأمني بعض الخلفيات التفصيلية لغرائب محققي الشرطة والنيابات والقضاة معي، ومنها على سبيل الأمثلة لا الحصر ذلك المحقق الذي سكب كوب شاي كبير فوق بلاغي بمرفقاته فأتلفها جميعاً ليتوقف التحقيق، والمحقق الذي أسقط عمداً بطاقة هويتي خارج شباك سيارة النجدة المسرعة فأضاعها ليتوقف التحقيق، والمحقق الذي طالبني بتوقيع محضر التحقيق بعد أن دس في طياته ورقة بيضاء لانتزاع توقيعي على بياض بهدف إرساله إلى الأجهزة حتى تستخدمه في شرورها المتنوعة، بالإضافة إلى رئيس النيابة الذي قرر حفظ واقعة جنائية تم ارتكابها ضدي بحجة عدم ورود التقرير الفني من مصلحة الطب الشرعي التي كانت قد امتنعت عن سحب العينات المطلوبة لخلو مخازنها من الحقن والعبوات، أما الواقعة الأكثر غرابة فقد حدثت عندما انتحل الجاني بيانات شخص آخر مستخدماً بطاقة هويته المبلغ بسرقتها أثناء التحقيق معه في واقعة جنائية ارتكبها ضدي، مما كان يستوجب محاكمته بتهمة فرعية هي تزوير أوراق رسمية، إلا أن رئيس النيابة قرر حفظ جميع الاتهامات الأصلية والفرعية ضده بحجة أن صاحب البطاقة الغائب هو وحده الذي يملك حق اتهام الجاني بالتزوير، وعلى مستوى السادة القضاة فقد قرر أحدهم رفض دعوى إدارية لإلغاء قرار المحافظ بعزلي تعسفياً من رئاسة اتحاد الملاك والشاغلين رغم سلامة إجراءات انتخابي، بحجة أن صفتي كرئيس للاتحاد قد زالت بموجب القرار المطعون عليه وبالتالي لم تعد لي صفة للطعن على قرار المحافظ بإزالة الصفة المذكورة، بينما قرر قاضي آخر رفض دعوى جنائية مرفوعة من جانبي بحجة تقديم الخصم لأوراق تدعم موقفه القانوني وهي مذيلة بخاتم شعار الدولة، رغم أن الخاتم يخص جهة ليس فقط غير معنية بموضوع الدعوى ولكنها أيضاً شريكة للخصم فيما سبق له ارتكابه من وقائع مدونة بقائمة الاتهامات، وغير ذلك من الغرائب المضحكات المبكيات التي تزخر بها أوراق ملفي الأمني لتكشف كيف استدرجتني الأجهزة السيادية بمهارة احترافية خلال جمهورية الخوف الأولى نحو "ركوب المراجيح القضائية"، والتي ظلت بقوة دفعها الذاتي تبتلعني وتعتصرني وتدور بي من أعلى إلى أسفل كخلاط الأسمنت طوال المرحلة الانتقالية التي بدأت عام 2011 لتحصل على المزيد من قوة الدفع بمجرد حلول جمهورية الخوف الثانية في 3/7/2013 والله المستعان!!.
******* -;- عصابات البلطجة... (1) بعد مرورها بعصور زمنية طويلة من المشاعية ثم العبودية ثم الإقطاع دخلت البشرية منذ القرن السادس عشر عصر الرأسمالية الذي مازال مستمراً بمختلف امتداداته ومستوياته وأشكاله حتى اليوم، وإذا كان النظام الرأسمالي لا يمكن قيامه أو استمراره بدون المشاركة الاقتصادية التفاعلية لعنصري رأس المال والعمل الأجير معاً، بما يعنيه رأس المال من استثمارات وتمويلات نقدية وأملاك عينية ومواد خام وأراضي ومنشآت وأدوات وآلات مخصصة لمختلف مراحل الاستخراج والإنتاج والتعبئة والتخزين والنقل والتوزيع الداخلي والخارجي، وما يعنيه العمل الأجير من مجهودات عضلية وذهنية مصحوبة بالمعارف والخبرات والمهارات العلمية والعملية المتخصصة والفنون التطبيقية المكتسبة بالوراثة أو التجربة أو التعليم والمبذولة لصالح المراحل السابق ذكرها مقابل أجر نقدي محدد سلفاً، فإن سعي كل واحد من عنصري رأس المال والعمل الأجير إلى تحقيق أكبر عوائد ممكنة لنفسه بأقل أعباء ممكنة عليها قد خلق تعارضاً اقتصادياً مباشراً بين مصالحهما وبالتالي تناقضاً اجتماعياً بين الفئتين اللتين تشكلان هذين العنصرين وهما الأقلية الرأسمالية والأغلبية العاملة الأجيرة، ونظراً لأن الرأسماليين يسيطرون بقوة الأمر الواقع التاريخي على الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية فقد نجحوا في حسم التناقض الاجتماعي المحلي لصالحهم، فأصبحوا يحققون أرباحاً طائلة على حساب العوائد المستحقة لشركائهم الأجراء من العمال والفلاحين والموظفين، سواء عبر منحهم أجوراً تقل كثيراً عن القيمة الحقيقية لمجهوداتهم المبذولة في مختلف مراحل العمل أو عبر إجبارهم على شراء احتياجاتهم من المنتجات النهائية لعملهم بأسعار تزيد كثيراً عن قيمة تكلفتها الحقيقية، ونظراً لأن الرأسماليين المسيطرين على الدول والمجتمعات والأسواق ذات الاقتصاديات الأسبق والأكثر والأسرع نمواً يسيطرون بقوة الأمر الواقع الجغرافي على العلاقات التجارية الخارجية فقد نجحوا في حسم التناقض الاجتماعي العالمي لصالحهم، لاسيما بعد انتهاء صراعاتهم التنافسية البينية باستقرار الترتيب النسبي لمراكزهم العالمية عند انتصاف القرن العشرين حيث تحالفوا معاً فأصبحوا يحققون أرباحاً طائلة على حساب العوائد المستحقة لشركائهم في المعاملات التجارية الخارجية، وهم نظرائهم الرأسماليين المحليين المسيطرين على الدول والمجتمعات والأسواق ذات الاقتصاديات المتخلفة أو المشوهة أو المستنزفة أو الأقل والأبطأ نمواً بامتداد العالم، عبر الأساليب الاستعمارية والإمبريالية والتآمرية والاحتكارية المتعددة المؤدية إلى تعطيل أي تنمية مستقلة لتلك الاقتصاديات بهدف تكريس تخلفها وتشوهها واستنزافها مع محاصرتها داخل خانة الأقل والأبطأ نمواً، لضمان استمرار هامشيتها وبالتالي تبعيتها المتمثلة في خضوع كل أنشطتها الاقتصادية بما تستلزمه من قرارات وخطوات وإجراءات سياسية للإملاءات الخارجية، وهكذا انقسم الاقتصاد العالمي المعاصر إلى أقلية رأسمالية مركزية شديدة الثراء مع توابعها من الأقليات الرأسمالية المحلية ذات الثراء الأقل نسبياً، مقابل أغلبيات جماهيرية كاسحة وفقيرة تشمل العمال والفلاحين والموظفين الأجراء رغم الاختلاف النسبي في درجات فقر هؤلاء الأجراء من دولة لأخرى على مستوى العالم حيث يتفاقم فقرهم كلما ابتعدوا جغرافياً عن المركز، وإزاء استمرار الاقتصاد الرأسمالي بنفس جوهره الاستغلالي الظالم محلياً وعالمياً طوال القرون الأربعة المنصرمة فقد ازداد ثراء الأقليات الرأسمالية مقابل ازدياد فقر الأغلبيات الأجيرة فارتفع مستوى التناقض الاجتماعي وتفاقمت حدته، إلى الحد الذي أجبر الأجراء على تكرار احتجاجاتهم وانتفاضاتهم وثوراتهم الرامية إلى التغيير الجذري لمجمل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الظالمة محلياً وعالمياً، بهدف إعادة توزيع الثروة والسلطة والنفوذ والأعباء في الدول والمجتمعات والأسواق والعلاقات التجارية الخارجية على نحو أكثر عدلاً وتوازناً، لذلك قاتل الرأسماليون بشراسة حتى يمنعون التناقض الاجتماعي القائم من الوصول إلى التغيير المستهدف حفاظاً على مصالحهم المكتسبة عبر استخدامهم لخليط من الأساليب الاحتيالية الالتفافية والقمعية العنيفة، حيث شمل احتيالهم الالتفافي فيما شمله تسكين التناقض الاجتماعي بمحاولة التوفيق المخادع بين الفئتين الرأسمالية والأجيرة أو تفتيت التناقض بينهما بمحاولة احتواء المنحرفين من قادة الأجراء مع التشويه الدعائي لزملائهم رافضي الاحتواء، كما شمل تغييب التناقض الاجتماعي بمحاولة تزييف وعي الأجراء وغسل أدمغتهم تحت البث المكثف لأفكار وثقافات تتراوح بين الغيبية الداعية إلى الخضوع للأمر الواقع أو انتظار ضربات الحظ وبين الانتهازية الداعية إلى الحلول الفردية أو الإجرامية، وشمل أيضاً استبدال التناقض الاجتماعي الحقيقي بتناقضات زائفة بديلة عبر محاولة افتعال وتصعيد بعض الاختلافات الهامشية القائمة على اعتبارات قومية أو عرقية أو دينية أو طائفية أو ما شابه، وإذا كانت الفئات الرأسمالية المركزية قد لجأت في أوطانها إلى الأساليب القمعية العنيفة كخط دفاع أخير ضد احتجاجات وانتفاضات وثورات فقراء تلك الأوطان، عند فشل الأساليب الاحتيالية الالتفافية باعتبارها خط الدفاع الأول لمنع أو على الأقل عرقلة وصول التناقض الاجتماعي القائم إلى التغيير المستهدف، فإن توابعها من الفئات الرأسمالية المحلية لم تستخدم سوى القمع العنيف المباشر كخط دفاع وحيد لها في مواجهة سعي الفقراء نحو تغيير الأوضاع، ليس فقط لنقص خبراتها السياسية والإدارية وضعف أدواتها الدعائية والثقافية والفكرية ولكن أيضاً لتضخم أدواتها الاستبدادية الناجم عن تراكمات تاريخية جعلت الدول بأجهزتها السيادية في هذه الأوطان ذات هيمنة شمولية مطلقة على المجتمعات والأسواق والعلاقات التجارية الخارجية!!. (2) بينما كانت الدول في الأنظمة الرأسمالية المركزية هي مجرد أدوات بأيدي الرأسماليين لضمان استمرار سيطرتهم على المجتمعات والأسواق والعلاقات التجارية الخارجية، فإن الدولة المصرية كانت هي صاحبة السيطرة الاحتكارية الحصرية على المجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية بنفسها ولصالح نفسها، منذ نشأتها قبل سبعة آلاف عام ثم توحيدها على يد "نارمر" الشهير بالملك "مينا" موحد القطرين عام 3500 قبل الميلاد، لتستمر سيطرة الدولة حتى أثناء وقوع الوطن المصري تحت احتلال الهكسوس بين عامي 2000 و1580 قبل الميلاد ثم وقوعه بعد ذلك تحت سلسلة متتالية من موجات الاحتلال الأجنبي متعدد الجنسيات التي كان يسلم بعضها مصر إلى بعض طوال ثلاثة آلاف عام، بدأت بدخول الاحتلال الأفريقي عام 950 قبل الميلاد وانتهت بخروج الاحتلال البريطاني عام 1956 ميلادياً مروراً بالمحتلين الأحباش ثم الفرس ثم الإغريق ثم الرومان ثم جاء العرب عام 641 بعائلاتهم الحاكمة المتعاقبة التي كانت آخرها هي العائلة الفاطمية، حيث حاول الفاطميون بمجرد توليهم حكم مصر عام 969 تحرير المجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية نسبياً من قبضة الدولة الاحتكارية المسيطرة، مما اعتبره الطامعون الأجانب ضعفاً فزحفت جيوش المغول والصليبيين لغزو مصر واحتلالها، الأمر الذي تصدى له الفاطميون بواسطة جيشهم المكون من عسكريين محترفين مسلمين ليسوا بمصريين أو عرب يقودهم الأيوبيون الأكراد ومماليك آسيا الوسطى، إلا أن الأيوبيين والمماليك عقب نجاحهم في التصدي للغزاة المغول والصليبيين تحالفوا فيما بينهم لتنفيذ انقلاب عسكري أطاح بحكم العائلة الفاطمية، فعادت الدولة المصرية مجدداً إلى سابق سيطرتها الاحتكارية على المجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية منذ عام 1171 مع خضوعها للاحتلال الكردي ثم المملوكي ثم العثماني وأخيراً البريطاني، حتى بعد تولي تنظيم "الضباط الأحرار" الذي كان امتداداً معدلاً لجمعية "الحرس الحديدي" النازية حكم مصر بانقلابهم على آخر أحفاد الحكم العثماني عام 1952 ثم بطردهم لقوات الاحتلال البريطاني عام 1956، فقد استمرت سيطرة الدولة الاحتكارية ومازالت مستمرة تحت حكم الامتدادات المتتالية للضباط الأحرار إلى يومنا هذا، أما الرأسمالية المصرية المحلية المولودة رسمياً عام 1871 مع إصدار الخديوي "إسماعيل" قانون المقابلة الذي حاول كسر احتكار الدولة لملكية كافة مكونات المجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية، بمنحه المواطنين المصريين حقوق تملك الأراضي والأطيان والعقارات والورش الحرفية والوكالات التجارية وبيعها بمقابل مالي مع حق شراء قوة العمل العضلي والذهني من الغير في مقابل أجر محدد سلفاً، فإنها لم تستطع حتى اليوم إقامة نظام اقتصادي رأسمالي بمعناه العلمي ليس فقط بسبب استمرار السيطرة الاحتكارية للدولة المصرية ولكن أيضاً لأسباب وظيفية وبنائية أخرى عديدة تتعلق بالأوضاع الموروثة في مصر أو المفروضة عليها، أهمها نشأة الرأسمالية المحلية داخل مجتمع مازال خاضعاً بشكل كلي لهيمنة قواعد اقتصاديات الإقطاع مع استمرار بعض ملامح اقتصاديات العبودية بل وأيضاً بعض بقايا اقتصاديات المشاعية البدائية القائمة على الجمع والالتقاط، إلى جانب نشأة الرأسمالية المحلية عقب ثلاثة عقود زمنية من ظهور وكلاء الرأسمالية العالمية بشكل رسمي في مصر عندما خضع الوالي "محمَّد علي" عام 1840 لبنود معاهدة لندن التي أجبرته فيها الرأسمالية المركزية العالمية على منح وكلائها الأجانب في مصر عدة حقوق اقتصادية، منها تملك الأراضي والأطيان والعقارات والورش الحرفية وبيعها بمقابل مالي وإنشاء الوكالات والاتحادات الصناعية والتجارية والمصرفية وشراء قوة العمل العضلي والذهني من المصريين وغيرهم مقابل أجر محدد سلفاً، بما وفرته تلك الأسبقية التاريخية لوكلاء الرأسمالية العالمية من أفضليات تنافسية ميدانية على حساب الرأسماليين المحليين الجدد، الذين استمروا يعانون الحصار حتى عقب مجيء "الضباط الأحرار" عام 1952 وحرصهم على تقليص النفوذ الاقتصادي لكل من الإقطاعيين والوكلاء بهدف إعادة فرض سيطرة الدولة الاحتكارية في ظل نظام اقتصادي رأسمالي جديد تقوده البيروقراطية، ليمارس البيروقراطيون سواء كانوا عسكريين أو مدنيين طوال عمر ذلك النظام البالغ ربع قرن زمني كافة أنواع الأنشطة الفاسدة من عمولات ورشاوى ومضاربات وتهريب وتجارة ممنوعات وإتجار في السوق السوداء وتهرب ضريبي وخلافه، مما أسفر عن تراكم أرباح طائلة لديهم دفعتهم عام 1975 نحو إقامة نظام اقتصادي رأسمالي جديد قائم على الانفتاح الاستهلاكي يقودونه بأنفسهم بعد استثمارهم لتراكماتهم المالية الفاسدة حتى يصبحوا هم الوكلاء الجدد للرأسمالية المركزية العالمية، وأما الأجراء المصريين المولودين رسمياً عام 1840 بحصولهم على حق بيع قوة عملهم العضلي والذهني للغير في مقابل أجر محدد سلفاً حسب معاهدة لندن ثم عام 1871 بحصولهم على حق التنقل الجغرافي الحر بحثاً عن العمل المأجور حسب قانون المقابلة، فإنهم لم يستطيعوا حتى اليوم بلورة طبقة أو فئة محددة الملامح الاجتماعية بمعناها العلمي ليس فقط بسبب السيطرة الاحتكارية للدولة المصرية ولكن أيضاً لأسباب وظيفية وبنائية أخرى عديدة ذات صلة بالأوضاع الموروثة في مصر أو المفروضة عليها، أهمها استمرار سعيهم للتربح الإضافي من بعض الأنشطة التي تتداخل فيها بقايا اقتصاديات الإقطاع والعبودية والمشاعية مع ملامح اقتصاديات الرأسمالية، إلى جانب غياب وعيهم بذاتهم ككيان واحد له مصالح مشتركة تجمعهم معاً وتميزهم عن غيرهم تحت تأثير الأنواع التحريفية الضارة من الأفكار والثقافات والدعايات، التي تتراوح بين الغيبية الداعية إلى الخضوع للأمر الواقع أو انتظار ضربات الحظ وبين الانتهازية الداعية إلى الحلول الفردية أو الإجرامية، وإزاء تشوه التكوين الاجتماعي الأصلي للأجراء المصريين فقد اتسمت احتجاجاتهم وانتفاضاتهم وثوراتهم ضد الفقر والتفاوت الاجتماعي بعدة تشوهات على رأسها إفراطهم في العنف العشوائي، لترد عليهم الدولة المصرية باعتبارها قائدة التحالف الاقتصادي والاجتماعي الحاكم والمحتكرة حصرياً لحق التعبير عن فئاته الرأسمالية المشوهة بإفراطها في العنف القمعي المنظم!!. (3) أقام تنظيم "الضباط الأحرار" منذ توليه حكم مصر عام 1952 جمهورية خوف مكبلة بالقمع الأمني والشمولية السياسية والتعتيم الإعلامي، مع إخضاع كل مكونات الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية لأجهزة سيادية إقصائية حريصة على إزالة الأفكار المعارضة وتصفية الآراء المخالفة وإسكات الأصوات المستقلة، وفي ظل تلك الأجواء احتكر البيروقراطيون جميع سلطات صناعة واتخاذ وتنفيذ ومتابعة ومراقبة وتقييم كافة القرارات الاقتصادية والمالية فاستغلوا احتكارهم من أجل توسيع نطاق ممارساتهم الفاسدة، المتمثلة في العمولات والرشاوى والمضاربات والتهريب وتجارة الممنوعات والسوق السوداء والتهرب الضريبي وخلافه في مختلف الأنشطة الزراعية والصناعية والاستخراجية والغذائية والتجارية والمصرفية والسياحية والخدمية، كالعقارات على سبيل المثال التوضيحي حيث يبدأون بوضع أياديهم فوق قطع الأراضي المميزة في مختلف ربوع الوطن دون أي سند غير تبعيتهم للأجهزة السيادية، ثم يقومون بتقسيم وتخصيص الأراضي المنهوبة تحت أسماء وكلائهم لحين "توضيب" أوضاعها ومدها بالمرافق الفاخرة المخصصة للأثرياء في مقابل المدفوعات المالية المقررة لمرافق الفقراء المدعومة، ثم تأتي عمليات بيع الأراضي أو البناء عليها بموجب توكيلات ومبايعات عرفية صورية تقابلها أوراق ومستمسكات ضدية بهدف التهرب الضريبي أو غسيل الأموال أو إخفائها خلف بعض سواتر الفساد، المتمثلة في اتحادات وجمعيات مقاولي الاستثمار والتسويق والتمويل والرهن العقاري ومقاولي التشييد والبناء والإسكان والتعمير ومقاولي تصنيع واستخراج واستيراد وتوزيع المواد والتجهيزات والمستلزمات ذات الصلة بمختلف النواحي العقارية، مع رفع نسبة مئوية تتراوح بين نصف وثلثي صافي أرباح تلك الممارسات الفاسدة أولاً بأول إلى قادة الدولة والأجهزة السيادية المصرية، وإزاء تراكم الأموال الطائلة في الجيوب السرية الأخطبوطية الفاسدة لرموز الدولة والأجهزة السيادية والبيروقراطية طوال ربع قرن زمني كان لابد من اتجاههم نحو استثمارها لصالحهم الشخصي والعائلي بشكل علني وصريح ومباشر، فقاموا عام 1975 بتغيير مسار الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية إلى نظام انفتاح اقتصادي استهلاكي على الرأسمالية المركزية العالمية بعد أن أصبحوا هم وكلائها الجدد في مصر، وحسب تقارير الأمم المتحدة فقد تنوعت الممارسات الفاسدة واتسع نطاقها لتبلغ نسبة ثلثي المعاملات الاقتصادية في ظل النظام الانفتاحي الجديد لتضع مصر في الترتيب العشرين على مستوى العالم من حيث الأنظمة الأكثر فساداً، وسرعان ما ظهر الوجه الاجتماعي الأقبح لذلك الفساد الاقتصادي القبيح بارتفاع أعداد العاطلين عن العمل وتضخم أسعار السلع والخدمات الأساسية بالمقارنة مع التقلص النسبي للأجور وانعدام الدعم النقدي والعيني لاحتياجات الفقراء، حتى تفاقمت حدة التفاوت الاجتماعي إلى درجة أصبح معها حوالي نصف المصريين تحت خط الفقر مقابل عشرهم فقط يستحوذون وحدهم على نصف الاستهلاك المحلي، ولكن نظراً لنجاح الحملات الدعائية والثقافية والفكرية التي شنتها المؤسسات التابعة للدولة والرأسمالية المحلية في تغييب وعي الفقراء بنشر الغيبيات والخرافات والأنانية، ونظراً لانتهازية الأحزاب السياسية المعارضة وضعف جماعات الضغط المجتمعية فقد انحرفت ردود فعل الأجراء الفقراء تجاه ما يعانونه من تفاوت اجتماعي صارخ، لتتراوح بين الاعتكاف انتظاراً للفرج السماوي والعزوف السلبي عن المشاركة في الأنشطة والاستحقاقات العامة والهجرة الدائمة أو المؤقتة إلى الخارج وبين الحلول الفردية التي بلغت حد بيع بعض الفقراء لأجزاء وأعضاء من أجسادهم إلى المشترين الأثرياء، مع اتساع نطاق الجرائم الجنائية حيث تجاوز عدد المصريين المسجلين حالياً ضمن فئة "الخطرين" نصف المليون مجرم، يرتكبون سنوياً أكثر من خمسين ألف جناية وجُنْحة لا تتم معاقبة سوى أقل من ربع مرتكبيها فقط حسب تقارير المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ويزداد تفاقم الحالة الجنائية المصرية مؤخراً بظهور عدة تشكيلات من الشبكات العنكبوتية للجريمة المنظمة والتي تمتد أطراف خيوطها الرأسية والأفقية نحو رموز العصابات المتخصصة في مختلف المجالات الإجرامية من جهة، ونحو رموز الأجهزة السيادية المختصة بمكافحة تلك المجالات الإجرامية من الجهة المقابلة بمعرفة قادة الدولة الذين يتدخلون عند الضرورة للتوفيق أو التنسيق أو الحماية أو التمويه، ورغم غلبة ردود الفعل المنحرفة تجاه التفاوت الاجتماعي على معظم صفحات التاريخ المصري المعاصر فقد حمل شهر يناير عام 1977 رد فعل صحيح وحاسم للأجراء الفقراء في مصر، عندما انتفضوا بالملايين في كافة الربوع المصرية تحت قيادة ثلاثة تنظيمات شيوعية سرية هي 8 يناير والعمال والانتصار ضد الدولة المعبرة عن وكلاء الرأسمالية العالمية باعتبارها صاحبة السياسات التي أدت إلى إفقار الغالبية الكاسحة من الجماهير الشعبية، الأمر الذي أجبر رئيس الجمهورية آنذاك "أنور السادات" على تكليف الجيش بالقمع المسلح العنيف للانتفاضة قبل هروبه متخفياً إلى مدينة أسوان الجنوبية حتى يسهل عليه عبور الحدود والفرار للسودان لو انتصر الفقراء المنتفضون، ولكنهم انهزموا عقب محاصرتهم على أربعة محاور تمثلت في المناورات الحكومية بخفض فوري مخادع للأسعار مع وعد كاذب برفع وشيك للأجور، إلى جانب مسارعة الرأسمالية المركزية العالمية وتوابعها المحليين في الدول المجاورة بتقديم عدة أشكال من الدعم المالي والعيني للحكومة المصرية، بالإضافة إلى الاستخدامات المفرطة لعنف قتالي غير مألوف من قبل الجيش المصري أسفر عن سقوط آلاف الشهداء في صفوف الفقراء المنتفضين، أما المحور الرابع المفاجئ الذي أربك القادة الميدانيين للانتفاضة فقد تمثل في استعانة الأجهزة السيادية بجماعات السلفيين والإخوان المسلمين لتوجيه ميليشياتهم المدربة والمسلحة نحو المكافحة الميدانية للأجراء الفقراء المحتجين على تدهور الأوضاع المعيشية لجميع المصريين بمن فيهم الإسلاميين ذاتهم، والذين استغلوا فرصة احتياج تلك الأجهزة لهم فشرعوا في إملاء طلباتهم المباشرة ذات الصلة بمصالحهم الانتهازية الضيقة، لتنتبه الأجهزة بمجرد إخماد انتفاضة يناير عام 1977 إلى أنها كانت قد أوقعت نفسها فى مأزق بين خطر تكرار انتفاضات الفقراء تحت قيادة خصومها الشيوعيين وخطر استمرار خضوعها لابتزاز حلفائها الإسلاميين، وتمثل المخرج الوحيد في سعيها لإنشاء أداة قمعية جديدة على أن تواصل الأجهزة السيادية مكافحتها ضد الشيوعيين وتهدئتها مع الإسلاميين إلى حين إنشاء الأداة الجديدة التابعة لها، والتي يجب أن تكون غير تقليدية وتتسم بالسرية والجماهيرية والكفاءة القتالية في التصدي العنيف للشيوعيين بصفة دائمة وللإسلاميين أيضاً إذا لزم الأمر!!. (4) استوعبت الأجهزة السيادية المصرية جيداً دروس انتفاضة يناير 1977 فوجهت تعميماً سرياً لمفكريها الاستراتيجيين باحتياجها إلى الأداة القمعية الجديدة، التي سوف تتولى مسئولية استخدام الأساليب العنيفة غير التقليدية القادرة على حماية الدولة من خصومها الشيوعيين المدعومين بجماهيرهم العريضة وتخليصها إذا لزم الأمر من مناورات حلفائها الإسلاميين المدعومين بميليشياتهم المدربة والمسلحة، ليزداد احتياج الأجهزة إلى تلك الأداة عقب التمرد المسلح الذي اندلع في فبراير عام 1986 ضد ممارسات الدولة من قبل إحدى أدوات حمايتها التقليدية الافتراضية المتمثلة في جنود الأمن المركزي التابعين للشرطة والجيش معاً، فعكفت بعض الطواقم الاستراتيجية على إعادة دراسة التطبيقات الأمنية لقواعد ومهارات لعبة الشطرنج حيث توصلوا إلى خلو رقعة المواجهة الميدانية الواقعية من الأداة المساوية لحصان الشطرنج، الذي يقفز الحواجز ويخترق الأسوار ويتغلغل داخل مربعات المعسكر المضاد لقتل أدواته برشاقة، على اعتبار أن الجنود المجندين في الشرطة والجيش هم عساكر الشطرنج وصف الضباط هم أفياله أما الضباط فهم طوابيه بينما يتساوى وزير الشطرنج مع قيادة المجلس الأعلى للأجهزة السيادية في حين أن رأس الدولة هو ملك الشطرنج، وعكفت طواقم استراتيجية غيرها على إعادة دراسة كيفية الاستفادة الأمنية من السمات السلوكية للشخصية المصرية في حالات الصدام، حيث توصلوا إلى أن ميل المصريين نحو خلطة تجمع بين سلوكيات "المبالغة والملاوعة والفهلوة والتورية والسخرية" لا يخفي سلوك "الغِل" الثأري ضد كل الذين يرتدون أزياء الدولة لمجرد ارتدائهم للزي الرسمي "الميري"، بينما عكفت طواقم استراتيجية أخرى على إعادة دراسة التاريخ الأمني المصري في العصور الوسطى حيث توقفوا عند استقرار الفاطميين رغم تشيعهم على رأس الدولة والمجتمع في مصر السنية لقرنين من الزمان بين عامي 969 و1171، وتوصلوا إلى أن استقرارهم قد نتج عن تمييزهم الاحترافي بين مجال الأمن الخارجي الذي استخدموا فيه المقاتلين الأكراد والمماليك بعد تمصيرهم ومجال الأمن الداخلي الذي لم يستخدموا فيه سوى "الفتوات" المحليين ذوي الأصول المصرية الخالصة، أولئك الفتوات الذين اتسع نطاق استخدامهم في نفس المجال من قبل الدولتين الكردية ثم المملوكية تباعاً ليتم لاحقاً الاعتراف بهم رسمياً كوحدات دفاع شعبي من قبل الدولتين العثمانية ثم البريطانية تباعاً بتسكينهم على رأس عموديات ومشيخات الحارات والقرى في مختلف الربوع المصرية، كما عكفت بعض الطواقم الاستراتيجية على إعادة دراسة كيفية تلبية الاحتياجات الأمنية الشبيهة في العالم الخارجي حيث استوقفتهم عدة تجارب تاريخية ومعاصرة، مثل تجربة استخدام سجناء دول غرب أوروبا لغزو القارة الأمريكية خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر ثم مكافأة أولئك السجناء السابقين على إبادتهم للسكان الأصليين من الهنود الحمر بمنحهم ألقاب ورتب قيادية عسكرية ومدنية سمحت لهم بقيادة دول ومجتمعات القارة الأمريكية الجديدة، إلى جانب تجربة إنشاء الأجهزة السيادية الأمريكية مع حلول القرن العشرين لمنظمة تضم المجرمين الجنائيين من ذوي البشرة البيضاء والأصول الأوروبية تحت اسم "كوكليكس كلان"، بهدف مطاردة الزنوج الأمريكيين لإبادتهم أو طردهم خارج البلاد حتى لا يحصلون على حقوقهم المدنية التي كانوا قد بدأوا يطالبون بها عقب إتمام مهامهم الإجبارية الشاقة كعبيد في بناء الدولة الأمريكية الحديثة، بالإضافة إلى تجربة إنشاء الحركة الصهيونية العالمية لمنظمات تضم المجرمين الجنائيين من اليهود تحت أسماء "أراجون" و"هاجاناه" و"شتيرن" و"شاباك" وغيرها خلال النصف الأول من القرن العشرين لاستخدامها في إنهاك واستنزاف الشعوب والجيوش العربية عموماً والفلسطينيين على وجه الخصوص، ومثل تجربة الحزب الشيوعي الروماني الذي استمر يحكم بلاده حتى نهاية الثمانينيات اعتماداً على أجنحة قتالية ميدانية تابعة له كان قد أنشأها قبل عدة عقود من المجرمين الجنائيين، إلى جانب تجربة مجموعة "روما" لليهود المصريين "غير الصهاينة" حسب وصفهم لأنفسهم والسابق طردهم خارج الحزب الشيوعي المصري عام 1958، والذين حاولوا الالتحاق بالحزب الشيوعي الإيطالي ليطردهم بدوره سريعاً من صفوفه فانتقلوا إلى الحزب الشيوعي الفرنسي ومازالوا مرتبطين به تنظيمياً حتى اليوم تحت رعاية أجهزة الأمن الخارجي الفرنسية والأطلسية والإسرائيلية، لاسيما وقد دأبت مجموعة روما على توريد المقاتلين المرتزقة من المجرمين الجنائيين متعددي الجنسيات لمختلف حكومات العالم مقابل ما تدفعه تلك الحكومات المستوردة من أجور إلى المرتزقة وعمولات للمجموعة، بالإضافة إلى تجربة روابط مشجعي فرق كرة القدم العالمية ذات الانتشار الجماهيري الواسع والتي بدأت منذ ثمانينيات القرن العشرين تستخدم العنف المفرط المنظم ضد خصومها، وعلى ضوء المعلومات والتقديرات المرفوعة إليها من طواقمها الاستراتيجية المختلفة في هذا الصدد بدأت الأجهزة السيادية تتخذ الخطوات التنفيذية اللازمة لإنشاء الأداة القمعية الجديدة المطلوبة، بتجنيدها للأشخاص المستهدفين داخل أوساط المجرمين التائبين والسجناء السابقين ومطلقي السراح المشروط من نزلاء السجون الافتراضيين والمسجلين كخطرين على الأمن العام والبلاطجة والفتوات والمنحرفين جنائياً والهاربين من تنفيذ الأحكام القضائية، إلى جانب الجانحين سلوكياً والشواذ جنسياً ومدمني المخدرات والخمور وكارهي المجتمع من المصابين بأمراض عقلية ونفسية عدوانية مؤذية وحثالة المجتمع من الضالين والفاشلين اجتماعياً ودراسياً ومهنياً، بالإضافة إلى أطفال الشوارع والباعة الجائلين ومجهولي الأنساب والجنسيات والأديان وساقطي القيد في السجلات الرسمية، وضمهم كأعضاء سريين بالأداة القمعية الجديدة ليتم تأهيلهم وتدريبهم وتسليحهم وتمويلهم سراً ضمن ميزانيات الأمن والدفاع التي يشرف عليها المجلس العسكري ويمنع سلطات الدولة الأخرى بما فيها رئاسة الجمهورية من مراجعتها أو حتى مجرد الاطلاع على بنودها، وعقب اجتياز تلك الأداة لعدة اختبارات ميدانية متتالية تم الإعلان عن ظهورها في مختلف الربوع المصرية مع حلول القرن الواحد والعشرين تحت اسم "لجان المواطنين الشرفاء"!!. (5) اختلفت أنواع الموت داخل جمهورية الخوف الأولى الممتدة في مصر بين عامي 1952 و2011 باختلاف الألوان الأربعة للعلم المصري المعاصر فباستثناء اللون الأبيض الذي يعني الموت الطبيعي، كانت الألوان الثلاثة الأخرى تعنى الموت قتلاً إما بالسموم الصفراء أو بالأسلحة الدموية الحمراء أو عبر الأساليب السوداء كالحرق والخنق والردم والإغراق، ومنذ ظهور "لجان المواطنين الشرفاء" على الساحة المحلية المصرية أصبح القتل بكل أنواعه هو اختصاصها الاحترافي حيث يشتبك بلاطجة تلك اللجان مع الأشخاص المستهدفين وهم يضعون نصب أعينهم ثلاثة أهداف تصاعدية بديلة، تبدأ بالترويع تحت تهديد السلاح لفض التجمعات غير المرغوب فيها مع إصابة الأشخاص المستهدفين ببعض الجروح الغائرة أو السطحية لبث الخوف في نفوسهم من معاودة التجمع مجدداً ولمساعدة الأجهزة السيادية على تمييزهم واصطيادهم لاحقاً، فإذا لم يتفرق المستهدفون يتم تصعيد قواعد الاشتباك إلى الهدف الأعلى المتمثل في قيام البلاطجة باستخدام أسلحتهم لإلحاق إصابات تعجيزية خطيرة تعيق المستهدفين جسدياً وتمنعهم من مواصلة التجمع، وعند أي مقاومة دفاعية يبديها المستهدفون يرفع البلاطجة مستوى هجومهم إلى الهدف النهائي بقتل المستهدفين عبر استخدامهم لكل ما يحوزونه من أسلحة، تشمل فيما تشمله رقاب الزجاجات وشفرات الحلاقة وعبوات المسامير والمونة والمولوتوف وقطع الأحجار الرخامية المدببة والأحماض الكيميائية الحارقة والمواد البترولية القابلة للاشتعال السريع والعصي الخشبية والكرابيج السودانية والسلاسل والجنازير والقضبان والقبضات الحديدية والأسلحة البيضاء والنارية، إلى جانب حقن الفيروسات والميكروبات والجراثيم السابق تجهيزها وتعبئتها داخل المعامل التابعة للأجهزة والتي يغرزها البلاطجة في أجساد المستهدفين أثناء الاشتباك معهم، بالإضافة إلى استخدام البلاطجة لعضلاتهم وأياديهم المدربة في قتل المستهدفين بالضرب المبرح أو الخنق أو الردم أو الإغراق أو الإلقاء من فوق أماكن مرتفعة أو ما شابه، ليحصلوا مقابل مجهوداتهم القذرة على مكافآت مباشرة تتمثل في الامتناع عن تنفيذ الأحكام الجنائية الصادرة ضدهم وفي المبالغ المالية الفورية التي يدفعها رجال الأعمال طوعاً أو كرهاً بقيمة ألف جنيه لكل بلطجي عن الواقعة الواحدة، كما يحصلون على مكافآت أخرى غير مباشرة تتمثل في الوظائف المميزة داخل مؤسسات الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية وتراخيص الورش والمحلات والأكشاك التجارية والخدمية وشقق الإسكان الشعبي المخصصة أصلاً للفقراء الذين انهارت منازلهم، مع بعض الأحراز السابق مصادرتها كالسيارات والموتوسيكلات والدراجات و"التكاتك" وبعض الممنوعات السابق ضبطها لدى المجرمين غير المتعاونين كالمخدرات والخمور المهربة والأموال المزيفة والسلع والأجهزة المقلدة أو ذات الأوراق المضروبة، إلا أن المكافأة الأهم بالنسبة للبلاطجة أعضاء لجان المواطنين الشرفاء تتمثل في تبييض مراكزهم القانونية عبر تنقية سجلاتهم الجنائية من سوابقهم الإجرامية و"توضيب" أوراقهم الرسمية على نحو يكفل استمرار أنشطتهم الإجرامية حاضراً ومستقبلاً، بمعرفة الأجهزة السيادية المنوط بها دستورياً وقانونياً مكافحة المجرمين الجنائيين كخصوم دائمين لها فإذا بها تزهو لنجاحها في استخدام خصومها الجنائيين ضد خصومها السياسيين دون تحريك قواتها الأساسية، على مظنة أن حماية ملوك الشطرنج باستخدام أحصنة الشطرنج فقط تندرج ضمن قوائم ألعاب الذكاء رغم أن المتخصصين يدرجونها ضمن قوائم الألعاب الخطرة بينما يدرجها المشجعون المخضرمون ضمن قوائم الألعاب الرديئة التي لا تستحق التشجيع!!. (6) فرض بلاطجة لجان المواطنين الشرفاء وجودهم الدموي بكثافة على مجمل مكونات المشهد السياسي المصري منذ حلول القرن الواحد والعشرين رغم اختلاف التقديرات النسبية لماهية وأهمية خلفياتهم ودوافعهم الحقيقية وبالتالي اختلاف الاتجاهات حول الكيفية الأنسب للتعامل مع ممارساتهم العنيفة، التي أفادها ارتباك ردود فعل النشطاء والمراقبين فأخذت تتسع رأسياً وأفقياً سواء على مستوى فض فعاليات الميادين والشوارع المزعجة للأجهزة السيادية كمؤتمرات المعارضة والمظاهرات السياسية والاعتصامات الاحتجاجية والإضرابات المطلبية، أو على مستوى فض التجمعات الانتخابية المزعجة لتلك الأجهزة فيما يتعلق بالمجالس النيابية والمحلية والنقابات المهنية والعمالية والأندية الرياضية والمراكز الشبابية والجمعيات الأهلية واتحادات ملاك العمارات السكنية، ومع حلول شهر يناير عام 2011 الذي قاد مصر نحو أكثر مراحل تاريخها الراهن والمعاصر ارتباكاً بلغ البلاطجة أعلى درجات جاهزيتهم استعداداً لتأدية أعنف أدوارهم الدموية ضد جماهير المصريين، حيث كان رئيس الجمهورية آنذاك "حسني مبارك" قد أغضب قادة المجلس العسكري عام 2007 عندما أجرى تعديلاً دستورياً يعرقل أية ترشيحات محتملة من جانبهم ضد نجله "جمال" في الانتخابات الرئاسية التعددية التالية التي كانت مقررة خلال عام 2011، بعد أن أغضب "مبارك" قادة جماعة الإخوان المسلمين عام 2006 عندما تراجع جزئياً عن تنفيذ وعده السابق بمنحهم نسبة ثلث المقاعد البرلماينة التي يشترطها الدستور لتعطيل ما يرفضونه من قرارات وإجراءات حكومية، رغم التزامهم من جانبهم بتنفيذ وعدهم السابق المقابل بدعمه وتأييده في الانتخابات الرئاسية التعددية السابقة التي أجريت عام 2005، فتحالف الفريقان العسكري والإخواني سراً ضد عائلة "مبارك" وتحت رعاية الإدارة الأمريكية ذات الصلات النفعية بالأطراف الثلاثة، وهكذا بدأ الانقلابيون أنشطتهم وعملياتهم السرية لتعبئة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وتهيئة الاجواء المحلية والإقليمية والعالمية للإطاحة الالتفافية الماكرة بعائلة "مبارك"، مع تأجيل التنفيذ إلى حين توافر السواتر الجماهيرية المناسبة التي حملتها أحداث يوم 25 يناير عام 2011 بمجرد اندلاع انتفاضة "ميدان التحرير" البطولية المعبرة عن تنامي الغضب الشعبي الحقيقي تجاه استشراء الاستبداد والفساد والتبعية في مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية، سواء كانت خاضعة لعائلة "مبارك" وأنصاره أو كانت تابعة لخصومه الانقلابيين من قادة المجلس العسكري وجماعة الإخوان أو كانت موالية للإدارة الأمريكية الانتهازية، وفي ظل تلك الأجواء المرتبكة تم توجيه بلاطجة لجان المواطنين الشرفاء نحو تحركات دموية عنيفة محسوبة بدقة شطرنجية كامنة رغم التناقض الواضح في ظاهرها السطحي، فقد نزل البلاطجة بكثافة عددية إلى ميدان التحرير يوم 28 يناير المعروف بجمعة الغضب للدفاع عن جماهير المحتجين المعتصمين في الميدان تشجيعاً لغيرهم من المحايدين والمترددين على المشاركة في انتفاضة الميدان ضد "مبارك"، وبمجرد أن أوضحت تقارير المتابعة الواردة إلى خصوم "مبارك" الانقلابيين ميل بعض قطاعات الرأي العام للتسامح معه بمنحه فرصة الانسحاب المنظم من رئاسة الجمهورية، على نحو يسمح له بموت هادئ ودفن شرعي تحت تراب وطنه الذي خدمه طويلاً حسبما جاء في خطاب عاطفي ألقاه يوم الأول من فبراير، نزل البلاطجة بكثافة عددية إلى ميدان التحرير يوم 2 فبراير المعروف بموقعة الجمل للهجوم على جماهير المحتجين المعتصمين في الميدان من أجل استفزاز المتسامحين المغادرين وإعادتهم إلى المشاركة في انتفاضة الميدان ضد "مبارك"، وعندما حصل "عمر سليمان" نائب رئيس الجمهورية على تكليف "مبارك" للقيام بأعمال رئاسة الجمهورية نزل البلاطجة بكثافة عددية إلى ميدان التحرير وهم يدعون الجماهير لاستمرار الاحتجاجات والبقاء في الميدان، أما عندما حصل "حسين طنطاوي" وزير الدفاع ورئيس المجلس العسكري على تكليف "مبارك" للقيام بأعمال رئاسة الجمهورية نزل البلاطجة بكثافة عددية إلى ميدان التحرير وهم يدعون الجماهير لإنهاء الاحتجاجات ومغادرة الميدان!!. (7) بموجب تكليف رئيس الجمهورية المخلوع "حسني مبارك" تولى قادة المجلس العسكري حكم مصر بدعم وتأييد جماعة الإخوان المسلمين اعتباراً من يوم 11 فبراير عام 2011، واستمرت الأجهزة السيادية في مكافحة خصومها الشيوعيين وأنصارهم عن طريق مواصلة استخداماتها الدموية العنيفة لبلاطجة لجان المواطنين الشرفاء، الذين ارتكبوا آنذاك عدة مذابح بشرية مروعة كانت أبرزها مذبحتي شارع "محمَّد محمود" وحي "ماسبيرو" في القاهرة إلى جانب مذبحة الملعب الرياضي لاستاد بورسعيد، مع استمرار البلاطجة في فض وتفريق المظاهرات المتجهة صوب ميدان التحرير والاعتصامات المحيطة بالمنشآت التابعة للأجهزة والتي كانت أبرزها آنذاك مباني وزارات الدفاع والداخلية والمالية والتليفزيون، ثم تولى الإخوان المسلمون حكم مصر اعتباراً من يوم 30 يونيو عام 2012 نزولاً عند اختيار الناخبين رغم الاعتراض الواضح لشركائهم السابقين من قادة المجلس العسكري، فاستمرت الأجهزة السيادية في استخداماتها الدموية العنيفة لبلاطجة لجان المواطنين الشرفاء ولكن ضد خصومها الجدد من الإسلاميين وعلى رأسهم قادة وكوادر وأعضاء وتوابع جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة لمنعهم من الانفراد بالسلطة، حيث ارتكب البلاطجة آنذاك عدة مذابح بشرية مروعة كانت أبرزها مذبحتي قصر الاتحادية المخصص لإقامة رئيس الجمهورية بحي "مصر الجديدة" ومقر مكتب إرشاد الجماعة بحي "المقطم" في القاهرة إلى جانب مذبحة ضاحية "أبو مسلم" في الجيزة، مع استمرار البلاطجة في فض وتفريق المظاهرات المتجهة صوب ميدان التحرير والاعتصامات المحيطة بالمنشآت التابعة للأجهزة والتي كانت أبرزها آنذاك مباني المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي، ثم سقط الإخوان المسلمون يوم 3 يوليو 2013 بواسطة انقلاب نفذه قادة المجلس العسكري المستترين خلف بعض الواجهات المدنية الديكورية، تمهيداً لعودتهم مرة أخرى إلى الانفراد بحكم مصر علناً ودون مواربة عقب إزاحتهم يوم 8 يونيو 2014 لتلك الواجهات المدنية الديكورية، ليتسع نطاق الاستخدامات الدموية العنيفة من قبل الأجهزة السيادية لبلاطجة لجان المواطنين الشرفاء ضد كل معارضي الحكم العسكري الجديد سواء كانوا إسلاميين أو شيوعيين أو ليبراليين أو غيرهم، حيث ارتكب البلاطجة ومازالوا يرتكبون المذابح البشرية المروعة التي وقعت أبرزها بميداني "رابعة" و"رمسيس" في القاهرة وميدان "النهضة" في الجيزة إلى جانب مذبحة الملعب الرياضي لاستاد الدفاع الجوي بضاحية "التجمع الخامس" في القاهرة، مع استمرار البلاطجة في فض وتفريق المظاهرات والاعتصامات المعارضة للحكم العسكري والتي لم تزل حتى اليوم تتواصل في عدد كبير من الميادين والشوارع والحارات الموزعة على مختلف المدن والقرى المصرية دون ظهور أية مؤشرات توحي باحتمال توقفها في المستقبل القريب المنظور، ليأتي رد فعل الميليشيات الإسلامية المدربة والمسلحة بقتل الذين يقعون تحت أياديها من قادة وكوادر وأعضاء وتوابع الحكم العسكري، بالإضافة إلى تكرار حالات الموت ذات الأسباب الغامضة وحوادث القتل ذات الأغطية الواهية ضد عناصر بشرية منتقاة بعناية داخل صفوف الحكم والمعارضة، وهكذا ارتفعت حصيلة الضحايا المصريين منذ يوم 25 يناير عام 2011 حتى اليوم لتزيد على عشرة آلاف قتيل ومفقود وخمسين ألف معتقل تحت التعذيب البدني والتحطيم المعنوي والانتهاك الجنسي ومائة ألف مصاب بإعاقات جسمانية مستديمة، ومئات ألوف موقوفي الأحوال من المضارين في أعمالهم وأرزاقهم ومصالحهم أغلبيتهم الكاسحة مسلمين حقاً وشرفاء فعلاً رغم سقوطهم ضحايا بأيادي ميليشيات تسمي نفسها إسلامية وبلاطجة يسمون أنفسهم مواطنين شرفاء!!. (8) تضم كل قصص الحياة الواقعية أشخاصاً حقيقيين من النبلاء والأشرار في مواجهة بعضهم البعض باستثناء قصتي مع عصابات البلطجة المسماة "لجان المواطنين الشرفاء" والتي لا تضم سوى خمسة أشرار فقط مازالوا جميعاً على قيد الحياة، وهم مسئول سياسي ومحامي جنائي وقائد عسكري وطبيب نفسي بالإضافة إلى قاتل محترف وقد ساعدتني معرفتي المبكرة بأشخاصهم ومتابعتي اللاحقة لمساراتهم في رؤية كابوس عصابات البلطجة من كافة زواياه، حيث كانت الأجهزة السيادية قد اعتقلت أبي الأستاذ الجامعي والكاتب الصحفي وأودعته عنبر المساجين الخطرين بمستشفى العباسية للمجانين في أواخر ستينيات القرن العشرين، عقاباً له ليس فقط على استئناف نشاطه الشيوعي رغم سابق قيامه مع رفاقه تحت ضغط الأجهزة بحل الحزب الشيوعي وتجميد أنشطته عام 1965، ولكن أيضاً على مطالبته في مقالاته الممنوعة من النشر بعودة الجيش المصري إلى ثكناته وتنحيه عن حكم الدولة لصالح السياسيين المدنيين المحترفين عقب الهزيمة العسكرية المخزية أمام العدو الصهيوني عام 1967، مما أجبر أمي في أوائل السبعينيات على الهجرة الخارجية الاضطرارية دون أن تتمكن من اصطحابي معها نظراً لظروف عملها كمترجمة فورية في المؤتمرات بما فرضته عليها من التنقل المستمر بين الدول العربية المجاورة، فاستضافتني العائلتان اللتان ينتمي إليهما أبي المعتقل وأمي المهاجرة بالتبادل في منازلهما الموزعة على أحياء وضواحي مدن القاهرة والإسكندرية وبورسعيد وبنها كضيف غريب ثقيل خوفاً من الملاحقات الأمنية، الأمر الذي دفعني بمجرد استخراجي لبطاقة إثبات هويتي الشخصية عند انتصاف السبعينيات إلى مغادرة المنازل العائلية والانتقال للعمل والإقامة والدراسة في شارع الهرم بمدينة الجيزة، إذ أنني لم أجد سوى فرصة عمل واحدة مريحة ومربحة هناك هي قطع تذاكر الدخول إلى حفلات "الماتينيه" اليومية المسائية في ملهى ليلي شهير تملكه فنانة لامعة معتزلة وتديره شقيقاتها، وسرعان ما توثقت صداقتي الشخصية بابن المالكة وأبناء شقيقاتها المقاربين لعمري والذين كانوا يتسللون خلسةً إلى حفلات "الماتينيه" لرقص "الديسكو" وشرب البيرة المجانية بدون علم الأمهات، اللواتي قررن إزاء تفوقي الدراسي نقل إقامتي إلى غرفة الضيوف بمنزلهن العائلي الكبير الملاصق للملهى مع نقل أبنائهن المتعثرين دراسياً إلى نفس مدرستي الثانوية لعلني أساعدهم في إكمال تعليمهم بنجاح، لذلك فقد أسفر اجتياز الأبناء للاختبارات وانتقالهم إلى الصفوف المدرسية التالية عن سماح الأمهات لنا جميعاً بحضور حفل "سواريه" يوم الخميس فقط من كل أسبوع داخل الملهى الليلي، لنستمتع بالفقرات الفنية والمأكولات والمشروبات المجانية في ظل مجاملات الفنانين والموظفين والزبائن الحريصين على منافقة مالكة الملهى وشقيقاتها المديرات، ومن ضمنهم عازف شاب بإحدى الفرق الموسيقية الجماعية يبحث عن فرصة إضافية لعزف منفرد خلف راقصة مرموقة تعمل مع الأجهزة السيادية، وقد نال العازف الشاب مراده فذاع صيته وزاد دخله عقب تنفيذه الحرفي لنصيحتي بأن يجعل الراقصة المرموقة هي التي تطلب من المالكة والمديرات عمله خلفها تحاشياً لإثارة غضب زملائه العازفين الآخرين سواء كانوا أعضاء في فرقته أو فرقتها، ليرد جميلي الاستشاري بعد عشرة أعوام باستضافتي على سبيل الإقامة الكاملة داخل أهم فنادق العاصمة الرومانية بوخارست خلال مشاركتي ضمن وفد شبابي شيوعي مصري في إحدى فعاليات اتحاد الشباب التقدمي العالمي!!. (9) اخترقت الراقصة المرموقة بتكليف من الأجهزة السيادية الحياة المملة لسفير رومانيا في القاهرة واستطاعت السيطرة عليه تحت ضغوط وحدته وشيخوخته وإغراءات مهاراتها الأنثوية فأصبح يلبي كافة طلباتها المعبرة عن احتياجات تلك الأجهزة، والتي شملت فيما شملته توفير فرصة عمل داخل أهم فنادق العاصمة الرومانية بوخارست للعازف الموسيقي الشاب بعد أن كانت الراقصة قد ألحقته بقوائم تابعي الأجهزة في الأوساط الفنية، فانتقل عازف الموسيقى للعمل والإقامة والدراسة هناك مستفيداً من سيناريو تجربتي السابقة مع التلميذ المتعثر ابن مالكة ملهى شارع الهرم لينجح في مصادقة الابن المولع بالموسيقى رغماً عن أبيه الرئيس الروماني آنذاك "نيقولاي شاوشيسكو"، وهو ذات الابن الذي كان يتلقى من ميزانيات الدولة والحزب الشيوعي الحاكم أموالاً طائلة غير مثبتة بصفته قائد ميليشيات حماية الدولة والحزب المسماة "لجان المواطنين الشرفاء"، إلا أن الابن الفاسد اختلس لنفسه الكثير من تلك الأموال وأودعها في خزائن بنكية خارج بلاده مسجلة صورياً تحت اسم صديقه عازف الموسيقى المصري منعاً لاكتشاف أمره أمام المعارضة الرومانية، كما أودع أيضاً بتلك الخزائن مخططات تجنيد وتدريب وتسليح وتمويل وتشغيل بلاطجة "المواطنين الشرفاء" مع خططه الشخصية لوراثة أبيه في الدولة والحزب، دون أن يفوت "شاوشيسكو" الابن اتخاذ جميع الإجراءات القانونية الضدية الكفيلة بتكبيل صديقه المصري وغل يده عن أية معاملة منفردة تخص الودائع المسجلة تحت اسمه، وفي ديسمبر عام 1989 أطاحت ثورة شعبية رومانية بحكم الحزب الشيوعي ليتم اعتقال الرئيس "نيقولاي شاوشيسكو" وإعدامه مع كل أعضاء عائلته وعلى رأسهم ابنه المولع بالموسيقى، فغادر العازف المصري رومانيا متجهاً نحو سويسرا حيث توجد الخزائن البنكية المحتوية على الودائع المسجلة باسمه ليعود من هناك إلى القاهرة، حاملاً في حقيبته الأموال الطائلة السابق نهبها من ميزانيات الشعب الروماني والتي استثمرها فوراً بمهارة لاحتكار إحدى أهم الصناعات المعدنية، إلى جانب المخططات الخاصة بعصابات البلاطجة الرومان المسماة "لجان المواطنين الشرفاء" والتي استثمرها لاحقاً بمهارة لرفع مركزه النسبي داخل الأجهزة السيادية المصرية، بالإضافة إلى الخطط الشخصية الخاصة بكيفية توريث الحكم للأبناء المتطلعين والتي استثمرها فيما بعد بمهارة لإدارة مشروع توريث حكم مصر من الرئيس "حسني مبارك" إلى ابنه "جمال"، عقب نجاحه في مصادقته مستفيداً مرة أخرى من سيناريو تجربتي السابقة مع التلميذ المتعثر ابن مالكة ملهى شارع الهرم، وسرعان ما أصبح عازف الموسيقى السابق هو الرجل الأقوى في الدولة والحزب الحاكم والمجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية، حتى ارتكب الخطأ القاتل في أواخر العقد الأول للقرن الواحد والعشرين بانحيازه لعائلة "مبارك" ضد تحالف قادة المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين أثناء نزاع السلطة بين الفريقين، ومع وقوع التطورات السياسية المتلاحقة ابتداءً بأحداث الانتفاضة الشعبية البطولية يوم 25 يناير 2011 مروراً بتنحي عائلة "مبارك" اضطرارياً عن الحكم لصالح التحالف العسكري الإخواني يوم 11 فبراير 2011، وصولاً إلى استلام جماعة الإخوان المسلمين حكماً منزوع السلطات الفعلية يوم 30 يونيو 2012 وانتهاءً باستحواذ المجلس العسكري على حكم مصر منفرداً عقب إطاحته بالإخوان يوم 3 يوليو 2013، كان من الطبيعي لطموحات عازف الموسيقى السابق صديق عائلة "مبارك" أن تتعثر بدخوله السجن ونزع حقوقه المدنية والتحفظ على أمواله وتكثيف حملات التشويه الإعلامي ضده ولو إلى حين!!. (10) تظهر عدة أحقاد شخصية متبادلة داخل أوساط الأقارب لاسيما بين الأقران المتشابهين في أعمارهم وأجناسهم ومراكزهم العائلية لأسباب مختلفة، تتراوح بين الإصابة بالعقم أو إنجاب البنات دون الأولاد أو الوفاة المبكرة لأحد الأبوين أو الفقر أو المرض أو الفشل سواء كان دراسياً أو مهنياً أو اجتماعياً، وبين الانعكاسات والامتدادات السلبية لرواسب الصدمات والخلافات العاطفية أو المنافسات والمنازعات الغرامية أو مشاعر الغيرة التاريخية تجاه الأكثر وسامة وجمالاً، ورغم مولدي في أواخر خمسينيات القرن العشرين داخل المعتقلات السياسية لجمهورية الخوف الأولى التي أقامها "الضباط الأحرار" بمصر منذ عام 1952 وبقائي حتى بلوغي العام الخامس من عمري داخل أسوار تلك المعتقلات مع أبي وأمي المتهمان بقيادة الحزب الشيوعي المصري، ثم نشأتي الأقرب إلى اليتم بسبب معاودة اعتقال أبي مرة أخرى طوال العقدين الثاني والثالث من عمري وهجرة أمي الاضطرارية خارج البلاد دون اصطحابي معها فيما بين انتصاف العقد الثاني وانتصاف العقد الثالث من عمري، وتقاعس الأهل والرفاق عن تأدية واجباتهم المتمثلة في تعويض غياب أبي وأمي خوفاً من الملاحقات الأمنية، ورغم قسوة المعاناة الشديدة التي واجهتني مبكراً واستمرت تستنزفني خلال محاولاتي الدفاع عن حريات وحقوق أبي وأمي المهدرة بواسطة الأجهزة السيادية لجمهورية الخوف ومحاولاتي الدفاع عن حياتي المهددة أيضاً من قبل تلك الأجهزة، فقد طالتني أحقاد أحد أقراني المنتمين لعائلتي منذ اضطراري للإقامة في منزل جديه لأمه اللذان كانا قد سجلاه بدفاتر المواليد الرسمية كابنهما على خلاف حقيقة كونه ابن ابنتهما بعد تكرار فشل الجدين في إنجاب ولد ذكر يمنع عني إرثهما، وبدأت أحقاد "قريبي" ابن الآباء الأربعة بمجرد ظهور قدرتي على اتخاذ القرار الذي أراه صحيحاً وقيامي في الوقت المناسب بتنفيذه اعتماداً على ذاتي وحدها، مما أثار إعجاب صبايا العائلة وفتياتها الصغيرات اللواتي أخذن في مطاردتي للحصول على استشاراتي المجانية حول مشاغلهن التافهة بعد أن أسموني من باب الدعابة "عبقرينو طالع دينه"، دون أن يلتفتن إليه هو في المقابل لكونه مدللاً عاجزاً عن اتخاذ أو تنفيذ أية قرارات إلا بتوجيهات ومساعدة آبائه الأربعة، ثم ازدادت أحقاده عقب اجتيازه لاختبارات شهادة الثانوية العامة بنسبة نجاح خمسين فى المائة مقابل اجتيازي لها في العام ذاته بالدرجات شبه النهائية، التي أدرجتني ضمن قائمة العشرة الأوائل وسمحت لي بتلبية رغبتي في دخول كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة رغم عدم تفرغي للدراسة مثله وعدم وجود من يرعاني أثناء دراستي مثله، وتحولت أحقاده تجاهي إلى سموم عندما رفضته الكليات العسكرية بسبب صلة قرابته معي أنا وأبي وأمي المصنفين كخصوم للأجهزة السيادية على خلفية أفكارنا وآرائنا وأنشطتنا الشيوعية، فاستجاب "قريبي" لنصائح آبائه الأربعة بالانتماء إلى جماعة الدعوة والتبليغ ذات الموقع التنظيمي والموقف السياسي الوسطي بين السلفيين والإخوان المسلمين، والالتحاق بإحدى كليات الحقوق الإقليمية المعروف عنها تراجع مستواها العلمي والأكاديمي تحت تأثير الفساد الإداري والمالي المستشري داخلها، ثم تسلل إلى مكتب المحاماة الخاص بأحد أساتذته كمتدرب يقوم بترتيب الأوراق والأدراج وتقديم المأكولات والمشروبات وتنظيف الجدران والأرضيات مقابل حصوله على الدرجات الكفيلة بإنجاحه في الكلية، وتدريجياً أخذ خضوعه يتحول من آبائه الأربعة إلى أستاذه صاحب المكتب المتخصص في قضايا الجنايات والذي أعجبه خضوعه فسلمه يداً بيد لضابط الأجهزة السيادية المسئول عن "الاتصال" مع الكلية، ولما كانت تلك الأجهزة قد دأبت منذ نشأتها على استخدام توابعها المحامين في مهام الوساطة لدى التجمعات البشرية المستهدفة ونقل المعلومات عنها والتعليمات إليها واختراقها للاقتراب من قادتها وكوادرها وأعضائها حتى يتسنى تجنيدهم كلياً أو جزئياً حسب الاستطاعة، ولما كان ارتباط "قريبي" المحامي المتسلق بالأجهزة جاء متزامناً مع احتياجها لإعادة تنظيم عالم الجريمة على نحو يكفل لها إنشاء "لجان المواطنين الشرفاء" بعضوية أكبر عدد متاح من المجرمين الجنائيين الذين يمكن استخدامهم ضد المعارضة السياسية، فقد تم تكليفه ضمن طواقم المحامين التابعين للأجهزة السيادية والموزعين على مختلف المحاكم والنيابات وأقسام الشرطة وبؤر الجريمة لتلبية ذلك الاحتياج داخل تجمعات الجنائيين المستهدفين، بعد أن أمدت الأجهزة توابعها المحامين بكافة مستلزماتهم من المقرات المميزة جغرافياً لإنشاء المكاتب التي تجذب الضحايا إلى جانب الأموال الوفيرة اللازمة لشراء الذمم والأوراق المزيفة وشهادات الزور والتقارير الممهورة بخاتم شعار الجمهورية على بياض بالإضافة إلى إتلاف الأحراز والمضبوطات أو استبدالها، كما أمدتهم بالمعلومات السرية الدقيقة الكفيلة بإفساد القضايا مع ضمانها لمثولهم أمام رجال قضاء متعاونين أو فاسدين أو جاهلين حتى يحصلوا منهم على براءات المجرمين المستهدفين للتجنيد، الذين يقوم المحامون بعد ذلك بتسليمهم إلى طواقم التدريب العسكري والتأهيل النفسي لتجهيزهم بدنياً ومعنوياً وقتالياً وتسليحياً من أجل العمل الجماعي المنظم داخل "لجان المواطنين الشرفاء" تحت سيطرة الأجهزة السيادية، التي تشرف أيضاً على قيام المحامين بتبييض المراكز القانونية لأولئك الجنائيين بهدف إعادة تسكينهم رسمياً في مؤسسات الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية كمواطنين صالحين، وفات المحامي المتسلق أن قريبتنا التي كان أبواها قد أرغماها على الزواج منه لإبعادها عني تحت ضغط مخاوفهما الأمنية ضاقت بممارسات زوجها المهنية المنحرفة، فأخذت تشكوه إلى جميع أعضاء العائلة لتكشف ضمن ثنايا شكاواها المتعددة تفاصيل أنشطته المبذولة من أجل تلبية احتياج الأجهزة لإنشاء وتشغيل "لجان المواطنين الشرفاء"!!. (11) خلال الدراسة الثانوية تولى أحد الضباط الشباب المنتدبين من سلاح الدفاع الشعبي مسئولية تدريس مادة فنون القتال اليدوي وخلال الدراسة الجامعية تولى نفس الضابط أيضاً مسئولية تدريس المادة ذاتها بعد ترقيته إلى الرتبة الأعلى، ورغم ضخامته الجسمانية وشراسته السلوكية فقد كان ضابط الدفاع الشعبي دائم التذمر من سابق خلط طعامه وشرابه طوال فترة دراسته العسكرية بزيت الكافور الذي أثر سلباً على قدراته الجنسية، حتى أنه حاول البحث في أوساط الغلمان الشواذ المترددين على ملاهي شارع الهرم الليلية عن أية مؤثرات عكسية مشجعة دون جدوى، فلما التقاني هناك وجهاً لوجه خلال عملي في شباك التذاكر أدرك أن كافة تفاصيل محاولاته الجنسية الجماعية والشاذة والفاشلة قد وصلتني فطالبني بكتم اسراره لأكسب صداقته دون أن يفوته التلميح الخبيث إلى نفوذه المؤثر على احتمالات نجاحي أو رسوبي دراسياً، أما الطبيب النفسي الشاب السابق اتهامه بسرقة حقوق الملكية الفكرية لسلسلة كتب مترجمة حول فنون التنمية البشرية مثل "السعادة النفسية الكامنة في الخضوع للأمر الواقع" و"كيف تقتل عدوك" وغيرها، والمرتبط منذ دراسته الجامعية بالتنظيم السياسي الرسمي الحاكم متحولاً مع أسمائه المتعاقبة من الاتحاد الاشتراكي إلى منبر الوسط ثم حزب مصر وأخيراً الحزب الوطني، والذي كان قد تم تعيينه بمجرد تخرجه في مستشفى العباسية للمجانين فاعتاد على اغتصاب المريضات القاصرات وصغيرات السن تحت تأثير جرعات زائدة من عقاقير علاجية مخدرة يتعاطاها ويعطيها لهن، حيث سلمتني إحدى ضحاياه خلال زيارتي لأبي ذات مرة بلاغاً موجهاً إلى وزير الصحة يكشف جرائمه على أصعدة التحرش وخيانة الأمانة وتبديد العقاقير العلاجية ولكن سرعان ما اختفى البلاغ وصاحبته معاً، فالتقاني الطبيب النفسي ليطالبني بكتم أسراره حتى أكسب صداقته دون أن يفوته التلميح الخبيث إلى نفوذه المؤثر على حياة أبي المعتقل السياسي داخل عنبر المساجين الخطرين في مستشفى المجانين، وقد تصادف عند بدايات تسعينيات القرن العشرين أن اصطحبني زملائي أعضاء النادي معهم لمشاهدة مباراة كرة قدم هامة يخوضها فريقنا على الملعب الرياضي لاستاد القاهرة، ورغم وصولنا قبل موعد المباراة بنصف ساعة زمن حاملين دعوات دخول المقصورة المميزة فقد وجدنا أنه تم إغلاق بوابات الاستاد الخارجية الرئيسية التي سوف تقودنا إلى الملعب الرياضي قبل ساعتين من بداية المباراة، لصد جماهير روابط مشجعي فريق كرة القدم عقاباً لهم على هتافاتهم الكوميدية الساخرة ضد ممارسات الأجهزة السيادية أثناء تشجيعهم في مباريات سابقة، وبسبب دعوات الدخول المميزة التي نحملها أرشدنا أحد موظفي الهيئة العامة لاستاد القاهرة إلى طريق سري التفافي طويل يمر عبر عدة بوابات فرعية وممرات جانبية وملاعب خلفية متجهاً نحو المقصورة، وبينما أكمل زملائي طريقهم للجلوس على مقاعدهم الوثيرة من أجل مشاهدة المباراة فقد استوقفني مشهد آخر بأحد الملاعب الخلفية لمجموعتين بشريتين متحلقتين حول لافتة مدوناً عليها عبارة "مشروع تخرج دفعة عام 1992 من لجان المواطنين الشرفاء"، كان أعضاء المجموعة الأولى واقفين يتلقون حصة "فنون القتال اليدوي لقتل الحشرات المعارضة التي تعادي الوطن"، في حين كان أعضاء المجموعة الثانية جالسين يستمعون إلى حصة "السعادة النفسية الكامنة في قتل الحشرات المعارضة التي تعادي الوطن"، وبمجرد اقترابي هرول المدربان بعيداً عن مجال رؤيتي البصرية ولكن عقب فوات الأوان نظراً لوضوح ملامح ضابط الدفاع الشعبي الشرس والطبيب النفسي المتحرش أمامي رغم آثار الزمن البادية على الوجهين المذعورين لكليهما!!. (12) تصدر الأحكام القضائية السالبة للحريات بعقوبات أصلية كالسجن مع الأشغال الشاقة أو السجن المشدد أو السجن فقط أو الحبس وتقترن أحياناً بعقوبات تكميلية كيدية هي إخضاع المحكوم عليه للمراقبة الشرطية طوال المدد الزمنية التي تحددها الأحكام، وإذا كانت العقوبات الأصلية يتم تنفيذها بمعرفة مصلحة السجون فإن العقوبات التكميلية يتم تنفيذها بمعرفة مصلحة الأمن العام المسئولة عن مديريات الأمن وأقسام الشرطة الموزعة جغرافياً على كافة الربوع المصرية، بحيث يضطر المحكوم عليه إلى المبيت أو التوقيع في دفاتر المبيت الخاصة بالمديرية أو القسم الأقرب لمحل إقامته، وكانت سيدة ترفيه مأجور منحدرة من إحدى محافظات شمال الصعيد قد ابتكرت في ستينيات القرن العشرين حيلة قانونية لتخفيف وطأة المراقبة الشرطية عليها، بانتقالها إلى إحدى محافظات الوجه البحري وإقامتها في غرفة سكنية ملاصقة لمديرية الأمن التي أصبحت مسئولة جغرافياً عن تنفيذ عقوبتها التكميلية عقب انتهاء مدة عقوبتها الأصلية داخل سجن النساء بتهمة الدعارة، ليقوم سعيد الحظ من أعضاء الوردية الشرطية الليلية بحمل دفتر مبيت المديرية إلى غرفتها بهدف الحصول على بصمتها مقابل تلبية رغباته الجنسية المنحرفة مجاناً معها، ثم تطور الأمر لاحقاً إلى قيام حاملي دفتر المبيت من رجال الشرطة الفاسدين باصطحاب أصدقائهم الراغبين في إقامة حفلات جماعية لتذوق لحمها البشري المجاني كما يحلو لهم، وبمجرد إتمام المدة الزمنية المحددة للعقوبة التكميلية غادرت سيدة الترفيه المفرج عنها غرفة المراقبة الشرطية واتجهت إلى حي "المنيل" القاهري لتستأجر غرفة غسيل كائنة فوق سطح منزل قديم، واضطرت للعمل مؤقتاً في الخدمة المنزلية عندما اكتشفت أنها كانت قد حملت داخل أحشائها طفل خطيئة مجهول الأب لم تستطع التخلص منه عبر أساليب الإجهاض التقليدية، ثم وضعت مولوداً ذكراً عجزت عن استخراج شهادة رسمية بميلاده فمنحته اسماً عرفياً هو "صلاح" لعل مجيئه يؤدي إلى صلاح أحوالها المضطربة، وبعد أن استعادت "أم صلاح" لياقتها الجسمانية اللازمة عاودت نشاطها في مجال الترفيه المأجور داخل غرفة السطح، حيث كانت تعطي طفلها بعض المخدرات لتنويمه حرصاً منها على إلزامه الصمت بهدف توفير الهدوء خلال ترفيهها عن زبائنها الذين قام أحدهم لاحقاً بتخديرها هي حتى يتمكن من اغتصاب الطفل، فلما بلغ "صلاح" عامه الثاني عشر أشعل النار في فراش الرذيلة لقتل أمه وزبونها حرقاً وفر هارباً قبل أن تلتهم النيران الغرفة والمنزل كله، وهكذا تم القبض عليه وإيداعه إصلاحية الأحداث الكائنة في حي "بين السرايات" باعتبارها فرعاً للمؤسسة الرسمية المسئولة عن معاقبة القاصرين الجانحين، وهناك ظهرت ميوله العدوانية العنيفة ليس فقط ضد أقرانه من الأحداث نزلاء الإصلاحية ولكن أيضاً ضد رموز الإدارة المتمثلين في المشرفين الاجتماعيين والحراس العسكريين حتى أطلقوا عليه اسم "صلاح مخ الكلب"، وفي يناير عام 1977 قررت الأجهزة السيادية نقل نزلاء فرع إصلاحية "بين السرايات" الواقع جنوب غرب مدينة الجيزة إلى فرع إصلاحية "المرج" الذي يقع شمال شرق مدينة القاهرة، تمهيداً لتسليم أرض "بين السرايات" إلى وزارة التعليم العالي الراغبة في إقامة كليات الإعلام ودار العلوم ومعهد الليزر وغيرها من المنشآت الجامعية فوق تلك الأرض بحيث يمكن ضمها لاحقاً لحرم جامعة القاهرة، وخلال تنفيذ عملية ترحيل النزلاء بين الفرعين المتباعدين جغرافياً على مسافة خمسين كيلو متراً وقعت أحداث انتفاضة 18 يناير عام 1977 الجماهيرية ذات الأبعاد الاجتماعية، وقامت الجماهير الغاضبة بتحطيم عدة سيارات شرطية كانت إحداها هي عربة ترحيلات نزلاء الإصلاحية فهربوا جميعاً بمن فيهم "صلاح مخ الكلب" الذي اعتبرني صاحب الفضل في "تحريره"، بعد أن شاهدني على رأس المظاهرة الجماهيرية الغاضبة المتجهة من شارع الهرم نحو مديرية أمن الجيزة مروراً بحي "بين السرايات" فاستمر حتى اليوم ينتفض واقفاً لتأدية التحية العسكرية كلما رآني!!. (13) نظراً لغبائه الشديد وجهله المطبق وغياب ضميره الإنساني فقد تراوحت أفعال "صلاح مخ الكلب" بين الحماقة والتهور مدفوعاً في ذلك بتوافه الرغبات الحسية والمخاوف الذهنية وبهلاوس المخدرات والخمور الرديئة، ولكونه لا يتقن القيام بأية أعمال سواء كانت اعتيادية أو إجرامية ولا يطيق صبراً لتعلم هذه أو تلك فقد دأب على الانتزاع العشوائي لكل ما يريده من أموال أو طعام أو شراب أو ملابس في حوزة المحيطين به الخاضعين لسطوته خوفاً من أسلحته المتنوعة، التي شملت فيما شملته شفرات الحلاقة ورقاب الزجاجات والعصي الخشبية والكرابيج السودانية والسلاسل والجنازير والقضبان والقبضات الحديدية والأنصال البيضاء المعدنية الحادة مع عبوات المسامير والمونة والمولوتوف والأحماض الكيميائية الحارقة والمواد البترولية القابلة للاشتعال، وسرعان ما التقطته الأجهزة السيادية حيث استعادت سيطرتها عليه ثم قامت بتدريبه وتأهيله وتجنيده ضمن صفوف "لجان المواطنين الشرفاء" تمهيداً لاستخدامه في تنفيذ عدة عمليات قذرة تصاعدية وصولاً إلى قتل بعض الأشخاص المستهدفين، ومن بينهم "حسن العطار" الكادر الفدائي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين صاحب فكرة حفر الأنفاق على الحدود المشتركة لقطاع غزة مع شبه جزيرة سيناء، والذي اعتقلته الأجهزة سراً داخل سجن استئناف "باب الخلق" المخصص لتنفيذ أحكام الإعدام حيث التقاني هناك عقب إيداعي منفرداً في السجن ذاته لمعاقبتي من قبل تلك الأجهزة، التي كانت قد أصدرت في سبتمبر عام 1981 قراراً باعتقالي ضمن عشرات السياسيين المصريين المتهمين بمعارضة تطبيع العلاقات مع إسرائيل دون أن تتمكن من تنفيذ قرارها في حينه لتكرار إفلاتي على نحو غير مألوف لديها، ثم رتبت الأجهزة السيادية دخول "صلاح مخ الكلب" إلى زنزانة الفدائي الفلسطيني كسجين لافتعال مشاجرة معه تنتهي بقتله وهي العملية التي كادت أن تتم لولا تدخلي في الوقت المناسب لنقل "العطار" من زنزانته إلى مستشفى السجن، إلا أن الأجهزة قررت مكافأة "صلاح مخ الكلب" على التزامه بتنفيذ كافة تعليماتها الصادرة إليه في إطار العملية الفاشلة لاغتيال الفدائي الفلسطيني فمنحته شهادة ميلاد وبطاقة إثبات هوية شخصية باسم جديد مع محل تجاري مرخص وسلاح ناري خفيف من الأحراز غير المثبتة في السجلات الرسمية، وبعد مرور عقد زمني كامل على تلك الواقعة تم إلحاقه تحت اسم ثالث مغاير بإحدى الوحدات الدبلوماسية التابعة للسفارة المصرية في السودان أثناء عملي كمستشار إعلامي لدى السفارة نفسها، حيث أبلغني أن الأجهزة السيادية قامت بإلحاقه حتى يحصل على جواز السفر الدبلوماسي اللازم لتحصينه في مواجهة إجراءات قضائية جاري تحريكها ضده من قبل ولاة دم بعض المعارضين السياسيين المصريين، الذين كان قد نجح خلال الأعوام العشرة المنصرمة في تنفيذ تعليمات تلك الأجهزة باغتيالهم ليس فقط داخل السجون ولكن أيضاً على امتداد مختلف المواقع السكنية والدراسية والمهنية والتجارية وغيرها، دون أن تتوقف الأجهزة عن استخدامه في تنفيذ العمليات الخارجية القذرة ضد الأشخاص المستهدفين ومن بينهم معارض مصري نوبي بارز كان قد وصل لتوه إلى الخرطوم بهدف المشاركة في أحد الاجتماعات الدورية التي يعقدها النوبيون المصريون المقيمون على الأراضي السودانية، والذي راح ضحية حريق هائل التهم مقر استضافته عقب دقائق من وصوله إليه ليتم نقل "صلاح مخ الكلب" فوراً تحت اسم رابع إلى وحدة دبلوماسية تابعة لسفارة مصرية أخرى في دولة عربية مجاورة تستضيف على أراضيها أيضاً بعض المعارضين المصريين!!. (14) في عام 2007 قام الرئيس "حسني مبارك" بتعديل الدستور المصري على نحو يعرقل أية ترشيحات محتملة لقادة المجلس العسكري ضد نجله "جمال" في الانتخابات الرئاسية التالية التي كان من المقرر إقامتها عام 2011، بعد أن كان "مبارك" نفسه قد تراجع عام 2006 جزئياً عن تنفيذ وعده السابق بمنح جماعة الإخوان المسلمين نسبة ثلث المقاعد البرلمانية المنصوص عليها دستورياً كحد أدنى لتعطيل أي قرار أو إجراء حكومي، رغم التزام الإخوان من جانبهم بتنفيذ وعدهم المقابل له المتمثل في دعمه وتأييده خلال الانتخابات الرئاسية السابقة التي أقيمت عام 2005، فوضعت الأجهزة السيادية الغاضبة خطة محكمة للإطاحة بعائلة "حسني مبارك" وأنصاره عبر استنزافهم التصاعدي على عدة محاور، كان من بينها توسيع نطاق استخدامات عصابات البلطجة المسماة "لجان المواطنين الشرفاء" كأحصنة شطرنج تقفز فوق الحواجز والأسوار لتخترق كافة مؤسسات الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية وتضربها في أعماقها، بمشاركة نشيطة من قبل الميليشيات المدربة والمسلحة للإخوان المسلمين الغاضبين الذين أعماهم النزوع الانتقامي تجاه غدر "مبارك" عن إدراك حقيقة أن تلك العصابات مبرمجة لاستهدافهم هم أيضاً عند حلول دورهم، ليندفع كل أطراف المشهد السياسي المصري الراهن سريعاً نحو المزيد من الألعاب الخطرة والرديئة المتبادلة الضارة بالوطن في إطار الحسابات الثأرية والمنافسات الهامشية لتلك الأطراف حول مصالحها الذاتية الضيقة، ورغم استمرار معارضتي المعلنة لأوضاع الاستبداد والفساد والتبعية الناتجة عن سياسات "حسني مبارك" باعتباره الامتداد الطبيعي المعدل لأنظمة حكم "الضباط الأحرار"، فإن اكتشافي للألعاب الخطرة والرديئة التي بدأ يؤديها سراً قادة الأجهزة السيادية بتوابعهم البلاطجة مع قادة جماعة الإخوان المسلمين بالميليشيات التابعة لهم دفعني إلى كتابة سلسلة أبحاث ومقالات تحذيرية تستشرف الانعكاسات السلبية لتلك الألعاب الخطرة والرديئة على المستقبل المصري القريب، فهاجمني هؤلاء وأولئك رغم مصداقيتي التاريخية مع الجميع حيث منعت الأحزاب السياسية الانتهازية صحفها ومجلاتها ومواقعها الإليكترونية من نشر كتاباتي على غير عادتها مما اضطرني إلى نشرها في وسائل إعلام خارجية على غير عادتي، فقام "فهمي هويدي" المستشار الإعلامي لجماعة "الإخوان المسلمين" بتوبيخي واستنكار تحذيراتي ضمن مقاله الأسبوعي الذي كانت تنشره آنذاك عشرون صحيفة ومجلة ومائة موقع إليكتروني في الوقت ذاته، بينما أحالتني الأجهزة السيادية إلى عدة مجالس تأديبية داخل جهة عملي المهني أسفرت عن معاقبتي بأقصى العقوبات المالية والإدارية والتنظيمية المنصوص عليها في اللوائح الوظيفية، أما التوابع الميدانيين أعضاء العصابات الأمنية والميليشيات الإخوانية فقد ارتكبوا معاً سلسلة هجمات إجرامية احترافية متزامنة ومنسقة ضدي، لإصابتي جسدياً وترويعي معنوياً وتدمير سيارتي وسرقة وإتلاف محتويات شقتي السكنية الأصلية الكائنة بحي "الهرم" في مدينة الجيزة وإحراق شقتي السكنية الأخرى الموروثة عن والدتي الراحلة والكائنة بمدينة "أكتوبر"، وإزاء استغاثاتي المتكررة أصدر "عبدالرحيم قناوي" رئيس مصلحة الأمن العام التابعة لوزارة الداخلية توجيهاته إلى مرؤوسيه في مديريات الأمن وأقسام الشرطة ذات الاختصاص الجغرافي والمسئولية القانونية بالتدخل الحاسم لحماية حياتي وحقوقي وأملاكي، إلا أنه قبل حلول صباح اليوم التالي كانت قد تمت إحالة "قناوي" إلى التقاعد المبكر رغم رئاسته هو شخصياً آنذاك لمجلس الشرطة الأعلى المسئول حصرياً عن إحالة الضباط إلى التقاعد المبكر، ليتراجع مرؤوسوه عن تنفيذ توجيهات قائدهم السابق المحال إلى التقاعد بسببي تاركين البلاطجة أعضاء العصابات الأمنية والميليشيات الإخوانية يكملون مأمورياتهم، دون أن تتوقف معاناتي من عدائيات هؤلاء وأولئك بتوابعهم تجاهي حتى اليوم رغم تطور الأحداث على النحو الذي كشف لهم دقة معلوماتي وسلامة مخاوفي ولكن بعد فوات أوان تصحيح مساراتهم المنحرفة!!.
(15) رغم انتصاف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين فقد استمر التناقض الرئيسي في مصر كما كان منذ أواخر القرن التاسع عشر قائماً بين فريقين، هما الفريق الجماهيري المتطلع نحو تغييرات جذرية تحقق الحرية والتحرر الوطني والتنمية الاقتصادية المستقلة والعدالة الاجتماعية من جهة، والفريق النخبوي الساعي إلى الحفاظ على استقرار الأوضاع بهدف تكريس الاستبداد والفساد والتبعية لمعسكر الرأسمالية العالمية المركزية الاستعمارية من الجهة المقابلة، بما صاحبه على أرض الواقع من استمرار للتفاوت الصارخ القائم بين الأغلبية التي تشكل الفريق الجماهيري والأقلية المكونة للفريق النخبوي في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الأمر الذي كان ينبغي أن يترتب عليه حسب قواعد العلوم السلوكية فرزاً طبيعياً لصراع جذري محدد الملامح بين معسكري التغيير والاستقرار ومحدد المسارات نحو الأمام، إلا أن الحسابات الثأرية الثانوية والمنافسات الهامشية بين أجنحة الفريق النخبوي حول مصالحها المباشرة الضيقة ذات الصلة بتوزيع المراكز النسبية للسلطة والنفوذ والثروة فيما بينها هي التي فرضت نفسها على الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات التجارية الخارجية، لاسيما بعد نجاح الأجنحة النخبوية المختلفة في اختراق صفوف وأعماق الفريق الجماهيري لتستدرج خطواته نحو مسارات منحرفة أو مشوهة تقوده إلى الحلول الفردية أو الإجرامية أو الغيبية أو إلى النزاعات البينية ذات الدوافع الفرعية أو الزائفة، مع ميل الأجنحة النخبوية المختلفة لتصفية حساباتها الثانوية وتسوية منافساتها الهامشية باستخدام أخطر أدوات الصراع الجذري المتمثلة في العنف السياسي، الذي اتسع نطاقه مؤخراً بين الأجهزة السيادية بتوابعها بلاطجة العصابات الإجرامية من ناحية وحليفتها حتى الأمس القريب جماعة الإخوان المسلمين بميليشياتها المدربة والمسلحة من الناحية الأخرى، ليرتفع العنف بينهما سريعاً إلى مستوى الإرهاب الدموي المتبادل ثم لمستوى الإبادة الجماعية المتبادلة على الهوية بين كوادر وأعضاء وتوابع الجناحين، في ظل الإصرار الأعمى لقادة كل من الأجهزة والجماعة على إنهاء المعركة بانتصار حاسم لن يختلف طعم مرارته كثيراً عن مذاق الهزيمة الساحقة، وفي ظل التحريض الفوضوي لبعض الانتهازيين المحليين والإقليميين والعالميين الذين لا تتحقق أطماعهم إلا بانهيار الوطن المصري، وفي ظل الغياب العمدي المتخاذل للقيادات الافتراضية عن الفريق الجماهيري الذي وجد جسده عند اشتداد محنة وطنه بلا رأس تقوده، إلا أن الجسد الجماهيري المصري مقطوع الرأس قد فاجأ الجميع باتخاذه للموقف التاريخي الوحيد الصحيح عندما نأى عن المشاركة فيما تشهده الساحة حالياً من معارك دموية مفتعلة وزائفة، راح ضحيتها خلال أربعة أعوام فقط عشرة آلاف قتيل ومفقود وخمسين ألف معتقل تحت التعذيب البدني والتحطيم المعنوي والانتهاك الجنسي ومائة ألف مصاب بإعاقات جسمانية مستديمة، بالإضافة إلى مئات الألوف من موقوفي الأحوال المضارين في أعمالهم وأرزاقهم ومصالحهم دون أن تكون تلك المعارك معبرة عن تطلعات ضحاياها، لتحذو جماهير المشهد السياسي الحكيمة حذو مشجعي لعبة الشطرنج المخضرمين الذين ينفضون عن المباريات بمجرد أن يبدأ اللاعبون ممارسة الألعاب الخطرة القائمة على التكسير أو الألعاب الرديئة القائمة على الغش حتى تخلو الرقعة إما بسقوط كل أدوات اللعب البيضاء والسوداء معاً وإما بانسحاب اللاعبين الفاشلين، انتظاراً لمستقبل قريب قد يحمل أجيالاً تالية مؤهلة من اللاعبين الذين ربما تساعدهم مهاراتهم الاحترافية المأمولة على إقامة مباريات جديدة يمارسون فيها ألعاب شطرنجية صحيحة، تكفل ليس فقط المجد لأشخاصهم ولكنها أيضاً تجلب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية إلى جماهيرهم وإن غداً لناظره قريب!!. ******* -;- الهجرة الاضطرارية...
(1) قبل عشرات ألوف السنين بدأت الهجرة البشرية الجماعية الاضطرارية الأولى من الغابات الطبيعية المكشوفة إلى الكهوف الحجرية المغطاة هرباً من خطر الانقراض بين أنياب الوحوش المفترسة وكوارث التقلبات المناخية، لاسيما في ظل اكتشاف الجنس البشري لكيفية إشعال النار وإطفائها مما سمح لاحقاً باستخدامها على بعض الأصعدة الحياتية، مع استمرار الهجرات الاضطرارية لسكان الكهوف الجدد الذين لم يتوقفوا عن تحركاتهم المتقاطعة أثناء ترحالهم التبادلي بين كل الكهوف المنتشرة في كافة المناطق الجغرافية سعياً خلف جمع والتقاط واصطياد أرزاقهم وتخزينها بعيداً عن الوحوش المفترسة والمجموعات البشرية الأخرى الطامعة، الأمر الذي أشعل بين أولئك المهاجرين الأوائل عدة منافسات حول الغنائم تطورت إلى صدامات ثأرية كان لا بد أن تترتب عليها صراعات دموية ثم حروب إبادة أسفرت عن منتصرين ومنهزمين، ليقوم المنتصرون أحياناً بقتل المنهزمين وأكل لحومهم ويقومون في أحيان أخرى بتقييد المنهزمين واستعبادهم لتسخيرهم من أجل تأدية الأعمال الجسمانية الصعبة والخطيرة، المتعلقة بإشعال النار وإطفائها وبجلب مياه الشرب وبرعاية النباتات والحيوانات المستأنسة والمدجنة وبحراسة الطعام السابق تخزينه وبنصب كمائن وأفخاخ الصيد وبتحصين الحواجز الدفاعية المخصصة لحماية كهوف المنتصرين وغيرها، إلا أن السلوك الأكثر شيوعاً لدى المنتصرين آنذاك كان لا يخرج عن احتلالهم الاستيطاني لكهوف المنهزمين والأراضي المحيطة بها عقب طردهم خارجها، فيجد أولئك المنهزمين المطرودين أنفسهم مضطرين إلى الهجرة نحو مناطق جغرافية جديدة، مع استمرار الهجرات البشرية الاضطرارية المؤقتة للمنهزمين الآخرين هرباً بجلدهم من احتمالات القتل والاستعباد، دون أن يتوقف المنتصرون ذواتهم عن الهجرة نحو مختلف المناطق الجغرافية الأفضل لهم سواء من حيث وفرة الطعام والماء واعتدال المناخ أو من حيث الابتعاد الآمن عن الوحوش المفترسة والمجموعات البشرية المنافسة أو الطامعة، وقبل حوالي عشرة آلاف سنة شكلت المنطقة الجغرافية الواقعة عند أقصى الشمال الشرقي لقارة أفريقيا تحدياً كبيراً ومكافأة أكبر لجميع المنتصرين والمنهزمين الذين هاجروا إليها في هجرات مؤقتة مدة كل منها ستة شهور فقط سنوياً، يعودون بعدها مجدداً إلى التخوم الأربعة التي كانوا قد وفدوا منها لتلك المنطقة حتى يتحاشوا تقلبات دورة المياه في المنطقة الجغرافية الجديدة، حيث الجفاف الشديد المتواصل لثلاثة شهور تعقبها ثلاثة شهور أخرى من الغرق تحت مياه نهر دافق عفي يحول مجمل الأرض إلى مستنقعات قبل أن يمتص البحر فائض المياه لتبدأ شهور الرخاء الستة الصالحة للإقامة المؤقتة بأمان واستقرار حول ضفاف النهر، الذي يكون قد هدأ لتوه في تدفقه من الجنوب نحو الشمال متخذاً لجريانه وادياً واحداً يتفرع قبل نهايته إلى سبعة مصبات، تجف خمسة منها تباعاً خلال موسم الجفاف التالي ليبقى المصبان الاثنان الأعمق المعروفان حالياً باسم فرعي دمياط ورشيد يكافحان مع مجرى الوادي الأكثر عمقاً المعروف حالياً باسم وادي النيل حتى لا يجف النهر كله في انتظار المدد المائي الوارد مع موسم الفيضان التالي وهكذا دواليك، ولكن سرعان ما واجه المهاجرون المؤقتون إلى تلك المنطقة الجغرافية الواقعة عند أقصى الشمال الشرقي لقارة أفريقيا تحدياً تاريخياً فاصلاً بين الحياة والموت، تمثل في استحالة عودتهم مرة أخرى إلى مناطقهم الأصلية بعد أن تم احتلالها بواسطة مجموعات بشرية مغايرة كانت قد هاجرت واستوطنت تلك التخوم أثناء خلوها من أصحابها الأصليين، لاسيما في ظل حرص المهاجرين الجدد للتخوم على استخدام أقصى درجات العنف مع استغلالهم لاحتلالهم الاستيطاني كأمر واقع ميداني يمنع المهاجرين العائدين من استعادة مواقعهم السابقة في مناطقهم القديمة الأربعة، الموزعة بين منطقة فارس والرافدين والهلال الخصيب إلى جانب منطقة الأناضول والقوقاز والضفاف الشرقية للبحر الأبيض المتوسط بالإضافة إلى منطقة الحبشة والصومال وبونت والشرق الأفريقي وأخيراً منطقة الوسط الأفريقي والضفاف الجنوبية الغربية للبحر الأبيض المتوسط، وهي مناطق كانت وما زالت تشكل الامتداد الطبيعي جغرافياً وبشرياً للمنطقة الواقعة عند أقصى الشمال الشرقي لقارة أفريقيا، والتي أصبح المهاجرون المؤقتون إليها عاجزين عن البقاء فيها خلال موسمي الجفاف والفيضان وعاجزين في الوقت ذاته عن مغادرتها للعودة إلى مناطقهم الأصلية الواقعة تحت الاحتلال الاستيطاني، فلم يجدوا أمامهم للحفاظ على حياتهم سوى العمل معاً بهدف تحويل إقامتهم المستقرة الآمنة في المنطقة الجديدة من طابعها المؤقت نصف السنوي إلى الطابع المستديم، واضطروا رغم مجيئهم من أربعة تخوم جغرافية مختلفة وبالتالي انحدارهم من أربع مجموعات سلالية متباينة إلى التعاون المشترك فيما بينهم لترويض نهر النيل والسيطرة عليه، سواء برفع المياه المنخفضة عبر أدوات الري اليدوية البدائية كالساقية والشادوف في مواسم الجفاف أو بتشييد السدود الحجرية والترابية مع تعليتها وتقويتها وحفر الترع والمصارف الجانبية مع توسيعها وتسليكها حسب ارتفاع مناسيب المياه في مواسم الفيضان، أما أثناء مواسم الرخاء فكانوا يتعاونون لتوزيع المحاصيل الزراعية والبذور مع ادخار وتخزين ما يصلح من فوائضها بهدف استخدامه خلال مواسم الجفاف والفيضان التالية، وإزاء استمرار تعاونهم بمضي الزمن أخذوا يتقاربون فيما بينهم حتى اندمجوا معاً ليشكلوا قبل حوالي سبعة آلاف سنة شعباً أسموه "عبيد الإله رع" وهي الترجمة العربية الحرفية للعبارة الهيروغليفية القديمة "ما- سي – رع" التي كنا وما زلنا حتى اليوم ننطقها "مصر"!!. (2) ظهرت المؤسسة المركزية الدينية الأولى في العالم مع استمرار احتياج قادة المصريين القدماء إلى تعبئة العوام حول هوية روحانية مشتركة توحد مشاعر الانتماء والولاء بينهم رغم اختلاف أصولهم السلالية المنبثقة عن أربعة تخوم متناثرة جغرافياً وبالتالي ذات هويات روحانية متباينة، كما ظهرت المؤسسة المركزية البيروقراطية الأولى في العالم مع استمرار احتياج قادة المصريين القدماء إلى تقسيم العمل اليدوي فيما بين العوام خلال مجهوداتهم الجسمانية الشاقة والمتواصلة، سواء لترويض نهر النيل والسيطرة عليه أثناء موسمي الجفاف والفيضان أو لجني المحصولات النباتية في موسم الرخاء أو لتخزين فوائض تلك المحصولات بعيداً عن التلف والأمطار والطيور والقوارض والحيوانات واللصوص،حتى يتم توزيعها على القادة والعوام عند حلول موسمي الجفاف والفيضان التاليين، بينما ظهرت المؤسسة المركزية العسكرية الأولى في العالم مع استمرار احتياج قادة المصريين القدماء إلى حماية الحدود الطبيعية المتباعدة جغرافياً والمحيطة بأرض "مصر" التي استوطنوها حديثاً في مواجهة أخطار الغزوات الخارجية المحتملة من قبل سكان التخوم الجدد الطامعين، ومع احتياج تلك المؤسسات المركزية الثلاث الوليدة للتنسيق فيما بينها من خلال التوجيه القيادي الأعلى فقد ظهرت مؤسسة "الفرعون" الشمولية السيادية الآمرة الناهية لتكتمل بذلك أركان دولة الاستبداد الفرعوني المستمرة حتى اليوم في "مصر"، رغم أن الاندماج السابق حدوثه بين المجموعات البشرية الأربع المهاجرة ذات الأصول السلالية المختلفة بما أنتجه من تسامح وترحيب واستيعاب متبادل للتعددية ظل هو الطابع المميز لعوام المصريين، الذين لم يتوقفوا أبداً عن حسن استقبال الهجرات الجماعية والفردية المتتالية إلى وطنهم منذ ظهوره المبكر وحتى بداية المرحلة التاريخية المعاصرة مروراً بكل مراحل التاريخ القديم والأوسط والحديث، حيث تزامن الظهور المبكر للوطن المصري مع استمرار تدفق أفواج المهاجرين الوافدين إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط المصرية عبر القوارب هرباً من النزاعات الدموية المتبادلة بين سكان الجنوب الأوروبي آنذاك كالإغريق والبيزنطيين والرومان وغيرهم، ليستوطنوا المناطق الشمالية والغربية في "مصر" قبل اندماجهم التدريجي مع عوام المصريين وصولاً إلى ذوبانهم الكامل داخل المجتمع المصري، وهو نفس ما تكرر في التاريخ القديم مع أفواج المهاجرين الوافدين إلى مختلف الربوع المصرية عبر صحراء سيناء والبحر الأحمر هرباً من نزاعات دموية مماثلة بين سكان فارس والعراق والشام واليمن والجزيرة العربية والذين استوطنوا المناطق الشرقية والوسطى والجنوبية في "مصر" قبل اندماجهم وذوبانهم، وكذلك شهد التاريخ الأوسط عدة هجرات جماعية متتالية لمسلمين ومسيحيين ويهود وغيرهم وفدوا براً وبحراً من التخوم القريبة والبعيدة سواء كانت عربية أو أفريقية أو آسيوية بحثاً عن حياة أفضل في "مصر" التي سرعان ما استوعبهم أبناؤها بالاندماج ثم الذوبان، واختلف الأمر قليلاً بالنسبة لآخر الهجرات الجماعية الوافدة إلى "مصر" خلال التاريخ الحديث وتحديداً في الفترة الممتدة بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين لمجموعات الأرمن والطليان واليونانيين والسلافيين وغيرهم الهاربين من الاضطهاد في بلدانهم الأصلية، والذين اندمجوا مع العوام دون ذوبان داخل المجتمع حيث تمسكوا بخصائصهم الموروثة عن جذورهم الأصلية رافضين تغييرها لتوائم محيطهم الجديد، ورغم ذلك فقد استمر المصريون في احتضان هؤلاء المهاجرين واستيعابهم كما هم والتسامح إزاء أفكارهم وآرائهم وسلوكياتهم المختلفة عما اعتاده المصريون بل والاستفادة أيضاً من هذه الاختلافات، إلا أن أحوال الهجرة الدائمة والمؤقتة في "مصر" انقلبت رأساً على عقب بحلول سنة 1952 عندما تولى الحكم تنظيم "الضباط الأحرار" الذي كان الامتداد المعدل لجمعية "الحرس الحديدي" النازية، حيث وجد المهاجرون إلى "مصر" أحلامهم بالأمان والحرية والرخاء تتحول لكوابيس فتبدلت مسارات الهجرة من استهداف دخول "مصر" إلى السعي الحثيث لمغادرتها، حتى أن السلطة التنفيذية أصبحت تشكو من تراكم طلبات التنازل عن الجنسية المصرية بعد أن كانت تشكو فيما سبق من تراكم طلبات الحصول عليها، بينما أصبحت السلطة القضائية تستخدم عقوبة مشددة هي المنع من مغادرة "مصر" بعد أن كانت العقوبة المشددة فيما سبق هي المنع من دخولها!!. (3) بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1944 لم يتغير التناقض الرئيسي الذي كان قبل بداية الحرب سنة 1939 قائماً على المستوى العالمي بين قطبين اثنين، هما معسكر الرأسماليين الاستعماريين المتمسكين بمصالحهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السابق لهم اكتسابها على حساب فقراء بلدانهم الأصلية وشعوب البلدان الأخرى الأقل نمواً الموصوفة بالمستعمرات، في مواجهة المعسكر الذي يضم هذه الشعوب وهؤلاء الفقراء الساعين معاً للتحرر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وصولاً إلى تحقيق التنمية المستقلة الشاملة التي تلائم كل بلد حسب أوضاعه واحتياجاته، رغم ما شهده النصف الثاني لأربعينيات القرن العشرين من تغييرات هامة على مختلف المستويات العالمية والإقليمية والمحلية، حيث تمثلت أبرز ملامح تلك التغييرات على المستوى العالمي في إعادة ترتيب صفوف المعسكر الرأسمالي الاستعماري باضطرار ألمانيا وإيطاليا واليابان إلى التراجع المؤقت نحو صفوفه الخلفية وتنحي بريطانيا وفرنسا اختيارياً عن الصفوف الأمامية لصالح الولايات المتحدة الأمريكية التي انفردت بالصدارة، مع طرد تركيا وريثة دولة الخلافة الإسلامية العثمانية خارج صفوف المعسكر وظهور الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية كدولتين تديران مصالحهما الرأسمالية الاستعمارية بأسلوب جديد غير نمطي وتحت شعارات براقة مخادعة تعادي ظاهرياً المعسكر الرأسمالي الاستعماري، بينما كانت أبرز ملامح تلك التغييرات على المستوى الإقليمي هي زرع "إسرائيل" كدولة معترف بها عالمياً في قلب الإقليم وعلى حساب سلامته وحقوقه ومصالحه وأحلامه لتصبح منذ سنة 1948 أمراً واقعاً عدائياً لا مفر من مواجهته، بالإضافة إلى إعادة ترتيب مكونات الهوية الرسمية الإقليمية بإنشاء جامعة الدول العربية سنة 1945 لتحل فكرة القومية العربية ذات الطابع المؤسسي الفوقي محل فكرة الخلافة الإسلامية التي كانت مؤسساتها الفوقية العثمانية قد أكملت انسحابها خارج الإقليم، لتتقوقع منذ سنة 1924 داخل حدود تركيا المتاخمة للإقليم والطامعة في العودة إليه أسوة بالمتاخمين الطامعين الآخرين في إيران والحبشة وإسرائيل والذين دفعتهم أطماعهم لتنافس بيني حول النفوذ الإقليمي، أما المتاخمين الأكراد فقد ظلوا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية على نفس تشتيتهم الذى سبق أن عاقبتهم به اتفاقية سايكس- بيكو الرأسمالية الاستعمارية بسبب انحيازهم لألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وعلى المستوى المحلي تمثلت أبرز تلك التغييرات في الخروج الدموي لجماعة الإخوان المسلمين من تحت إبط القصر الملكي المصري الذي استمر يرعاها منذ نشأتها سنة 1928 كامتداد معدل لجمعية "المنار" الدينية، حيث كان الجناح العسكري الإخواني قد شارك سنة 1948 في اغتيال الإمام "يحيى" ملك اليمن مما أثار المخاوف الشخصية للملك المصري "فاروق" فوجه أدواته الأمنية والقضائية نحو تضييق الخناق على ذلك الجناح العسكري وملاحقة قياداته وكوادره النشطة لاعتقالهم، فردت الجماعة بحملة اغتيالات أودت بحياة القيادات والكوادر الأمنية والقضائية الذين كانوا يلاحقونها فقام "محمود فهمي النقراشي" رئيس الوزراء الموالي للملك بحل جماعة الإخوان المسلمين وحظر أنشطتها، فردت الجماعة باغتيال "النقراشي" ذاته فعاقبها "فاروق" بنفس أسلوبها حيث تم اغتيال مؤسس الجماعة ومرشدها العام "حسن البنا" في فبراير سنة 1949، بينما تمكن الشيوعيون المصريون من إعادة تأسيس ثلاثة أحزاب شبه علنية لهم هي "طليعة العمال والفلاحين" و"الراية" و"الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني"، لتشترك هذه الأحزاب الثلاثة معاً في قيادة مختلف الأنشطة المعارضة على الأصعدة العمالية والطلابية بل والفلاحية أيضاً رغم حكم القضاء العسكري السابق صدوره سنة 1924 بحل الحزب الشيوعي وحظر أنشطته، وفي مقابل الاتساع النسبي لنطاق الفكر القومي بين أوساط القيادات الرسمية وكبار رجال الدولة فقد اتسع نطاق الفكر الليبرالي بين أوساط النخب المجتمعية وقادة الرأي العام، سواء كانوا من المحافظين الذين يمثلهم حزب "الوفد" صاحب الأغلبية النيابية وأحزاب الأقليات المنافسة له أو كانوا من الراديكاليين الذين تمثلهم جماعة "الطليعة الوفدية" والجبهة الوطنية للعمال والطلبة، وفي ظل استمرار العزوف التاريخي لعموم المصريين عن الاستدراج نحو الأعماق العقائدية والمشاريع الفكرية القومية أو الإسلامية أو الشيوعية أو الليبرالية، فإن القيادات السياسية لهذه الأضلاع الأربعة عجزت خلال الفترة الزمنية الممتدة بين سنتي 1944 و1952 عن تعبئة وحشد الجماهير الشعبية الواسعة خلفها اللهم إلا على الأرضية الوطنية الخاصة بمكافحة الاستعمار البريطاني فقط دون غيرها!!. (4) تراجعت ألمانيا إلى الصفوف الخلفية للمعسكر الرأسمالي الاستعماري بسبب هزيمتها سنة 1944 في الحرب العالمية الثانية التنافسية على المستعمرات، والتي أسفرت أيضاً عن سقوط الحزب القومي الاشتراكي النازي الألماني بعد إحدى عشرة سنة متواصلة بالحكم، وهو الحزب الذي كان "أدولف هتلر" قد سبق أن أنشأه سنة 1919 ليخوض فترة من العمل السياسي السري الاضطراري تحت ملاحقة السلطات الأمنية والقضائية، والمتمثلة في حل الحزب وحظر أنشطته واعتقال "هتلر" وبعض رفاقه من قيادات الحزب لمدد زمنية تتراوح بين عامين وخمسة أعوام خلال عشرينيات القرن العشرين، وهي نفس الملاحقة التي تكررت مرة أخرى عقب سقوط الحزب المواكب لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية سنة 1944 ولكن مع فوارق هامة من الناحيتين الكمية والكيفية، سواء على صعيد السلطات الأمنية والقضائية التي قررت قتل وإعدام كل قيادات الحزب وكوادره النشطة المستمرين على قيد الحياة بعد انتحار "هتلر" وبعض رفاقه مع اعتقال بقية الكوادر لمدد زمنية تتراوح بين ربع القرن ومدى الحياة، أو على صعيد الحزب النازي ذاته الذي كانت خبراته التنظيمية التراكمية قد استوعبت جيداً دروس الملاحقة الأمنية والقضائية السابقة فأسس عدة جمعيات داخل ألمانيا وخارجها لتبدو ظاهرياً وكأنها منفصلة عن الحزب ولكنها في حقيقتها تابعة له وتعمل بشكل سري من أجل صالحه، وحتى أثناء حكم الحزب النازي لألمانيا وهيمنته على عدة بلدان في أوروبا والعالم بين سنتي 1933 و1944 استمر الطابع السري يميز العمل السياسي لتلك الجمعيات النازية، التي كانت أبرزها جمعية أنشأها "هيربيرت هايم" الضابط الطبيب والكادر النازي النشط ورئيس محطة الخدمة السرية الخارجية الألمانية في "مصر" خلال ثلاثينيات القرن العشرين تحت اسم "الحرس الحديدي"، وهي الجمعية التي نالت إعجاب غريمه التقليدي "مايلز كوبلاند" باعتباره المنافس الاستخباراتي الذي تولى آنذاك رئاسة محطة الخدمة السرية الخارجية الأمريكية بمصر، فوصفها في كتابه الشهير "لعبة الأمم" بأنها "كانت أهم القواعد الثابتة المؤهلة لدعم وتلبية احتياجات أكبر المحطات الخارجية الألمانية وأهم السواتر الصالحة لتغطية مجمل أنشطة تلك المحطة"، ورغم حرص "هيربيرت هايم" على استمرار رئاسته الفعلية بنفسه لجمعية "الحرس الحديدي" السرية إلا أن وجود مركزها التنظيمي في "القاهرة" دفعه لتنصيب بعض الواجهات الشرفية المكشوفة على رأسها الظاهر من المصريين الموالين للنازية، مثل الفريق "عزيز المصري" رئيس أركان الجيش والمعلم الخاص للملك "فاروق" واللواء "يوسف رشاد" عضو الديوان الملكي والطبيب الخاص للملك "فاروق"، والعقيد "مصطفى كمال صدقي" قائد الأنشطة الميدانية للجمعية مع مجلس عسكري قيادي يضم عشرة ضباط جيش مصريين متوسطي الرتب، وامرأتين هما "ناهد رشاد" زوجة اللواء طبيب "يوسف رشاد" التي كانت آنذاك كبيرة ممرضات الجيش المصري وكبيرة وصيفات القصر الملكي، و"حكمت فهمي" سيدة الترفيه التي كانت آنذاك تدير أكبر شبكة استدراج وسيطرة جنسية لصالح ألمانيا النازية في مصر بواسطة فتيات أصبحن لاحقاً "نجمات" الدولة والمجتمع والسوق، وهؤلاء هم الذين اضطر "هايم" لأن يترك لهم الجمعية بكوادرها وأعضائها ومندوبيها وأذرعها وأصدقائها وتوابعها وأدواتها وأملاكها العينية المسجلة بأسماء الواجهات المصرية مع بعض أموالها المودعة في حساباتهم البنكية بمجرد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية سنة 1944، حيث هاجر للاختفاء المؤقت داخل أحراش "الأمازون" في أمريكا اللاتينية هرباً بجلده من الملاحقة الأمنية والقضائية ضده باعتباره أحد أهم الكوادر النازية النشطة، تاركاً في حساباته الشخصية بالبنوك السويسرية ملايين الدولارات المتبقية من الميزانية الضخمة التي كان الحزب النازي قد خصصها سراً للإنفاق على أنشطة الجمعية، ليتنازع ورثته على تركته المالية بعد وفاته كاشفين في نزاعهم الكثير من مستور "هايم" وجمعيته السرية، وهكذا وجد المصريون القائمون على رأس جمعية "الحرس الحديدي" أنفسهم خلال النصف الثاني لأربعينيات القرن العشرين بين اختيارين أحلاهما مر فإما استمرار الجمعية تحت خطر الملاحقة الأمنية والقضائية أو حلها بما يعنيه من فقدان أدوارهم السياسية وضياع طموحاتهم الشخصية، فاختاروا الجمع الانتقائي الماكر بين مكاسب الاستمرار والحل معاً حيث تمسكوا بالفكر العقائدي النازي القائم على الشعور بالتميز والتعالي وإقصاء الأنداد واعتلاء العوام للاستئثار بالسلطة، مع كل امتداداته السياسية والتنظيمية والجماهيرية والدعائية كأساس مشترك يجمعهم ويوحد بينهم وأجروا في الوقت ذاته التعديلات الشكلية الكفيلة بمواكبة المستجدات العالمية والإقليمية والمحلية المحيطة بهم، وعليه فقد تم تغيير الاسم من جمعية "الحرس الحديدي" إلى تنظيم "الضباط الأحرار" مع تنحية الواجهات الشرفية المكشوفة عن الرئاسة لصالح عضو غير معروف بالمجلس العسكري القيادي هو المقدم "جمال عبدالناصر" الذي استفاد من غياب "هيربيرت هايم" ليصبح هو رئيس التنظيم الجديد شرفياً وفعلياً رغم تنازله المؤقت عن الرئاسة الشرفية فيما بعد إلى اللواء "محمَّد نجيب"، ولنقل تبعيتهم من كفالة ألمانيا المنهزمة في الحرب العالمية الثانية إلى كفالة الولايات المتحدة الأمريكية المنتصرة على كفيلهم الألماني السابق، فقد استعان الضباط الأحرار بجمعية "الفلاح" التي كانت إحدى سواتر محطة الخدمة السرية الخارجية الأمريكية في "مصر" برئاسة "مايلز كوبلاند" الذي طالما سعى من جانبه لاجتذابهم نحو شخصه ومحطته ودولته منذ نشأتهم الأصلية تحت اسم جمعية "الحرس الحديدي"، وفور حصولها على ضالتها النموذجية المتمثلة في التنظيم العسكري السري الجديد سارعت الإدارة الأمريكية باتخاذ كل الخطوات والتحركات المحسوبة والمبرمجة بدقة ومهارة فائقة على كافة الجبهات، وصولاً إلى توجيه ضربة سياسية واحدة خاطفة تكفل تحقيق هدفين اثنين مزدوجين في ذات التوقيت ألا وهما إخراج قوات الاحتلال البريطاني من "مصر" وإسقاط نظام حكم الملك "فاروق"، مع تحاشي أن يصب خروج بريطانيا لصالح الاتحاد السوفيتي الذي كانت شعبيته تتسع آنذاك نظراً لنجاحه في رفع الشعارات التحررية الاستقلالية المعادية للمعسكر الرأسمالي الاستعماري، وتحاشي أن يصب سقوط "فاروق" لصالح الشيوعيين المصريين الذين كانت شعبيتهم تتسع آنذاك نظراً لنجاحهم في خوض حرب تحرير شعبية ضد قوات الاحتلال البريطاني لمصر، ولتوجيه الضربة الأمريكية الخاطفة ذات الأهداف المتعددة المتزامنة فقد تمت تهيئة المشهد المحلي من أجل اعتلاء "الضباط الأحرار" حكم "مصر" عبر انقلابهم العسكري الذي نفذوه بنجاح يوم 23 يوليو سنة 1952، عقب التمهيد الأمريكي لاعتلائهم الحكم بعدة عمليات عكسرية واستخباراتية وأمنية قذرة شنتها المكونات السياسية المحلية التابعة للإدارة الأمريكية، مثل العملية التي نفذتها الأيدي المشتركة لتوابع جمعية "الفلاح" وجماعة "الإخوان المسلمين" وتنظيم "الضباط الأحرار" تحت الإشراف المباشر لمحطة الخدمة السرية الخارجية الأمريكية يوم 26 يناير سنة 1952 والمعروفة في التاريخ المعاصر باسم حريق القاهرة!!. (5) بوجود شعب وأرض ودولة معاً يتكون الوطن، فإذا كان المقصود بالشعب هو مجموعة البشر الذين تجمعهم خصائص وسمات سلالية وعرقية وثقافية ومزاجية مشتركة فيما بينهم تميزهم عن المجموعات البشرية الأخرى، وتؤهلهم لأن يقيموا فيما بينهم نظاماً اقتصادياً واجتماعياً قابلاً للاستمرار والتطور بمعزل عن غيرهم من المجموعات البشرية، وإذا كان المقصود بالأرض هو الموقع الجغرافي الذي تقطنه تلك المجموعة البشرية بصفة دائمة مع كل ملامحه ومحتوياته، من مناخ وتضاريس وسواحل وحدود طبيعية ومصادر مياه ونباتات برية وحيوانات وحشية وثروات معدنية سطحية وجوفية ومعالم أثرية، فإن الدولة هي منظومة المؤسسات السيادية والعسكرية والبيروقراطية والدينية المسيطرة على تلك المجموعة البشرية تعبيراً عن موازين القوة الاقتصادية والاجتماعية بين مكوناتها المختلفة، وترتبط هذه المؤسسات المسيطرة فيما بينها بموجب عقيدة قتالية ثابتة ومستديمة يرى قادة المجموعة البشرية أنها الأنسب لتحقيق مصالحهم ومصالح المكونات الأقوى داخل مجموعتهم وحمايتها من المخاطر المؤكدة والمؤقتة والمحتملة، وهذه العقيدة القتالية التي يسميها القادة "ثوابت الأمن القومي" هي عبارة عن حزمة مترابطة من الأفكار السياسية الرئيسية الموزعة على مؤسسات الدولة لتقوم كل واحدة منها بترجمة ما يخصها إلى خطط طويلة ومتوسطة الآجال، بشرط أن تكون تلك الخطط قابلة لإفراز مواقف قصيرة المدى وخطوات ميدانية محددة يجري تنفيذها عملياً على أرض الواقع اليومي فيما يسميه القادة "قواعد الاشتباك"، ولما كانت الدولة المصرية قد أصبحت مستقلة رسمياً سنة 1956 بعد خضوع لبريطانيا دام أكثر من سبعين عاماً سبقه خضوع لدولة الخلافة الإسلامية العثمانية دام أكثر من ثلاثمائة وسبعين عاماً، فقد كان لابد من إعادة النظر في العقيدة القتالية الموروثة بما أفرزته من ثوابت أمن قومي وقواعد اشتباك قديمة وصولاً إلى صياغة عقيدة قتالية جديدة تلائم ولاءات ورؤى وأفكار الدولة المصرية الجديدة التي أصبح يحكمها تنظيم "الضباط الأحرار"، وبينما نجح القادة العسكريون الجدد بسهولة استناداً إلى حقائق التاريخ والجغرافيا في صياغة دوائر المصالح على نحو تراتبي محدد تأتي في مقدمته الدائرة العربية تليها الأفريقية ثم الإسلامية وأخيراً البحر أوسطية، إلا أن تعدد المخاطر وتقاطعها على المستويات العالمية والإقليمية والمحلية دفعهم للاستعانة بالقواسم المشتركة بين ما ورثوه من عقائد قتالية عثمانية وبريطانية وما اعتنقوه من عقائد قتالية نازية وأمريكية حيث اتفقت كلها على ضرورة مكافحة الشيوعية باعتبارها دائرة الخطر المؤكد الأولى، فالدولتين العثمانية والبريطانية تعاديان الشيوعية منذ ظهورها كأفكار سياسية عند منتصف القرن التاسع عشر، فيما يتطابق مع العداء النازي للشيوعية والذي أعلنه "أدولف هتلر" وظل متمسكاً به منذ عشرينيات القرن العشرين حتى انتحاره عقب هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية سنة 1944، بعد أن كان تابعه الكادر النازي النشط "هيربيرت هايم" قد ضخ ذلك العداء داخل عروق أتباعه المصريين في جمعية "الحرس الحديدي" ليظلوا بدورهم متمسكين به حتى عندما أصبحوا لاحقاً حكام مصر الجدد، لاسيما وأنهم سرعان ما أعادوا "هايم" من أحراش أمريكا اللاتينية ليعمل كمستشار أمني لهم تحت اسم مستعار هو الدكتور "طارق فريد حسين"، حيث أقام في "القاهرة" منذ سنة 1956 حتى وفاته سنة 1992 بشكل سري هرباً من تنفيذ أحكام إعدامه العديدة التي كانت قد أصدرتها ضده عدة محاكم على مستوى العالم، وامتد العداء للشيوعية إلى داخل الولايات المتحدة الأمريكية متمثلاً في الحملة الموسعة التي تبناها الكونجرس سنة 1950 ليجري تنفيذها على أرض الواقع الميداني اليومي بمعرفة كافة الأجهزة السيادية والعسكرية والبيروقراطية والدينية تحت إشراف عضو الكونجرس "جوزيف مكارثي"، وهي الحملة التي قام الرئيس الأمريكي "دوايت إيزنهاور" بتطويرها وتصديرها إلى "مصر" عندما أعلن سنة 1956 مشروعه الشهير لمكافحة الشيوعية في الشرق الأوسط، وهكذا وضع الضباط الأحرار الشيوعية على رأس دوائر المخاطر الداخلية كما وضعوا الشيوعيين المصريين على رأس قوائم أعداء الداخل المؤكدين، مع إدراج دول العالم المختلفة ضمن دوائر المخاطر وقوائم الأعداء في الخارج عند تأييدها للشيوعيين المصريين وتبعاً لمدى ونوعية هذا التأييد!!. (6) يستوعب الشيوعيون جيداً حقائق التاريخ المعاصر على الأصعدة العالمية والإقليمية والمحلية بهدف تحليل طبيعة المرحلة الراهنة، لمعرفة ماهية التناقض الرئيسي والتباينات الفرعية المنبثقة عنه أو المحيطة به والاختلافات الهامشية الأخرى داخل مؤسسات الدولة وأروقة المجتمع، وصولاً إلى تحديد موضوع الصراع الرئيسي المؤكد وقطبيه المتصارعين فيما بينهما حوله وأنصار كل قطب منهما، مع تحديد موضوعات المنازعات الفرعية المؤقتة والمنافسات الهامشية المحتملة وهوية الأطراف المرشحة للانخراط في هذه المنازعات وتلك المنافسات، ليستند الشيوعيون على معرفتهم في اختيار المواقع الأنسب لهم داخل منظومة خرائط التحالفات والمخاصمات، بما يفرزه ذلك الاختيار من مواقف سياسية مبرمجة يكون عليهم اتخاذها في الآجال الطويلة والمتوسطة والقصيرة لمواجهة الموضوعات الأكثر أهمية، المتعلقة بالحريات العامة والخاصة والتحرر الوطني والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والابتكارات الفكرية والعلمية بتطبيقاتها العملية والإبداعات الأدبية والفنية بانعكاساتها الجماهيرية، وما يفرزه اختيارهم أيضاً من خطوات ميدانية مباشرة يكون عليهم اتخاذها للتفاعل مع الأحداث اللحظية المتعلقة بالموضوعات الأقل أهمية مثل ترتيب بعض مراكز السلطة والنفوذ واقتسام بعض المكاسب المالية والإدارية وتوزيع بعض الأنشطة الثقافية والأدوار الإعلامية، وقد أدرك الشيوعيون المصريون منذ أول ظهور لهم في نهايات القرن التاسع عشر أن موضوع التناقض الرئيسي المؤكد قائم في "مصر" بين قطبين متصارعين هما فريق الحرية والتحرر الوطني والتنمية الاقتصادية المستقلة والعدالة الاجتماعية ضد فريق الفاشية والفساد والتبعية لمعسكر الرأسمالية العالمية الاستعمارية، مما جعلهم يعلنون اختيارهم المبكر للانخراط الواضح ضمن صفوف الفريق الأول في مواجهة صريحة ومكشوفة ضد الفريق الآخر، إلا أن المواقف السياسية والخطوات الميدانية لكثيرين من الشيوعيين المصريين المعاصرين قد أصابها الارتباك الشديد إزاء حالات مخادعة وغير نمطية من المنازعات والمنافسات بين بعض أطراف التباينات الفرعية والاختلافات الهامشية، لاسيما مع اتخاذ تلك الحالات لأشكال تفوق في حدتها الظاهرية والصوتية حدة الشكل النمطي للصراع المؤكد بين قطبي التناقض الرئيسي ومع استخدام بعض أدوات الحسم الجذري للصراعات المؤكدة في تلك المنازعات والمنافسات المخادعة، وكان تنظيم "الضباط الأحرار" الذي شكل الامتداد المعدل لجمعية "الحرس الحديدي" النازية هو أبرز المخادعين في هذا الصدد بمجرد توليه حكم "مصر" يوم 23 يوليو سنة 1952، سواء بما أعلنه من شعارات براقة تنطوي على ادعاءات كاذبة بمكافحته للفساد والفاشية المحلية والإقليمية ومعاداته لمعسكر الرأسمالية العالمية الاستعمارية ولتوابعه المحليين والإقليميين، أو بما نجح في الحصول عليه من دعم حكومات دول المعسكر الشيوعي العالمي ضمن مصالحها المباشرة الضيقة التي كانت قد انحرفت بها بعيداً جداً عما تقتضيه المبادئ الشيوعية السليمة من قواعد للتحالفات والمخاصمات الدولية، وهكذا تحالف بعض الشيوعيين المصريين المرتبكين مع حكم "الضباط الأحرار" بأدواته السيادية والعسكرية والبيروقراطية رغم أنه لم يتوقف يوماً عن سعيه لتصفيتهم باعتبارهم عدو مؤكد له، وحتى يثبت هؤلاء الشيوعيون المرتبكون حسن نواياهم تجاه الحكم العسكري الجديد فقد هاجموا خصومه الذين كان من بينهم شيوعيون آخرون وبعض القوى الليبرالية الراديكالية الوطنية المدرجة ضمن خرائط تحالفات الشيوعيين متوسطة الآجال، ليشهد التاريخ المعاصر بأن الشيوعيين المصريين المرتبكين قد خرجوا عملياً عن صفوف الفريق الذي كانوا قد أعلنوا انحيازهم له كي ينضموا عملياً إلى صفوف الفريق المعادي وهو ارتباك لم يستطيعوا التخلص منه نهائياً حتى اليوم، أما بقية الشيوعيين الذين استعانوا بالوعي والضمير والمرونة معاً لاستيعاب متغيرات التاريخ المعاصر فأصبحوا قادرين على القراءة الصحيحة لطبيعة المرحلة الراهنة دون انحراف عن الثوابت المبدأية السليمة، فقد وضعوا أنفسهم بتلك القراءة الصحيحة في مرمى الكثير من النيران المعادية والصديقة على كافة المستويات العالمية والإقليمية والمحلية!!. (7) كشف "الضباط الأحرار" عن موقفهم الحقيقي المعادي للشيوعية والشيوعيين مبكراً جداً وبمجرد توليهم حكم "مصر" عقب نجاح انقلابهم العسكري يوم 23/7/1952، حيث أعلنوا ضمن شعاراتهم المخادعة ستة تعهدات كان التعهدان الثالث والرابع منها بالقضاء على رأس المال الاحتكاري المستغل وإقامة عدالة اجتماعية، فصدقهم الشيوعيون المخدوعون فيما أعلنوه وسارعوا يوم 5/8/1952 أي بعد عشرة أيام من نجاح الانقلاب وإعلانه لتعهداته الستة بتنظيم وقيادة عمال شركات الغزل والنسيج الثلاث القائمة آنذاك في مدينة "كفر الدوار" بمحافظة البحيرة، في مظاهرة احتجاجية كبرى تطورت إلى اعتصام سلمي للعمال داخل مقرات شركاتهم الثلاث وهى "الغزل الرفيع" و"الحرير الصناعي" و"صباغي البيضا"، حيث حاول العمال الضغط على رأس المال الاحتكاري المستغل من أجل تحسين أحوالهم المالية والمهنية والإدارية وصولاً إلى العدالة الاجتماعية المستهدفة وفقاً للتعهدات الواردة ضمن شعارات "الضباط الأحرار"، الذين سارعوا هم أيضاً من جانبهم برد فوري على المطالب العمالية تمثل في إرسال المدرعات والدبابات والطائرات الحربية التي دكت مواقع الاعتصام السلمي لفضه بالحديد والنار، مع إرسال أفراد القوات المسلحة والشرطة من راكبي الجمال والخيول المكلفين بالضرب "في المليان" كقواعد للاشتباك العنيف مع المعتصمين بهدف تفريقهم ثم مطاردتهم حتى قتلهم، لتشهد مدينة "كفر الدوار" يومي 13و14/8/1952 أي بعد عشرين يوماً من نجاح الانقلاب وإعلانه لتعهداته الستة مذبحة بشرية مروعة راح ضحيتها مئات الشيوعيين والنقابيين والعمال والأهالي، مع اعتقال آلاف المعتصمين والمتظاهرين لإحالتهم إلى محاكمات ميدان عسكرية صورية عاقبت ثلاثين منهم بأحكام فورية قاسية كان على رأسها إعدام العاملين الشابين "مصطفى خميس" و"محمَّد البقري"، وهو الإعدام الذي سرعان ما تم تنفيذه فيهما باستاد المدينة الرياضي أمام الأهالي لترويعهم يوم وقفة عيد الأضحى الموافق 7/9/1952 أي بعد شهر ونصف من نجاح الانقلاب وإعلانه لتعهداته الستة المخادعة، ورغم أن مذبحة "كفر الدوار" التي كشفت معاداة "الضباط الأحرار" جذرياً للشيوعيين قد منحت المخدوعين منهم فرصة مبكرة لمراجعة بوصلتهم المنحرفة والتراجع عن مواقفهم الخاطئة فإن الكثيرين منهم عجزوا عن استيعاب الدرس واكتفوا بتحميل مسئولية ما حدث للإدارة الأمريكية والإخوان المسلمين، دوناً عن "الضباط الأحرار" الذين كانوا قد حصلوا بالفعل فيما ارتكبوه على الموافقة المسبقة للسفير الأمريكي بالقاهرة آنذاك "جيفرسون كافري" كما حصلوا على الدعم المطلق لجماعة "الإخوان المسلمين"، لاسيما وأن رئيس محاكمات الميدان العسكرية كان هو الضابط "عبدالمنعم أمين" عضو مجلس قيادة تنظيم "الضباط الأحرار" والمعروف بانتمائه أيضاً إلى جماعة "الإخوان المسلمين"، ولما كان من الطبيعي أن يسفر انحراف الشيوعيين المصريين سياسياً عن تراخيهم تنظيمياً وغفلتهم أمنياً فقد منحوا للضباط الأحرار بذلك الوقت الكافي والأجواء المناسبة للانقضاض عليهم جميعاً، حيث شهد يوم 1/1/1959 حملة موسعة لاعتقال كل الشيوعيين وزوجاتهم وأطفالهم لإيداعهم بدون أية أوراق ثبوتية داخل السجون الحربية التي شرعت فوراً في تنفيذ ما صدر إليها من تكليفات بقواعد اشتباك نصت على تصفية هؤلاء السجناء العزل وإبادتهم مع زوجاتهم وأطفالهم، الذين كان من بينهم كاتب هذه السطور محمولاً داخل أحشاء أمه في البداية ثم معلقاً بعد ذلك على صدرها، الأمر الذي اضطر معه "نيكيتا خروتشوف" رئيس الاتحاد السوفيتي للتدخل غير المألوف في ظل تعدد المصالح المباشرة الضيقة المتبادلة بين الحكومتين آنذاك، باستنكاره في كلمته أمام المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي السوفيتي المنعقد بالعاصمة "موسكو" خلال شهر يناير 1959 لما يتعرض له الشيوعيون المصريون على أيدي "الضباط الأحرار"، قائلاً: "إن سياسة مكافحة الشيوعية والشيوعيين في مصر هي سياسة مرفوضة من جانبنا لأنها تفرق القوى الوطنية المصرية لصالح الإمبريالية والاستعمار والصهيونية والرجعية"، وبمجرد حصوله على موافقة المؤتمر الحزبي وجه "خروتشوف" رسالة استنكار خطية إلى الرئيس المصري "جمال عبدالناصر" الذي تسلمها من السفير السوفيتي بالقاهرة في فبراير 1959، وجاء فيها: "أن شعب الاتحاد السوفيتي ينظر إلى سياسة الحكومة المصرية الخاصة بمكافحة الشيوعية والشيوعيين باعتبارها خطأ تاريخي يضر كل الأطراف الوطنية والتحررية والتقدمية دون أن يفيد أحداً، وبالتالي فإن شعب الاتحاد السوفيتي يرفض هذه السياسة رغم استمرار حرص حكومتنا على عدم التدخل في الشئون الداخلية المصرية"، ليرد "عبدالناصر" خلال الشهر ذاته عبر نفس السفير السوفيتي في "القاهرة" برسالة خطية مخادعة إلى "خروتشوف"، حاول فيها تبرير موقفه قائلاً: "إننا وجدنا أنفسنا مرغمين على الدفاع عن بلادنا ضد النشاط المعادي الذي يمارسه الشيوعيون المصريون في الداخل وبالتالي ضد كل ما يحصلون عليه من مساندة محلية أو إقليمية أو عالمية بما فيها مساندتكم أنتم شخصياً لهم"، إلا أن محاولته لتقديم أية أدلة على ماهية النشاط المعادي الذي ادعى أن الشيوعيين المصريين يمارسونه في الداخل باءت بالفشل الذريع، إذ لم يجد سوى دليل واحد يصلح لتبرئتهم وليس لإدانتهم وهو حسب نص رسالته: "إن الأحزاب الشيوعية الثلاثة الموجودة بمصر قد اتحدت فيما بينها يوم 8 يناير 1958"، ورغم استمرار اعتقال الشيوعيين حتى سنة 1964 إلا أن "عبدالناصر" تراجع عن تصفيتهم وإبادتهم إلا قليلاً بعد تدخل "خروتشوف" وذلك حرصاً من "عبدالناصر" على مصالح حكومته مع الحكومة السوفيتية!!. (8) أدرك "الضباط الأحرار" مبكراً أن العقيدتين القتاليتين العثمانية والنازية تتفقان على معاداة الليبرالية والليبراليين بشكل كلي مطلق، وأن العقيدتين القتاليتين البريطانية والأمريكية اللتان تشجعان الليبرالية والليبراليين داخل مجتمعيهما وفي بعض أنحاء العالم تعاديان بشكل كلي مطلق الليبرالية المصرية والليبراليين المصريين، الحريصين من جانبهم على مكافحة الوجود الاستعماري القديم والجديد بدوافع مشتركة ومختلطة من مشاعرهم الوطنية ومصالحهم الاقتصادية والضغوط الاجتماعية لجماهيرهم عليهم، حتى أنهم لم يتوانوا عن الانضمام للشيوعيين المصريين في حرب التحرير الشعبية التي مارسوها بشكل نموذجي ضد قوات الاحتلال البريطاني لمصر خلال الفترة الزمنية بين سنتي 1946 و1952 والتي أوقعت عشرات القتلى ومئات الجرحى من البريطانيين، كما أدرك "الضباط الأحرار" مبكراً أيضاً وبشكل براجماتي نفعي أن نجاح انقلابهم في إسقاط الملك "فاروق" سنة 1952 لا يكفي وحده لإحكام قبضتهم الحديدية على الدولة المصرية، حيث اشترط ذلك إزاحة الليبراليين عن المقاعد والصفوف الأمامية للدولة والتي استمروا يشغلونها منذ سنة 1919 ليحل "الضباط الأحرار" محلهم في قيادة الدولة الجديدة، دون إغفال الدوافع الانتقامية الذاتية تجاه قادة الليبراليين بسبب مواقفهم الرافضة للممارسات الإرهابية التي سبق أن ارتكبها قادة وكوادر تنظيم "الضباط الأحرار" ضد المصريين خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين عندما كان تنظيمهم يحمل اسم جمعية "الحرس الحديدي"، لذلك فإن الليبراليين المصريين سواء كانوا من المحافظين الذين يمثلهم حزب "الوفد" صاحب الأغلبية النيابية وأحزاب الأقليات النخبوية الأخرى المنافسة له أو كانوا من الراديكاليين الذين تمثلهم جماعة "الطليعة الوفدية" والجبهة الوطنية للعمال والطلبة، قد وجدوا أنفسهم ضمن قوائم أعداء الداخل منذ تولى "الضباط الأحرار" حكم "مصر" سنة 1952 بانقلاب عسكري ناجح، الأمر الذي ترتب عليه اعتقالهم وتحديد إقاماتهم ومصادرة أموالهم وأملاكهم والتحفظ على استثماراتهم ومشاريعهم الاقتصادية وعزلهم من وظائفهم المهنية والإدارية وحرمانهم من حقوقهم السياسية والمدنية إلى جانب حل أحزابهم وحظر أنشطتها، أما المكونات المجتمعية المصرية المختلفة سواء كانت تعبر عن الأقليات كأبناء الجاليات ذات الأصول الأجنبية والأقباط واليهود والشيعة والنوبيين والبدو أو كانت تعبر عن الفئات الأضعف كالنساء والأطفال والشيوخ والمعاقين، فقد تفاوتت درجات استعلاء "الضباط الأحرار" عليها ومعاداتهم لها وفقاً لاختلاف المواقف تجاهها بين الكفلاء القدامى والجدد (العثماني والبريطاني والنازي والأمريكي)، وحسب رؤية "الضباط الأحرار" البراجماتية لاتجاهات المكاسب والخسائر الناجمة عن المستجدات العالمية والإقليمية والمحلية أولاً بأول، وهي نفس البراجماتية التي دفعتهم إلى استثناء الاتجاه القومي داخل الحركة السياسية المصرية بهدف اتخاذه كساتر لهم أسوة بما سبق أن فعله الحزب النازي في ألمانيا، وإلى استثناء المكونات المجتمعية للعرب المسلمين السنة الممتنعة عمداً عن ممارسة العمل السياسي كالجمعيات السلفية نظراً لكون أتباعها يشكلون الأغلبية المطلقة المطيعة في "مصر" والبلدان المحيطة بها والمجاورة لها، أما جماعة "الإخوان المسلمين" المعبرة عن الإسلام السياسي السني منذ نشأتها سنة 1928 كامتداد معدل لجمعية "المنار" الدينية، والتي كانت قد سبق أن نجحت بمناوراتها وألاعيبها في تحاشي استثارة العدائيات العثمانية والبريطانية والنازية تباعاً، ثم عادت مرة أخرى لتنجح في اكتساب رضا الإدارة الأمريكية عبر مشاركتها الفعالة يوم 26 يناير 1952 في تدبير وتنفيذ مؤامرة حريق القاهرة، الذي التهم أول ما التهم متاجر الخمور والأدخنة ودور السينما والمسرح ومقرات الأندية والمنتديات وغيرها من أماكن التجمعات الثقافية والفنية والترفيهية الموصوفة في القاموس الإخواني بأنها بؤر وأوكار ومواخير الكفر والفسق والفجور والمجون والخلاعة والرذيلة، ورغم أن مؤامرة حريق القاهرة قد أسهمت بالنصيب الأوفر في تهيئة المشهد المحلي لنجاح انقلاب "الضباط الأحرار" يوم 23 يوليو سنة 1952، إلا أن علاقات الحكم العسكري مع "الإخوان المسلمين" كانت هي الأكثر غموضاً وتعقيداً والتباساً ليس فقط في التاريخ المصري المعاصر ولكنها مازالت كذلك حتى المرحلة الراهنة وربما القادمة أيضاً!!. (9) كما سبق أن اصطدمت جماعة "الإخوان المسلمين" سنة 1948 بعنف شديد مع الحكم الملكي في إطار نزاعات السلطة والنفوذ فقد عادت سنة 1954 مرة أخرى لتصطدم بعنف أشد مع الحكم العسكري في إطار نفس نزاعات السلطة والنفوذ، وبينما أطاح صدام سنة 1948 برقبة مرشدها العام آنذاك "حسن البنا" وحده، فقد أطاح صدام سنة 1954 بخمسين رقبة من قادتها وكوادرها على رأسهم "عبدالقادر عودة" النائب الأول للمرشد العام والرجل الأقوى في الجماعة بعد تخفيف حكم المحكمة العسكرية الصادر بحق مرشدها العام آنذاك "حسن الهضيبي" من الإعدام إلى السجن المؤبد، ولكن إزاء الطابع الفرعي والهامشي للمنازعات والمنافسات المستمرة بين المجلس القيادي العسكري وجماعة الإخوان المسلمين بالمقارنة مع ما يخوضه كل فريق منهما على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية من صراعات رئيسية، لاسيما في ظل استمرار مشاركة الفريقين في المعاداة الجذرية للشيوعية وبدرجة أقل الليبرالية وفي الاستعلاء الفوقي على الأقليات والفئات المجتمعية الأضعف، وإزاء حرص كل فريق منهما على امتطاء الجسد الضخم للفريق الآخر بهدف استخدامه في حسم صراعاته الرئيسية بما يعنيه ذلك الحرص من استمرار احتياج كل فريق منهما لشراكة الآخر في موقع المطية وليس الندية، لاسيما مع إمكانية التوفيق بين الادعاءات الكاذبة للفريقين حيث لا يوجد تعارض بين ما يدعيه المجلس العسكري من احتكار الولاء الوطني وما تدعيه جماعة الإخوان من احتكار الإيمان الديني بل يكمل هذان الإدعاءان الكاذبان بعضهما في إحكام الحصار الوجداني حول المصريين، لذلك تكررت دورة الصدام ثم الوئام بين الفريقين عدة مرات حتى دفعهما الإنهاك المتبادل إلى الاعتراف المتبادل بضرورة الحفاظ على حالة الوحدة والصراع بينهما، فاضطر المجلس العسكري إلى التعامل الانتهازي مع جماعة الإخوان باعتبارها أداة مثالية للاختراق والتغلغل والسيطرة المجتمعية بينما اضطرت جماعة الإخوان إلى التعامل الانتهازي مع المجلس العسكري باعتباره أمير متغلب يجب طاعته شرعاً طالما التزم بشعائر الإسلام السني، وفي إطار تلك الانتهازية المتبادلة أبرم قادة الفريقين بمعزل عن الجسد الرئيسي لكليهما تسوية سرية ضمنية تم بموجبها توزيع السلطة والنفوذ والأدوار والمهام حصرياً فيما بينهما، على أساس منح قادة المجلس العسكري من العرب المسلمين السنة حق احتكار مقاعد الدولة الأمامية ومفاصلها المؤثرة بشرط ألا يكون لهم أي تماس حقيقي مع الشيوعية أو الليبرالية، مقابل احتكار قادة الإخوان المسلمين كأفراد وليسوا كجماعة لمقاعد المجتمع الأمامية ومفاصله المؤثرة بشرط ألا تكون لهم أية مطامع في الدولة، ويتقاسم الفريقان فيما بينهما سوق المال والأعمال ويلتزمان معاً باستمرار العمليات القذرة المشتركة أو المنفردة لمطاردة الشيوعيين والليبراليين وملاحقتهم، ليس فقط بهدف إقصائهم خارج مؤسسات الدولة وأروقة المجتمع وأنشطة السوق ولكن أيضاً بهدف إهدار دمائهم وأرواحهم ونهب حقوقهم ومصالحهم واستحلال أموالهم وأملاكهم دون أدنى محاسبة رسمية أو نخبوية أو شعبية، وبتحالف قيادات المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين تم إحكام السيطرة على الدولة والمجتمع والسوق معاً ليسقط الوطن المصري كله في براثن جمهورية الخوف التي كانت قد بدأت سنة 1952 ومازالت مستمرة حتى اليوم تحت الحراسة المشددة لتحالف الفاشية العسكرية مع الفاشية الدينية، رغم ما يشوب ذلك التحالف الفاشي المسيطر أحياناً من انتهاكات وانشقاقات واشتباكات عالية الصوت ومرتفعة الخسائر والضحايا بين قادة وكوادر وأعضاء الفريقين، اللذين سرعان ما يعودان إلى بعضهما لأن ما يتنازعان عليه يتضاءل كثيراً أمام ما يجمعهما معاً في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الداخلية والخارجية من قواسم مشتركة عديدة، ظهرت بوضوح خلال تصدي الفريقين للانتفاضة الجماهيرية الاحتجاجية ذات الأبعاد الاجتماعية والتي قادها الشيوعيون في يناير سنة 1977 بمصر، كما ظهرت أيضاً خلال تصدي الفريقين لقوات الاتحاد السوفيتي الموجودة على أرض جارته أفغانستان منذ سنة 1979 حتى سنة 1989 بناء على اتفاق الحزبين الشيوعيين اللذين كانا يحكمان الدولتين آنذاك، بينما استطاع الفريقان إخفاء تحالفهما في أحداث أخرى منها على سبيل الأمثلة لا الحصر حادثين يندرجان ضمن العمليات القذرة شهدتهما مصر خلال سنة 2005، عندما أحكم مجهولون إغلاق أبواب مسرح "بني سويف" الحكومي على عشرات الأدباء والفنانين الشيوعيين الغافلين الذين كانوا يحتفلون داخله بإحدى المناسبات الثقافية الرسمية العامة ليشعل مجهولون آخرون النيران التي أحرقت المسرح بكل من فيه، أما "ممدوح البلتاجي" الشيوعي السابق الذي أصبح وزيراً سيادياً ثم استعان بشيوعي سابق آخر هو كاتب هذه السطور كأحد مستشاريه فقد استطاع مجهولون إصابته بإعاقة صحية مستديمة أخرجته من موقعه الوزاري لتلزمه فراش المرض، بعد أن كان مجهولون آخرون قد استطاعوا إصابتي بإعاقة صحية مستديمة من نوع آخر ألزمتني أيضاً فراش المرض ولكنها منعتني في الوقت ذاته من تلبية الدعوة المريبة التي وصلتني للانضمام إلى الاحتفال الناري على خشبة مسرح "بني سويف"!!. (10) إزاء نجاح الفاشيتين العسكرية والدينية في إخفاء ما بينهما من تحالف استراتيجي حول القواسم المشتركة الرئيسية العديدة التي تجمعهما مع استمرار الفريقين في تبادل الانتقادات المعلنة حول بعض الاختلافات الهامشية، وتكرار نزاعاتهما الفرعية حول السلطة والنفوذ والتي بلغت حد الاشتباكات الدموية العنيفة في بعض الأحيان، ابتداءً بنزاع سنة 1954 بين "جمال عبدالناصر" و"حسن الهضيبي" حتى نزاع سنة 2013 بين "عبدالفتاح السيسي" و"محمَّد مرسي" مروراً بنزاع "جمال عبدالناصر" ضد "سيد قطب" ونزاع "أنور السادات" ضد "عمر التلمساني" ونزاع "حسنى مبارك" ضد "عمر عبدالرحمن"، فقد وقع ارتباك شديد في صفوف مختلف القوى السياسية والمكونات المجتمعية المصرية لاسيما الشيوعيين والليبراليين وأبناء الجاليات ذات الأصول الأجنبية والأقباط واليهود والشيعة والنوبيين والبدو والنساء والأطفال والشيوخ والمعاقين، حيث توهم المتضررون من الفاشية العسكرية أن جماعة الإخوان هي ملاذهم الآمن الوحيد بينما توهم المتضررون من الفاشية الدينية أن المجلس العسكري هو ملاذهم الآمن الوحيد، ولكن إزاء استمرار تحالف الفاشيتين العسكرية والدينية في ممارساته التي تهدد سلامة القوى السياسية والمكونات المجتمعية المذكورة وتطيح بحقوقها وتعطل مصالحها المشروعة، فقد تنامى الإدراك الجمعي لحقيقة أن التحالف الثنائي الحاكم يدفع عموم المصريين بمن فيهم أعضاء وتوابع الجسد الرئيسي لفريقي التحالف نفسيهما نحو حصار خانق داخل مثلث ضيق أضلاعه هي الاستبداد والفساد والتبعية الدونية للمعسكر الرأسمالي الاستعماري العالمي، لذلك أخذ المصريون يقفزون تباعاً وبصرف النظر عن العواقب ليس فقط خارج المثلث ضيق الأضلاع ولكن أيضاً خارج الحدود الجغرافية لجمهورية الخوف الجاثمة على أنفاس الوطن المصري منذ سنة 1952 حتى اليوم، لتبدأ الهجرة العكسية الاضطرارية مع انتصاف خمسينيات القرن العشرين بموجة هروب أولى لأبناء الجاليات ذات الأصول الأجنبية كالأرمن والطليان واليونانيين والسلافيين إلى جانب اليهود المصريين، متجهين نحو العودة لبلدانهم الأوروبية الأصلية أو نحو بلدان العالم الجديد في أستراليا والأمريكتين أو حتى نحو مجاهل آسيا وأفريقيا، ثم جاءت موجة الهجرة الاضطرارية الثانية مع بداية الستينيات بهروب الأقباط والمسيحيين المصريين إلى بلدان العالم الجديد، تلتها موجة الهجرة الاضطرارية الثالثة بهروب الحلفاويين من أبناء النوبة المصرية في منتصف الستينيات إلى منطقة "خشم القربة" الواقعة داخل الصحراء الشرقية السودانية الجرداء الموحشة، وتمثلت موجة الهجرة الاضطرارية الرابعة في الهروب المعنوي لبدو سيناء برفضهم النزوح إلى داخل العمق المصري واختيارهم البقاء تحت إدارة قوات العدو الإسرائيلي التي احتلت سيناء خلال الفترة الزمنية الممتدة بين سنتي 1967 و1982، فيما لا يختلف كثيراً عن الهروب المعنوي لبدو الصحراء الغربية من العرب والأمازيغ الذين اضطروا في بداية السبعينيات لاكتساب الجنسية الليبية وتمسكوا بها إلى جانب جنسيتهم المصرية، علماً بأن التحالف الحاكم مازال حتى اليوم يعاقب جميع البدو المصريين سواء كانوا يسكنون سيناء أو الصحراء الغربية على اضطرارهم للهروب المعنوي من ممارساته، واستمرت الموجة الخامسة طوال عقدي سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين بهجرة الأيدي العاملة المصرية الاضطرارية الكثيفة نحو بلدان النفط العربية المجاورة هرباً من قسوة الأوضاع المعيشية في مصر، لتأتي الموجة السادسة بهجرة الجهاديين الإسلاميين الاضطرارية أثناء عقدي الثمانينيات والتسعينيات إلى أراضي أفغانستان وباكستان والشيشان والبوسنة وبلدان الصحراء الأفريقية الكبرى بحثاً عما يفتقدونه في مصر من عدل ورحمة وآمان، ومع حلول القرن الواحد والعشرين بدأت الموجة السابعة مع الهجرة العكسية الاضطرارية لشباب وصبية وفتيات وصبايا يهربون من كافة المدن والقرى والربوع المصرية بحثاً عن حياة أفضل، ليمخروا عباب البحر الأبيض المتوسط متجهين صوب سواحل الجنوب الأوروبي بقواربهم الخشبية البدائية الصغيرة في مواجهة غير متكافئة وشبه انتحارية مع كل أنواع المخاطر الطبيعية والعدائيات البشرية على كافة المستويات، دون أن تتوقف العقول المتميزة سواء كانوا من المفكرين والباحثين السياسيين أو مبدعي الآداب والفنون أو نوابغ الابتكارات والتطبيقات العلمية عن الهجرة العكسية الاضطرارية من مصر إلى مختلف بلدان العالم التي تسمح لعقولهم بالاستفادة والإفادة خارج نطاقهم الجغرافي الطبيعي، ليصل عدد المهاجرين المقيمين بصفة دائمة في الخارج إلى خمسة عشر مليون مصري منهم حوالي نصف مليون شهيد سقطوا خلال المراحل المختلفة لهجراتهم الشاقة نحو مشارق الأرض ومغاربها، إلى جانب خمسين مليون مصري ذاقوا قسوة الهجرات المؤقتة للخارج ومع ذلك كانوا يودون لو أنهم لا يعودون مرة أخرى إلى جمهورية الخوف القائمة في مصر منذ سنة 1952، رغم امتلاء حلوقهم بأنواع متعددة من المرارات لكون ثمار جهودهم ومهاراتهم وإبداعاتهم يقطفها آخرون غرباء دوناً عن أهاليهم المصريين المحشورين داخل مثلث الاستبداد والفساد والتبعية الذي فرضته عليهم جمهورية الخوف، رغم أن هؤلاء الأهالي هم الأكثر احتياجاً من غيرهم لتلك الجهود والمهارات والإبداعات!!. (11) اقتحمت الجماهير الغاضبة مقرات جهاز مباحث أمن الدولة خلال سنة 2011 بهدف إنقاذ محتوياتها من الملفات الأمنية الهامة قبل إتلافها لإخفاء أدلة ثبوت جرائم الأجهزة السيادية على مدى العمر الزمني لجمهورية الخوف الأولى والذي بدأ سنة 1952 في مصر، وحسب الأوراق الرسمية الممهورة بخاتم شعار الجمهورية والتي احتواها ملفي الأمني بشقيه المعلوماتي والعملياتي فإن الأجهزة السيادية كانت قد أدرجتني ضمن قوائم أعدائها المحتملين منذ مولدي في أواخر خمسينيات القرن العشرين، كابن لأبوين كانا يتصدران آنذاك صفوف المعارضة الشيوعية التي رفضت مبكراً انقلاب "الضباط الأحرار" بوعي كامل لخطورة الحكم العسكري، ثم نقلتني الأجهزة إلى قوائم أعدائها المؤقتين عقب مشاركتي الشخصية مع أبناء جيلي من الشيوعيين في قيادة انتفاضة يناير 1977 الجماهيرية الاحتجاجية ذات الأبعاد الاجتماعية، لترفعني تلك الأجهزة لاحقاً إلى قوائم أعدائها المؤكدين عندما أصدر الحزب الشيوعي السري في بداية الثمانينيات كراسة تتضمن بحثي المعنون "حرب التحرير الشعبية هي طريق التحرر الوطني" رغم إخفاء اسمي عمداً بهدف حمايتي، أما جماعة "الإخوان المسلمين" والتي كانت قد أدرجتني أيضاً ضمن قوائم أعدائها المحتملين منذ مولدي في أسرة شيوعية "كافرة" حسب التصنيفات الإخوانية المنحرفة، فقد نقلتني إلى قوائم أعدائها المؤقتين خلال النصف الثاني لسبعينيات القرن العشرين بمجرد إصدار جامعة القاهرة لكراسة تتضمن بحثي المعنون "الإخوان المسلمون على مذبح المناورة"، في إطار مشروع التثقيف الجامعي الذي قاده بعض الوزراء السابقين واللاحقين أمثال "رفعت المحجوب" و"فتح الله الخطيب" و"بطرس غالي" و"مصطفى السعيد" و"جودة عبدالخالق" وغيرهم، ممن تم وضع أسمائهم على أغلفة الكراسات بنفس بنط اسمي رغم كوني مازلت طالباً وهم أساتذتي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ثم رفعتني جماعة "الإخوان المسلمين" لاحقاً إلى قوائم أعدائها المؤكدين مع إعلاني المبكر لما في حوزتي من معلومات وتحليلات حول الانقلاب العسكري الذي تم تنفيذه بنجاح خلال شهر يونيو سنة 1989 في السودان، بتواطؤ ماكر ومخادع بين العسكريين السودانيين وإخوان السودان تحت الرعاية المستترة لقيادات هؤلاء وأولئك في مصر، الأمر الذي دفع الرئيس "حسني مبارك" إلى تكليفي بوظيفة المستشار الإعلامي للسفارة المصرية في السودان طوال النصف الأول من التسعينيات حيث أحبطت إفاداتي المعلوماتية الدقيقة والسريعة بعض شرور التحالف العسكري الإخواني السوداني تجاه المصريين، وحسب الأوراق الرسمية الممهورة بخاتم شعار الجمهورية والتي احتواها ملفي الأمني فقد طالني بمجرد عودتي من السودان سنة 1997 خليط من عمليات الاستهداف سواء بالأيدي المنفردة لتوابع الأجهزة السيادية أو بالأيدي المنفردة لتوابع جماعة "الإخوان المسلمين" أو بالأيدي المشتركة لتوابع الفريقين معاً، ابتداءً بمحور الاحتواء والتطويق صعوداً إلى محور التشتيت والإنهاك، وصولاً لمحور الإزالة النظيفة الذي يشمل فيما يشمله تصفية الشخص المستهدف أو إصابته بإحدى الإعاقات المستديمة في جسده أو عقله أو محاصرته عبر تضييق الخناق حول تحركاته الطبيعية في مجاله الحيوي أو فبركة أية خلفيات زائفة لتثبيته وتقييده بالحبس أو تحديد الإقامة، كما يشمل محور الإزالة النظيفة أيضاً فيما يشمله منع الشخص المستهدف من مغادرة مصر سواء كانت مغادرته بهدف الهجرة الدائمة أو المؤقتة وسواء كانت اختيارية أو اضطرارية، وبصرف النظر عما إذا كان مسافراً للقيام بجولة سياحية أو للمشاركة في أنشطة سياسية أو ثقافية أو علمية خارجية أو لتأدية واجباته المهنية والتزاماته العائلية وشعائره الدينية أو حتى للحصول على فرصة علاجية أخيرة لإنقاذ حياته، ورغم استمرار مقاومتي بضراوة لكافة محاور استهدافي فقد حصل محور منع سفري ومغادرتي على المساحة الأكبر من اهتمام الرأي العام ومتابعة الإعلام المحلي والإقليمي والعالمي، لأنني كنت ومازلت أحمل جواز سفر خاص بالدبلوماسيين يفيد بأن وظيفتي الرسمية في الدولة المصرية هي السفر، وفي يوم 24/2/1998 أصدر مجلس الدولة حكمه التاريخي في الدعوى المقيدة تحت رقم 7904 للسنة القضائية رقم 51 بالإزالة الفورية لكافة العراقيل التي تمنع سفري ومغادرتي إلا أن هذا المنع لم يزل قائماً بشكل عملي حتى اليوم، عبر العديد من الالتفافات الملتوية والماكرة التي بدأت سنة 1998 خلال محاولتي السفر لتقديم أوراقي في إحدى المسابقات المعلنة لشغل وظيفة مستشار إعلامي لدى الأمانة العامة للاتحاد الأفريقي الكائنة بالعاصمة الأثيوبية "أديس أبابا"، عندما تم إنزالي من داخل الطائرة بواسطة ضباط أمن مطار "القاهرة" على ضوء تعليمات أصدرتها الأجهزة السيادية بحجة كاذبة مفادها عدم تأديتي الخدمة العسكرية الإلزامية، واستمرت تلك الالتفافات لمنع سفري حتى كان آخرها الامتناع عن تنفيذ حكم مجلس الدولة الصادر لصالحي في الدعوى رقم 3556 للسنة القضائية رقم 67 مع تجميد قرار وزير الصحة رقم 779 لسنة 2014 الصادر تنفيذاً للحكم المذكور، بسفري إلى "ألمانيا" لعلاج عمودي الفقري السابق كسره خلال محاولة اغتيال فاشلة دبرتها ونفذتها ضدي جهات مجهولة أثناء عملي كمستشار إعلامي في السفارة المصرية بالسودان، وذلك عقب شهور قليلة من إصدار "عدلي منصور" رئيس الجمهورية المؤقت الموالي لقيادة المجلس العسكري قراره رقم 657 لسنة 2013 بسحب وإلغاء قراره هو نفسه السابق رقم 644 لسنة 2013 بسفري إلى "نيويورك" للعمل كمستشار إعلامي في البعثة الدبلوماسية المصرية لدى الأمم المتحدة، وذلك عقب شهور قليلة من إصدار الرئيس الإخواني "محمَّد مرسي" القرار الجمهوري رقم 170 لسنة 2012 بنقل تبعية قطاع الإعلام الخارجي الذي أعمل فيه من وزارتي الإعلام والخارجية إلى رئاسة الجمهورية، بعد أسابيع قليلة من صدور قرار وزير الداخلية رقم 1212 لسنة 2011 بصفته المسئول التنفيذي الأعلى عن كل مخارج السفر والمغادرة والذي ينص على منع جميع العاملين التابعين لرئاسة الجمهورية من السفر والمغادرة ما لم يحصلوا على موافقة مسبقة من الأجهزة السيادية، ليظل منع مغادرتي طوال عشرين سنة سواء بالأساليب القهرية أو الالتفافية مؤرقاً لي بنفس الدرجة التي كانت مغادرتي للوطن في حد ذاتها تؤرقني رغم إيماني كغيري بفوائد السفر السبع!!. (12) اتفق أصدقائي من أطباء علم النفس على أنني مصاب بنوع من الأرق يسمونه "الحنين الانفعالي للوطن" تبدأ أعراضه قبيل مغادرتي باسترجاعي لأهم أغاني ومواويل الهجرة الحزينة واستمراري في ترديدها على نحو متواصل كالنائحات الثكالى، ثم تتصاعد الأعراض بنفوري العدواني تجاه العاملين في مخارج السفر والمغادرة وكأنهم هم المسئولون عن رحيلي، لتأتي آخر الأعراض بمجرد هبوطي إلى أرض المهجر وتتمثل في خلوة بكائية على وطني المفتقد لمدة نصف ساعة وهي نفس المدة التي أمضيها جالساً على الأرض في صمت جليل عقب عودتي إلى الوطن، وبينما فسر بعض الأطباء أرق الحنين الانفعالي للوطن بالإفرازات الكيميائية الموجودة أصلاً في دمي منذ مولدي فقد فسره أطباء آخرون بالمضاعفات النفسية لذكريات شخصية مؤلمة ارتبطت بأحداث مبكرة وقعت لي خارج الوطن لاسيما بعد استماعهم إلى تلك الذكريات، حيث كان عمري ست سنوات عند ذهابي لمحل مجمدات في دولة عربية مجاورة بهدف شراء دجاجة وبعد شرحي التمثيلي عرف البائع طلبي فصرخ بأعلى صوته قائلاً ما لم أفهمه من كلام هو: "اليوهال – يبي – دياية – أكو – يوبا – حاشيني"، لينفتح أحد الأبواب كاشفاً عن عملاق بشري غاضب عاري الجسد باستثناء منشفة صغيرة تتدلى أسفل بطنه الضخم الذي ظل يهتز بشدة أثناء صراخه مخاطباً البائع بما لم أفهمه أيضاً من كلام هو: "أكو – وايد – كلش – بالبراد – إنطيه- ياتشلب"، أصابني سوء فهمي لما يقولانه بخوف دفعني للإمساك بدجاجتي والخروج مسرعاً إلا أن ارتباكي قادني نحو الباب الخاطئ المؤدي إلى المخزن لأجد نفسي وجهاً لوجه أمام حيوان زاحف ضخم يشبه التمساح اسمه "الوَرَلْ"، أخذ يتشممني بأنفه المنتفخ ويلعقني بلسانه الطويل تمهيداً لالتهامي بعد أن ابتلع دجاجتي فور سقوطها من يدي لولا مسارعة البائع وأبيه بجذب سلسلة ذلك الوحش تاركين لي فرصة الفرار نحو الشارع، ولما كان عمري عشر سنوات قامت إحدى فتيات دولة عربية مجاورة أمام عيني بمغازلة شاب مصري مهاجر لا أعرفه فأمسك أقاربها به ليضربونه بقسوة وهم يسبون كافة المصريين الذين يغازلون "بنات أسيادهم" حسب قولهم، مما اضطرني إلى التدخل لشرح الحقيقة فاعتبروني شريكه ومنحوني نصيباً وافراً من الضرب المبرح الذي كاد يقتلني لولا وصول الشرطة بعد فترة زمنية طويلة لفض المعركة، ولما أصبح عمري أربع عشرة سنة اختطفني بعض المشايخ الملتحين بمجرد وصولي إلى دولة عربية مجاورة ليقتادوني عنوة نحو ساحة المسجد الكبير مع ترديدهم عبارة لا أفهمها هي: "عاين – يال – وَلَدْ – هالحين – عانجص – راس"، فإذا بهم يجمعون المارة لإجبارهم على مشاهدة عملية وحشية لقطع رأس مهاجر مصري بالسيف عقب تقييده بالسلاسل في العمود الذي يتوسط ساحة المسجد، ثم عاد نفس هؤلاء المشايخ الملتحين وأمسكوا بي مرة أخرى بعد أيام قليلة ليقتادوني عنوة نحو ساحة المسجد الكبير ذاتها حيث قيدوني بالسلاسل في نفس العمود الذي يتوسط ساحة المسجد مع تكرارهم لذات عبارتهم المرعبة "عاين – يال – وَلَدْ – هالحين – عانجص – راس"، طال انتظاري لقطع رأسي وأنا في حالة من الفزع والهلع الشديدين حتى تبين لي أنهم يجمعون المارة لإجبارهم على مشاهدة عملية عبثية لقص شعر رأسي الذي يرونه أطول مما تسمح به بروتوكولاتهم الرجعية التسلطية، وعندما أصبح عمري ثماني عشرة سنة تصادف جلوسي على مقعد ملاصق لأحد جناحي طائرة تابعة لدولة عربية مجاورة وأنا في طريقي إليها كما تصادف سقوط نظارتي الطبية عن وجهي بينما كان مضيف الطائرة المتجهم يسلمني بغلظة ورقة عنوانها "جزاؤك الموت"، وقبل ارتداء نظارتي لأستكمل قراءة الورقة التي تحذر المهاجرين الوافدين من ارتكاب عدة أفعال إجرامية عقوبتها الإعدام رغم سلامتها حسب قوانين بلدانهم الأصلية، كانت أسراب كثيفة من الجراد الصحراوي الضخم تطاردها بعض الجوارح المتوحشة الجائعة قد اخترقت محركات الطائرة عبر المراوح المدلاة أسفل الجناحين فاشتعلت النيران في المحركات، مما أجبر قائد الطائرة على الهبوط الاضطراري بها فوق أقرب مستنقع مائي ليواجه الركاب الذين لا يعرفون السباحة مثلي "جزاء الموت" حرقاً أو غرقاً أو تسمماً بعضات ولدغات ولسعات الأفاعي والعقارب والعناكب التي تسللت من المستنقع إلى داخل الطائرة، لولا هطول مفاجئ لأمطار موسمية غزيرة أطفأت النيران فأبقت على حياتنا لحين وصول السباحين من السكان المحليين لإنقاذنا، ورغم قسوة تلك الأحداث المرتبطة بهجراتي المؤقتة العديدة خارج مصر إلا أنها تبدو مجرد مداعبات طفولية عند مقارنتها بما أصاب كثيرين غيري من الأجانب المهاجرين إلى الداخل المصري سواء كانت هجراتهم دائمة أو مؤقتة!!. (13) خلال احتلالها للصفوف الأمامية في المعسكر الرأسمالي الاستعماري العالمي أبرمت بريطانيا وفرنسا سنة 1916 مع الإمبراطورية الروسية القيصرية اتفاقية سايكس – بيكو السرية من أجل إعادة توزيع مستعمرات إقليم الشرق الأوسط فيما بينها، على حساب الدول والشعوب التي ساندت ألمانيا وإيطاليا ودولة الخلافة الإسلامية العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1919)، وهي الحرب التي كانت تطوراتها قد تواكبت مع انهيار الإمبراطورية الروسية القيصرية حيث قامت على أنقاضها سنة 1917 أول دولة شيوعية في العالم تحت اسم الاتحاد السوفيتي، الذي كشف اتفاقية سايكس – بيكو السرية أمام وسائل الإعلام والرأي العام العالمي والإقليمي والمحلي معلناً انسحابه منها باعتبارها تكرس الاستعمار مع رفضه للامتيازات التي كانت الاتفاقية تمنحه إياها، فأعاد البريطانيون والفرنسيون في سنة 1918 تعديل بنودها على نحو يمنحهما مناصفةً حق الاحتلال الحصري لمستعمرات الشرق الأوسط المنزوعة من أيدي دولة الخلافة الإسلامية العثمانية بعد بترها، وبموجب بنود وملحقات اتفاقية سايكس – بيكو الأصلية والمعدلة فقد تمت معاقبة الشعب الكردي البالغ تعداده آنذاك عشرة ملايين نسمة ليس فقط بسبب مساندته للمحور الألماني-الإيطالي-العثماني خلال الحرب العالمية الأولى ولكن أيضاً لأسباب موروثة من مرحلة التاريخ الأوسط، حيث تحمل بريطانيا كراهية تاريخية للأكراد باعتبارهم أحفاد "صلاح الدين الأيوبي" الذي كان قد هزم جيوشها الغازية للشرق الأوسط قبل خمسمائة سنة، بينما تحمل فرنسا كراهية تاريخية للأكراد باعتبارهم أحفاد "سليمان الحلبي" الذي كان قد اغتال قائد جيوشها الغازية للشرق الأوسط قبل مائة وعشرين سنة، وتمثلت معاقبة الأكراد في تشتيتهم بين عدة دول أبرزها تركيا التي قامت على أنقاض دولة الخلافة الإسلامية العثمانية سنة 1924 واعترف بها العالم بعد خضوعها لموازين القوة الجديدة وتراجعها نحو موقع جغرافي ضيق نسبياً وموقع اقتصادي غير تنافسي يتوسط المعسكر الاستعماري والمستعمرات، إلى جانب العراق وإيران اللتان أصبحتا تحت الاحتلال البريطاني والشام الذي أصبح بدولتيه سوريا ولبنان تحت الاحتلال الفرنسي، بالإضافة إلى بعض الأقليات الكردية التي كانت موزعة أصلاً على أراضي قوقازية تابعة لدول أذربيجان وأرمينيا وجورجيا الخاضعة للاتحاد السوفيتي، لتتم معاملة الأكراد بقسوة كمواطنين من الدرجات الأدنى في كل الدول المذكورة على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية رغم اختلاف أشكال تلك القسوة وتفاوت درجاتها من دولة لأخرى بين الدمج القهري والعزل القسري والنفي الإجباري وإنكار الوجود الأصلي، حتى أن آلاف العائلات الكردية قد عاشت وتزاوجت وتكاثرت بلا أي هويات رسمية توضح ماهية الدول التي يتبعها هؤلاء وأولئك لمعرفة واجباتهم وحقوقهم سواء تجاه بعضهم أو تجاه الآخرين، لذلك فقد شكل الأكراد أغلبية قوائم المهاجرين خارج بلدانهم في مرحلتي التاريخ الحديث والمعاصر باستمرار هجراتهم الاضطرارية دون انقطاع حتى اليوم، سواء عبر البر إلى وسط وشمال أوروبا وشرق أفريقيا أو عبر البحر إلى جنوب وغرب أوروبا أو عبر الجو إلى العالم الجديد في أستراليا والأمريكتين، ومن بين المهاجرين الأكراد كانت الصبية الجميلة "ماجدة" ذات الستة عشر ربيعاً التي اتجهت سنة 1988 صوب أوروبا وهي تمسك في يديها شقيقها الأصغر الطفل "مجدي"، باعتبارهما الناجيان الوحيدان من عائلة كردية تمت إبادتها بالكامل خلال قصف الجيش العراقي لمدينتهم "حلابشة" الكردية بمجموعة منتقاة من أقذر أنواع الأسلحة الكيماوية التي شملت فيما شملته غازات الكلور والخردل والسارين والتابون، على مظنة من الرئيس العراقي آنذاك "صدام حسين" بمساندة أكراد "حلابشة" لإيران في حربها الممتدة ضد العراق بين سنتي 1980و1988، واضطرت الصبية الجميلة "ماجدة" إلى تسليم عذريتها وجسدها لأفراد عصابات تهريب البشر الذين تناوبوا على معاشرتها مراراً وتكراراً مقابل اقتيادها مع شقيقها الطفل إلى المنطقة الحدودية الواقعة بين تركيا وسوريا، ومنها اتجها براً نحو ساحل البحر الأبيض المتوسط حيث حملهما أحد القوارب الصغيرة لجزيرة "قبرص" ومن هناك حملهما قارب صغير آخر إلى "فرنسا"، وسرعان ما التحقت "ماجدة" كعاملة نظافة مقيمة في المجمع السكني المخصص لاستضافة طلاب الدراسات العليا من المهاجرين الأجانب الوافدين على جامعة "السوربون" الكائنة بالعاصمة الفرنسية "باريس"!!. (14) حصل "نبيل" على منحة دراسية لنيل درجة الدكتوراه في مجال الكيمياء النووية بجامعة "السوربون" الباريسية، عقب إتمامه النموذجي لدرجة الماجستير سنة 1988 من جامعة "القاهرة" عن رسالته المتميزة حول الاستخدامات العسكرية القذرة لغازات الكلور والخردل والسارين والتابون، فترك أمه المسنة وشقيقته الكبرى العانس وحدهما داخل منزل العائلة القديم الكائن في حي "الدقي" القاهري واتجه صوب "باريس" حيث أقام بالمجمع السكني لطلاب جامعة "السوربون" وهناك التقى عاملة النظافة الكردية المقيمة "ماجدة" التي حدثته عما سبق أن أصابها هي وعائلتها خلال وجودهم في مدينتهم الأصلية "حلابشة" من أضرار ناجمة عن الاستخدامات العسكرية القذرة لغازات الكلور والخردل والسارين والتابون، فاتفق معها على أن تساعده فيما يجريه من أبحاث علمية وتجارب تطبيقية لنيل درجة الدكتوراه حول الموضوع ذاته بمقابل مالي يساوي ربع قيمة منحته الشهرية، ونظراً لأن الغربة تؤجج المشاعر والغرائز البشرية الطبيعية بين المهاجرين فقد اندفعا سريعاً نحو إعجاب متبادل ثم حب تلاه زواج، فانتقلا إلى شقة سكنية صغيرة خاصة بهما وأنجبا ثلاث بنات قامت السفارة المصرية بتسجيلهن تباعاً لتحصل أمهن "ماجدة" بذلك على التصريح الدائم لدخول "مصر" والإقامة فيها، واستمر "نبيل" يحقق النجاحات المتتالية بانجازاته المتميزة على الصعيدين العلمي والتطبيقي في مجال الكيمياء النووية مما أسعد أساتذته وزملائه ولكنه أزعج الجهات السيادية العالمية والإقليمية الكارهة لتحقيق أية إنجازات عربية لاسيما لو كانت في المجالات غير التقليدية، فوقع اختيار تلك الجهات على "أنجيلينا نيز" ضابطة الخدمة السرية الخارجية الفرنسية ذات الخبرات المتنوعة في مختلف التخصصات الكيميائية والنووية إلى جانب الفنون الغرامية والجنسية، لتخترق بمهارة فائقة الأسرة الصغيرة المكونة من "نبيل" وزوجته "ماجدة" وبناته الثلاث وشقيق زوجته المراهق "مجدي" الذي يحظى بمرتبة الابن البكر داخل الأسرة، وبحلول سنة1992 نجحت "أنجيلينا" في توجيه ضربتها المزدوجة المتزامنة لسرقة وإتلاف الأبحاث العلمية والتجارب التطبيقية الخاصة بالكيمياء النووية سواء كانت موجودة في الشقة السكنية أو المعمل الجامعي أو التخزين الإلكتروني، مع حقن "نبيل" قسراً بجرعة مضاعفة من منشط جنسي محظور تداوله لقوة مفعوله وكثرة تأثيراته الجانبية السلبية الأمر الذي أدى إلى مصرعه، على نحو تم إخراجه درامياً ليبدو أمام زوجته قليلة الخبرة والحيلة وسلطات التحقيق الفرنسية المتواطئة والسفارة المصرية المتراخية بشكل مريب، وكأن الضحية الخائن لزوجته هو الذي أفرط في تعاطي المنشطات الجنسية المحظورة بكامل رغبته استعداداً لعلاقة غرامية عابرة خارج نطاق الأسرة، وبمجرد إغلاق ملف التحقيق في القضية دون توجيه أية اتهامات مصرية أو فرنسية لأي طرف حصلت "أنجيلينا" على رتبة "كولونيل" كترقية استثنائية لتفانيها في تأدية عملها، مع الترتيب لانتقالها خلال السنة التالية إلى "السودان" بهدف لملمة بعض عبوات الكيمياء النووية السابق ضياعها قبل عدة سنوات فوق الأراضي السودانية، أثناء تسليمها من بائع جنوب أفريقي إلى مشتري عراقي عبر وسيط سوداني لاسيما وأن الثلاثة قد تم قتلهم جميعاً في مكان التسليم بواسطة قاتل محترف مأجور تمت تصفيته هو أيضاً فيما بعد دون معرفة مواقع المخابئ السرية المودع بها العبوات، فلم تصل أبداً إلى "العراق" الذي انتظرها طويلاً لاستخدامها ضمن مشروعه النووي السري الطموح والمستمر تحت الإشراف الفرنسي رغم أن التواطؤ المعلوماتي بين فرنسا وإسرائيل كان قد أسفر عن تدمير مفاعل "تموز" النووي العراقي بواسطة الطائرات الحربية الإسرائيلية سنة 1981، كتمهيد مبكر من قبل المعسكر الرأسمالي الاستعماري العالمي لتدمير "العراق" كله عبر العمليات العسكرية المتواصلة والممتدة ضده منذ سنة 1991 حتى احتلته القوات الأمريكية سنة 2003 بما صاحب ذلك من انشغال عراقي تام إلى درجة نسيان عبواته الضائعة في "السودان"، واستعانت "أنجيلينا" باثنين من ضباط الخدمة السرية الخارجية الفرنسية الشباب هما الكابتن "نيقولا" والكابتن "بيتر" مع مندوبة سودانية شابة هي أستاذة الأدب الفرنسي "ياسمين"، لتشكيل الساتر الأسري اللازم من أجل اختراق المجتمع السوداني المحافظ بهدف جمع المعلومات المطلوبة حول العبوات المستهدفة حتى تستطيع لملمتها ثم شحنها إلى فرنسا، إلا أن "أنجيلينا" سرعان ما اكتشفت بذكائها الحاد صعوبة مرور هذا النوع المعلوماتي في السودان آنذاك سوى بمعرفتي، ليس فقط نظراً لوظيفتي الدبلوماسية ولكن أيضاً بصفتي أقرب جامعي المعلومات إلى عمق المجتمع السوداني!!. (15) راودتني المخاوف المشروعة من احتمال أن يؤدي حصول خلية "أنجيلينا" على المعلومات المستهدفة إلى وقوع عبوات الكيمياء النووية المفقودة في حوزة أي طرف ينوي استخدامها بشكل يهدد سلامة "مصر" أو حقوقها أو مصالحها، فأحاطت شبكة المعلومات العاملة معي بخلية "أنجيلينا" الرباعية عن بعد من كافة الجوانب تمهيداً لالتصاق ثلاث مجموعات مختلفة تابعة لي بأعضاء الخلية الثلاثة "نيقولا" و"بيتر" و"ياسمين" كل واحد على حدا لجمع والتقاط وفرز وتصنيف جميع المعلومات الواردة عنهم ومنهم وإليهم، تاركين لي مسئولية الاقتراب الشخصي من رأس الأفعى الفرنسية "أنجيلينا" بالإضافة لمسئولياتي الأخرى عن ربط وتشغيل المعلومات وإبلاغها أولاً بأول إلى قياداتي في "القاهرة" الذين استمروا يتابعونني بردودهم واحتياجاتهم وتكليفاتهم اليومية، وبمجرد الاطمئنان لاكتمال سيطرتنا على تدفق المعلومات التي ترسلها الخلية أو تستقبلها بشأن عبوات الكيمياء النووية وفرنا لعملها الميداني الحماية والمساعدة اللازمتين طالما أننا سوف نشاركها الحصيلة المعلوماتية النهائية في الوقت المناسب لمعرفة خيرها من شرها، وبعد سنتين كاملتين من الجهد الشاق والشيق أصبح بحوزتي شريط فيديو يحوي مادة فيلمية تتضمن ملفاً تفصيلياً لجميع العبوات المخبأة، من حيث مواصفات كل عبوة ومحتوياتها وحالتها التقنية ونسبة المواد الفعالة إلى بقية مكوناتها ومكان إيداعها والبدائل المدروسة جيداً للحصول عليها والمسارات المتاحة لإخراجها بأمان من السودان، ليصل شريط الفيديو فوراً من يدي عبر قنوات الاتصال السرية شديدة الإحكام إلى أيدي قياداتي في "القاهرة" فإذا بهم يكلفونني بإغلاق الملف وإنهاء المهمة وتفكيك شبكة المعلومات العاملة معي فيها والانسحاب بعيداً عن خلية المعلومات الفرنسية لاسيما رئيستها "أنجيلينا"، التي سرعان ما تم ترحيلها من "السودان" إلى "فرنسا" مع مساعدها "نيقولا" دون المساس بمساعدها الآخر "بيتر" لكونه كان قد تزوج الشابة السودانية "ياسمين" بعد أن أشهر إسلامه وأصبح من دراويش الطرق الصوفية، إلا أن "أنجيلينا" التمست من قائد وحدة الحراسة العسكرية السودانية المخصصة لمرافقتها حتى مطار "الخرطوم" السماح لها بالمرور على صديقها الوحيد في المدينة لوداعه قبل سفرها فوافق واصطحبها إلى باب منزلي، حيث وبختني بقولها إن مباراة معلومات كتلك التي قامت بيننا كان يمكن أن تنتهي على أي وجه نموذجي سواء لصالحها أو لصالحي أو لصالحنا معاً بالاستفادة المشتركة لدولتينا من الحصيلة المعلوماتية النهائية، ولكن لا يمكن لكلينا القبول بما جرى فقد لعبناها سوياً بأداء مهني نموذجي فخسرناها سوياً بتدخل غامض عبثي لصالح طرف ثالث مجهول لم يشاركنا اللعب أصلاً ولا علم لكلينا بكيفية استخدامه لحصيلتنا المعلوماتية الثمينة بما تكشفه من تفصيلات دقيقة حول عبوات الكيمياء النووية، التي اتضح لاحقاً أنها كانت قد اتجهت إلى "إيران" حسب بيان الوكالة الدولية للطاقة النووية المعلن سنة 2003 والمتضمن تفاصيل الاعترافات الإيرانية بشأن انتهاكاتها المتعددة لمعاهدة منع الانتشار النووي، والمرفق به قائمة لمواد ومكونات واستشارات تكنولوجية في مجال الكيمياء النووية كانت إيران قد حصلت عليها تباعاً منذ هزيمتها أمام العراق سنة 1988 عبر بعض الوسطاء الدوليين مع إثبات التواريخ المتتالية لحصول إيران على كل منها، حيث أوردت تلك القائمة عبوات الكيمياء النووية المنقولة إلى الحيازة الإيرانية عبر وسيط مجهول بعد أن كانت تحت أيدينا حتى سنة 1995 في "السودان"، الذي شهد بمجرد أن غادرته "أنجيلينا" سلسلة عمليات اختفاء غامضة اختطفت "بيتر" ثم "ياسمين" ثم كل المتبقين من أعضاء الخلية الفرنسية الواحد تلو الآخر، وانتقلت تلك العمليات بعد ذلك إلى زملائي أعضاء شبكة المعلومات الذين شاركوني المهمة سواء كانوا مصريين أو سودانيين أو أجانب لتختطفهم تباعاً حتى اختفوا جميعاً، وتزامنت عودة "أنجيلينا" إلى فرنسا مع اقتراب الشقيقين الكرديين "ماجدة" و"مجدي" من معرفة بعض المعلومات التفصيلية الهامة المتعلقة بعملية اغتيال "نبيل" وسرقة وإتلاف أبحاثه العلمية وتجاربه التطبيقية عقب تفكيك وإعادة تركيب وقائع العملية ثم تجميعها وربطها معاً لحل ألغازها، الأمر الذي دفع بالسلطات الأمنية والقضائية المتواطئة هناك إلى توجيه تهمة الدخول غير الشرعي قبل عدة سنوات للأراضي الفرنسية ضد الشقيقين مما أسفر عن اعتقال "مجدي" وترحيل "ماجدة"، التي وصلت بصحبة بناتها الطفلات الثلاث إلى "القاهرة" للإقامة مع جدتهن المسنة وعمتهن العانس في منزل العائلة القديم الكائن بحي "الدقي"!!. (16) تم تكليف "أنجيلينا" بإعادة متابعة وملاحقة "ماجدة" مجدداً لاختراق منزل العائلة القديم الكائن في حي "الدقي" القاهري، حتى يتسنى لها سرقة أو إتلاف كل ما تبقى من مسودات خاصة بالأبحاث العلمية والتجارب التطبيقية التي سبق أن أجراها "نبيل" خلال دراسته لدرجة الماجستير بجامعة "القاهرة" في مجال الكيمياء النووية، منعاً لاحتمال وقوع تلك المسودات بين أيدي زملائه وتلاميذه من الوطنيين المصريين النوابغ، فانتحلت الأفعى الفرنسية صفة مهندسة ديكور مبعوثة ضمن مشروع أكاديمي مشترك لبحث كيفية الحفاظ على الثروة المعمارية المصرية الموروثة عن العهد الخديوي والمنتشرة في مدن القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والسويس وبورسعيد، وسرعان ما افتعلت بذكائها الحاد مقابلة مدبرة بدت وكأنها تصادفية مع "ماجدة" لمعاودة الاقتراب منها تمهيداً لاختراق منزل العائلة القديم الذي يحوي المسودات المستهدفة، وكان "مجدي" قد أكمل مدة عقوبته داخل السجون الفرنسية ليتم ترحيله إلى سجون إقليم كردستان العراقي حتى تفرج عنه بمعرفتها مع إدراج اسمه ضمن القوائم الدولية السوداء التي تمنع منحه لاحقاً أية وثائق أو جوازات أو تصريحات أو تأشيرات سفر، بعد أن ساعده رفاقه من السجناء السياسيين الفرنسيين ليفهم حقيقة اغتيال زوج شقيقته "نبيل" ومنحوه بعض المعلومات الصحيحة بشأن "أنجيلينا"، وهكذا فإنه لم يجد عقب الإفراج عنه سوى استخدام الطريق الجبلي غير الشرعي مرة أخرى ليبلغ أنفاق "غزة" الفلسطينية الحدودية ثم يعبرها وصولاً إلى "مصر" حيث تقيم شقيقته "ماجدة"، فأرسل لها خطاباً يشرح فيه خط سيره إلى جانب عدة عبارات تحذيرية لم تفهمها بوضوح حول "أنجيلينا" بالإضافة إلى بياناتي الشخصية بعد حصوله عليها من مسئول كردي كان موظفاً بالسفارة العراقية في "الخرطوم" أثناء عملي هناك، ولما كانت أنفاق "غزة" التي هي الشبيه الإقليمي المعدل بأنفاق "برلين" تخضع لسيطرة ثلاثية من قبل أعضاء عصابات تهريب البشر التابعة للأجهزة السيادية الإسرائيلية والذين أغضبهم "مجدي" لخلو طرفه من أية أموال أو أغراض ثمينة أو معلومات أمنية هامة يمنحها لهم، مع كوادر حركة "حماس" الفلسطينية التابعة لجماعة "الإخوان المسلمين" وأولئك غضبوا منه لكونه لا يحفظ آيات قرآنية غير قوله تعالى: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، مع قادة الأجهزة السيادية المصرية وهؤلاء أغضبهم إصراره على وجوب معاملته باعتباره حفيد "صلاح الدين الأيوبي" و"سليمان الحلبي" اللذان لا يكرههما سوى البريطانيون والفرنسيون وعملائهم، لذلك فقد انتهى عبور "مجدي الكردي" لأنفاق "غزة" باعتقاله وإيداعه أحد السجون الجهنمية المشددة في مدينة "العريش" بشمال سيناء حيث تعرض للاستجواب عبر الصعق الكهربائي المكثف والمتتالي بمختلف المناطق الحساسة في جسده، مما أفقده النطق والوعي والذاكرة فاتهمته إدارة السجن بالتمارض على غير الحقيقة وقررت إرساله إلى مستوى جهنمي أشد في السجن العمومي المركزي لمدينة "الإسماعيلية"، وكانت مهمتي الدبلوماسية المعلوماتية كمستشار إعلامي بالسفارة المصرية في "السودان" قد انتهت لتوها مع عودتي النهائية إلى منزلي القاهري محاطاً بترصد انتقامي عدواني كريه مصدره قادة وكوادر وأعضاء وتوابع التحالف الفاشي الحاكم بفريقيه السيادي والإخواني، ليس فقط بسبب ما أتاحه لي عملي المهني مع الفريقين من معلومات سرية خطيرة يحرصان معاً على إخفائها بما يستتبعه ذلك من رغبة محمومة لاستئصال حائزيها، ولكن أيضاً بسبب فشل محاولاتهما المتكررة السابقة الرامية إلى احتوائي أو تطويقي أو تشتيتي أو إنهاكي أو تقييدي أو حتى التخلص مني على أي وجه، خضوعاً لحماية إلهية نافذة تجلت في عدة مواقف مبدأيه أخلاقية اتخذها بعض الشرفاء المثاليين الذين كانوا لا يزالون موجودين داخل مؤسسات الدولة وأروقة المجتمع آنذاك!!. (17) تناولت "ماجدة الكردية" معي إفطاراً مصرياً خالصاً يتكون من الطعمية والفول بزيت السمسم الحار ومقليات البطاطس والباذنجان والفلفل إلى جانب رؤوس وأوراق الجرجير والبصل الأخضر كعادتي المنزلية صباح كل يوم جمعة، حيث أطلعتني تحت وابل من البكاء العاجز على حكاياتها ومخاوفها مع ألبوم كبير يحوي صور العائلة والأصدقاء بمن فيهم "مجدي" و"أنجيلينا"، لتحصل مني على تعريف تفصيلي دقيق لما غاب عنها من معلومات حول عملية اغتيال زوجها كانت قد وصلتني أثناء تحرياتي السابقة عن خلية مطاردة عبوات الكيمياء النووية المخبأة في "السودان"، مع وعد مزدوج بمحاولة تخليصها من الأفعى الفرنسية الملتفة على عنقها وتخليص شقيقها من تهمة الدخول غير الشرعي للأراضي المصرية، ثم غادرت منزلي وهي لم تزل تبكي بعد أن تركت لي مجموعة منتقاة من صور الألبوم، ليفاجئني القائد الذي كان مسئولاً عن متابعة مهمتي المعلوماتية السابقة حول عبوات الكيمياء النووية بزيارة منزلية غير مألوفة لاسيما يوم الجمعة، وإزاء تخميني لسبب زيارته الحقيقي مع تلميحاته السخيفة عن إضاعتي لفرصة معاشرتها جنسياً خلال وجودها في منزلي بمفردها والتي كان يقصد من ورائها توضيح أن توابعه قاموا بتصوير وتسجيل زيارة "ماجدة" لي، فقد تلقى القائد مني وبتوقيعي الرقمي بلاغاً رسمياً طارئاً تحت بند حالات التلبس حول وجود ضابطة الخدمة السرية الخارجية الفرنسية "أنجيلينا نيز" في "مصر" لتنفيذ مهمة تجسس نووي غير معروفة التفاصيل بعد ولكن الأرجح أنها ذات طابع دموي قذر، كما تسلم القائد صور عائلة "نبيل" التي كانت بحوزتي حتى يتسنى لتوابعه اتخاذ إجراءات الفحص والتحري باستثناء صورة عائلية واحدة يظهر فيها وجها "مجدي" و"أنجيلينا" بوضوح وهما يضحكان ظلت ومازالت معي من باب الاحتياط المعلوماتي، وعند حلول فجر اليوم التالي اشتعلت النيران فجأةً في مختلف جنبات المنزل القديم الكائن بحي "الدقي" القاهري وتأخر وصول فريق الإطفاء حتى التهم الحريق كافة محتويات المنزل وعلى رأسها المسودات المطلوب إتلافها، إلا أن الحريق قد التهم أيضاً البنات الثلاث الصغيرات وجدتهن المسنة وعمتهن الكبرى العانس بالإضافة إلى أمهن الأرملة الشابة الجميلة "ماجدة"، لتسارع السلطات الأمنية والقضائية المصرية بإغلاق ملف التحقيق في الحادث على اعتبار أن تسرب الغاز الطبيعي خارج إحدى المواسير الهالكة هو المسئول عن الحريق، وقبيل حلول الظهيرة أطلت "أنجيلينا" على شاشات التليفزيون الرسمي في بث مباشر من مطار "القاهرة" وهي تغادر عائدة إلى بلادها، حيث كانت تزف التهنئة إلى مسئولي وزارة الإسكان بنجاح المشروع المشترك في الحفاظ على الثروة المعمارية الخديوية الموروثة، وكذلك أيضاً كان ضابط السجون الذي اقتاد "مجدي" لإيداعه السجن العمومي المركزي في مدينة "الإسماعيلية" بدون أية أوراق أو مستندات ثبوتية يزف التهنئة إلى زملائه أطباء السجون بوصول فأر تجارب ومخزن قطع غيار بشرية مجانية، ويزف التهنئة إلى توابعه من عتاة المجرمين الجنائيين الشواذ جنسياً المودعين داخل السجن بحصولهم على "حلاوة" كعشاء ترفيهي وهي شفرة معناها في لغة السجون المصرية التصريح لهم باغتصاب الوافد الجديد الذي كان فاقداً للنطق والوعي والذاكرة والأوراق الثبوتية، لذلك فإنني عقب استعانتي بالوسطاء الرشاة والمرتشين من موظفي وزارات الصحة والعدل والداخلية لتوصيلي إلى ثلاجة حفظ الموتى في مشرحة "زينهم" التابعة لمصلحة الطب الشرعي، لم أجد من بقايا الشاب "مجدي الكردي" سوى كومة لحم مسلوخ جلدها وشعرها ومنزوع عنها العينان والأظافر ومسروق منها كل الأعضاء الداخلية والخارجية ومدون أسفلها عبارة "مهاجر أجنبي مجهول"، بينما لم أجد من بقايا الجميلة "ماجدة الكردية" سوى كومة فحم أسود مهترئ محاطة بحفنات متناثرة من الرماد المبعثر ومدون أسفلها عبارة "مهاجرة أجنبية من كردستان"!!. ******* -;- الحركة الشيوعية الموبوءة بالفيروس الصهيوني...
(1) تختلف اختيارات المجموعات البشرية من الأفكار السياسية باختلاف التوازنات والمصالح القائمة بين المكونات الاقتصادية والاجتماعية داخل كل مجموعة، دون أن تخرج تلك الاختلافات عن المنظومات العقائدية الأربع السائدة على امتداد التاريخ والجغرافيا سواء بشكل انفرادي لكل منها أو بشكل تفاعلي فيما بينها ألا وهي الدينية والقومية والليبرالية والشيوعية، وحيث يفترض نظرياً على الأقل أن الأخيرة تحديداً تترجم حصرياً الاختيار السياسي المنحاز إلى مصالح الأجراء الفقراء الذين يشكلون الأغلبية العددية في كافة المجموعات البشرية، كما يفترض نظرياً أيضاً أن التداول الأمثل لتلك الأفكار السياسية المختلفة داخل المجموعات البشرية يتم على أرض الواقع عبر آلية موحدة تشمل ثلاث درجات تصاعدية متصلة، تبدأ بحرية التفكير الضامنة لحق الحصول على المعلومات الصحيحة أولاً بأول ولحق معرفة وتبادل الأفكار مع الآخرين وصولاً إلى حق الاعتناق الفردي أو الجماعي لأية أفكار أو آراء وحق تعديلها أو استبدالها بغيرها في أي وقت، أما الدرجة التالية الأعلى فتتعلق بحرية التعبير الضامنة لحق إعلان الأفكار والآراء وكذلك المصالح المختلفة للأفراد والجماعات، سواء عبر أدوات الإعلام المباشر بما فيها الأدوات الاحتجاجية كالتظاهر والإضراب والاعتصام وغيرها أو عبر استخدام وسائل الاتصال غير المباشرة المطبوعة والمسموعة والمرئية والإليكترونية وغيرها، وصولاً إلى الترويج لتلك الأفكار والآراء والمصالح في الأوساط المستهدفة بغرض تحقيق الأصداء الجاذبة لأوسع التفاف جماهيري ممكن حولها داخل المجموعة البشرية، في حين تتعلق الدرجة الأخيرة والنهائية بحرية التمكين الضامنة لحق مشاركة الأفراد والجماعات للحكام في صنع واتخاذ القرارات العامة ومراقبة كيفية تنفيذها، حتى يستطيع المحكومون محاسبة حكامهم على أدائهم الميداني وصولاً إلى حق التداول السلمي لسلطات الدولة والمجتمع، وامتداداً للافتراضات النظرية المثالية للعمل السياسي فإن تشغيل الآلية الموحدة ذات الدرجات الثلاث من الحريات التصاعدية المتصلة (التفكير ثم التعبير ثم التمكين) يتم عبر الأحزاب التي تضم الجماعات والأفراد المتقاربين في الأفكار والآراء والمصالح، بحيث يكون الحزب السياسي هو إطار قائم على هيكل تنظيمي محدد يجمع أعضاءه وفقاً لأساس برنامجي محدد ويسعى إلى تطبيق أفكارهم وآرائهم ورعاية حرياتهم وحقوقهم والدفاع عن مصالحهم بأساليب التغلغل والضغط والمساومة والتوفيق والصدام معاً، لأهداف تتراوح بين استيعاب أكبر عدد ممكن من الأنصار عبر توعيتهم وتغيير اتجاهاتهم نحو اختيار الانضمام إلى عضويته وبين زيادة نفوذه وتأثيره داخل مؤسسات الدولة والمجتمع، عبر توسيع النطاق الكمي والنوعي لتسكين أعضائه وأنصاره في السلطات المحلية والتشريعية والتنفيذية والقضائية والسيادية وفي النقابات والجمعيات والأندية والروابط وما شابه، وصولاً إلى توليه الحكم بنفسه عبر الأساليب السياسية السلمية المتفق عليها داخل المجموعة البشرية ليضع موضع التنفيذ الفعلي ليس فقط برنامجه ولكن أيضاً أفكار وآراء ومصالح أعضائه وأنصاره!!. (2) يتميز الحزب السياسي عن شقيقه الأصغر التنظيم السياسي باتساع إطار هيكله التنظيمي ليتخذ شكلاً هرمياً تقليدياً يضم عدة مستويات تهبط من الأعلى إلى الأسفل، ابتداءً بالسكرتارية المركزية التي تقود العمل السياسي اليومي سواء كان انفرادياً أو مشتركاً مع الأحزاب السياسية الأخرى ومؤسسات الدولة والمجتمع أو في مواجهتها، مروراً بمكاتب الحزب النوعية التي تباشر خطواتها في مجالات تخصصاتها المختلفة حسب الخطط المحددة سلفاً لكل منها، هبوطاً إلى مستوى اللجنة المركزية المختصة بمتابعة التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة محلياً وإقليمياً وعالمياً بالحزب لتتخذ القرارات المناسبة حول الخطوات الحزبية الواجبة تجاهها، والمختصة أيضاً بالإشراف على أداء السكرتارية المركزية والمكاتب النوعية لأعمالها اليومية والتدخل فيها سلباً أو إيجاباً عند الضرورة، ثم يأتي مستوى لجان المناطق الموزعة على المحافظات والأقاليم الجغرافية من جهة ومجالات التخصصات المهنية والحرفية المتشابهة من جهة أخرى ومقرات العمل التابعة للمنشآت الوظيفية المجمعة من جهة ثالثة، ثم يأتي المؤتمر الحزبي العام الذي ينعقد بشكل دوري منتظم كل مدة زمنية معروفة سلفاً ليضم جميع أعضاء كافة لجان المناطق المذكورة، ويتولى المؤتمر الحزبي العام أثناء انعقاده مراجعة برنامج الحزب ولائحته وسياساته وقراراته وخطواته منذ انعقاد الدورة السابقة ليصدر توصياته المناسبة بشأن ما يجب أن يتخذه الحزب وينفذه من إجراءات على كل المحاور خلال الدورة التالية، ويتولى المؤتمر أيضاً انتخاب اللجنة المركزية والسكرتارية المركزية والمكاتب النوعية وتشكيل هيئة مدرسة الكادر المختصة بالتثقيف السياسي وهيئة المراقبة والتفتيش المختصة بفحص شكاوى الأعضاء لمعالجتها حسب اللائحة الحزبية وهيئة إدارة الخلافات السياسية والصراعات الفكرية المحتملة داخل الحزب، علماً بأن المؤتمر الحزبي العام يضطر أحياناً إلى الانعقاد في دورات استثنائية طارئة عندما يتعرض الحزب بشكل مفاجئ لتحديات أو صعوبات خطيرة تعرقل مساره أو تهدد مصيره، ثم يأتي مستوى لجان الحزب القاعدية الأساسية المنتشرة في مختلف الأقسام والفروع والأنشطة والمواقع، وأخيراً يأتي مستوى المنظمات التابعة أو الموالية للحزب والتي تؤيد الأفكار والآراء والمصالح الخاصة به أو المشتركة مع غيره من الأحزاب السياسية كلياً أو جزئياً، وسواء كانت تلك المنظمات ذات أهداف ثقافية أو جماهيرية أو اقتصادية وسواء كانت تبعيتها الحزبية انفرادية أو جبهوية متعددة فمن الضروري وجود حلقة اتصال مع الحزب تتولى إدارة عملها اليومي بما يكفل توجيهها نحو القرارات والخطوات الأقرب لأفكاره وآرائه ومصالحه، وبذلك يكون هناك مستوى حزبي استثنائي يقع خارج هيكله التنظيمي الهرمي التقليدي ويضم أعضاء الحزب وكوادره الذين يشغلون مواقع قيادية بمؤسسات الدولة والمجتمع الهامة أو في المنظمات التابعة والموالية للحزب، حيث يتم استيعابهم داخل لجان حزبية فردية قائمة على اتصال شخصي مباشر ودائم يربط كل واحد فيهم بالأقرب إليه من أعضاء السكرتارية المركزية للحزب، وبتطبيق هذه القواعد العلمية على واقع الحركة الشيوعية المصرية يتضح أنها لم تشهد منذ نشأتها حتى اليوم سوى حزبين اثنين فقط أولهما عام 1922 وثانيهما عام 1958، رغم تكرار إطلاق اسم "الحزب الشيوعي المصري" على عدة تنظيمات وحلقات وخلايا ظهرت في مختلف مراحل تلك الحركة، وهو ما سوف نتحاشاه لاحقاً ليس فقط باعتباره يخالف القواعد العلمية والحقائق الواقعية، ولكن أيضاً لكونه يكشف تعالياً غير مبرر على الرفاق الشيوعيين الآخرين وتكاسلاً غير مفهوم عن السعي للعمل المشترك مع هؤلاء الرفاق الآخرين من أجل إنشاء الحزب!!. (3) تتقدم الأحزاب نحو الأمام أو تتقهقر إلى الخلف حسب كيفية إدارتها للعلاقات التنظيمية داخل البناء الحزبي بمختلف مستوياته ومكوناته وأعضائه لاسيما عند ظهور أية خلافات أو صراعات بينية، وتتنوع كيفية إدارة تلك العلاقات التنظيمية الداخلية تبعاً للهوية العقائدية التي ينتمي إليها الحزب سواء كانت دينية أو قومية أو ليبرالية أو شيوعية، وحيث يفترض نظرياً على الأقل أن الأخيرة تحديداً تلزم الأحزاب المنتمية لها بإدارة العلاقات التنظيمية الداخلية عبر أسلوب المركزية الديمقراطية المستمد من قانون الوحدة والصراع، ومفاده أن المضمون الديمقراطي المطلوب والمفيد للخلافات السياسية والصراعات الفكرية البينية يجب ألا يؤثر سلباً على استمرار الشكل المركزي المطلوب والمفيد في الحركة الميدانية الموحدة، فالأعضاء يباشرون أنشطتهم الحزبية المعتادة وهم على درجة كبيرة من الانسجام الحركي الميداني ولكنهم يحتفظون في الوقت ذاته بآرائهم الشخصية التي قد لا تكون على نفس درجة الانسجام، مما يسفر أحياناً عن خلافات وصراعات في الرأي يستثمرها الحزب لتصحيح أو تطوير أفكاره وسياساته دون أن تعرقل أنشطته المعتادة بما تتطلبه من انسجام حركي ميداني، وتلزم المركزية الديمقراطية العضو أو الأقلية المعارضة بالخضوع لقرارات الحزب المعبرة عن الأغلبية الموالية فيما يخص المقتضيات الحركية الميدانية للموضوع محل الخلاف، مع خوض العضو أو الأقلية المعارضة في الوقت ذاته صراعاً ضد آراء الأغلبية الموالية فيما يخص الجوانب الفكرية والسياسية النظرية للموضوع نفسه تحت إشراف هيئة إدارة الخلافات والصراعات الداخلية، وهي الهيئة التي تلزمها المركزية الديمقراطية بإتاحة أوسع الفرص أمام آراء المعارضين وملاحظاتهم وتحفظاتهم وانتقاداتهم ومقترحاتهم لعرضها ومناقشتها والتحاور حولها، سواء داخل المستوى التنظيمي المختص بالموضوع محل الخلاف أو على مستوى الحزب كله عبر المجلات الداخلية والأوراق الخاصة الموزعة من خلال الهيئة المذكورة بسرعة وأمانة على جميع الأعضاء، أما في حالة زيادة حدة التوتر بين الأغلبية والأقلية إلى درجة تعرقل مسار الحزب وتهدد مصيره فإن هيئة إدارة الخلافات والصراعات الداخلية تعقد اجتماعات جانبية لأعضاء الأقلية حتى يبلورون آرائهم ويرشحون ممثليهم المعبرين عن تلك الآراء للمشاركة في المؤتمر الحزبي العام الأقرب زمنياً سواء كان دورياً أو استثنائياً، بهدف حصول المعارضين على فرص متساوية مع الموالين في عرض آرائهم ومحاولة انتزاع التصويت لصالحها من قبل المؤتمر رغم انعقاده تحت رئاسة الموالين، وهكذا يتقدم الحزب كله خطوة واحدة على الأقل نحو الأمام فكرياً وسياسياً بمجرد انتهاء تصويت المؤتمر العام إما لصالح آراء أغلبية الأمس واليوم الموالية أو لصالح آراء أقلية الأمس المعارضة التي أصبحت أغلبية اليوم الموالية، لاسيما في ظل ما يصاحب التصويت من تداول سلمي للمواقع القيادية داخل الحزب حيث يحل أصحاب الآراء الفائزة محل أصحاب الآراء الخاسرة على رأس الحزب كموالين جدد لأغلبية جديدة، إلا أن الواقع التاريخي الحقيقي لمختلف الأحزاب الشيوعية التي حكمت عدة بلدان هامة كان شديد الانحراف فيما يتعلق تحديداً بكيفية إدارة العلاقات التنظيمية الداخلية عند ظهور الخلافات والصراعات البينية، ابتداءً من كوميونة باريس عام 1789 وانتهاءً بحكم الحزب الشيوعي اليوناني عام 2015 مروراً بحكم الحزب الشيوعي السوفيتي الأبرز بين عامي 1917 و1992، إلى جانب أحزاب شيوعية أخرى عديدة تولت خلال النصف الأول للقرن العشرين حكم الصين وكل بلدان أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى الأحزاب الشيوعية التي تولت خلال النصف الثاني للقرن العشرين حكم بعض بلدان العالم الثالث مثل كوبا وكوريا الشمالية وفيتنام ومنغوليا وأثيوبيا واليمن الجنوبية وغيرها!!. (4) كانت مصر خلال الفترة الممتدة بين بدايات القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين هي الملجأ الأنسب للهاربين من الأزمات والحروب والاضطهاد في بلدانهم الأصيلة لاسيما اليونانيين والطليان والأرمن والسلافيين والمالطيين، باختلاف انتماءاتهم الدينية والفكرية والسياسية التي شملت فيما شملته اليهودية والشيوعية مع وجود البعض ممن يحملون الانتمائين اليهودي والشيوعي جنباً إلى جنب، وسرعان ما حصل اللاجئون الأجانب على الجنسية المصرية أو حق الإقامة مع احتفاظهم بالروابط التي تجمعهم فيما بينهم وتبقيهم على صلة منتظمة بمجتمعاتهم الأصلية، الأمر الذي سمح باستمرار علاقات اليهود منهم مع الحركات اليهودية العالمية والشيوعيين منهم مع الحركات الشيوعية العالمية، حتى عندما نظم هؤلاء وأولئك أنفسهم في طوائف وخلايا وحلقات تتخذ مصر موقعاً مكانياً لها فقد ألحقوها بمكاتب الأنشطة الخارجية التابعة لحركات غير مصرية، وكانت الطبقة العاملة المصرية قد ظهرت عام 1840 عقب توقيع مصر على معاهدة "لندن" التي سمحت بشراء قوة العمل العضلي والذهني من المصريين وغيرهم مقابل أجر محدد سلفاً، ضمن ما سمحت به المعاهدة من حقوق اقتصادية عديدة لصالح فئة الأجانب وكلاء الرأسمالية العالمية في مصر، ثم تبلورت الطبقة العاملة المصرية عام 1871 عقب إصدار قانون "المقابلة" المصري الذي سمح بالتنقل الجغرافي الحر للمصريين والأجانب الباحثين عن العمل العضلي والذهني المأجور لدى الغير، ضمن ما سمح به قانون "المقابلة" من حقوق اقتصادية عديدة لصالح فئة الرأسماليين المصريين المستقلين أسوة بالحقوق التي سبق أن منحتها معاهدة "لندن" إلى فئة الوكلاء الأجانب للرأسمالية العالمية، ورغم مرور حوالي قرنين على ذلك الظهور المتزامن للطبقة العاملة في مواجهة الرأسمالية بفئتيها الأجنبية التابعة والوطنية المستقلة مع التفاوت الصارخ الذي صاحبه، بين فريق رأسمالي محتكر للثروة والسلطة يشكل الأقلية النخبوية وفريق أجير محروم من أدنى حدود الثروة والسلطة يشكل الأغلبية الجماهيرية، فإن التناقض الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بين الفريقين لم يزل حتى اليوم متواصلاً في مصر على نفس النحو الذي كان قائماً منذ قرنين، حيث مازال الفريق النخبوي يسعى إلى الحفاظ على استقرار الأوضاع بهدف تكريس استبداده وفساده وتبعيته لمراكز الاستعمار العالمي لاسيما في ظل اعتلاء الرأسماليين التابعين للرأسماليين المستقلين داخل الفريق النخبوي، بينما مازال الفريق الجماهيري يتطلع نحو تغييرات جذرية تكفل تحقيق الحرية والتحرر الوطني والتنمية الاقتصادية المستقلة والعدالة الاجتماعية لصالح الأجراء الفقراء، الأمر الذي كان يفترض أن يترتب عليه حسب نظريات العلوم السلوكية فرزاً طبيعياً لصراع جذري محدد الملامح بين معسكر استقرار تقوده أحزاب وجمعيات رجال الأعمال ومعسكر تغيير تقوده الحركة الشيوعية، ولكن حسابات الواقع الميداني الفعلي قد اختلفت كثيراً جداً عن تلك الافتراضات النظرية حتى أصبحت تبدو كأنها مجرد خيال علمي!!. (5) حاول الشيوعيون المصريون تنظيم أنفسهم داخل خلايا وحلقات منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث اعتقلت أجهزة الأمن العثمانية عام 1865 "أحمد الطيب السلمي" من مدينة "الأقصر" بتهمة قيادة تمرد شيوعي ضد أولي الأمر المحليين حسبما ذكر الكاتب البريطاني الشهير "جون ستيوارت ميل" في أحد مقالاته المنشورة آنذاك، ثم ضبطت الأجهزة الأمنية العثمانية والبريطانية عام 1889 في مدينتي "الإسكندرية" و"القاهرة" منشوراً يدعو الشيوعيين المصريين إلى الاحتفال بالذكرى المئوية لكوميونة باريس من خلال استمرار نضالهم على نهج رفاقهم الفرنسيين السابقين، وفي عام 1915 أصدر "مصطفى المنصوري" كتابه الشهير "تاريخ المذاهب الاشتراكية "والذي دَوَّنَ فيه عدة أفكار شيوعية مصرية خالصة، مثل رفض التماثل الشيوعي الأممي بتأكيده على ضرورة اختلاف آراء الشيوعيين من بلد إلى آخر تبعاً لاختلاف الظروف المحلية والإقليمية المحيطة ببلدانهم، ورفض تقديس البيان الشيوعي الذي كان "كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز" قد سبق أن أصدراه عام 1848 لتوجيه الشيوعيين حركياً على مستوى العالم كله، حيث وصفه "المنصوري" بأنه يتضمن أفكاراً عتيقة تجاوزها الزمن فأصبحت لا تواكب متطلبات العصر، مع رفضه للاتهامات الجزافية الموجهة إلى عموم الشيوعيين المصريين بقوله : "إننا لا نحارب الدين بل نحارب الذين يفسدون الدنيا باسم الدين"، ثم أصدر "نيقولا حداد" عام 1920 كتابه الشهير "الاشتراكية" الذي قال فيه : "إن رأس المال قد استعبد جسد العامل وعقل المفكر ليهضم الغلة الناتجة عن تعبهما فأصبح هناك فريق صغير من الناس يتمتع بثمرات أعمال السواد الأعظم من الناس الذين أصبحوا محرومين من ثمرات أعمالهم، لذلك لابد أن يتمهد السبيل للاشتراكية كضرورة مستقبلية تتملك فيها الأمم كل ثرواتها تحت إشراف الحكومات"، ورغم الضغط العثماني والبريطاني على مفتي الديار المصرية ليصدر في أغسطس عام 1919 فتوى لم تزل قائمة حتى اليوم بأن الشيوعيين ملاحدة كفار مع ما ترتب عليها من آثار عقب فتوى مماثلة لدار الإفتاء العثمانية، فقد أنشأ الشيوعيون المصريون عام 1921 أول أحزابهم السياسية وهو الحزب الاشتراكي بقيادة "سلامة موسى" و"محمَّد عبدالله عنان" و"علي العناني"، ليغير اسمه في العام التالي إلى الحزب الشيوعي تحت قيادة جديدة ضمت "محمود حسني العرابي" و"صفوان أبوالفتح" و"أنطون مارون" وبعضوية حوالي خمسة آلاف شيوعي مصري حسبما ذكرت الوثائق الأمنية، واستمر الوجود العلني للحزب الشيوعي على مختلف الأصعدة الفكرية والسياسية والحركية حتى عام 1924، عندما أصدرت المحكمة العسكرية قراراتها بحله وحظر كافة أنشطته ومصادرة كل مقراته وأملاكه وأمواله وحبس جميع قياداته وكوادره أو طردهم خارج البلاد بعد إسقاط الجنسية المصرية عنهم، ليدخل الشيوعيون المصريون مرحلة العمل السري التي استمرت عشرين عاماً قبل معاودتهم الظهور العلني مرة أخرى في منتصف أربعينيات القرن العشرين، من خلال ثلاثة تنظيمات هي تنظيم "طليعة العمال والفلاحين" بقيادة الرفيق "عباس" (أبوسيف يوسف) وتنظيم "الراية" بقيادة الرفيق "خالد" (فؤاد مرسي) وتنظيم "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" الشهير باسم "حدتو" تحت قيادة الرفيق "يونس" (هنري كورييل)، وهي التنظيمات الثلاثة التي تجاوزت حاجز العشرة آلاف عضو شيوعي مصري أثناء قيادتها للكفاح الوطني المسلح ضد الوجود الاستعماري البريطاني في مصر طوال الفترة الزمنية الممتدة بين عامي 1946 و1952، ثم اتحدت معاً يوم 8 يناير 1958 لتعلن عودة الحزب الشيوعي مجدداً بقيادة عدد من الرفاق المتعاقبين كان آخرهم الرفيق "طارق" (إسماعيل المهدوي)، حتى اضطر الحزب إلى حل نفسه عام 1965 تحت قهر الأحكام العسكرية ليدخل الشيوعيون المصريون مرة أخرى مرحلة عمل سري استمرت عشرة أعوام قبل أن تعاود امتدادات التنظيمات الثلاثة السابقة أنشطتها العلنية وشبه العلنية في منتصف سبعينيات القرن العشرين ولكن تحت أسماء جديدة، حيث أصبح "طليعة العمال والفلاحين" يحمل اسم "8 يناير" ويقوده "طاهر عبدالحكيم" أما "الراية" فأصبح اسمه "العمال" بقيادة "إبراهيم فتحي" في حين ظهرت ثلاثة امتدادات متداخلة لتنظيم "حدتو"، أحدها خارجي تمثله مجموعة "روما" لليهود الشيوعيين المصريين المقيمين بأوروبا والآخر داخلي شبه علني اسمه "الانتصار" والأخير داخلي علني اسمه "التجمع التقدمي" مع بروز اسم الرفيق "حسن" (رفعت السعيد البيومي) كمنسق يبن الامتدادات الثلاثة، وقد نجحت هذه التنظيمات معاً مرة أخرى في تجاوز حاجز العشرة آلاف عضو شيوعي مصري خلال قيادتها للكفاح الاجتماعي الذي بلغ ذروته بانتفاضة يناير عام 1977 ضد الاستبداد والفساد والتبعية لمراكز الاستعمار العالمي!!. (6) رغم أن الحد الأقصى المسموح به للأنشطة الخدمية داخل الاقتصاديات الرأسمالية المركزية العريقة لا يتجاوز الثلث مقابل الثلثين للأنشطة الإنتاجية الصناعية والزراعية والاستخراجية، فقد نجحت الفئات الخدمية الأكثر طفيلية وتبعية بقيادة "جمال" نجل الرئيس "حسني مبارك" عند بداية القرن الواحد والعشرين في توسيع نطاق الأنشطة الخدمية لتستحوذ على ثلثي الاقتصاد المصري مقابل الثلث فقط للأنشطة الإنتاجية، مما أدى إلى المزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية وزيادة المعاناة الاجتماعية للأجراء الفقراء المرتبطين بتلك الأنشطة الإنتاجية والذين يشكلون الأغلبية الجماهيرية المصرية، حيث ارتفعت معدلات البطالة إلى 25 في المائة والتضخم السنوي إلى 15 في المائة فأصبح نصف المصريين يقبعون تحت خط الفقر حسب تقارير الأمم المتحدة، وبمجرد نجاح الفئات الخدمية الأكثر طفيلية وتبعية في احتكار جميع ثروات السوق المصري تحت قيادة "جمال مبارك" أصبح سهلاً عليها أن تحتكر كافة سلطات الدولة والمجتمع لترتفع على نحو غير مسبوق وتيرة الاستبداد والفساد والتبعية تحت حماية الأجهزة الأمنية السيادية وفي مقدمتها المجلس العسكري وبتواطؤ انتهازي من قبل جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، حيث كان قادة الإخوان يسعون إلى سحب البساط تدريجياً من تحت أقدام دولة "مبارك" بعد أن أكملوا سحبه من تحت أقدام المجتمع المصري بينما كان قادة المجلس العسكري ينتظرون وفاة "حسني مبارك" ليضعون أقدامهم المنفردة على بساط الدولة تمهيداً لاستعادتهم بساط المجتمع من تحت أقدام الإخوان المسلمين، إلا أن الرجل العجوز "مبارك" الراغب في توريث الدولة والمجتمع والسوق إلى نجله "جمال" قام بمناورة التفافية على الفريقين الإخواني والعسكري معاً عبر هجوم استباقي من خطوتين، فتراجع جزئياً عام 2006 عن تنفيذ وعده السابق بمنح جماعة الإخوان المسلمين نسبة ثلث مقاعد البرلمان المنصوص عليها دستورياً كحد أدنى ضروري لتعطيل أي قرار أو إجراء حكومي، رغم التزام الإخوان من جانبهم بتنفيذ وعدهم المقابل له عندما أيدوه ضد منافسه الشاب القوي "أيمن نور" خلال انتخابات الرئاسة السابقة المقامة عام 2005، ثم أجرى عام 2007 تعديلات محسوبة بدقة على الدستور لعرقلة أية ترشيحات محتملة من قبل قادة المجلس العسكري ضد نجله "جمال" في انتخابات الرئاسة التالية المقرر إقامتها عام 2011، فتحالف الفريقان الإخواني والعسكري على مضض للإطاحة بعائلة "مبارك" مع تأجيل التنفيذ إلى حين توافر السواتر الجماهيرية المناسبة وهي تلك التي حملتها أحداث يوم 25 يناير 2011، بمجرد اندلاع انتفاضة "ميدان التحرير" تعبيراً عن تنامي الغضب الشعبي ضد استشراء الاستبداد والفساد والتبعية في مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، وبعد ثمانية عشر يوماً من الاعتصام البطولي للجماهير الغاضبة داخل الميدان انقلب قادة المجلس العسكري بدعم إخواني كامل على "حسني مبارك" يوم 11 فبراير 2011، وتولى وزير الدفاع "حسين طنطاوي" حكم مصر ليسلمه لاحقاً يوم 30 يونيو 2012 على مضض للقيادي الإخواني الفائز في الانتخابات الرئاسية "محمَّد مرسي"، قبل أن يستعيد قادة المجلس العسكري حكم مصر مرة أخرى من شركائهم السابقين في جماعة الإخوان بانقلاب عسكري جديد نفذه وزير الدفاع "عبدالفتاح السيسي" يوم 3 يوليو 2013، ليتفاقم الصراع بين توابع المجلس العسكري وأنصار الإخوان المسلمين ومؤيدي نظام "مبارك" وتتصاعد حدته إلى مستويات غير مسبوقة من العنف الدموي المتبادل، ورغم أن القوميين والليبراليين والإسلاميين (غير الإخوان) قد تباينت مواقفهم تجاه تلك التحديات والتطورات والصراعات إيجاباً أو سلباً مع هذا الطرف أو ذاك فتباينت درجات مكاسبهم وخسائرهم، إلا أن الشيوعيين لم يحصدوا سوى الأصفار في كافة الاختبارات التي خاضوها أو امتنعوا عن خوضها ليجدوا أنفسهم بانتصاف عام 2015 معزولين جماهيرياً ومنبوذين نخبوياً ومشوهين سياسياً ومفككين تنظيمياً ومحظورين أمنياً، رغم نضج الظروف الموضوعية العامة المحيطة بهم إلى درجة تلائم أنشطتهم بشكل نموذجي ورغم امتداد خبراتهم الذاتية التاريخية لأكثر من قرن ونصف القرن، ورغم حصولهم على بعض النصائح الثمينة من قبل المراقبين المتألمين لأحوالهم المتردية كمحاولات كاتب هذه السطور الرامية إلى مساعدتهم في إعادة قراءة وتحليل المرحلة الراهنة بشكل صحيح عبر كتاباتي المتعددة، لاسيما كتاب "مصر بين الاستبداد الفرعوني والعولمة الأمريكية" وكتاب "انهيار الدولة المعاصرة في مصر" واللذان لم يكن من باب المصادفة نشرهما في داري نشر تابعتين للحركة الشيوعية المصرية هما "الثقافة الجديدة" و"العالم الثالث" عامي 2000 و 2006 تباعاً، كما لم يكن من باب المصادفة أيضاً أن نصائحي الموجهة إليهم بإعادة النظر في ممارساتهم التنظيمية الخاطئة عبر بحثي المعنون "أزمة الحركة الشيوعية المصرية المعاصرة" سبق نشرها عام 1989 في مجلة "اليقظة العربية" التي يصدرها حزب "التجمع التقدمي"، باعتباره الواجهة العلنية لتنظيم "الانتصار" الشيوعي شبه العلني والواجهة الداخلية لمجموعة "روما" الشيوعية اليهودية الخارجية!!. (7) بدأ ارتباطي التنظيمي بالحركة الشيوعية المصرية عند منتصف سبعينيات القرن العشرين حيث توزعت أنشطتي بين المكاتب النوعية للتثقيف والإعلام والعلاقات الخارجية من جهة وبين العمل الجماهيري ضمن لجان مناطق الجامعة والنقابات المهنية والعاصمة من جهة أخرى، إلى جانب مشاركاتي في إدارة بعض الحملات الانتخابية البرلمانية والمحلية لرفاق القاهرة والجيزة والمنوفية والشرقية بالإضافة إلى مشاركاتي في تأسيس وقيادة بعض المنظمات الموالية مثل لجنة مقاومة التطبيع مع إسرائيل ولجنة رعاية معتقلي الرأي السياسي، دون أن تتوقف عضويتي بصفتي الشيوعية في مجالس إدارات بعض المؤسسات المجتمعية الهامة كاتحاد الطلاب وجمعية خريجي كليات الاقتصاد والعلوم السياسية وأسرة وادي النيل للإخاء المصري السوداني ونقابة التجاريين وغيرها، واستمرت عضويتي داخل الحركة الشيوعية لمدة خمسة عشر عاماً انتقلتُ خلالها بين تنظيماتها الأربعة "8 يناير" و"العمال" و"الانتصار" و"التجمع" كما تصادف أن كل واحدة من زوجاتي الأربع المتعاقبات كانت تنتمي إلى أحد التنظيمات الأربعة المذكورة، مما سمح لي بالرؤية المباشرة متعددة الزوايا لكافة ممارسات الحركة في مرحلتها الثالثة (1975- 1995) إلى جانب اطلاعي عام 1981 خلال هروبي من الاعتقال على الأرشيف التاريخي الموروث عن الحركة في مرحلتها الأولى (1915- 1935) الذي أبلغتني السكرتارية المركزية للتنظيم بوجوده داخل صندوق خشبي ضخم يقبع في قبو سري بمكان اختبائي التابع لأحد قيادات التنظيم، حيث كلفتني السكرتارية المركزية لأسباب لا أعلمها حتى الآن بإعادة توزيع محتويات ذلك الأرشيف على حقائب بلاستيكية صغيرة ثم إلقائها في قاع النيل المجاور تباعاً، وهو التكليف الذي جرى تنفيذه بالفعل مع تعديل طفيف تمثل في قراءتي الفاحصة المدققة لكل ما احتواه الصندوق الأرشيفي من أوراق قبل إعدامها، أما المرحلة الثانية للحركة (1945- 1965) فقد حدثني كثيراً ولسنوات طويلة عن خباياها الحقيقية أبي الرفيق "إسماعيل المهدوي" وأمي الرفيقة "زينات الصباغ" بالإضافة إلى رفاقهما المصريين الأمناء مثل "أبوسيف يوسف" و"فؤاد مرسي" و"طاهر عبدالحكيم" و"إبراهيم فتحي" و"نبيل الهلالي" وغيرهم، أما أول مساعد شخصي للرفيق "هنري كورييل" خلال شبابه في أربعينيات القرن العشرين وهو الرفيق السوداني "عبده دهب" فقد جاورني طوال النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين أثناء عملي كمستشار إعلامي بالسفارة المصرية في السودان، واستمر حتى وفاته يجالسني بالمكتب والمنزل والنادي والمقهى ليفاجئني بما لا يعرفه غيره عن الخبايا الحقيقية لتلك المرحلة، وبينما كان عملي في مجال الإعلام الخارجي الدبلوماسي قد سمح لي بالالتقاء مع نظرائي الممثلين لمختلف حكومات العالم المؤيدة أو المعادية للشيوعية والذين كانت لديهم في الحالتين متابعات جيدة من زوايا مختلفة حول خبايا الحركة الشيوعية المصرية بمراحلها الثلاث، فإن عملي في مجال المعلومات السياسية قد سمح لي برؤية الواقع الحقيقي لتلك الحركة رغم الحرص المحلي والإقليمي والعالمي على إخفائه خلف العديد من السواتر السميكة والأقنعة الزائفة لتجميله أو تشويهه بدوافع انتهازية، لاسيما في ظل استمرار التضليل المعلوماتي الماكر الذي يمارسه الرفاق الشيوعيون المخادعون المختبئون خلف السواتر السميكة والأقنعة الزائفة لينشروا بمهارة حول أنفسهم وحول خصومهم أكاذيب يمكن تصديقها من قبل عوام المصريين البسطاء!!. (8) خلال ارتباطي التنظيمي بالحركة الشيوعية المصرية لمدة خمسة عشر عاماً منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين حتى أواخر ثمانينياته لم يكن تفسيري الشخصي لمعاناة هذه الحركة من إعادة إنتاج أزماتها عبر مراحلها الثلاث مريحاً لي رغم كونه قد أسعد الشيوعيين المحيطين بي، حيث قام على افتراض أن اختلاف ترتيب الأهمية النسبية لتحديات أي مرحلة في حينها بما تبعه من اختلاف ترتيب أولويات التعامل مع تلك التحديات على المحاور الوطنية والديمقراطية والاجتماعية هو الذي أنتج الانقسام الثلاثي المزمن، بين فريق يرى الأولوية للكفاح الوطني باعتبار أنه لا يمكن تحقيق الديمقراطية أو إقامة العدالة الاجتماعية بدون وطن، وفريق آخر يرى الأولوية للكفاح الديمقراطي باعتبار أن الآلية الأمثل لحماية الوطن وإقامة العدالة الاجتماعية هي الديمقراطية، وفريق ثالث يرى الأولوية للكفاح الاجتماعي استناداً إلى اعتبارين هما أنه لا يمكن حماية الوطن أو تحقيق الديمقراطية بدون العدالة الاجتماعية وأن الكفاح الوطني الديمقراطي ليس مسئولية الشيوعيين وحدهم بقدر ما هو مسئولية مشتركة تجمعهم مع الليبراليين والقوميين والإسلاميين، وقد قادني اقتناعي القلق بهذا التفسير الأكاديمي نحو تضييع خمسة عشر عاماً من حسن الظن الساذج بكل الشيوعيين المصريين وكأنهم جميعاً على قدم المساواة في أحلامهم النبيلة ودوافعهم المنزهة عن المصالح الضيقة، كما قادني إلى التعامل الودي المتكافئ بشكل مثالي مع كافة الرفاق المصريين في التنظيمات الأربعة حتى وهم يتصارعون بوضوح حول تلك المصالح الضيقة تحت الشعارات السياسية المخادعة، ثم اتضح لي لاحقاً أن اختلاف ترتيب أولويات التعامل مع تحديات أي مرحلة في حينها على المحاور الوطنية والديمقراطية والاجتماعية، كان ومازال وسيظل قائماً ومؤثراً بشكل فعلي في اختيارات واتجاهات الحركة الشيوعية المصرية لكنه لا يفسر انقسامها الثلاثي المزمن وبالتالي لا يبرر إعادة إنتاج أزماتها عبر مراحلها التاريخية المختلفة، فالحزب السياسي الحقيقي يستطيع التحرك على عدة محاور في الوقت ذاته مع تبديل أولوياتها حسب تطورات الأحداث المحيطة به فور وقوعها لاسيما وأنه لا يوجد تعارض مبدأي أو منفعي بين المحاور الثلاثة الوطني والديمقراطي والاجتماعي، فالمحور الوطني يتعلق بتوسيع نطاق السيادة واستقلال القرار في مواجهة الطامعين الأجانب مع تحرير الأراضي والثروات الوطنية من قبضتهم، بينما يتعلق المحور الديمقراطي بتوسيع نطاق الحريات العامة والشخصية بما فيها حقوق التفكير والتعبير والتمكين لأبناء الوطن أنفسهم، ويتعلق المحور الاجتماعي بتوسيع نطاق المساواة في فرص الأخذ والعطاء الاقتصادي بين مختلف أبناء الوطن عبر تضييق التفاوت وتقليل الفوارق وصولاً إلى إقامة العدالة الاجتماعية، وحتى لو صح أن ذلك الانقسام الثلاثي المزمن هو النتيجة الحتمية لاختلاف ترتيب أولويات الأهمية فهو في حد ذاته ليس السبب وراء إعادة إنتاج أزمات الحركة الشيوعية التي يمكن لتنظيماتها الأربعة العمل بشكل منفصل في المساحات البسيطة محل الاختلاف لتعمل معاً في مساحات الاتفاق الواسعة بشكل جبهوي، فالحزب السياسي الحقيقي يستطيع النجاح خلال عمله داخل الجبهات الاستراتيجية أو التكتيكية أو اللحظية بنفس درجة نجاح عمله المستقل، مع إمكانية الاستثمار الحركي الإيجابي للتنوع الثلاثي القائم بين التنظيمات الشيوعية من أجل توسيع نطاق اجتذاب القوى الأخرى باختلاف أولوياتها تبعاً لاتجاهاتها السياسية حول الشيوعيين المصريين ككل عبر منظماتهم الموالية سواء الوطنية أو الديمقراطية أو الاجتماعية!!. (9) ظهر اليهود في فلسطين العربية كعائلة واحدة عام 1821 قبل الميلاد ولما بلغ عددهم سبعين شخصاً انتقلوا عام 1706 قبل الميلاد إلى مصر الفرعونية التي كان يدير خزائنها آنذاك أخوهم "يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم" وفقاً للتفاصيل التاريخية المعروفة، وإزاء اتساع نطاق الممارسات العنصرية الضيقة لليهود على الصعيدين الديني والدنيوي وإزاء رفضهم الاندماج مع المصريين بدافع الاستعلاء عليهم فقد خلقوا في الأوساط المحيطة بهم حالة من الرفض العنصري المضاد تجاههم، وبمجرد شعورهم بقوتهم بعد تكاثرهم العددي كأقلية انعزالية ومتعالية بدأوا يصطدمون مع أفكار وأفعال ومصالح الأغلبية غير اليهودية من عوام المصريين وكهنتهم وحكامهم، حتى ضاق بهم فرعون مصر فوضع عام 1491 قبل الميلاد خطة لاستئصالهم بقتل البنين واسترقاق البنات من مواليدهم الجدد، مما أجبرهم على الخروج هاربين من مصر نحو الشمال الشرقي بترحيب وتسهيل العوام والكهنة والحكام الراغبين في التخلص منهم على أي وجه، ليعود اليهود عام 1425 قبل الميلاد إلى فلسطين التي تعاقب على حكمها الإغريق ثم الفرس ثم الرومان قبل أن يستردها العرب من أيدي محتليها الأجانب، دون أن يتوقف التعالي الانعزالي اليهودي بما أنتجه من رفض عنيف ومقاومة دموية شرسة لكل محاولات دمجهم سواء مع الأقليات الأجنبية الحاكمة أو مع الأغلبية العربية المحكومة، الأمر الذي أثار غضب المحيطين بهم من الحكام والمحكومين فراحوا يعاملونهم بنفس الشراسة مما أجبر اليهود مرة أخرى على الخروج هاربين من فلسطين صوب مختلف مناطق الشرق الأوسط لاسيما الشام والعراق، وتكررت دورات عودة اليهود إلى فلسطين ثم هروبهم منها عدة مرات على خلفية انعزاليتهم المتعالية حتى ضاقت الشعوب الشرق أوسطية المحيطة أيضاً بممارساتهم العنصرية فهاجروا في العصور الوسطى صوب أوروبا، حيث ما لبثت أن ظهرت نفس المشكلة اليهودية باستمرار تعاليهم الانعزالي الذي دفعهم نحو رفض الاندماج داخل المجتمعات الأوروبية، لاسيما وأن النظام الإقطاعي السائد هناك آنذاك كان يمنح الوظائف والأراضي حصرياً للفرسان والمحاربين السابق تأديتهم القسم بالولاء المسيحي مما رفضه اليهود، واضطروا إلى العمل في مجال التمويل الربوي لاحتياجات الأنشطة الاقتصادية الإقطاعية وهو المجال الذي وفر لهم أرباحاً طائلة على حساب القائمين الأصليين بالأنشطة الممولة فخلق تجاههم حالة كراهية شعبية عامة وعارمة، منحت الغطاء المجتمعي لمحاكم التفتيش الكنسية التي استمرت حتى حلول القرن التاسع عشر في عدة بلدان أوروبية تطارد اليهود والمسلمين والملحدين أيضاً بهدف قتلهم أو سجنهم أو إخراجهم من النطاقات الجغرافية لسلطات تلك الكنائس، ثم تجددت المشكلة اليهودية مع دخول أوروبا عصر الرأسمالية القائم على مجموعة أفكار منها المواطنة المتساوية بشرط الانصهار القومي بين جميع المواطنين ذوي الأعراق والديانات المختلفة، الأمر الذي رفضه اليهود ليس فقط خوفاً من أن تبتلعهم الأغلبيات المسيحية الكبيرة المحيطة بهم داخل البلدان الأوروبية ولكن أيضاً تعالياً عليها، إلا أنهم قبلوه وتجاوبوا معه في بلدان العالم الجديد كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا ونيوزيلاندا القائمة على أساس مجموعات متعددة من الأقليات العرقية والدينية الصغيرة المتباينة، التي استطاع اليهود كأقلية انعزالية متعالية التعامل معها من موقع الأقوى وصولاً إلى اعتلائها جميعاً وبالتالي السيطرة على بلدان العالم الجديد، في حين استمرت المشكلة اليهودية تتفاقم فوق الأراضي الأوروبية حيث ضاق كل طرف بممارسات الآخر فراح يضايقه خصوصاً عقب انتشار الجمعيات السياسية السرية التي سبق أن شكلها اليهود فيما بينهم، للحفاظ على هويتهم الانعزالية المتعالية داخل الأوساط الأوروبية ولضمان استمرار مساعيهم من أجل عودتهم إلى فلسطين باعتبارها أرض الميعاد، دون أن ينسوا يوماً ثأرهم التاريخي تجاه المصريين أحفاد الفراعنة الذين أخرجوهم قبل خمسة وثلاثين قرناً زمنياً من مصر التي مازالوا يعتبرونها أرض الأجداد، لاسيما أن جدهم "إبراهيم" كان قد غادر فلسطين تاركاً فيها جدتهم العراقية "سارة" وابنه منها "إسحق" ليتجه إلى الحجاز بصحبة زوجته المصرية "هاجر" وابنه منها "إسماعيل" حيث استقروا وتناسلوا مع القبائل العربية هناك!!. (10) يوجد جبل "صهيون" في صحراء سيناء المصرية ويعتبره اليهود من مقدساتهم الدينية العليا وفقاً لمزاميرهم التوراتية التي وصفته تباعاً بقولها: ("من صهيون كمال الجمال الله أشرق - مزمور50" و"لأن الله يخلص صهيون ويبني مدن يهوذا ليملكها عبيده ويسكن فيها محبو اسمه - مزمور 69" و"الله معروف في يهوذا واسمه عظيم في إسرائيل ومسكنه في صهيون - مزمور 76" و"استيقظ الرب فضرب أعداءه إلى الوراء ورفض خيمة يوسف وسبط إفرايم واختار جبل صهيون الذي أحبه - مزمور 78" و"الرب عظيم في صهيون - مزمور 99")، لذلك فقد حملت عدة جمعيات يهودية سرية على امتداد العالم اسم "صهيون" لتشكل فيما بينها لاحقاً مجموعة الجمعيات الصهيونية ثم الحركة الصهيونية العالمية، التي استغلت تنامي الميول القومية الناجم عن تبلور الفكر السياسي القومي في بدايات القرن التاسع عشر لفبركة منظومة فكرية احتيالية، مفادها أن الديانة اليهودية هي قومية في حد ذاتها بما يعنيه ذلك من كون اليهود يشكلون أمة تستحق وطناً جامعاً ضمن حدود جغرافية معترف بها عالمياً كدولة سياسية، على أن تمتد حدود الدولة اليهودية المستهدفة بين نهري النيل والفرات لتشمل فيما تشمله فلسطين التي ظهرت على أرضها الديانة اليهودية قبل حوالي أربعين قرناً زمنياً إلى جانب عدة أقاليم أخرى مصرية وشامية بل وعراقية أيضاً، وهي منظومة تناقض القوانين العلمية الأساسية للفكر القومي فيما تشترطه من وجود تاريخي متصل ومستقر فوق رقعة جغرافية ثابتة لجماعة سلالية عرقية واحدة أو موحدة، كانت قد نشأت والتحمت وتطورت على أسس مشتركة من السمات الوراثية والخصائص النفسية والجسمانية في تجلياتها الشكلية والوظيفية والسلوكية ومن الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بما فيها اللغة والدين، حيث لا يجمع اليهود سوى دينهم فهم منقسمون إلى عدة سلالات متباينة تنتمي لأربعة أعراق رئيسية مختلفة هي السابرا والأشكناز والسفارد والفلاشا، وهم منقطعون عن أي ثبات تاريخي فوق أية رقعة جغرافية نظراً لاستمرارهم في الترحال الاختياري والاضطراري المتكرر والمتبادل بين الشام ومصر والعراق قبل انتقالهم خلال العصور الوسطى للإقامة على الأراضي الأوروبية، بخلاف الحقائق الواقعية للقبائل العربية التي كانت قد سبق أن تمددت قبل سبعين قرناً زمنياً من منبعها الأصلي في اليمن نحو الشرق والشمال فاستوطنت أراضي الجزيرة والشام والعراق، وأقامت فوق تلك الأراضي الجديدة عدة حضارات كالآشورية والبابلية والسومرية والفينيقية والكنعانية وغيرها ثم عاودت الاندماج فيما بينها مجدداً منذ حوالي خمسة عشر قرناً ضمن الحضارة الإسلامية، وكذلك الفراعنة الذين استقروا على أرض مصر الحالية بشكل متواصل لمدة سبعين قرن زمني ثم اندمجوا مع جيرانهم العرب ضمن الحضارة الإسلامية قبل حوالي خمسة عشر قرناً، لذلك فقد قوبلت المنظومة الفكرية الاحتيالية التي فبركها الصهاينة برفض عارم وصارم ابتداءً من المفكر اليهودي "كارل ماركس" لاسيما في كتابه الشهير"المسألة اليهودية" الصادر عام 1844 بقوله : "إن اليهود يواجهون القوميات الحقيقية بقومية وهمية حيث إنه لا توجد بينهم سمات مشتركة سوى ديانتهم اليهودية وسلوكهم الجشع في جمع واكتناز الأموال"، وانتهاءً بالميثاق الوطني الفلسطيني الصادر عام 1964 مؤكداً "إن اليهودية دين سماوي وليست قومية كما أن اليهود مواطنون في الدول المختلفة التي ينتمون إليها وليسوا شعباً واحداً وبالتالي فإن قيام دولة إسرائيل باطل من أساسه مهما طال عليه الزمن"، مروراً بعشرات التصريحات الصادرة عن المفكرين الأهم لمختلف الاتجاهات القومية والدينية والليبرالية والشيوعية مثل "فلاديمير إيليتش لينين" مؤسس الحزب الشيوعي السوفيتي والحركة الشيوعية العالمية الحديثة، والذي يكرر الجزءان السابع والثامن من مؤلفاته الكاملة قوله : "إن فكرة القومية اليهودية والأمة المنفصلة لليهود هي فكرة رجعية صريحة لا تقوم على أي أساس علمي بل أنها تناقض كافة الأدلة العلمية التي يقدمها التاريخ القريب والواقع المعاصر"!!. (11) في عام 1897 عقدت الجمعية الصهيونية السرية لليهود المنتمين إلى إمبراطورية النمسا والمجر مؤتمرها العلني الأول في مدينة "بال" السويسرية بمشاركة عدة جمعيات صهيونية أخرى من مختلف أنحاء العالم تحت قيادة "تيودور هيرتزل" رئيس جمعية صهاينة النمسا والمجر، وأسفر المؤتمر عن إعلان ميلاد الحركة الصهيونية العالمية وكشف مساعيها الرامية إلى تحقيق منظومتها الفكرية الاحتيالية المفبركة على أرض الواقع الفعلي، بجمع الأقليات اليهودية المشتتة بين بلدان العالم والدفع بها نحو فلسطين لتتخذها وطناً قومياً يضم الأمة اليهودية ويوحدها تحت اسم" إسرائيل" وهو الاسم الإلهي المختار ليعقوب بن إسحق بن إبراهيم حسبما جاء في الإصحاح رقم 32 من سفر التكوين التوراتي، وذلك كخطوة أولى تمهيدية لإنشاء دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات وعاصمتها "أورشليم القدس"، مع موافقة المؤتمر سراً على حق الصهاينة في استخدام القوة العسكرية المفرطة ضد كل الأطراف ذات الصلة باعتبارها الأداة الرئيسية لتحقيق مساعيهم، وهو ما تم فعلاً عام 1948 بتأسيس دولة إسرائيل المدعومة من قبل الدول الاستعمارية المركزية الكبرى وفي مقدمتها بريطانيا مما أسفر عن اندماج غالبية الجمعيات اليهودية السرية المنتشرة على امتداد العالم داخل الحركة الصهيونية تباعاً، وحيث يفترض نظرياً أن اليهودي غير الصهيوني يرى نفسه مواطناً طبيعياً في الدولة التي ينتمي إليها كغيره من مواطنيها ذوي الديانات والمعتقدات الأخرى له ما لهم وعليه ما عليهم سواء بسواء مع استثناء ممارسته لشعائره الدينية داخل معبده، رغم تعارض ذلك الافتراض النظري مع الأصل اللغوي العنيف لكلمة يهودي ذاتها باعتبارها مشتقة من اسم "يهوذا بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم" الذي أمر الإصحاح رقم 49 في سفر التكوين التوارتي إخوانه بطاعته لكونه أسداً يضرب أقفية الشعوب الأخرى حتى تخضع وتستسلم إلى بني إسرائيل، فإن اليهودي المؤيد لإقامة دولة إسرائيل يكون بالحتم صهيونياً مهما اختلفت الأسماء التي يطلقها هو على نفسه، ومع ذلك فإن بعض اليهود المؤيدين لدولة إسرائيل تأييداً مطلقاً كانوا ومازالوا يصفون أنفسهم كذباً باليهود غير الصهاينة استناداً إلى اختلافهم مع الجسد الأساسي للحركة الصهيونية، حول اعتماده على القوة العسكرية المفرطة كأداة رئيسية لإقامة دولة إسرائيل وتحقيق أطماعها وحماية مصالحها بينما يميلون هم إلى استخدام الأدوات غير العسكرية سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو تنظيمية أو ثقافية لممارسة الضغط والتآمر والخداع تجاه كل الأطراف ذات الصلة، ورغم تسليمنا بأن الفريقين صهيونيان يعملان جنباً إلى جنب دفاعاً عن إسرائيل ولكن عبر أدوات مختلفة فإننا سنضطر لاستخدام الوصف الكاذب الذي يطلقه هؤلاء اليهود الصهاينة على أنفسهم بأنهم "غير صهاينة" فقط لتمييزهم عن أولئك اليهود المعلِنين لصهيونيتهم دون مواربة، وهكذا رفض اليهود "غير الصهاينة" الاندماج داخل الحركة الصهيونية العالمية مع استمرار مساعيهم لتحقيق ذات أهدافها عبر أدواتهم الضاغطة التآمرية المخادعة غير العسكرية، فاخترقوا عدة دوائر عالمية هامة مثل المحفل الماسوني العالمي ومجلس السلام العالمي ومنظمة اليونسكو العالمية وغيرها واستطاعوا قيادتها جميعها لتوجيهها نحو مصلحة إسرائيل كما اخترقوا الحركة الشيوعية العالمية إلا أن نجاحهم في قيادتها وتوجيهها قد تفاوت حسب الظروف والأوضاع الخاصة بكل دولة على حدا، ومن ضمنها مصر التي بلغ عدد اليهود المقيمين على أراضيها عام 1900 خمسة وعشرين ألفاً ارتفعوا عام 1945 إلى مائة ألف يشكل المصريون نسبة خمسة في المائة منهم فقط، بينما كانت النسبة الكاسحة الباقية لليهود الأجانب الوافدين إلى مصر بجمعياتهم السرية الصهيونية و"غير الصهيونية"، ليحمل فريق اليهود الصهاينة من المصريين والوافدين أسلحتهم متجهين مباشرةً إلى فلسطين لإقامة دولة إسرائيل بالقوة العسكرية ويبقى فريق اليهود "غير الصهاينة" من المصريين والأجانب لممارسة كافة أنواع الضغط والتآمر والخداع، التي شملت فيما شملته اختراق الشيوعيين المصريين ومحاولة قيادتهم تمهيداً لاستغلالهم في اختراق الليبراليين والقوميين والإسلاميين حتى يتسنى لليهود توجيه مجمل الحركة السياسية المصرية نحو مصلحة إسرائيل!!. (12) عقد اليهودي "چوزيف روزنتال" في بدايات القرن العشرين عدة اجتماعات ضمت بعض اليهود "غير الصهاينة" داخل مقرات الفرع المصري للمحفل الماسوني العالمي، حيث اتفقوا على تأسيس مجموعة حلقات وخلايا شيوعية سرعان ما اندمجت معاً عام 1921 تحت اسم "الحزب الاشتراكي" الذي غير اسمه في العام التالي 1922 ليصبح "الحزب الشيوعي المصري"، دون حصوله على عضوية الحركة الشيوعية العالمية "الكومنترن" سوى عام 1923 بعد تنفيذه لاشتراطات الكومنترن، المتمثلة في فصل اليهودي "چوزيف روزنتال" من قيادة الحزب مع استبعاد كافة اليهود عن المواقع الحزبية العليا والهامة نظراً لعلاقاتهم الخارجية المشبوهة وأنشطتهم ذات التأثير الضار على الشيوعيين المحليين والإقليميين والعالميين، وفي أربعينيات القرن العشرين قام اليهودي "هنري كورييل" الذي كان قد تسلم الراية من "چوزيف روزنتال" بعقد عدة اجتماعات ضمت بعض اليهود "غير الصهاينة" داخل نفس مقرات الفرع المصري للمحفل الماسوني العالمي، حيث اتفقوا على معاودة تأسيس حلقات وخلايا شيوعية جديدة ما لبثت أن اندمجت فيما بينها عام 1948 تحت اسم تنظيم "حدتو" عقب مشاركاتها المؤثرة في تنظيم "طليعة العمال والفلاحين" المعلن عام 1946 ثم مشاركاتها الأقل تأثيراً في تنظيم "الراية" المعلن عام 1950، وعلى سبيل الأمثلة لا الحصر فقد برزت مع اليهوديَين الشيوعيَين السابق ذكرهما "چوزيف روزنتال" و"هنري كورييل" أسماء اليهود الشيوعيين "راؤول كورييل" و"چورج بواتييه" و"مارسيل إسرائيل شيرازي" و"بول جاكوب دي كومب" و"ريمون إبراهيم دويك" و"هليل شوارتز" و"يوسف موسى درويش" و"ألفريد كوهين" و"عزرا هراري" و"شحاتة هارون" و"ريمون استانبولي" و"صادق سعد" و"هانز بن كسفلت" و"سلامون سيدني" و"إيريك رولو" و"بهيل كوسي أفيجدور" و"ريمون أجيون" و"يوسف حزان" و"ألبير أرييه" كما برزت اليهوديات الشيوعيات "شارلوت روزنتال" و"ماري روزنتال" و"ناعومي كانيل" و"يهوديت حزان" و"هنرييت أرييه" و"جانيت شيرازي" و"چويس بلاو" و"ديدار عدس" و"ناولة درويش" و"ماجدة هارون"، وفي عام 1950 قرر "فؤاد سراج الدين" وزير داخلية حكومة الوفد الليبرالية معاقبة "هنري كورييل" بإسقاط الجنسية المصرية عنه وطرده خارج البلد ومنعه من العودة إليها مدى الحياة نظراً إلى علاقاته الخارجية المشبوهة التي وصلت حد العمل لصالح العدو الإسرائيلي أثناء حربه ضد مصر عام 1948 فيما يتفق مع تحذيرات "الكومنترن" حول أنشطة "كورييل" ذات التأثير الضار على الشيوعيين المصريين أسوة بسلفه "روزنتال"، فسافر "هنري كورييل" إلى روما ومنها إلى باريس حيث أقام وأنشأ عام 1952 تنظيماً سياسياً جديداً لليهود الشيوعيين "غير الصهاينة" المطرودين من مصر والمقيمين في البلدان الأوروبية لاسيما فرنسا وإيطاليا واليونان والذين كان عددهم آنذاك خمسين شخصاً، وأطلق "كورييل" على تنظيمه الجديد اسم مجموعة "روما" واعتبرها الامتداد الخارجي لتنظيم "حدتو" الشيوعي المصري الداخلي بينما أثبت الواقع العملي أن التنظيم المصري هو الذي شكل امتداداً للمجموعة اليهودية، التي تولى "هنري كورييل" رئاستها بنفسه حتى اغتياله الغامض عام 1978 ليخلفه "يوسف حزان" ثم "ديدار عدس" وأخيراً "ألبير أرييه" المقيم حالياً بحي "باب اللوق" في وسط القاهرة واستمر أنصار "كورييل" من الشيوعيين المصريين سواء كانوا يهوداً "غير صهاينة" أو كانوا صهاينة "غير يهود" يتلقون توجيهاته لينفذونها بدقة عسكرية صارمة، وهكذا انضموا إلى "الحزب الشيوعي المصري" عام 1958 ثم قادوا مؤامرة حله عام 1965 ثم عادوا في منتصف سبعينيات القرن العشرين بتشكيل تنظيم "الانتصار" شبه العلني المستتر خلف حزب "التجمع التقدمي" العلني، ليظهر على رأس التنظيم والحزب أنصار "كورييل" من اليهود مثل "يوسف درويش" و"صادق سعد" و"شحاتة هارون" و"ألبير أرييه" ومن غير اليهود مثل الرفيق "حسن" المرتبط بعلاقة غرامية حميمة مع اليهودية "ن.د" التي سنضطر إلى حجب اسمها لاعتبارات النشر!!. (13) انتشرت الفيروسات الصهيونية داخل جسد الحركة الشيوعية المصرية بكافة أحزابها وتنظيماتها وحلقاتها وخلاياها عبر مراحلها التاريخية الثلاث وما بينها ليتمكن الصهاينة من اختراقها دائماً وامتطائها أحياناً، حتى إن معظم النضالات المخلصة والتضحيات الحقيقية لقيادات وكوادر وأعضاء تلك الحركة ذوي الدوافع الوطنية والديمقراطية والاجتماعية النزيهة قد تم توجيهها واستغلالها من قبل الصهاينة بشكل خبيث لصالح أهدافهم المحلية والإقليمية والعالمية غير النزيهة، وفي مقدمتها إقامة دولة إسرائيل فوق الأراضي الفلسطينية ثم تمكينها من الهيمنة على محيطها العربي والإسلامي بالمخالفة لأبسط بديهيات المنطق والتاريخ والجغرافيا، حيث انتصرت الانحرافات الصهيونية الانتهازية على الأحلام الشيوعية النبيلة منذ البدايات المبكرة بنجاح الصهاينة في دفع الشيوعيين المصريين ثم استخدامهم لدفع مجمل الحركة السياسية المصرية نحو تأييد بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى (1914- 1919) ضد دولة الخلافة العثمانية التي كانت مصر لم تزل آنذاك أحد أعمدتها الأساسية، فكافأهم على ذلك "آرثر بلفور" وزير الخارجية ورئيس الوزراء البريطاني بمنحهم عام 1917 وعده الشهير حول مواصلة الجهود لتمكينهم من وطنهم القومي المستهدف فوق أرض فلسطين التي انتزعتها بريطانيا من أيدي الدولة العثمانية، وهو نفس ما كرره الصهاينة مرة أخرى لصالح بريطانيا ضد ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية (1939- 1944) مضافاً إليه بعض الانحرافات الجديدة التي شاهدها وشهد عليها عدد من الشيوعيين المصريين والسودانيين الأسوياء، كالرفيق "إبراهيم فتحي" الذي كشف في كتابه الهام "هنري كورييل ضد الحركة الشيوعية" أن "كورييل" أنشأ في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية ما أسماها "الجبهة المعادية للفاشية" وألحقها بالفيلق اليهودي التابع للجيش البريطاني، وأنه كان يستضيف ضباط جيش الاحتلال البريطاني في مكتبته التجارية الواقعة بوسط "القاهرة" لتسليمهم أبحاثاً عن مختلف الشئون المصرية سبق إعدادها وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية بمعرفة الشيوعيين المصريين الغافلين، حيث وفرت تلك الأبحاث لبريطانيا احتياجاتها المعلوماتية التفصيلية حول مصر ليس فقط باعتبارها أرض معركتها الرئيسية ضد ألمانيا ولكن أيضاً باعتبارها أهم المستعمرات البريطانية، الأمر الذي اعترف به الرفيق "رفعت السعيد البيومي" الموالي لهنري كورييل في كتابه الهام "تاريخ منظمات اليسار المصري" رغم وصفه المخادع لهذا النشاط التجسسي الواضح، بأنه كان يهدف إلى تقديم معلومات مبسطة لضباط جيش الاحتلال البريطاني المقيمين في مصر عن الأوضاع المحيطة بهم لتعريفهم بالحقائق حتى يشاركون المصريين نظرتهم إلى الحياة فيشعرون بالألفة وسطهم، كما كشف "إبراهيم فتحي" أيضاً أن "كورييل" كان يستضيف ضباط جيش الاحتلال البريطاني لمصر في قصره المنيف القائم بحي "الزمالك" القاهري وفي مزرعته الريفية الكائنة بضواحي الجيزة لتقوم سيدات الاستدراج والسيطرة اليهوديات المحترفات بالترفيه الجنسي عنهم، وهو نفس ما أكده لي بخجل شديد المساعد الشخصي لهنري كورييل في تلك الفترة الزمنية الرفيق السوداني "عبده دهب" أثناء جلساتنا النيلية المتواصلة طوال النصف الأول لتسعينيات القرن العشرين خلال عملي كمستشار إعلامي بالسفارة المصرية في "الخرطوم"، موضحاً أن سيدات الترفيه الجنسي اليهوديات كن أحياناً يقدمن أنفسهن وأحياناً أخرى يجلبن سيدات ترفيه مصريات لتقديمهن إلى ضباط جيش الاحتلال البريطاني حسب طلبات الزبائن!!. (14) أقدمت بريطانيا على خطوة استعمارية مزدوجة تكفل استمرار علاقاتها القوية بالحركة الصهيونية مع حل المشكلة اليهودية في القارة الأوروبية دون إغضاب الحكومات الأوروبية الحليفة لبريطانيا، عندما استغلت احتلالها العسكري المباشر لفلسطين في تغيير موازين القوى الديموجرافية والاقتصادية والعسكرية على حساب العرب أصحاب الأرض الأصليين لصالح اليهود المهاجرين إليها بأعداد كبيرة، هرباً من تصاعد الممارسات المعادية لهم مع اتساع نطاقها الجغرافي على أيدي الحكومات والحركات النازية والفاشية المتنامية والمنتشرة في مختلف البلدان الأوروبية والشرق أوسطية، لتمهد تلك الهجرة اليهودية الكثيفة إلى فلسطين الطريق أمام بريطانيا من أجل استصدار قرار الأمم المتحدة رقم 181 عام 1947 بمنح اليهود وطناً قومياً فوق الأراضي الفلسطينية وهو القرار الذي حصل على تأييد الحكومات الأوروبية الراغبة في تخليص بلدانها من عبء المشكلة اليهودية لديها، إلى جانب تأييد الإدارة الأمريكية الخاضعة لسيطرة اليهود بعد نجاحهم في التغلغل داخل الدولة والمجتمع لديها، بالإضافة إلى تأييد الحزب الشيوعي السوفيتي الحاكم في روسيا وتوابعها وحلفائها بعد خداعه من قبل اليهود "غير الصهاينة" المستترين داخل الحركة الشيوعية المصرية لإقناعه بأكذوبة أن إنشاء دولة إسرائيل يحقق مصالح الطبقات العاملة الفلسطينية والمصرية والعربية، الأمر الذي تم كشفه لاحقاً على صفحات كتاب هام نشره أنصار "هنري كورييل" بعد اغتياله تحت عنوان "من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط" متضمناً تصريحاته السابقة غير المنشورة قبل ذلك، ومنها على سبيل المثال قوله : "نحن نؤمن بأن الجماهير اليهودية ستحارب حتى النهاية بعزم وقوة للدفاع عن الوجود الشرعي لدولة إسرائيل وعن حقها في العيش بأمن وسلام دون أن يفرض عليها العالم أوضاعاً لا تقبلها، لذا فنحن نرى أن الأفضل للجماهير الإسرائيلية والفلسطينية معاً هو حل نزاعاتهم البينية سلمياً عن طريق الاعتراف المتبادل بحقوق الطرفين"، وهكذا امتنع اليهود "غير الصهاينة" والصهاينة "غير اليهود" في تنظيم "حدتو" عن دخول حرب فلسطين ضد العصابات الصهيونية التي أقامت دولة إسرائيل عام 1948، ثم كلفوا أعضاء تنظيمهم المزدوجين مع تنظيم "الضباط الأحرار" مثل الرفيق "الحاج" (خالد أمين محيي الدين) و"ثروت عكاشة" و"أحمد حمروش" بالضغط على الرؤساء العسكريين الذين حكموا مصر تباعاً عقب نجاح انقلاب "الضباط الأحرار" في يوليو 1952 لإقناعهم بجدوى السلام مع إسرائيل، وهو نفس ما فعلوه مع أعضاء تنظيمهم داخل مجلس السلام العالمي مثل سكرتيره العام "يوسف حلمي" وخلفه "خالد أمين محيي الدين" وسكرتيره الشخصي "رفعت السعيد البيومي"، كما نجح "كورييل" في توطيد الروابط الخاصة بين أعضاء مجلس السلام العالمي المصريين المشار إليهم ونظرائهم الإسرائيليين مثل "عاموس كانان" و"يوسي عاميتاي" و"يوري أفنيري"، حتى إن "يوسف حلمي" وجه في بدايات عام 1956 خطاباً إلى قادة حركة السلام الإسرائيلية سلمته لهم مجموعة "روما" يحدثهم فيه باسم الدولة المصرية قائلاً : "نحن في مصر نريد السلام معكم فإذا كنتم تريدونه مثلنا يجب أن تسيطروا على دعاة الحرب عندكم"، إلا أن المشاركة العسكرية الإسرائيلية في العدوان الثلاثي على مصر أواخر عام 1956 أوقفت مساعي مجموعة "روما" السلمية المباشرة، لتبدأ مساعيها غير المباشرة التي تمثلت آنذاك في اختراق بعض الحكومات العربية بتلبية احتياجاتها من المستشارين والخبراء والدعم الفني والمالي وصولاً إلى استخدام تلك الحكومات في الضغط على القيادة المصرية للقبول بالتسوية السلمية مع إسرائيل، كالدور السري الذي أدته الحكومة الجزائرية آنذاك وكافأها "هنري كورييل" عليه بمنحها قصره المنيف القائم في حي "الزمالك" القاهري ليكون مقر السفارة الجزائرية بمصر، مع اختراق منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها عبر اثنين من الشيوعيين المصريين تباعاً هما "رءوف نظمي ميخائيل" الذي أصبح اسمه الفلسطيني "محجوب عمر" ثم "سمير چوزيف غطاس" الذي أصبح اسمه الفلسطيني "محمَّد حمزة"، وفي عام 1976 عاودت مجموعة "روما" مساعيها المباشرة حيث عقدت في "باريس" اجتماعاً ودياً تفاهمياً لكسر الحاجز النفسي الحائل دون التسوية السلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بمشاركة "دانييل أميت" و"ماتي بيلد" و"أرييه ألياف" عن الجانب الإسرائيلي مع "عصام السرطاوي" و"أبوفيصل" و"أبوخليل" عن الجانب الفلسطيني مع "هنري كورييل" ونائبه "يوسف حزان" وسكرتيره الشخصي "رفعت السعيد البيومي" كوسطاء عن مجموعة "روما"، وفي أواخر عام 1977 بدأ الرئيس "أنور السادات" مسيرته السلمية نحو إسرائيل بعد أن كان "كورييل" قد أقنعه بأن توابعه داخل مصر سيكافئونه على ذلك بوقف معارضتهم له عقب مشاركتهم في انتفاضة يناير 1977 التي كادت أن تطيح به، وهو ما تم فعلاً عندما أعلن ثلاثة من أعضاء السكرتارية المركزية لتنظيم "الانتصار" هم "محمود توفيق" و"سعد كامل" و"رشدي أبوالحسن" عن وقف معارضتهم للسادات والانتقال مع أنصارهم إلى تأييد مسيرته السلمية نحو إسرائيل، إلا أنه لم ينتقل معهم فعلياً إلى المعسكر الساداتي سوى حفنة قليلة العدد من أنصارهم المعروفين باسم حلقة "روزاليوسف"!!. (15) هناك جماعات تتمسك بشعاراتها السياسية مهما كانت أوضاعها الذاتية والظروف المحيطة بها وهناك جماعات أخرى تسعى لتغيير أوضاعها الذاتية والظروف الموضوعية المحيطة بها لتلائم شعاراتها السياسية، أما الشيوعيين المصريين الموالين لليهود "غير الصهاينة" في مجموعة "روما" والموزعين على ثلاثة امتدادات داخلية لتلك المجموعة هي "حدتو" و"الانتصار" و"التجمع"، فقد استغلوا الشعارات السياسية والأوضاع الذاتية والظروف الموضوعية بشكل انتهازي فج لتحقيق بضع مصالح مباشرة وضيقة على أصعدة المال والسلطة والشهرة والجنس لقادتهم المنحرفين في إطار سعيهم غير المشروع نحو تحقيق مصلحة دولة إسرائيل، فدفعتهم انتهازيتهم إلى التواطؤ الذيلي مع الحكام المتعاقبين دون بذل الجهد الواجب من أجل نصحهم ومراجعة أخطائهم كما دفعتهم إلى النفاق الشعبوي لعوام المصريين دون بذل الجهد الواجب من أجل توعيتهم وتصحيح مفاهيمهم، ليقعوا ويوقعوا معهم بقية مكونات الحركة الشيوعية المصرية في فخ الانحرافات القاتلة على المحور الاجتماعي، ابتداءً بالقراءة والتحليل الخاطئين للتطورات الاقتصادية المحيطة وصولاً إلى طرح البدائل الخاطئة في مواجهتها، مروراً بالخلط الجاهل حيناً والعمدي أحياناً بين الرأسمالية الوطنية الديمقراطية الحقيقية سواء كانت ذات آفاق اجتماعية أم لا وبين الأنواع الأخرى من الرأسمالية المعادية للوطن والديمقراطية، مثل فئة الرأسمالية البيروقراطية التي قادت الاقتصاد في عهد الرئيس "جمال عبدالناصر" وفئة الرأسمالية الطفيلية التي قادت الاقتصاد في عهد الرئيس "أنور السادات" وفئة الرأسمالية التابعة التي قادت الاقتصاد في عهد الرئيس "حسني مبارك"، وكذلك الفئتين الرأسماليتين المشوهتين المعبرتين عن المؤسسة العسكرية من جهة وجماعات الإسلام السياسي من الجهة الأخرى واللتين تتصارعان فيما بينهما على الاقتصاد المصري منذ فبراير 2011 حتى الآن، مع الإنكار الجاهل حيناً والعمدي أحياناً لمعاناة الكتلتين الأكبر من حيث الكثافة العددية داخل المجتمع المصري وهما كتلة الفلاحين وعمال الزراعة وغيرهم من الأجراء الفقراء المرتبطين بالأرض وكتلة العاطلين عن العمل، وهكذا اختلطت خرائط وجداول التحالفات والمخاصمات الاجتماعية الواجب اتخاذها على المستويات الاستراتيجية والتكتيكية واللحظية فتعثرت القرارات والخطوات السياسية الواجب اتخاذها على محاور الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، لتفقد الحركة الشيوعية المصرية بوصلتها وهويتها المميزة كمدافع جذري عن حقوق ومصالح السواد الأعظم من جماهير الشعب المصري فتتراجع تدريجياً من موقعها الثوري الافتراضي إلى الموقع السياسي ثم للموقع الإصلاحي حتى تقبع أخيراً في الموقع المطلبي الذليل، لاسيما وأن المفكرين الانتهازيين لهذه الحركة قد تكاسلوا عمداً عن إجابة الأسئلة النظرية المثارة حول ماهية نمط وعلاقات الإنتاج السائدين في مصر عبر التاريخ، من حيث كونهما أقرب إلى النموذج الشرقي الآسيوي أم أنهما يشكلان نموذجاً فرعونياً مختلفاً يستدعي اجتهاداً معرفياً خاصاً، إلا أن أبرز تجليات انتهازية الشيوعيين المصريين من اليهود "غير الصهاينة" والصهاينة "غير اليهود" تتضح على المحور الديمقراطي قبل وبعد تأسيسهم لمجموعة "روما" بامتداداتها الداخلية الثلاثة المتمثلة في حركة "حدتو" وتنظيم "الانتصار" وحزب "التجمع"، حيث تكشف متابعة ممارساتهم تجاه الاستبداد والفاشية والتطرف عالمياً وإقليمياً ومحلياً مدى انتهازيتهم التي بدأت مبكراً بمعارضتهم للفاشيات العثمانية والألمانية والإيطالية واليابانية الغاشمة المعلنة، دفاعاً عن مصالح حلفائهم ذوي الفاشيات الماكرة المستترة في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وصولاً إلى حماية مصالح إسرائيل ذات الفاشية الأبشع على امتداد التاريخ والجغرافيا، مع تأييدهم في الوقت ذاته بدافع من انتهازيتهم لعدة فاشيات غاشمة معلنة أخرى سواء على المستوى العالمي مثل تلك التي قامت في الاتحاد السوفيتي والصين ودول شرق أوروبا أو على المستوى الإقليمي مثل تلك التي قامت في الجزائر واليمن الجنوبية وإثيوبيا، أما على المستوى المحلي المصري فقد تجاوزت انحرافاتهم الانتهازية تجاه الاستبداد والفاشية والتطرف كل خطوط الخطر الحمراء!!. (16) بعيداً عن الدعاية الديمقراطية المخادعة والكاذبة فقد اتخذت الممارسات الواقعية لمجموعة "روما" بامتداداتها الداخلية الثلاثة عدة أشكال انتهازية فجة تجاه الاستبداد والفاشية والتطرف في الساحة المصرية، كان على رأسها ترقية الأعضاء الذين تربطهم علاقات عائلية وشخصية وثيقة بقادة وكوادر القوى الفاشية المحلية لاستخدامهم ليس فقط كأدوات تجسس وضغط ولكن أيضاً كقنوات اتصال وتنسيق سرية علوية مع تلك القوى، مثل "عادل حسين" شقيق "أحمد حسين" رئيس حزب "مصر الفتاة" الفاشي و"تحية كاريوكا" زوجة "مصطفى كمال صدقي" الرئيس الميداني لجمعية "الحرس الحديدي" النازية و"أحمد نجيب فخري" السكرتير الخاص لرئيس الحزب الوطني الفاشي "فتحي رضوان"، و"أحمد طه" شقيق "عبدالقادر طه" الكادر النشط في جمعية "الحرس الحديدي" و"ماجدة رفاعة" شقيقة "محمَّد رفاعة" الكادر النشط في جماعة "الإخوان المسلمين" و"علي الديب" شقيق الطيار "رضا الديب" زميل دفعة الرئيس "حسني مبارك" بالكلية الجوية وأحد أصدقائه، وكذلك الرفيق "حسن" (رفعت السعيد البيومي) الذي كان سكرتيراً خاصاً لعضو تنظيم "الضباط الأحرار" "خالد أمين محيي الدين" وأيضاً الرفيق "سميح" (حسين محمَّد عبدالرازق) الذي كان سكرتيراً خاصاً لعضو تنظيم "الضباط الأحرار" "كمال الدين رفعت" وغيرهم، إلى جانب توسيع نطاق "الغواصات" وهم الأعضاء المزدوجين الذين يحتفظون في الوقت ذاته بعضوية القوى الفاشية المحلية المختلفة ليتم استخدامهم ليس فقط كأدوات تجسس وضغط ولكن أيضاً كقنوات اتصال وتنسيق سرية قاعدية مع تلك القوى، دون أن تسلم من شرورهم الأحزاب والتنظيمات والحلقات والخلايا الشيوعية الأخرى لاسيما "طليعة العمال والفلاحين" و"الراية" ثم "8 يناير" و"العمال"، إلا أن أهم "غواصات" مجموعة "روما" بامتداداتها الداخلية الثلاثة تمثلت في ضباط الجيش أعضاء قسم "البيادة" داخل حركة "حدتو" المنضمين إلى تنظيم "الضباط الأحرار" باعتباره الامتداد المعدل لجمعية "الحرس الحديدي" النازية، والذين شاركوا في تنفيذ انقلاب 23 يوليو1952 ثم اشتركوا في إدارة المرحلة الأولى من جمهورية الخوف التي أقامها "الضباط الأحرار" بانضمامهم إلى مجلس قيادة الثورة حتى ضاق الرئيس "جمال عبدالناصر" بازدواجيتهم وطلب منهم الاختيار بين هذا أو ذاك، علماً بأن قسم" البيادة" كان يرأسه الضابط "عثمان فوزي" زوج اليهودية "ديدار عدس" ويضم عدداً كبيراً من الضباط أبرزهم "خالد أمين محيي الدين" و"يوسف صديق" و"رشاد مهنا" و"عبداللطيف البغدادي" و"أحمد فؤاد" و"ثروت عكاشة" و"أحمد حمروش" و"كمال الدين رفعت" و"وجيه أباظة" و"عبدالمجيد نعمان" و"لطفي واكد" و"محسن لطفي السيد" و"محمود المناسترلي" و"منير موافي" و"أحمد قدري" و"شوقي فهمي حسين" و"آمال المرصفي" وغيرهم، بالإضافة إلى العشرات من ضباط الصف الذين كان يقودهم المساعد فني طيران "سيد سليمان رفاعي" تحت رئاسة "عثمان فوزي" زوج "ديدار عدس"، لذلك فإنه رغم المعارضة المبدأية الصريحة التي أعلنها الشيوعيون المستقلون في تنظيم "طليعة العمال والفلاحين" وتنظيم "الراية" تجاه انقلاب "الضباط الأحرار" بما أعقبه من حكم عسكري فاشي لم يتوقف تنظيم "حدتو" عن تأييد الانقلاب ودعوة الشيوعيين الآخرين للحذو حذوه، حتى اضطر للتراجع تحت ضغط مطالبة "عبدالناصر" لأعضاء قسم "البيادة" بالاختيار بين أحد التنظيمين من جهة وضغط الكوادر والأعضاء غير العسكريين الرافضين لممارسات الحكم العسكري الجديد من جهة أخرى، فاعتذر "حدتو" عن موقفه المؤيد للضباط الأحرار باعتباره خاطئاً وليس انتهازياً حسب بيانه المنشور في سبتمبر عام 1953 بمجلة "الكفاح" والذي تضمن قوله: "إن موقفنا السياسي الخاطئ إزاء حركة الضباط أدى بنا إلى فهم خاطئ لطبيعة التحركات التي كان يجب علينا القيام بها في مواجهتها"، دون أن تتوقف اتصالات "حدتو" السرية المتزامنة مع جناحي الحكم آنذاك اللواء "محمَّد نجيب" رئيس الجمهورية والعقيد "جمال عبدالناصر" رئيس الوزراء حتى أطاح عبدالناصر بنجيب عام 1954، فعاود التنظيم ألاعيبه بتحميل "محمَّد نجيب" وحده مسئولية الممارسات الفاشية السابقة تمهيداً لإعلان تأييد حكم "جمال عبدالناصر" المنفرد رغم سقوط عشرات الشهداء الشيوعيين بمن فيهم أعضاء "حدتو" وأنصاره داخل سجون "عبدالناصر"، ولأن الطبع الانتهازي غلّاب فقد استمرت مجموعة "روما" بامتداداتها الداخلية الثلاثة في تأييدها الانتهازي الانتقائي المرتبط بمصلحة إسرائيل لأنظمة الحكم الفاشية المستبدة المتواصلة في عهود الرؤساء العسكريين المتعاقبين "أنور السادات" و"حسني مبارك" و"حسين طنطاوي"، وهو نفس ما كررته أخيراً مع "عبدالفتاح السيسي" الذي كان وزيراً للدفاع ثم تولى حكم مصر يوم 3 يوليو 2013 بعد نجاح انقلابه العسكري على رئيس الجمهورية الإخواني المنتخب "محمَّد مرسي"، رغم أن "السيسي" كشف مبكراً كراهيته للشيوعيين بإصداره في أسابيع حكمه الأولى لائحة تضم أسماء الأحزاب والتنظيمات والحركات والجماعات السياسية المحظورة أمنياً ومن بينها الشيوعيين المستقلين والموالين لمجموعة "روما" سواء بسواء!!. (17) استمر الشيوعيون المصريون المستقلون يعارضون التطرف الفاشي لجماعات الإسلام السياسي كالإخوان المسلمين والسلفيين والجهاديين منذ بداياته المبكرة بشراسة وإصرار، دون أن يتجاوزوا المبادئ الوطنية الديمقراطية الشريفة التي تحافظ على حياة الخصوم وحرياتهم وحقوقهم في التفكير والتعبير والتمكين أثناء الاختلاف معهم، رغم استمرار تلك الجماعات في أفعالها وردود فعلها الإرهابية والاستئصالية والإقصائية تجاه الشيوعيين المستقلين بغباء منقطع النظير، بينما استمرت الممارسات الانتهازية الفجة لمجموعة "روما" بامتداداتها الداخلية الثلاثة المتمثلة في "حدتو" و"الانتصار" و"التجمع" تجاه جماعات الإسلام السياسي الفاشية المذكورة، ابتداءً بمحاولة استيعابها داخل الأنشطة الجبهوية المختلفة والمتعددة لامتطاء أكتافها والاستفادة من اتساع قواعدها الشعبية مروراً باختراقها عبر "الغواصات" الشيوعية المستترة، وانتهاءً بحيلة إشهار الإسلام التي لجأ إليها "هنري كورييل" ذاته عندما أسلم بين أيدي "صفوان أبوالفتح" عضو السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي المصري الأول في حضور مساعده الشخصي السوداني "عبده دهب"، لكن" كورييل" سرعان ما تراجع عن تلك الحيلة خوفاً من تأثيرها السلبي على تطلعاته ومناوراته الأممية تاركاً إشهار الإسلام لغيره من اليهود الشيوعيين المصريين "غير الصهاينة" مثل "يوسف درويش" و"صادق سعد" وغيرهما، إلا أن فشل مجموعة "روما" في الحصول على غرضها الانتهازي بامتطاء أكتاف جماعات الإسلام السياسي الفاشية قد دفعها إلى الممارسات النقيضة حيث أوغلت في معارضة فاجرة غير مبدأية ضد تلك الجماعات، ليجعل أعضاء المجموعة وتوابعها من أنفسهم مجرد "مخلب قط" بأيدي الراغبين في محاربة جماعات الإسلام السياسي أو مناوشتها على الأصعدة العالمية والإقليمية والمحلية، لاسيما أولئك الذين لا يقلون عن تلك الجماعات في استبدادها وتطرفها الفاشي، وقد نجح أسلوب "مخلب القط" بالنظر إلى آفة الغباء المفرط والمزمن لجماعات الإسلام السياسي التي شنت حرباً تكفيرية طائشة ضد جميع الشيوعيين المصريين سواء كانوا من توابع مجموعة "روما" أو المستقلين عنها، دون تمييز بين الخصم الشيوعي المبدأي ومخلب القط الانتهازي ودون انتباه لحقيقة أن الخطر الداهم عليها يكمن فيمن يحرك مخلب القط على هواه والذي أدركت الجماعات مؤخراً ومتأخراً أنه المجلس العسكري، وفي سياق أسلوب "مخلب القط" نشرت جريدة "الأهالي" الناطقة بلسان حزب "التجمع" على صفحات عددها الصادر يوم 5/8/1992 بياناً سياسياً يمهد للحملة الأمنية القمعية التي كانت مؤسسات "حسني مبارك" العسكرية قد شرعت في شنها ضد بعض تلك الجماعات، بقوله : "قد آن الأوان لأن تحزم الدولة المصرية أمرها وتوحد جهود قياداتها وأجهزتها وتستعين بالدول الأخرى الصديقة لاتخاذ الإجراءات العاجلة الحاسمة التي تكفل القضاء على الإرهاب الأسود لجماعات الإسلام السياسي"، رغم أن سجون "مبارك" استمرت تستضيف بعض الشيوعيين المستقلين عقاباً لهم على انتماءاتهم الفكرية وآرائهم السياسية بينما لم تنجح إجراءاته المعادية لجماعات الإسلام السياسي سوى في تمكين تلك الجماعات من سحب بساط المجتمع ثم سحب بساط الدولة من تحت أقدامه، وامتداداً لأسلوب "مخلب القط" نفسه عادت جريدة "الأهالي" ذاتها ونشرت على صفحات عددها الصادر يوم 8/7/2015 بياناً سياسياً يدافع عن قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة2015 رغم كونه يمنح المؤسسة العسكرية أغطية إضافية لوأد مساحات حرية التعبير الضيقة المتبقية، كما يمنحها حق البطش ليس فقط بالإخوان المسلمين والجهاديين المستفيدين من تلك المساحات ولكن أيضاً بالليبراليين والشيوعيين المستقلين المدافعين عنها في إطار مكافحتهم الحقيقية للإرهاب، والذين اتهمهم البيان بأنهم إما عملاء أو أغبياء أو مغرر بهم يتشدقون زوراً بالديمقراطية وحقوق الإنسان مهدداً إياهم بإعادتهم إلى الأقبية التي طالما سكنوها، علماً بأن قانون مكافحة الإرهاب كان قد صدر دون أدنى التفات للاعتراضات الحقوقية والسياسية الهامة المبداة حول بعض بنوده، لاسيما المواد أرقام 5 و6 و33 التي تعاقب كل من يشرع في ارتكاب جريمة أو يساعد على الشروع في ارتكابها حتى لو لم تقع الجريمة بالإعدام مع معاقبة كل من يعلم ولا يبلغ السلطات عن التحضير لارتكاب جريمة حتى لو لم تقع الجريمة بالحبس والغرامة، والمواد أرقام 6 و28 و35 التي تعاقب كل من يقوم بالتحريض العلني أو غير العلني على استخدام العنف أياً كانت وسيلة التحريض حتى لو كان تحريضاً عاماً وحتى لو لم يترتب عليه أى أثر بالإعدام، مع معاقبة كل من يروج أو يعد للترويج بالقول أو بالكتابة أو أية وسيلة أخرى مباشرة أو غير مباشرة للأفكار الداعية إلى استخدام العنف بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات، ومعاقبة كل من ينشر أو يذيع أخباراً تخالف البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الدفاع بغرامة نصف مليون جنيه وبالمنع من مزاولة المهنة لمدة سنة، إلى جانب المادة رقم 8 التي تعفي القائمين على تنفيذ قانون مكافحة الإرهاب من أية مسئولية جنائية عند استعمالهم للقوة ضد المواطنين في مقابل المادة رقم 27 التي تعاقب كل من يقاوم أحد أولئك القائمين على تنفيذ القانون بالإعدام، وذلك بعد أن كانت جريدة "الأهرام" الرسمية قد نشرت على صفحات عددها الصادر يوم 9/6/2015 تصريحاً سياسياً أدلى به الرفيق "رفعت السعيد البيومي" المنسق العام بين مجموعة "روما" وتنظيم "الانتصار" وحزب "التجمع"، لتبرير الحملة الأمنية القمعية المتواصلة من قبل مؤسسات "عبدالفتاح السيسي" العسكرية ضد الإخوان والجهاديين بقوله : "لقد أيدنا ومازلنا نؤيد جميع الإجراءات التي اتخذها السيسي قبل وبعد اعتلائه السلطة في 3/7/2013 باعتبارها المخرج الوحيد للتخلص من جماعات الإسلام السياسي التي كان من المحتمل أن تتعامل مع خصومها بعنف شديد"، رغم أن سجون "السيسي" استمرت تستضيف بعض الشيوعيين المستقلين عقاباً لهم على انتماءاتهم الفكرية وآرائهم السياسية بينما لم تنجح إجراءاته المعادية لجماعات الإسلام السياسي سوى في نقل عنف تلك الجماعات من خانة "المحتمل" إلى أرض الواقع الفعلي!!. (18) أعلن فلول تنظيم "حدتو" الشيوعي من توابع مجموعة "روما" للشيوعيين المصريين اليهود المقيمين بالخارج عن تأسيسهم لتنظيم شيوعي مصري جديد اسمه "الانتصار" عقب اجتماعهم عام 1975 في العاصمة اللبنانية "بيروت"، تحت رئاسة مؤسس المجموعة "هنري كورييل" الذي كان لم يزل ممنوعاً من دخول الأراضي المصرية على خلفية اتهامه بالتعاون مع "إسرائيل" أثناء حرب عام 1948، وفي نفس التوقيت قام رئيس الجمهورية آنذاك "أنور السادات" بتوليد حزب "التجمع التقدمي" اليساري قيصرياً من رحم الامتداد الطبيعي لتنظيم "الضباط الأحرار" المسيطر على الدولة والمجتمع والمعروف باسم "الاتحاد الاشتراكي" ليضم الأعضاء المزدوجين بين اليسار والضباط الأحرار وتوابعهم، وقد تعمد تنظيم "الانتصار" وحزب "التجمع" الجديدان معاً أن يقتصر البيان التأسيسي لكلّ منهما على مطالب عامة وعبارات مبهمة وشعارات غامضة كمناورة تهدف إلى إخفاء هويتهما الحقيقية باعتبارهما امتدادين لمجموعة "روما" وتنظيمي "حدتو" و"الضباط الأحرار"، كما حصل التنظيم والحزب الجديدان معاً على دعم أجهزة الأمن السياسي التي منحتهما كل التسهيلات اللازمة عساهما يلبيان احتياجها الضروري لاستيعاب المد الثوري الشبابي المتصاعد في صفوف الحركة الشيوعية المستقلة عن مجموعة "روما" بسرعة صاروخية منذ هزيمة يونيو 1967، والمتجمع في خلايا وحلقات عديدة منظمة داخل وحول تنظيمي "8يناير" و"العمال" الشيوعيَين والذي بلغ ذروته عند اندلاع انتفاضة 18يناير1977 الجماهيرية الاحتجاجية ذات الأبعاد الاجتماعية بما شكلته من تهديد جاد لاستمرار جمهورية الخوف الأولى التي كان الضباط الأحرار قد أقاموها منذ عام 1952، حيث اقتضت احتياجات تلك الأجهزة في حينه اختراق المد الثوري الشبابي الشيوعي أولاً من خلال التنظيم والحزب الجديدين، تمهيداً للسيطرة على هؤلاء الشباب المستقلين محدودي الخبرات عبر احتوائهم أو تشتيتهم أو استدراجهم نحو أفخاخ المواجهات البينية العدائية أو إزالتهم بالتصفية الجسدية أو غيرها من شرور السيطرة المعروفة والمبتكرة، وبينما اختار "أنور السادات" زميله السابق في تنظيم "الضباط الأحرار" "خالد أمين محيي الدين" لرئاسة حزب "التجمع التقدمي" بمعاونة بعض الضباط الآخرين مثل "كمال الدين رفعت" و"لطفي واكد" و"أحمد حمروش", فقد اختار "هنري كورييل" لرئاسة تنظيم "الانتصار" المحامي النوبي الرفيق "صلاح" (زكي مراد إبراهيم) بمعاونة سكرتارية مركزية تضم أغلبية من توابع مجموعة "روما" في مقدمتهم الرفيق "حسن" (رفعت السعيد البيومي) مع أقلية من المستقلين غير المعادين للمجموعة في مقدمتهم الرفيق "أحمد" (نبيل نجيب الهلالي) القادم من حلقة "الشروق"، وكان اختياراً ماكراً ليس فقط لاستمرار علاقات "زكي مراد" التنظيمية التاريخية مع اليهود الذين يصفون أنفسهم بأنهم "غير صهاينة" إلى جانب الصهاينة "غير اليهود" في أوساط الحركة الشيوعية المصرية منذ أربعينيات القرن العشرين دون انقطاع، حتى أنه أصبح عام 1953 عضو السكرتارية المركزية في الوقت ذاته لكلّ من تنظيم "حدتو" التابع لمجموعة "روما" ولجنة أنصار السلام المصرية التابعة لمجلس السلام العالمي الخاضع للمجموعة، ولكن أيضاً بالنظر إلى كون "مراد" أحد القلائل المقبولين لدى قدامى الشيوعيين المستقلين وشبابهم الثوري من بين فلول "حدتو" الملتفين حول مجموعة "روما" لعدم تورطه شخصياً في انحرافاتها العميقة بشكل مكشوف!!. (19) مع حلول عام 1979 قرر تنظيم "الانتصار" عقد مؤتمره الأول في غضون العام التالي لتثبيت رئاسة "زكي مراد" ونظراً لأن رئيس الجمهورية "أنور السادات" كان يرغب في اختيار جميع معارضيه بنفسه فقد أرسل عبر زميله "خالد محيي الدين" يستدعي "مراد" لمقابلته، بهدف الاطمئنان إلى مدى طاعته ومن ثم استحقاقه للتثبيت على رأس التنظيم في مؤتمره الوشيك ولكن رد "زكي مراد" كان رفضاً قاطعاً للمقابلة أثار ضده غضب "أنور السادات" وأجهزته, وعقب ذلك بأسابيع قليلة تجاوب "مراد" مع المستقلين من قدامى الشيوعيين وشبابهم الثوري لإفشال زيارة الرئيس الإسرائيلي "إسحق نافون" إلى "القاهرة"، مما أثار ضده غضب اليهود الصهاينة وغير الصهاينة وتوابعهم الصهاينة غير اليهود بمن فيهم بعض أعضاء السكرتارية المركزية لتنظيم "الانتصار"، فتم اعتقال "زكي مراد" ثم جرى إطلاق سراحه تمهيداً لتنفيذ سيناريو تفكيك سيارته الخاصة الذي أدى إلى مصرعه في الأيام الأخيرة من عام 1979 وهو ذات السيناريو الذي تمت إعادته بحذافيره للتخلص من الرفيق "خالد" (فؤاد مرسي) بعد عشرة أعوام، وكان يمكن استمرار تكراره لاصطياد قادة وكوادر الحركة الشيوعية واحدهم تلو الآخر لولا أن ضابط مكافحة الشيوعية المشرف على تنفيذه (م.ش.خ) قد لقيَ مصرعه بنفس الطريقة مما أربك زملائه لدرجة توقفهم عن تنفيذ ذلك السيناريو الدموي ولو إلى حين، أما المؤتمر الأول لتنظيم "الانتصار" فقد انعقد عام 1980 بدون رئيس وأنهاه توابع مجموعة "روما" بدون اختيار رئيس جديد، كمناورة للالتفاف على اتساع نطاق غضب شباب التنظيم المستقلين عن المجموعة إزاء إعادة إنتاج نفس الانحرافات السابقة من قبل أعضاء السكرتارية المركزية التابعين لمجموعة "روما"، الأمر الذي كان قد أسفر لتوه عن سلسلة انشقاقات مؤثرة متتالية أبرزها انشقاق حلقة "المطرقة" بقيادة الرفيق "إبراهيم نوار" عام 1977 ثم انشقاق حلقة "المؤتمر" بقيادة الرفيق "علي الديب" عام 1978، وخلال انعقاد المؤتمر الأول لتنظيم "الانتصار" كانت أنظار أعضاءه الشباب المستقلين الغاضبين قد اتجهت نحو الرفيق "نبيل الهلالي"، إلا أن مجموعة "روما" لم توافق على رئاسته لعدم اطمئنانها إلى موالاته لها بالقدر الكافي رغم ملاصقة أحد قياداتها وهو اليهودي "يوسف درويش" للرفيق "الهلالي" كظله على مدار الساعة، فاضطر الشباب إلى فرض "نبيل الهلالي" كرئيس فعلي للتنظيم بجانب موقعه الرسمي كعضو السكرتارية المركزية المسئول عن العمل الجماهيري، وبدافع من استمرار رغبته في اختيار معارضيه بنفسه عاود الرئيس "أنور السادات" محاولة تكرار نفس اختبارات الطاعة مع رئيس "الأمر الواقع" الجديد لتنظيم "الانتصار" ولكن عبر خطة استدراج ماكر وغير مباشر رسمتها له أجهزة الأمن السياسي، حيث اجتمع "أنور السادات" في بداية عام 1981 بأعضاء مجلس إدارة رابطة المصريين خريجي المدارس الأمريكية والذين كان أبرزهم "الهلالي" ليطلب منه "السادات" خلال مصافحة الوداع البروتوكولية بعد انتهاء الاجتماع البقاء حتى يقابله منفرداً، وعلى الفور قام الحرس الجمهوري بتطويقه لمنع مغادرته واحتجزوه وحده داخل قاعة الاجتماع الخالية عدة ساعات ولكن رد "نبيل الهلالي" كان رفضاً قاطعاً للمقابلة أثار ضده غضب "السادات" وأجهزته، فتم اعتقال "الهلالي" في منتصف عام 1981 تمهيداً لتنفيذ أحد سيناريوهات التصفية حياله إلا أن اغتيال "أنور السادات" نفسه يوم 6أكتوبر1981 أنقذ حياة "نبيل الهلالي" ولو إلى حين حيث لقيَ مصرعه بعد حوالي عشرين عاماً إثر اصطدام رأسه بجسم صلب داخل أحد مستشفيات القاهرة، وعلى الجانب المقابل كانت المناورات الماكرة للرفيق "رفعت السعيد البيومي" قد نجحت في إظهار مرونته وطاعته وتجاوبه مع كافة الاحتياجات الضرورية والعادية والتافهة لجميع كبار وصغار المسئولين على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، مما صعد به إلى رأس تنظيم "الانتصار" ثم حزب "التجمع" تباعاً تمهيداً لاعتلائه أكتاف الحركة الشيوعية المصرية برمتها كضابط اتصال بينها وبين الدولة وهو الموقع المسئول رسمياً عن استدراج كل الشيوعيين لإجبارهم على النوم في أحضان كل أعدائهم!!. (20) جلب اليهود الشيوعيون المصريون "غير الصهاينة" أعضاء مجموعة "روما" أموالاً طائلة من مصادرهم اليهودية العالمية تباعاً لدعم أنصارهم داخل الحركة الشيوعية المصرية من الصهاينة "غير اليهود" بسخاء يكفل تمكينهم من تخطي الشيوعيين المستقلين، حتى لو اضطروا للاستعانة في ذلك بالانتهازيين المتحولين من الاتجاهات الليبرالية والقومية والدينية عبر إغداق الأموال عليهم، وهكذا استمرت مجموعة "روما" تنعم بميزة التناغم كأي تنظيم عصابي نموذجي بينما أسفرت محاولاتها لتمكين أنصارها على حساب الشيوعيين المستقلين داخل الحركة الشيوعية المصرية عن ظهور مزمن لعدة فيروسات قاتلة وأوبئة فتاكة، مثل الانقطاع الزمني والشللية والبيروقراطية والانقسام العدائي والولاء الشخصي وتخوين الخصوم والكسل الحركي واتساع نطاق الاختراقات الأمنية لتشمل كافة الأنشطة والمواقع والمستويات، مع غياب الناصحين الراشدين أو تغييبهم لو كانوا حاضرين أو منعهم من تأدية أدوارهم التاريخية لو حاولوا التصدي الحقيقي للمشكلات التنظيمية القائمة بهدف حلها، وهو ما يتضح على سبيل المثال لا الحصر من خلال استعراض خبايا وقائع المؤتمر الثاني لتنظيم "الانتصار" المنعقد عام 1984 في فيللا اليهودي "ألبير أرييه" بالإسكندرية، حيث قام الرفيقان "الحاج" و"حسن" تنفيذاً لنصيحة أجهزة الأمن بإعداد تحليل سياسي عنوانه "نحو طور جديد لحزبنا" يدعو الشيوعيين إلى المزيد من الاقتراب الودي الإيجابي تجاه نظام حكم "حسني مبارك"، ثم قاما بتسليمه للرفيق "صبحي" (مبارك عبده فضل) باعتباره مسئول مكتب التنظيم الذي تتبعه هيئة إدارة الخلافات والصراعات الداخلية حتى يطبعه فوراً ويوزعه على جميع أعضاء المؤتمر قبل انعقاده بشهر كامل، فاعترض على تحليل "الطور الجديد" عدد كبير من الرفاق في مقدمتهم ثلاثة أعضاء بالسكرتارية المركزية هم مسئول مكتب العمل الجماهيري الرفيق "أحمد" (نبيل الهلالي) ومسئول مكتب العلاقات الخارجية الرفيق "نجيب" (ميشيل كامل) ومسئول مكتب الشئون المالية الرفيق "عصام" (فوزي حبشي)، ليرد أنصار مجموعة "روما" فوراً بفصل الرفيق "عصام" المعارض واستبداله بأحد الموالين هو الرفيق "سميح" مع حرمان الرفيقين "أحمد" و"نجيب" من حق الدفاع عن رفيقهما المفصول خلال انعقاد المؤتمر مما منح تحليل "الطور الجديد" الأغلبية بفارق صوت واحد هو "سميح"، فاحتج "أحمد" و"نجيب" على التمرير الالتفافي لتحليل مازال محل خلاف وقاما بكتابة تحليلين مضادين تحت عنوان "أزمة الحزب.. المأزق والمخرج" وعنوان "حول أزمة الحزب"، ليتسلمهما "صبحي" عقب انتهاء مؤتمر 1984 في انتظار أن يقوم حسب اللائحة بطباعتهما وتوزيعهما على جميع أعضاء المؤتمر التالي سواء كان دورياً أو استثنائياً لمناقشة الأفكار والآراء والمقترحات الواردة فيهما تمهيداً للتصويت على التحليلين، وهو ما لم يحدث مطلقاً حيث قرر أنصار مجموعة "روما" استبعاد الانعقاد الاستثنائي للمؤتمر العام مع تأجيل انعقاده الدوري التالي من عام 1988 إلى عام 1992، حتى تمتد فترة الالتزام بتحليل "الطور الجديد" الداعي للتواطؤ الذيلي مع نظام "مبارك" إلى ثمانية سنوات نجح خلالها "الحاج" و"حسن" و"صبحي" و"سميح" في احتواء وتشتيت المعارضين، عبر سلسلة إجراءات متنوعة ومتصاعدة وصلت عام 1988 إلى فصل "نجيب" وتجميد عضوية "أحمد" بحجة أنشطتهما التكتلية، فاعترض الرفيق "سيف" (كاتب هذه السطور) على الإجراءات الالتفافية والعقابية المتخذة ضد الرفاق المعارضين لتحليل "الطور الجديد" باعتبارها تتناقض مع المبادئ التنظيمية والأخلاقيات الشيوعية في تحليل عنوانه "التزموا بالمبادئ والأخلاقيات قبل إدانة التكتلات"، وقد تسلمه مني "صبحي" لكنه امتنع أيضاً عن طباعته وتوزيعه داخل التنظيم مما دفعني لنشره علناً باسمي الحقيقي في عدد شهر مارس عام 1989 من مجلة "اليقظة العربية" التابعة لحزب "التجمع" تحت عنوان "أزمة الحركة الشيوعية المصرية المعاصرة"، ليرد أنصار مجموعة "روما" فوراً بتجميد عضويتي ثم فصلي من التنظيم والحزب معاً بحجة النشر العلني المخالف لقواعد الانضباط وهي نفس الحجة التي استخدموها لتجميد وفصل غيري من الرفاق المعارضين، مثل مسئول المكتب العمالي الرفيق "حازم" (فرج محمَّد فرج) بعد أن كانوا قد أجبروه على الاستقالة من عمله في مصنع الحديد والصلب ليتفرغ لأنشطة التنظيم والحزب، ورغم أن النشر العلني لتحليلي المحجوب بما تضمنه من إشارات للتحليلات الأخرى الممنوعة كان قد شجع في حينه بعض الرفاق الأسوياء أو الغافلين على البوح بشهاداتهم كاشفين ما تحت أيديهم وأعينهم من انحرافات، إلا أن مجموعة "روما" لليهود الشيوعيين المصريين "غير الصهاينة" وأنصارها في تنظيم "الانتصار" وحزب "التجمع" من الشيوعيين الصهاينة "غير اليهود" قد حصلوا على الانضباط المطلوب ليمضوا قدماً نحو المزيد من التواطؤ الذيلي مع نظام حكم "حسني مبارك"، ورغم تعدد مخالفات مسئول مكتب الشئون المالية الجديد الرفيق "سميح" والتي كان أبرزها تحويله مليون جنيه من أموال التنظيم بدون إذن لإصدار مجلة غير دورية تحت رئاسته الشخصية سرعان ما توقفت واختفى رأسمالها إلا أن مجموعة "روما" كافأته، ليس فقط بترقيته إلى عدة مواقع قيادية أعلى في تنظيم "الانتصار" وحزب "التجمع" ولكن أيضاً بترشيحه إلى عدة مهام رسمية قومية كممثل للشيوعيين يحظى بترحيب الأجهزة الأمنية السيادية خلال عهد "مبارك" وما تلاه من عهود حتى اليوم!!. (21) يحفظ الناطقون بالعربية عن ظهر قلب قواعد النحو والصرف وعلى رأسها قاعدة أن الكسرة هي علامة جر الكلمات والفتحة هي علامة نصبها إلا أنهم يضطرون أحياناً إلى استخدام كلمات مجرورة بالفتحة أو منصوبة بالكسرة، تبعاً لوظائف تلك الكلمات أو شكلها وحسب وزنها أو إضافاتها ومحذوفاتها وأيضاً بالنظر إلى موقعها في سياق الجملة أو علاقاتها مع بقية المكونات اللغوية السابقة واللاحقة عليها، أو غير ذلك من الظروف الذاتية الاستثنائية الخاصة بتلك الكلمات والتي تمنع سريان القواعد الموضوعية العامة للنحو والصرف وتستوجب مخالفتها، فيما تطابق حرفياً مع موقف الشيوعيين المستقلين المصريين المعاصرين الذين يحفظون عن ظهر قلب ما تمليه عليهم القواعد الموضوعية العامة لفرز التناقضات الرئيسية والثانوية الراهنة بالدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، تمهيداً لاختيار موقعهم الافتراضي الصحيح داخل خرائط التحالفات والمخاصمات الاستراتيجية والتكتيكية واللحظية وصولاً إلى تحديد الخطوات الواجب عليهم اتخاذها تجاه مختلف أطراف المشهد السياسي ثم تنفيذ تلك الخطوات على أرض الواقع الفعلي، حيث كان التناقض الرئيسي ومازال وسيظل قائماً بينهم وبين كل دعاة الدولة الدينية سواء من المسلمين السنة أو الشيعة أو المسيحيين أو اليهود أو حتى الهندوس وسواء كانت الدولة الدينية التي يدعون إليها ذات طابع محافظ أو صدامي، لأن هؤلاء الشيوعيين المستقلين يرفضون قطعياً ومبدئياً إقامة دولة دينية لما يشكله وجودها من مخاطر جذرية حقيقية تهدد كافة محاور الحياة المتعلقة بالحريات العامة والخاصة والتحرر الوطني والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والابتكارات الفكرية والعلمية والإبداعات الأدبية والفنية، في حين أن القائم بين الشيوعيين المستقلين وبين دعاة الحكم العسكري هو تناقض ثانوي لأنهم لا يرفضون وجود المؤسسة العسكرية ولا يعترضون على تأديتها لدورها المأمول في حماية التراب الوطني من أي عدوان خارجي، بل هم يقاومون ممارسات قادة تلك المؤسسة عندما يشوبها التقصير أو التجاوز أو الانحراف على محاور التبعية والفساد والاستبداد بما فيها سعي القادة المحموم لاستمرار سيطرتهم غير المستحقة على الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية منذ عام 1952، ورغم أن ذلك الإدراك الافتراضي النظري كان يستوجب نظرياً مع احتدام الصراع الدموي بين الإسلاميين والحكم العسكري في مصر منذ 3 يوليو 2013 أن يختار الشيوعيون المستقلون إما الحياد (السلبي أو الإيجابي) وإما الانحياز اليقظ للخصم الثانوي ضد الخصم الرئيسي، إلا أن الظروف الاستثنائية الخاصة بكل واحد من الأطراف الثلاثة المشار إليها تمنع سريان تلك القواعد الموضوعية العامة وتستوجب مخالفتها، فالحكم العسكري الذي يفترض أنه الخصم الثانوي للشيوعيين المستقلين يعتبرهم من جانبه خصماً رئيسياً له وذلك بسبب خوفه منهم في إطار دفاعه عن مصالحه المكتسبة غير المشروعة، فيستخدم ضدهم الأدوات الدموية للصراع الرئيسي حتى لو كانوا قد اختاروا الحياد السلبي بالانسحاب الكلي أو الجزئي من المشهد السياسي، حيث يواصل الحكم العسكري ملاحقتهم ومطاردتهم ليس فقط لمحاصرتهم والتضييق على أفكارهم وآرائهم وأنشطتهم ولكن أيضاً لمعاقبتهم استباقياً عبر أساليب السيطرة القذرة غير المباشرة والتي تبدأ بتعطيل مصالحهم مروراً بإهدار حقوقهم وتقييد حرياتهم وصولاً إلى تهديد حياتهم إن لم يكن تصفيتهم جسدياً واحدهم تلو الآخر، بينما يواصل الإسلاميون الذين يفترض أنهم الخصم الرئيسي للشيوعيين المستقلين احتضانهم على مضض بتبني مظالمهم واحتجاجاتهم كنوع من الاستثمار الماكر ضمن مناوراتهم التحريضية ضد الحكم العسكري، لاسيما عقب انحياز الشيوعيين "الصهاينة" للحكم العسكري بانتهازية فجة اقتضت منهم تجاهل تلك المظالم لتكريسها ومهاجمة تلك الاحتجاجات لإخمادها، وباستلهام الحد الأدنى لقواعد فن إدارة الأزمات الميدانية الداعي إلى اتخاذ الاحتياطات الدفاعية الكفيلة بتقليل الخسائر مع الحفاظ على الحياة الخاصة التي تشكل في حد ذاتها قيمة إنسانية يجب عدم الاستهانة بها وصولاً لدرجة الاستشهاد دفاعاً عن إحدى القيم الإنسانية السامية، فقد وجد الشيوعيون المستقلون المصريون المعاصرون مثل كاتب هذه السطور أنفسهم بعد 3 يوليو 2013 بين اختيارين أحلاهما مر لأن كليهما يقود أصحابه نحو موت مجاني بلا أي مقابل إنساني، فإما تكرار ما فعله بعض السابقين منهم عندما ارتموا بين أحضان الحكم العسكري في نفس الوقت الذي استمرت أجهزته وقواته تقتلهم منذ عام 1952 بدم بارد كأنهم ذباب، وإما الاحتماء بالجسد الضخم للإسلاميين فيموتون معهم كما يقول المثل الشعبي باللهجة العامية المصرية "الموتة في الكُترة سُترة"!!. (22) باعتبارهم إما ذوي أصول أجنبية أو ذوي تعليم أجنبي فقد استغل اليهود الشيوعيون "غير الصهاينة" احتكارهم المعرفي لأصول النصوص النظرية الماركسية التي كانت منشورة فقط وحصرياً باللغات الأجنبية، في محاولاتهم المستمرة لفرض وتأكيد سيطرتهم غير المستحقة على قيادة الحركة الشيوعية المصرية منذ نشأتها كما أوضح الرفيق "نبيل الهلالي" في كتابه الهام "اليسار الشيوعي المفترى عليه"، كما استغلوا احتكارهم المعرفي النظري لدس أفكارهم المنحرفة داخل متن الخطاب الشيوعي وعلى هوامشه، مما سمح لهم بحرية ارتكاب مناوراتهم الانتهازية الخطرة ولكنه في الوقت ذاته شكل مصدر طرد للمثقفين وإرباك للجماهير، مما قرر معه بعض الشيوعيين المستقلين ترجمة أمهات الكتب النظرية الماركسية إلى لغة عربية واضحة وسهلة وإتاحتها أمام المثقفين والجماهير، بهدف كسر احتكار اليهود للمعرفة المستمدة من تلك الكتب وصولاً إلى إحباط محاولات فرض وتأكيد سيطرتهم غير المستحقة على القيادة، ليكون في مقدمة المترجمين عن اللغة الفرنسية أبي الرفيق "إسماعيل المهدوي" الذي نشر عام 1957 كتاب "المبادئ الأساسية للفلسفة" وكتاب "المادية والمثالية في الفلسفة" كجزأين مترجمين لكتاب سبق نشره عام 1946 تحت عنوان "المبادئ الأساسية للفلسفة الماركسية"، متضمناً محاضرات التثقيف النظري التي ألقاها المفكر الشيوعي "النمساوي – المجري" "چورچ بوليتزير" في مدرسة الكادر التابعة للحزب الشيوعي الفرنسي، ولتضم قائمة مترجمي أمهات الكتب النظرية الماركسية عن اللغة الإنجليزية فيمن ضمتهم أمي الرفيقة "زينات الصباغ"، وعندما اندمجت تنظيمات المرحلة الثانية في الحزب الشيوعي المصري عام 1958 عقب شهور قليلة من انتهاء العدوان الثلاثي (الإسرائيلي ــــ البريطاني ــــ الفرنسي) ضد مصر تولى "إسماعيل المهدوي" موقعه القيادي داخل الحزب الجديد فاستصدر عدة قرارات تطهيرية، منها حل مجموعة "روما" لليهود الشيوعيين المصريين في الخارج وإزالة صفتها الحزبية وفصل أعضائها ومنع اتصالهم بالحزب على أي وجه مع السماح باستمرار عضوية اليهود الشيوعيين في الداخل دون تصعيدهم إلى أية مواقع حزبية قيادية، إلا أن الأكثر إزعاجاً لمجموعة "روما" كان قيامه بتشكيل لجنة متابعة تنظيمية تحت رئاسته الشخصية تتحرك في الداخل والخارج لضمان وضع القرارات الحزبية المتعلقة باليهود موضع التنفيذ العملي بعد تكرار امتناع المجموعة عن تنفيذ قرارات شبيهة سابقة، ولم ينتبه "المهدوي" إلى أن دوره في كسر الاحتكار المعرفي ثم التطهير الحزبي قد خلق لدى الشيوعيين المصريين اليهود "غير الصهاينة" وأنصارهم الصهاينة "غير اليهود" ومعهم دولة إسرائيل ومجمل الحركتين اليهودية والصهيونية على المستوى العالمي نزوعاً انتقامياً متواصلاً تجاهه وممتداً لنسله من بعده يشبه الثأر الصعيدي، وهكذا تم استدراجه أثناء عمله في أوروبا كمراسل صحفي مقيم لتسليمه سراً إلى وحدة العمل الميداني الخارجي بمكتب مكافحة الشيوعية التابع للأجهزة الأمنية السيادية المصرية، التي أعادته على متن إحدى طائراتها الخاصة وهو مكبل داخل صندوق خشبي عام 1969 إلى "القاهرة" ليجد اليهودية الأمريكية "مارجريت بالاس" تنتظره بصفتها الكاذبة كمراسلة صحفية مقيمة، وفور قبوله لعرض "زميلة المهنة" باستضافة مقالاته الممنوع نشرها في الصحافة المصرية على صفحات جريدتها الأمريكية "الوهمية", تلقت الأجهزة الأمنية السيادية بلاغاً مكتوباً منها مرفقاً به تلك المقالات يتهمه بكتابة ومحاولة نشر آراء معادية للنظامين المصري والأمريكي بدافع من أفكاره الشيوعية التي يحظرها القانونان المصري والأمريكي، فعوقب بإيداعه عنبر السجناء الجنائيين الخطرين في مستشفى المجانين طوال الفترة الممتدة بين عامي 1970 و1987 بدون أي تحقيق كالذي يحصل مع السجناء لو كان سجيناً وبدون أي علاج كالذي يحصل عليه المرضى لو كان مريضاً، مقابل حصوله على فيض من جلسات "الاستتابة" الرامية لدفعه قهراً إلى مراجعة واستنكار أفكاره وآرائه ومواقفه الشيوعية عبر فيض من عمليات التعذيب البدني والكهربائي الممنهج، سواء بمعرفة الأجهزة الأمنية السيادية وتوابعها الأطباء النفسيين أو بمعرفة كوادر جماعات الإسلام السياسي المستترين داخل المؤسسات الرسمية والمجتمعية ذات الصلة، ولم تستطع أمي "زينات الصباغ" الإفلات من عملية انتقامية سرية شبيهة سوى بهجرتها الاضطرارية المنفردة خارج مصر والتي امتدت بين عامي 1972 و1982 لأجدني طفلاً أعزلاً وحيداً بين أنياب ومخالب كل غيلان الأرض، فيما وصفه الرفيقان "أبوسيف يوسف" و"طاهر عبدالحكيم" معاً بعد ربع قرن زمني بقولهما لي : "لقد شرب أبوك وأمك كأس انتقام مجموعة روما بامتداداتها الداخلية الثلاثة ولكنك أنت الذي تجرعت سمومه ومراراته في حلقك الصغير"!!. (23) دفعتني أخلاقياتي المثالية نحو افتراضات ساذجة حول الرفاق "ذوي القربى" مما جعلني غافلاً ليس فقط عن النزوع الثأري الانتقامي الممتد تجاهي من قبل اليهود الشيوعيين المصريين "غير الصهاينة" وأنصارهم الصهاينة "غير اليهود" ولكن أيضاً عن بقية شرورهم، الأمر الذي أوقعني عدة مرات داخل أفخاخهم المختلفة لاسيما وقد أغضبهم تفوقي الدراسي ثم المهني ثم نجاح مجهوداتي القانونية والسياسية والإعلامية عام 1987 في إنهاء محنة أبي "إسماعيل المهدوي" بإعادته إلى ما يشبه حياته الطبيعية، كما كانت قد أغضبتهم كتاباتي ضد الصهيونية سواء عندما أصدر تنظيم "8 يناير" الشيوعي خلال عضويتي فيه بحثي الخاص بالبدائل المتاحة لمواجهة العدو الإسرائيلي الصهيوني المدعوم أمريكياً تحت عنوان "حرب التحرير الشعبية هي طريق التحرر الوطني"، والذي وزعه التنظيم داخلياً وخارجياً على نطاق واسع بمجرد إصداره عام 1981 لاسيما وقد أبلغتهم الأجهزة الأمنية السيادية بأنني كاتبه رغم محاولة التنظيم حمايتي من خلال حذف اسمي الحقيقي "طارق المهدوي" والحركي أيضاً "الرفيق سيف" عن غلافه، أو عندما نشرت مجلة "الموقف العربي" في ديسمبر عام 1987 مقالاً باسمي الحقيقي عنوانه "لا للحوار مع طواحين الهواء" لرفض محاولات ترويج دعوة مشبوهة إلى الحوار بين الشيوعيين العرب والإسرائيليين تحت إشراف الشيوعيين المصريين اليهود "غير الصهاينة" وأنصارهم الصهاينة "غير اليهود"، حيث جاء في مقالي : "لما كان بعض الشيوعيين المصريين يزعمون وجود يسار إسرائيلي ويدعون لمحاورته وصولاً إلى سلام قائم على العدل فإنه يجب تنبيه الذين قد يصدقون تلك المزاعم فيلبون هذه الدعوة بأنهم سيجدون أنفسهم يتحاورون مع طواحين الهواء، لأن الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تنفي وجود طبقة عاملة إسرائيلية أصلاً وعليه تنسف أساس الزعم بوجود يسار شيوعي إسرائيلي، وبالتالي فإن ما يزعمون وجوده ويدعون إلى محاورته ليس سوى نوع مختلف من العصابات الصهيونية التي يشكل أي حوار سلمي معها في ظل الظروف الراهنة سلوكاً مضاداً للتحرر الوطني ومعاكساً للسلام الحقيقي المستهدف والقائم على العدل"، علماً بأن هذا المقال ظل محجوباً عن النشر داخل تنظيم "الانتصار" الشيوعي منذ كتابته باسمي الحركي "سيف" وتسليمي إياه للنشر رداً على بيان سياسي أصدره التنظيم عام 1985 عقب انتقالي لعضويته تحت عنوان "لا سلام عادل بدون إقامة الدولة الفلسطينية"، وهو البيان الذي أكد فيه تنظيم "الانتصار" عظيم احترامه لحق إسرائيل في الوجود المستقل والحياة الآمنة داخل حدود معترف بها بموجب ضمانات دولية وعظيم تقديره للدور النضالي الثوري الذي يقوم به الحزب الشيوعي الإسرائيلي ضد الصهيونية الإسرائيلية والرجعية العربية معاً، كما أغضبتهم أيضا بنفس القدر مكافحتي الميدانية للأنشطة الصهيونية في مصر لاسيما عند قيامي بدوري كمقرر لجنة مقاومة التطبيع مع إسرائيل التي كانت بعض القوى السياسية الشيوعية والليبرالية والقومية والإسلامية قد شكلتها عام 1979 تحت رئاسة "أبوالفضل الجيزاوي" العضو المنشق عن تنظيم "الضباط الأحرار"، بما اقتضاه دوري من قيادة عمليات مكافحة الوجود الصهيوني والتي شملت فيما شملته عملية إغلاق الجناح الإسرائيلي المشارك بمعرض الكتاب المتاخم لميدان "التحرير" عام 1981، ثم زاد غضب الشيوعيين المصريين من اليهود "غير الصهاينة" وأنصارهم الصهاينة "غير اليهود" حيالي مع فشل محاولاتهم المتتالية والمتنوعة لاحتوائي أو تشتيتي بما يحوزونه من إغراءات أسطورية على أصعدة المال والسلطة والشهرة والجنس والأسفار الخارجية وخلافه، فكشفوا منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين عن وجههم الحقيقي القبيح كعصابة شوارع إجرامية وأطلقوا أسلحتهم المسمومة القذرة ضد كل ما يخصني جسدياً ونفسياً وشخصياً وعائلياً واجتماعياً ومهنياً ومالياً ليصيبونني بجراح ذوي القربى غزيرة النزف التي لا تندمل، لاسيما في ظل شماتة الأجهزة الأمنية السيادية وجماعات الإسلام السياسي معاً تجاهي على نحو يشبه الشعر القائل باللهجة العامية المصرية : "في وشنا بنادق العدو... وفي ضهرنا خناجر الصحاب... دوكهم يضربوا ويبعدوا... ودوللم مرمغونا في التراب"!!.
******* -;- الجرائم الطبية...
(1) إذا كان الدور التاريخي للمثقف الثوري أو الإصلاحي يتمحور حول مدى مساهمته في استمرار تقدم مجتمعه بكل أفراده وجماعاته نحو الأمام وصولاً إلى أعلى درجات السلامة والعدالة اللتان توفران معاً السعادة المرجوة للجميع, فإن عليه مواصلة الإسهام الجاد في المساعي المبذولة لتأمين مجتمعه من كافة الأخطار القائمة والتهديدات المحتملة مع إزالة المخاوف المعرقلة لتقدم أفراد وجماعات هذا المجتمع سواء كانت تمس حياتهم أو حرياتهم أو حقوقهم ومصالحهم المشروعة, إلى جانب مواصلة الإسهام الجاد في المساعي المبذولة لتلبية الحد الأقصى الممكن من احتياجاتهم وتطلعاتهم نحو الرفاهية, ولترجمة هذه المساهمات النبيلة على أرض الواقع فإن المثقف الثوري أو الإصلاحي ينشط بدأب وإصرار من أجل استخلاص الكيفية الأنسب للتعامل مع كل مجال على حدا حتى يتقدم مجتمعه إلى الأمام في كافة المجالات, عبر استخدامه للموهبة الأكثر ندرة بين المواهب الإنسانية والتي اختصته بها الطبيعة حصرياً لتميزه عن بقية البشر والمعروفة علمياً باسم "الوعي", وهو ذلك النشاط الدماغي الدائم والتصاعدي الذي يبدأ بالربط التحليلي الجدلي بين معرفة معطيات الواقع الموضوعي المحيط وإدراك الأفكار النظرية ذات الصلة مع تلك المعطيات من جهة, وبين الشعور بالخيال الإيجابي اللازم للقياس والاستنباط والتخمين والاستنتاج وصولاً إلى التنبوء من الجهة الأخرى, لينتقل بعد ذلك إلى ابتكار أفكار جديدة متنوعة تتعلق بالشأن المجتمعي العام سواء فيما يخص تأمين الأخطار أو تلبية الاحتياجات, ثم يقوم بتحويل تلك الأفكار إلى مبادرات ميدانية مع إبداع الأساليب والوسائل والأدوات المناسبة لإعلام الأفراد والجماعات بما تم التوصل إليه من أفكار ومبادرات وإقناعهم بالالتفاف حولها من أجل العمل على التنفيذ الفعلي لمقتضياتها, دون الوقوع في أفخاخ الأنشطة الدماغية المنحرفة التي تنتج آليات تفكير نمطية سهلة ولكنها ضارة على كل المستويات النظرية والتطبيقية, مثل الغيبيات المطلقة والحتميات المسبقة والمبالغات المفرطة والينبغيات المتعالية والافتراضات التآمرية الشمولية ونماذج المحاكاة الحرفية لخوارق الأسلاف وغيرها, لذلك فقد كان من الطبيعي أن يسفر حضور "الوعي" عن إغضاب مختلف رموز الواقع المجتمعي القائم ذوي الحرص على إبقاء الأوضاع كما هي ضماناً لاستقرار مصالحهم غير المستحقة السابق لهم اكتسابها بوسائل غير مشروعة, وكذلك توابعهم أصحاب الأفكار القديمة البالية والمبادرات المحافظة التقليدية التي تعجز عن مجاراة أفكار ومبادرات المثقف الثوري أو الإصلاحي لاسيما وأن وعيه يؤهله لاكتشاف وكشف المستور الإجرامي لهؤلاء وأولئك أمام المجتمع, مما يدفعهم نحو مواجهته سعياً إلى احتوائه أو تشتيته أو إزالته أو على الأقل إتلاف وإعطاب موهبة "الوعي" لديه الأمر الذي يصعب تحقيقه سوى باستخدام أحد أسلوبين اثنين أو كليهما معاً, وهما أسلوب الخطف الذهني عبر غسيل المخ الاستباقي لمن تظهر عليه أية أعراض مبكرة دالة على احتمالات وعيه المستقبلي أو أسلوب التدخل الطبي المبرمج في الدماغ الذي ظهر وعيه فعلاً عبر جرعات دوائية مكثفة وطويلة المدى تؤدي إلى تغييرات كيميائية معطلة للوعي, حيث تميل الجماعات الفاشية المتطرفة إلى استخدام أسلوب الخطف الذهني كما يفعل الإخوان المسلمون والسلفيون والجهاديون والشيوعيون البيروقراطيون الستالينيون المصريون وغيرهم مع توابعهم, بينما تميل الأجهزة السيادية المتسلطة إلى استخدام أسلوب التدخل الطبي المبرمج لإحداث تغييرات كيميائية في أدمغة توابعها كما حدث بمصر ضمن برنامج "الثبات الانفعالي", الذي كان قد سبق اعتماده في خمسينيات القرن العشرين بهدف نظري هو تقوية الصمود المعنوي لأولئك التوابع في مواجهة الألاعيب الاحترافية لعتاة الجواسيس والإرهابيين وزعماء العصابات, وهدف تطبيقي هو ضمان إحكام سيطرة الأجهزة على توابعها لاستخدامهم كأذرع مطيعة فيما تقوم به من عمليات خاصة تستهدف المواطنين العاديين, إلا أن زيادة جرعات "الثبات الانفعالي" قد أزالت نهائياً موهبة "الوعي" التي كانت قائمة في أدمغة بعض توابع تلك الأجهزة, عبر ردم مساحات الشعور وإغلاق بوابات التفكير لديهم مع تحويل رصيدهم المعرفي إلى مجرد معطيات رقمية صماء مرصوصة داخل خانة أرشيفية صدأة، وكان المدعي العام لإيطاليا الفاشية هو الأكثر وضوحاً في التعبير عن مساعي إتلاف وعي الخصوم أثناء مرافعته أمام المحكمة العسكرية ضد المفكر الشيوعي الإيطالي "أنطونيو جرامشي" المتهم بمعاداة الفاشية, حيث طلب المدعي العام من المحكمة دون مواربة معاقبته عبر إصدار الحكم الذي يكفل منع دماغه من العمل لمدة عشرين سنة على الأقل، وهو ما حدث فعلاً عام 1937 بوفاة "جرامشي" داخل سجنه تحت تأثير الإهمال الطبي لنزيفه الدماغي الغامض كما ذكر الأديب الفرنسي "برنار نويل" في كتابه الشهير "حالة جرامشي"!!. (2) منذ بداية التحاقي بالعمل في مجال الإعلام السياسي داخل إحدى الهيئات السيادية ذات التخصص المعلوماتي وهي الهيئة العامة للاستعلامات التابعة لرئاسة الجمهورية خلال أواخر سبعينيات القرن العشرين, ظهر اختلافي المهني مع رؤسائي الوافدين على الهيئة نقلاً من الأجهزة السيادية الأخرى ذات التخصصات العسكرية والأمنية والرقابية والعقابية والدبلوماسية, والذين كانوا يكتفون بمحاولات الترويج الدعائي الفج لقرارات رئيس الجمهورية سعياً نحو تعبئة مختلف الأوساط المجتمعية حولها كما هي شكلاً وموضوعاً باعتبارها غاية المراد التي تستوجب الشكر من العباد, مع حرصهم في الوقت ذاته على النفاق الفاجر لشخص رئيس الجمهورية عبر ادعاءاتهم الكاذبة بالرضا المجتمعي التام والدائم عن تلك القرارات, مما يخالف الذي كنا قد تعلمناه لتونا على أيدي أساتذة العلوم السلوكية والرأي العام بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وكلية الإعلام في جامعة القاهرة, من عدم اكتمال الأداء المهني السليم للإعلام السياسي سوى برجع الصدى الأمين لقرارات رئيس الجمهورية, والذي يتمثل في وجوب إعلامه أولاً بأول حول مدى وكيفية القبول المجتمعي الحقيقي لقراراته مع توجيه النصح لو اقتضى الأمر نزولاً عند ضرورات القواعد العلمية أو تطلعات القواعد الشعبية, سواء بتعديل بعض تلك القرارات أو العدول عنها إجمالاً مثلما تراجع الرئيس "أنور السادات" في يناير عام 1977 عن قرارات سابقة له برفع أسعار السلع والخدمات, عندما تيقن من خلال رجع الصدى الأمين لإعلامه السياسي أن تلك القرارات هي التي كانت قد أشعلت ضده انتفاضة الغضب الجماهيري تحت قيادة الشيوعيين في حينه, ومع استمرار التباين المهني بين خلفياتي السياسية والإعلامية من جهة وبين الخلفيات العسكرية والأمنية لرؤسائي في هيئة الاستعلامات من الجهة الأخرى, فقد عاقبوني بنقلي لمدة ثلاثة أعوام من نعومة قطاع الإعلام الخارجي المسئول عن المتابعة الميدانية لمختلف بلدان العالم بهدف إعداد تقارير الرأي العام الدولي, إلى خشونة قطاع الإعلام الداخلي المسئول عن المتابعة الميدانية لمختلف محافظات مصر بهدف إعداد تقارير الرأي العام المحلي, المستندة على عدة مصادر علمية لمسح واقع حياة المواطنين اليومية ورصد اهتماماتهم والتي كانت تشمل فيما تشمله آنذاك كنزاً معلوماتياً يتحاشاه الباحثون بسبب صعوبة إطلاعهم عليه لإدراجه ضمن المعلومات السرية, ألا وهو شكاوى البسطاء المودعة داخل صناديق أضرحة أولياء الله الصالحين المنتشرة ليس فقط في بعض المساجد الشهيرة كالسلطان أبوالعلا والمرسي أبوالعباس والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي وعبدالرحيم القناوي, وبعض مساجد آل البيت النبوي كالسيد الحسين والسيدات رقية وسكينة ونفيسة وزينب وفاطمة الزهراء وغيرها ولكن أيضاً في بعض كنائس الأقباط الأرثوذكس الشهيرة, حيث يرفع المواطنون البسطاء شكاواهم إلى وجه الله تعالى تضرعاً بأحبائه المسلمين والمسيحيين للبحث عن حلول مستعصية لأوجاعهم المزمنة, وبتصنيفي لتلك الشكاوى اتضح أن بند الأوجاع الصحية يتفوق من الناحيتين الكمية والنوعية على كل بنود الأوجاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الأخرى, وبالفحص الدقيق لبند الأوجاع الصحية الذي يتصدر قائمة شكاوى البسطاء اتضح لي أن كابوس الجرائم الطبية المختلفة يشغل قمة الاهتمامات السلبية للمجتمع المصري, فالإنسان الذي يتهاوى جسده تحت وطأة المرض أو الإصابة ليصبح في أضعف حالاته مما يستوجب نظرياً إسراع الأطباء المتخصصين نحو نجدته وإسعافه وعلاجه بدافع الضمير المهني أو النخوة الأخلاقية أو حتى غريزة حب النوع البشري, هذا الإنسان لا يجد على أرض الواقع الفعلي في مصر شيئاً من تلك الافتراضات النظرية إلا نادراً مع تجاهل الدولة المصرية لخطورة الجرائم الطبية وعدم اعترافها بحقيقة تفاقمها إلى الحد الذي أصبحت تشكل فيه أحد كوابيس المجتمع, وإزاء تزايد الجرائم الطبية طردياً كلما هبط السلم الاجتماعي المصري وصولاً لدرجة الاستشراء عند قاعدة الهرم فإن بعض الباحثين ينظرون إليها باعتبارها إحدى وسائل الإبادة الطبقية المتعمدة, ويدعون إلى معاملة ضحاياها كالشهداء ومصابي الحرب بل ويرون أن جماهير المحتجين الغاضبين الذين قاموا بمهاجمة أبرز معاقل الفساد والاستبداد والتبعية خلال أحداث انتفاضة يناير عام 2011, لم يخطئوا عندما اعتبروا المستشفيات ضمن تلك المعاقل فاقتحموها لتحطيم محتوياتها ومطاردة أطبائها بهدف معاقبتهم على ما سبق أن ارتكبوه من جرائم طبية بشعة لا تنساها الذاكرة المصرية، وتكشف المقارنات المعمارية الهندسية بين مباني المستشفيات المشيدة قبل وبعد عام 1952 مدى خوف الأطباء المعاصرين من ردود الفعل الشعبية الغاضبة تجاه جرائمهم الطبية!!. (3) على امتداد التاريخ والجغرافيا تصدرت سلامة النوع والعرق والسلالة أهداف الجنس البشري بما صاحب ذلك من وضع حالة الصحة العامة على رأس أولويات القضايا الإنسانية مع اعتبارها إحدى أهم ثوابت الأمن القومي لكل شعوب العالم, التي سعت جميعها وبدون استثناء إلى خلق وتطوير المنظومات الطبية على نحو يكفل الوقاية المسبقة والعلاج الفوري لكافة الأمراض والإصابات المجتمعية والفردية, مع النص الصريح على ذلك في دساتير البلدان المختلفة بما فيها الدساتير المصرية المتتالية, ابتداءً بدستور عام 1923 وانتهاءً بدستور عام 2014 مروراً بالدساتير الصادرة في أعوام 1930 ثم 1956 ثم 1971 ثم 2012 إلى جانب عشرات الدساتير المؤقتة والإعلانات الدستورية السابقة واللاحقة, والتي اتفقت كلها على إقرار الحق النظري للمواطن المصري في تلبية كافة احتياجاته الصحية الوقائية والعلاجية مع إبقاء هذا الحق في إطار النص الدستوري دون تحويله إلى قوانين عامة يمكن ترجمتها لقرارات ولوائح تنفيذية تنظم الكيفية العملية لحصول المواطن المصري عليه, بما يترتب على ذلك من عدم تحديد ماهية الانتهاكات المحتملة ضد حق تلبية الاحتياجات الصحية الذي يكفله الدستور نظرياً وبالتالي عدم وضوح جدول العقوبات الرادعة لكل انتهاك وكيفية توقيعها, حتى أصبحت مصر واحة الأمان النموذجية لمرتكبي الجرائم الطبية على المستوى العالمي عملاً بقاعدة أن الذين يأمنون العقاب يسيئون التصرف, لاسيما وقد تواكب التراخي القانوني في التصدي للجرائم الطبية موضوعياً مع الغياب التام لآليات الرقابة على وقائع الأداء اليومي داخل المجال الطبي بدوافع تتراوح بين إهمال وتواطؤ الأجهزة الرقابية, كما تواكب مع ازدياد تغلغل عشوائيات الرأسمالية المشوهة داخل أعمق أعماق أجهزة ومؤسسات الدولة وكل فئات وطبقات المجتمع المصري, بما أسفر عنه من شيوع الفقر والجهل والقهر والاستغلال والتلوث البيئي على نحو لا مثيل له في تاريخ أو جغرافية الجنس البشري, حتى تضخمت خرائط المرض والإصابة والوفاة غير الطبيعية بشكل مؤلم فإلى جانب الاحتكار المصري لأمراض حصرية كالبلهارسيا والدوسنتاريا والإنكلستوما وشلل الأطفال وبعض أنواع رمد العيون, فقد أصبحت مصر تحتل أعلى النسب العالمية في عدة أمراض وأوبئة فتاكة مثل الالتهاب الكبدي الفيروسي والفشل الكلوي والأورام السرطانية وسوء التغذية والتشوهات الخلقية كتقزم القامة والسمنة المفرطة والاكتئاب النفسي الانتحاري وغيرها, كما أصبحت تحتل أعلى النسب العالمية في الوفيات الناجمة عن إصابات حوادث الطرق البرية والبحرية والنهرية والجوية والسكك الحديدية وغيرها من الحوادث الطبيعية، وهي إصابات ترتفع نسبة الوفيات فيها كثيراً عن المعدلات العالمية بسبب التلكؤ في انتشالها وبالتالي تأخر إسعافها, لدرجة وفاة مئات المصريين تحت تأثير "ضربات شمس" لا يحتاج علاجها سوى التهوية والماء وبعض الأملاح خلال صيف 2015، إلى جانب أعلى النسب العالمية في الوفيات أثناء العلاج داخل المستشفيات التائهة في الفوضى والانفلات والوفيات الناجمة عن الانتحار, بالإضافة إلى احتلالها أعلى النسب العالمية في استخدام الأدوية والكيماويات الضارة بالإنسان سواء لكونها مغشوشة أو ملوثة أو منتهية الصلاحية أو لكونها فاقدة للمواد العلاجية الفعالة أو مهربة من الخارج بدون بيانات منشأ أو ما شابه, وفي المقابل أصبحت مصر تحتل أدنى النسب العالمية في متوسطات الأعمار الافتراضية المتوقعة لأبنائها, وذلك رغم استمرار المقاومة النبيلة لبعض المثقفين الثوريين والإصلاحيين المصريين, التي تواصلت منذ بداية إنشائهم بتبرعاتهم الخاصة لعشرات الجمعيات الأهلية والمبرات الخيرية الساعية إلى علاج المرضى والمصابين مجاناً في بدايات القرن التاسع عشر, حتى تمريرهم لخريطة المواصفات القياسية الخاصة بحقوق المرضى والمصابين داخل المستشفيات المصرية في بدايات القرن الواحد والعشرين, مروراً بمائتي عام من المحاولات النبيلة المضنية لتحسين مستوى الخدمة الطبية أو على الأقل تخفيض نسبة المخاطر الناجمة عن الجرائم الطبية المرتكبة ضد البسطاء, دون أن تسفر محاولاتهم المتنوعة والمتتالية عن تحقيق النتائج الإيجابية المرجوة لصالح المصريين نظراً لإفشالها المتعمد بواسطة الحلف الإجرامي الثلاثي للفساد والاستبداد والتبعية, الذي كان ومازال يدير المجال الطبي على امتداد التاريخ المصري الحديث والمعاصر حسب مصالحه الخاصة, لدرجة انتهاكه الفج لدستور 2014 ذاته في أول موازنة عامة تالية عليه بتخصيص نسبة تقل عن اثنين في المائة من إجمالي الناتج القومي للصحة بينما يشترط الدستور ألا تقل النسبة عن ثلاثة في المائة وهي نسبة تحددها بلدان أخرى بعشرين في المائة!!. (4) يعلم القانونيون جيداً أن التراخي العمدي في التصدي لأية جريمة يبدأ عندما تقوم سلطات التحقيق بقيد التهمة في دفاترها القضائية على أساس وصفها بجوانبها الأضعف من حيث الخطأ والضرر وبالتالي الأقل من حيث العقوبة, مما يظهر بوضوح في قيد جميع الجرائم الطبية تحت وصف الإهمال الطبي رغم وجود عدة مستويات أخرى لجرائم طبية أشد خطورة تتمثل في الإتجار الطبي والانحياز الطبي والامتناع الطبي والتبعية الطبية وغيرها, وإذا كانت جرائم الإهمال الطبي تنجم عن الجهل وضعف التركيز والتخلف التعليمي ونقص الخبرة المهنية وغياب الإمكانات التقنية إلى جانب الأخطاء العفوية, وإذا كانت آثارها الضارة تتجلى في إهمال مكافحة العدوى أو إهمال الإجراءات الوقائية بما يسبب انتقال العدوى أو عدم مراعاة الظروف التفصيلية المحيطة التي تؤثر على الحالة الصحية للمريض أو المصاب, وفي عدم التصدي الفوري لمعالجة المضاعفات الجانبية المترتبة على العلاج الأصلي أو إهمال المتابعة التالية للعلاج مما يؤدي بالحالة الصحية إلى الانتكاس والارتداد, إلى جانب الأضرار الأخرى التي تقع بغير قصد كنسيان أحد المستلزمات الجراحية داخل الجسد أو الإتلاف العرضي لأحد أعضاء الجسد أو صرف دواء خاطئ أو الخلط بين الأدوية العلاجية والمكملات الغذائية أو ما شابه, فإن جرائم الإتجار الطبي تنجم عن الجشع الربحي المقصود وغير المستحق وتتجلى أضرارها في ابتزاز المريض أو المصاب لانتزاع أكبر قدر من أمواله مقابل علاجات جراحية وطبيعية وكيميائية ودوائية وفحوص وآشعات وتحاليل لا تحتاجها حالته الصحية, ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو التوليد عبر العمليات الجراحية القيصرية بدوافع تجارية والذي بلغت نسبته في مصر عام 2014 أربعة أضعاف معدلاته العالمية علماً بأن ثلث عمليات التوليد القيصري يتم داخل المستشفيات الرسمية المصرية حسب الإحصائيات الدولية، كما تتجلى أضرار جرائم الإتجار الطبي أيضاً في استخدام الأدوات والمستلزمات والأدوية الأقل سعراً رغم انخفاض كفائتها لرفع هامش الربح على حساب الحالة الصحية، إلى جانب الترويج لتجارة الأدوية المغشوشة والملوثة والمنتهية الصلاحية وفاقدة المواد العلاجية الفعالة والمهربة بدون بيانات منشأ مع تجارة الأدوية المدعومة في السوق السوداء, بالإضافة إلى بيع التقارير الطبية المزورة التي تخالف الحالة الصحية الحقيقية لمشتريها حسبما تقتضي مصالحه غير المشروعة، وبيع الدم البشري ومشتقاته للراغبين فيه بأسعار تجارية باهظة رغم سابق الحصول عليه مجاناً كتبرعات اختيارية أو إجبارية، وقد يصل المستوى الإجرامي للإتجار الطبي إلى درجة بيع المخدرات الكيميائية والأعضاء البشرية والأطفال حديثي الولادة أو ما شابه, بينما تنجم جرائم الانحياز الطبي عن تغليب الاعتبارات غير المهنية بدافع انحراف الاتجاه الفكري للطبيب نحو الاستقطاب الحاد حسب هوية المريض أو المصاب على الأصعدة العرقية أو الدينية أو السياسية أو الجنسية, والمؤدي إلى انحراف سلوك الطبيب بالموالاة أو الكراهية تجاهه مما يترتب عليه الانحراف العمدي في علاجه, حيث تتجلى أضرارها في عدم الالتزام بالمقتضيات الطبية الموضوعية سواء عند اتخاذ القرار الانتقائي المسبق بالعلاج الفوري الناجع للصديق المنتمي إلى الفريق الذي يواليه الطبيب, أو عند اتخاذ القرار العكسي بالتصفية أو إلحاق إحدى الإعاقات الجسدية المستديمة بالخصم المنتمي إلى الفريق الذي يكرهه الطبيب أو ما شابه, وقد يصل المستوى الإجرامي للانحياز الطبي إلى درجة المشاركة فيما يتعرض له بعض الخصوم المعتقلين سياسياً من جرائم تعذيب بدني وتحطيم معنوي وإنتهاك جنسي بالسجون التي يعمل فيها الأطباء المنحازون، سواء شاركوا بشكل مباشر في تلك الجرائم أو تستروا عليها عمداً عبر إصدار تقارير طبية كاذبة لتضليل المراقبين والرأي العام وعرقلة القصاص من مرتكبيها، في حين أن جرائم الامتناع العمدي عن علاج المريض أو المصاب تنجم عن خليط من دوافع الإهمال والإتجار والانحياز السابق ذكرها حسب كل حالة على حدا, لتتخذ عدة أشكال منها ما هو مباشر بالرفض الصريح لتقديم العلاج الذي يقتضيه التشخيص السليم للحالة الصحية, ومنها ما هو التفافي عبر الرفض الملتوي سواء بالتشخيص المخالف لحقيقة الحالة الصحية أو بوضع شروط تعجيزية للعلاج مثل تقليل عشرات الكيلو جرامات من الوزن خلال عدة أسابيع أو إيجاد متبرع بفصيلة دم معينة على أن يكون دمه نقياً ويكون قريباً للحالة من الدرجة الأولى, وتتجلى أضرار جرائم الامتناع الطبي في الموت أو إلحاق إحدى الإعاقات المستديمة بجسد المريض أو المصاب, أما جرائم التبعية الطبية فهي تلك الناجمة عن دونية سياسية تدفع الطبيب للارتباط بمصالح الشركات الأجنبية على حساب المصالح الوطنية فيقوم بتنفيذ خطط ومشاريع تلك الشركات عبر الترويج لمنتجاتها في السوق المصري, بما يصاحب ذلك من جريمة رشوة مزدوجة فهو يتلقى الرشاوى من أسياده الأجانب ويدفع الرشاوى لوسائل الإعلام المحلية التي تمنحه فرصة ممارسة التضليل من أجل الترويج الدعائي بالمخالفة للقوانين واللوائح والمقتضيات الصحية, أما تجليات جرائم التبعية الطبية فهي تَلَقّي المريض أو المصاب المصري الملهوف على العلاج لأدوية ومستلزمات غير ملائمة إن لم تكن مخالفة لاحتياجاته الحقيقية مما يلحق به الأذى, وأخيراً هناك جرائم إجراء الأبحاث والتجارب الطبية ذات الطابع الجراحي أو الدوائي على أجساد المرضى والمصابين وجثث الموتى بدون موافقتهم, ناهيك عن جرائم أخرى غير طبية إلا أن الأطباء يرتكبونها تحت الغطاء الطبي لاسيما أثناء الغيبوبة التي تحدث بسبب تدهور الحالة الصحية أو بفعل المخدر العلاجي مثل جريمة الاغتصاب أو جريمة انتزاع بصمة الإصبع على أوراق ضارة بحقوق ومصالح المريض أو المصاب أو ما شابه!!. (5) تدير وزارة الصحة المصرية حالياً بشكل مباشر أكثر من مائتين وخمسين مستشفى عمومي إلى جانب مئات الوحدات الصحية الثابتة والمتنقلة لأغراض الإسعاف وتنظيم الأسرة والعلاج المدرسي وجمع تبرعات الدم وغيرها, وترأس وزارة الصحة تنظيمياً عدة مؤسسات علاجية تدير حوالي مائة وخمسين مستشفى تخصصي إلى جانب رئاستها التنظيمية لهيئة التأمين الصحي التي تدير أكثر من مائة مستشفى وعيادة موسعة, وتشرف وزارة الصحة فنياً على حوالي مائة مستشفى تابع لهيئة المستشفيات التعليمية والمعاهد العلاجية التابعة تنظيمياً لوزارة التعليم العالي ومشيخة الأزهر إلى جانب أكثر من خمسين مستشفى تابع للجمعيات الأهلية التابعة تنظيمياً لوزارتي التضامن الاجتماعي والحكم المحلي, بالإضافة إلى مئات المستشفيات والمستوصفات الملحقة بالجمعيات الشرعية والمساجد سواء كانت تابعة لوزارة الأوقاف أو لجماعة الإخوان المسلمين أو للحركة السلفية, كما تشرف وزارة الصحة أيضاً من النواحي الفنية على عشرات المستشفيات الفئوية بالمعنى المهني كالمعلمين والزراعيين والتطبيقيين والدعاة والكهرباء والمقاولين العرب والسكة الحديد والنقل العام ومصر للطيران والبنك الأهلي وما شابه, إلى جانب عشرات المستشفيات الفئوية بالمعنى الطائفي كالراعي الصالح وسان بيتر وكليوباترا ومينا للأقباط الأرثوذكس واليوناني للروم الأرثوذكس والإيطالي للكاثوليك والأنجلوأمريكان للبروتستانت والإنجيلي للأنجليكان وما شابه, بالإضافة إلى مئات المستشفيات الخاصة والاستثمارية والعيادات الجماعية والفردية والمراكز العلاجية المنتشرة في كل المحافظات المصرية, أما المستشفيات العسكرية المحلية التابعة لوزارات الدفاع والداخلية والمخابرات العامة إلى جانب فروع المستشفيات العسكرية العالمية بمصر مثل مستشفى "النمرو" التابع للقوات البحرية الأمريكية والتي يتجاوز عددها المائة مستشفى عسكري, فإن جميعها تمارس كافة أنشطتها على كل المحاور بدون أي إشراف تنظيمي أو فني لوزارة الصحة بل على العكس فإن الوزارة هي التي تخضع من جانبها لإدارات تلك المستشفيات العسكرية فيما تريده حتى لو كان مخالفاً للمقتضيات الصحية والطبية, بما يعنيه تعدد المستشفيات وتنوعها في مصر المعاصرة على النحو المذكور من ارتفاع العدد الإجمالي للأطباء وذوي التخصصات الأخرى المرتبطة بهم كالعلاج النفسي والعلاج الطبيعي والأسنان والصيدلة والتمريض, مع العاملين الآخرين في المجال الطبي كالبياطرة والعلميين والفنيين والمهنيين والإداريين وتوابعهم من العمالة اليدوية الماهرة والعادية حتى بلغ عدة ملايين منتسب إلى المجال الطبي, منهم حوالي نصف مليون موظف رسمي في وزارة الصحة وحدها ونصف مليون آخرين موزعين على وزارات التعليم العالي والدفاع والداخلية والعدل وغيرها من الجهات الحكومية، وهؤلاء يمارسون أعمالاً وظيفية وأنشطة مهنية بالغة الخطورة لوقوعها بين ثنائية الحياة والموت أو على الأقل بين ثنائية الصحة والمرض, دون أن يخضعوا إلى أية منظومة رقابية أو قانونية جادة للحقوق والواجبات تجاه مجتمعهم المصري الذي أنفق رغم فقره على تعليمهم وتدريبهم منتظراً منهم رد الجميل, فإذا بهم يشكلون تحالفاً إجرامياً معادياً للمجتمع يضم الأطباء وتوابعهم مرتكبي جرائم الإهمال والإتجار والانحياز والامتناع والتبعية وغيرها من الجرائم الطبية مع شركائهم الأصليين داخل وزارة الصحة والمؤسسات والهيئات ذات الصلة, مثل المجالس الطبية المتخصصة وهيئة التأمين الصحي والمؤسسة العلاجية وأمانة المراكز العلاجية المتخصصة وأمانة الصحة النفسية وهيئة المستشفيات التعليمية والمعاهد العلاجية ومصلحة الطب الشرعي واتحاد النقابات الطبية والنقابة العامة للعاملين في المهن الطبية وغيرها, إلى جانب الأجهزة الرقابية المشاركة في ذلك التحالف الإجرامي بغيابها العمدي بالإضافة إلى القانونيين الذين يتعمدون مواصلة وصف الأنواع المختلفة من الجرائم الطبية باعتبارها تندرج جميعها تحت بند الإهمال الطبي رغم علمهم باختلاف مستويات النوايا والأخطاء والأضرار, كما يقصرون سلطة تحريك الدعاوى الجنائية ضد الجرائم الطبية وبالتالي إحالة مرتكبيها إلى المحاكمات على النائب العام حصرياً دون غيره من المحامين العموم ورؤساء ووكلاء وأعضاء النيابات المختصة، وإزاء تنامي القوة النسبية للتحالف الإجرامي المذكور بالمقارنة مع الجماعات المدافعة عن حياة وحقوق ومصالح المرضى والمصابين المصريين فإن مرتكبي الجرائم الطبية سيواصلون جرائمهم وهم يخرجون ألسنتهم الساخرة في وجه المجتمع كله، لاسيما وأن الإحصائيات الرسمية تفيد بتردد حوالي 35 مليون مصري سنوياً على مختلف وحدات المجال الطبي بحثاً عن علاج مستعصي لأحوالهم الصحية المستعصية!!. (6) خلق الغياب شبه التام لقواعد الحقوق والواجبات ولجداول الثواب والعقاب ولجهات المراقبة والمحاسبة حالة من الفوضى العارمة على كافة المستويات الوظيفية والمهنية والفنية والإدارية والمالية في المجال الطبي برمته والمجالات الأخرى ذات الصلة, الأمر الذي استثمرته جيداً الأجهزة السيادية طوال العمر الزمني لجمهورية الخوف الأولى الممتد بين عامي 1952 و 2011 بهدف إحكام سيطرتها الأمنية على القيادات والكوادر والقواعد الطبية وشركائهم والعاملين معهم ليصبحوا من توابعها, حتى يمكنها استخدامهم كأذرع وأدوات وسواتر في التعامل مع الأشخاص العاديين الذين تستهدفهم تلك الأجهزة, وهي سيطرة تم إحكامها على المجال الطبي من أعلاه بواسطة المستشفيات العسكرية المستخدمة كقطعة حلوى تجذب الفئران الكبيرة نحو المصيدة, بينما تم إحكامها من أوسط المجال الطبي وأسفله عبر ندب بعض التوابع الأصليين للأجهزة إلى المواقع التنظيمية الداخلية المؤثرة, لذلك فإنه لم تكن من باب المصادفة العضوية الدائمة لوزير الصحة في جميع المجالس السيادية ذات التخصصات الأمنية مثل مجلس الدفاع الوطني ومجلس الأمن القومي طوال عمر جمهورية الخوف الأولى الممتد لستين عاماً رغم الطابع الخدمي لوزارته, كما أنه لم يكن من باب المصادفة أيضاً اشتراط اجتياز نفس الدورات التدريبية التي تقيمها الأجهزة السيادية لكوادرها الأمنية, قبل أن يتولى الأطباء أية مواقع قيادية داخل مصر أو يحصلوا على أية واحدة من الفرص القليلة المتاحة للانتداب كمستشارين طبيين بالسفارات المصرية في الخارج, ولم يكن من باب المصادفة تجنيد خريجي كليات الطب بالخدمة العسكرية الإجبارية كضباط احتياط في القوات المسلحة لمدة ثلاثة أعوام وليس كجنود لمدة عام واحد مثل أقرانهم من المجندين خريجي الكليات الأخرى, مع فتح باب وحيد أمامهم للحصول على فرصة أفضل في الحياة والعمل بانتقالهم إلى فئة الضباط المتخصصين سواء داخل القوات المسلحة أو في الشرطة أو المخابرات العامة, وتمكينهم من الاستمرار في الترقي لصعود السلم الوظيفي حتى رتبة لواء مقابل رتبة مقدم التي غالباً تكون الحد الأقصى المسموح به للراغبين في الاستمرار من ضباط الاحتياط الآخرين غير الأطباء, ورتبة عقيد التي غالباً تكون الحد الأقصى المسموح به للراغبين في الاستمرار من الضباط المتخصصين الآخرين غير الأطباء, ناهيك عن منع خريجي كليات الطب من مزاولة مهنتهم في الدوائر المدنية إلا بعد انتهاء تنفيذهم لأمر التكليف الذي تصدره وزارة الصحة بتأدية الخدمة الوظيفية الإجبارية على نحو يشبه السخرة العسكرية, رغم تكرار المطالبات بتشغيل خريجي كليات الطب فور تخرجهم كمساعدين للأطباء الأصليين في المستشفيات المجانية المجاورة لمنازلهم بأجر مناسب لفترة زمنية تساوي فترتي تجنيدهم وتكليفهم معاً من أجل مصلحة المرضى والمصابين المصريين, وفي عام 2014 تم إنشاء الكلية الطبية العسكرية لتكون إلى جانب عشرات المعاهد العليا والفنية للتمريض العسكري والشرطي تابعة بشكل مباشر للأجهزة السيادية، مما يعني سريان قانون الأحكام العسكرية رقم 25 لعام 1966 على طلابها وخريجيها من الأطباء والممرضين، وبإحكام سيطرة الأجهزة على المجال الطبي والمجالات الأخرى ذات الصلة فقد ضمنت إخضاع غالبية الأطباء وشركائهم والعاملين معهم, إلى درجة التزامهم بتلبية الاحتياجات المتعددة والمتنوعة لتلك الأجهزة حتى لو خالفت القوانين وخرقت اللوائح وانتهكت أخلاقيات المهنة, مقابل حماية الأجهزة السيادية التي تكفل استمرار إفلاتهم من العقاب على ما يرتكبونه من جرائم الإهمال والإتجار والانحياز والامتناع والتبعية وغيرها ليواصلوا ارتكابها باطمئنان تحت أغطية تلك الأجهزة, وعند الضرورة يستخدم الأطباء عتاة الإجرام قاعدة أن الهجوم أهم الوسائل الاحترافية للدفاع فيصدرون تقارير طبية كاذبة لإلقاء المسئولية الجنائية على ضحاياهم, عبر ادعاء إصاباتهم المسبقة في أجسادهم بفيروسات قاتلة أو في أذهانهم بالوسواس القهري أو الاكتئاب الانتحاري أو حتى اتهامهم بإدمان المخدرات أو الكحوليات أو ما شابه, ورغم إدراك الأجهزة لمدى بطلان تلك التقارير بما تحويه من ادعاءات كاذبة إلا أنها تستند عليها في تبرئة توابعها الأطباء وإغلاق ملفات جرائمهم الطبية بشكل رسمي, أما الأطباء الحريصين على خدمة المجتمع المصري بشرف وأمانة ونزاهة دون الخضوع المهين للأجهزة السيادية أو غيرها, فإنهم سرعان ما يجدون أنفسهم تحت نيران البلاغات الكيدية المحبكة في المحاكم المختلفة والنيابات العامة والإدارية وأقسام الشرطة والكسب غير المشروع والتهرب الضريبي والجمركي وما شابه!!. (7) نجحت الأجهزة السيادية بمكوناتها العسكرية والأمنية والرقابية والعقابية والمعلوماتية والدبلوماسية في إحكام سيطرتها على المجتمع المصري برمته طوال العمر الزمني لجمهورية الخوف الأولى الممتد بين عامي 1952 و2011, عبر تعطيلها للوعي الفردي والجماعي بواسطة حظائر السيطرة المقامة على بوابات التفكير والتعبير والتمكين, وعبر استخدامها التصاعدي لخليط من المحاور الأمنية الثلاثة التي تبدأ بمحور احتواء الشخص المستهدف وتطويقه فإذا فشل في تحقيق السيطرة المطلوبة يتم الصعود إلى المحور الأمني التالي بتشتيت الشخص المستهدف وإنهاكه, والذي لو فشل بدوره يتم اللجوء إلى المحور الأمني الأعلى والأخير المتمثل في الإزالة النظيفة للشخص المستهدف, سواء عبر تصفيته جسدياً أو عبر إلحاق إحدى الإعاقات المستديمة بجسده أو عقله أو عبر تقييد حركته بالحبس أو تحديد الإقامة أو منع السفر على أية خلفيات مفبركة, أو عبر تضييق الخناق حول تحركاته الطبيعية لشلها بواسطة حزمة من الشرور المستترة الماكرة التي تختلف باختلاف الظروف الذاتية والموضوعية للأشخاص المستهدفين, وإذا كان التدخل الدوائي المبرمج لتعطيل وعي بعض الأشخاص المستهدفين لا يتم إلا بواسطة الأطباء أو تحت الإشراف الطبي, فإن العلاج الفوري الشافي والمجاني داخل أحد المستشفيات المميزة كفيل باحتواء بعض الأشخاص المستهدفين, كما إن الاستدراج المخادع لإجراء مناظرات طبية وفحوص وتحاليل وآشعات متعددة ومتنوعة ومرهقة ومكلفة دون مبرر صحي كفيل بإنهاك بعض الأشخاص المستهدفين, وكذلك فإن الامتناع عن تقديم العلاج الضروري في الوقت المناسب أو تعمد ارتكاب خطأ طبي مستتر بما يؤدي إلى الوفاة أو الإعاقة المستديمة يكفلان الإزالة النظيفة لبعض الأشخاص المستهدفين, وقد شهدت جمهورية الخوف الأولى عدة جرائم طبية شهيرة تمت لصالح الأجهزة السيادية ضمن برامج السيطرة على خصومها من الأشخاص المستهدفين, لعل أبرزها ما حدث لصديقي الدكتور"أنس مصطفى كامل" الذي قاد النضال النقابي حول مطالبنا المهنية كخريجي أقسام العلوم السياسية خلال سبعينيات القرن العشرين, ثم حصل لاحقاً على حكم قضائي بأحقيته في استلام عمله الدبلوماسي رغم رفض الأجهزة آنذاك على خلفية نضاله النقابي المزعج لها, فتم الإعلان في منتصف الثمانينيات عن وفاته بجلطة دماغية أثناء خضوعه للفحوصات الطبية اللازمة من أجل استكمال إجراءات تعيينه في وزارة الخارجية تنفيذاً للحكم القضائي رغم أن عمره كان خمسة وثلاثين عاماً فقط, إلى جانب ما حدث لصديقي الكاتب الصحفي "بدوي محمود" الذي أعلنت الأجهزة السيادية في منتصف تسعينيات القرن العشرين عثورها على جثته ملقاة أسفل السور الخارجي لمستشفى عام يقع في وسط القاهرة, ملاصقاً لمحل عمله المهني كمدير تحرير جريدة الجمهورية الرسمية ومجاوراً لورش ومحلات عائلته المتخصصة في تصنيع وتجارة وصيانة الخزائن الحديدية, فيما تم تفسيره آنذاك بادعاء غير منطقي مفاده امتناع المستشفى عن علاجه لعدم توافر سيولة مالية معه في حينه, وكان "بدوي" قد انتبه مبكراً لوجود تحالف سري بين تلك الأجهزة وجماعة "الإخوان المسلمين" على حساب الحياة السياسية المدنية في مصر, كما كان قد حصل لتوه على حكم قضائي باسترداد بعض العقارات المورثة عن أجداده في منطقة وسط القاهرة من أيدي توابع الأجهزة الذين سبق لهم الاستيلاء عليها بالقوة, فيما يشبه حالات الوفاة الغامضة لعشرات الأصدقاء اليساريين الشباب من الموهوبين في مختلف الفنون والآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية تباعاً, مثل"عاطف الطيب" و"رضوان الكاشف" و"خالد صالح" و"إبراهيم فهمي" و"أحمد عبدالله" و"محمَّد السيد سعيد" و"تيمور الملواني" و"شهاب سعدالدين" و"منصور عطية" و"أسامة خليل" و"بيومي قنديل" و"نادين شمس" و"سناء المصري" و"أروى صالح" وغيرهم ممن قتلتهم الجرائم الطبية المختلفة، بالإضافة إلى ما ارتكبه الأطباء من جرائم تعويق في جسد صديقتي الفنانة الاستعراضية "شيريهان" عقب إصابتها في حادث غامض مع بداية تسعينيات القرن العشرين وبعد شهور قليلة من تصفية شقيقها الفنان "عمر خورشيد" في حادث أكثر غموضاً, ليس فقط بسبب ما نشرته أمهما "اعتماد خورشيد" حول بعض ممارسات الأجهزة السيادية خلال الستينيات, ولكن أيضاً بسبب إغضاب "شيريهان" لتلك الأجهزة مرتين الأولى عندما جذبت قلوب المراهقين من أبناء قادة الدولة والمجتمع والثانية عندما انتزعت حكماً قضائياً يثبت نسبها إلى أبيها رغم كونه مستشاراً قانونياً لهؤلاء القادة, وأخيراً فقد أعلنت الأجهزة السيادية قبيل إسدال ستائر جمهورية الخوف الأولى بأيام عن وفاة صديقي اللواء "عمر سليمان" أثناء خضوعه لفحوصات طبية دورية اعتيادية في عام 2012, عقب شطب المجلس العسكري الحاكم آنذاك اسمه من قائمة مرشحي رئاسة الجمهورية لصالح مرشح الإخوان المسلمين, وكان "سليمان" بعد قيادته الممتدة إلى ثلاثة عقود زمنية للاستخبارات العسكرية ثم للمخابرات العامة ومجلس الدفاع الوطني هو الصندوق الأسود لكل ملفات وكوابيس مصر المعاصرة, بما فيها ملف المجلس العسكري وملف الإخوان المسلمين وملفي أنا الشخصي وكابوس الجرائم الطبية!!. (8) رغم خوضي عدة معارك ومشاجرات وخصومات مبكرة دفاعاً عنه بسبب احترامي لذكائه العقلي وإشفاقي على إعاقاته الجسدية إلا أنه لم يخرجني من دائرة كراهيته السوداء لجميع زملاء الدراسة الابتدائية, لكونهم أطلقوا عليه اسم "أحدب نوتردام" ساخرين من اسمه الأصلي الذي يشبه أسماء البنات ومن إصاباته الخلقية التي تعددت وتنوعت لتشمل انحناء الظهر وسقوط الشعر وتعثر الخطوات وتلعثم النطق وضعف البصر والتبول اللاإرادي, وهي إصابات نجح الأطباء في علاجه منها تباعاً باستثناء أخطرها المتمثلة في كراهيته السوداء لأقرانه, لاسيما وأن الطبيب النفسي الوحيد الذي انتبه لخطورة تلك الكراهية قرر الإبقاء عليها وتنميتها لاستغلالها في تجنيده لصالح الأجهزة السيادية الكارهة للمواطنين والتي كان ذلك الطبيب أحد توابعها, حيث أقنعه الطبيب النفسي كذباً بأن علاجه لم يكن ممكناً إتمامه لولا تدخل الأجهزة بالرعاية والإنفاق والمتابعة ليقرر "الأحدب" رد الجميل الوهمي لتلك الأجهزة عبر التحاقه بها بمجرد حصوله في شهادة الثانوية العامة على ترتيب متقدم فتح له أبواب كلية الطب, وقاده تفوقه الدراسي ثم المهني مع استمرار ولائه للأجهزة السيادية وكراهيته لأقرانه تدريجياً إلى الموقع الوظيفي المسئول عن العمليات الطبية السلبية التي تشنها الأجهزة ضد الأشخاص المدرجين على قوائم أهدافها, وهي تلك القوائم التي ضمتني في ذيلها مبكراً باعتباري من الأشواك المحتملة وتحديداً منذ مولدي لأبوين كانا يتصدران صفوف المعارضة الشيوعية في أواخر خمسينيات القرن العشرين, ليتم تصعيدي إلى منتصف القوائم عقب مشاركتي الشخصية مع أبناء جيلي من الشيوعيين في قيادة انتفاضة يناير عام 1977الجماهيرية الاحتجاجية ذات الأبعاد الاجتماعية, لأجدني عند بداية الثمانينيات في مقدمة القوائم بعد إصدار الحزب الشيوعي السري كراسة تضم بحثي السياسي الخاص بالبدائل المتاحة لمواجهة العدو الصهيوني المدعوم أمريكياً تحت عنوان "حرب التحرير الشعبية هي طريق الشعب المصري للتحرر الوطني", رغم تعمد الحزب إخفاء كل الإشارات الدالة على الاسم الحقيقي أو الحركي للباحث بهدف حمايته وتأمينه, وقد كان من الطبيعي أن كل صعود إلى درجة وعي أعلى يواكبه تصاعد لمركزي داخل قوائم أهداف تلك الأجهزة بما يواكبه من تصاعد لنصيبي في خطط وعمليات الاستهداف, التي تنوعت لتشمل فيما شملته عدة استهدافات طبية ليس فقط على محور تعطيل الوعي ولكن أيضاً على محاور الاحتواء والتشتيت والإزالة، كما كشفت محتويات ملفي الأمني بشقيه المعلوماتي والعملياتي وبشقيه الداخلي والخارجي والتي أوضحت أن "الأحدب" هو الذي تولى إدارة عمليات الاستهداف الطبي السلبي تجاهي, منذ اللحظات الأولى لعملي الدبلوماسي كمستشار إعلامي في السفارة المصرية بالسودان مع بداية تسعينيات القرن العشرين رغم حرصه على صعود سلم الطائرة لاستقبالي أو توديعي وكأنه أحد أصدقائي المقربين!!. (9) أمرت المحكمة العسكرية العليا في مدينة "الإسكندرية" الساحلية عام 1924 بحل الحزب الشيوعي المصري وحظر عودته للعمل السياسي مرة أخرى تحت طائلة قانون الأحكام العسكرية, مع مصادرة كافة مقاره وأملاكه وأمواله النقدية والعينية على امتداد الأراضي المصرية, إلى جانب حبس كل قياداته وكوادره وأعضائه المعروفين الذين سبق لهم الإعلان عن أنفسهم بهذه الصفة وملاحقة جميع أفراد عائلاتهم وأصدقائهم, بالإضافة إلى ترحيل أبناء الجاليات وذوي الأصول الأجنبية وحاملي الجنسيات المزدوجة منهم خارج مصر وإدراج أسمائهم ضمن قوائم الممنوعين من الدخول, على أن يتم تنفيذ ومتابعة ذلك كله بمعرفة مكتب مكافحة الشيوعية الذي كان قد نشأ لتوه كإدارة مشتركة بين القلم السياسي التابع لجهاز الأمن العام المصري وقلم الأمن الحربي التابع لقوات الاحتلال البريطاني, مما ترتب عليه انتهاء الوجود العلني للمرحلة الأولى من الحركة الشيوعية المصرية بعد ميلادها بربع قرن زمني, ورغم أن قادة وكوادر الشيوعيين الذين أفلتوا من الحبس والترحيل قد اتخذوا وضع الخلايا النائمة بما صاحبه من استمرارهم في التداول والنقل السري الواعي لمختلف الأفكار والتحليلات السياسية وفنون العمل التنظيمي والجماهيري, فإن بعض أعضاء المرحلة الشيوعية الأولى الطلقاء استمروا في العمل السياسي العلني ولكن داخل صفوف الأحزاب والتنظيمات والجماعات الأخرى سواء كانت موجودة في حينه مثل حزب "الوفد", أو تم استحداثها فيما بعد مثل جماعة "الإخوان المسلمين" التي ظهرت إلى الوجود عام 1928 بمدينة "الإسماعيلية" الساحلية كامتداد سياسي مدعوم من قوات الاحتلال البريطاني لجماعة "المنار" الدينية, واستفاد الإخوان المسلمون كثيراً من فنون العمل التنظيمي والجماهيري التي حفظوها عن ظهر قلب بعد أن لقنهم إياها الشيوعيون الوافدون إلى صفوفهم لدرجة تفاخرهم بها أحياناً وكأنها إبداعاتهم الخاصة, متناسين أن الخزانة الرئيسية للوعي الشيوعي بما تحويه من أفكار وتحليلات سياسية وفنون العمل التنظيمي والجماهيري استمرت محفوظة ومحمية في قلب الجسد الرئيسي للحركة الشيوعية, التي انتقلت خلال أربعينيات القرن العشرين إلى مرحلتها الثانية ذات الطابع شبه العلني, لتنتقل مرة أخرى عام 1965 إلى وضع الخلايا النائمة بعد الحل القهري للحزب تحت وطأة قانون الأحكام العسكرية الذي طبقه الرئيس "جمال عبدالناصر" بحذافيره على الشيوعيين, ومع انتصاف سبعينيات القرن العشرين بدأت المرحلة الثالثة من الحركة الشيوعية المصرية والتي اتسمت بالسرية، وبتعاقب أجيال الحائزين على الخزانة الرئيسية للوعي الشيوعي أصبحت في حوزتي لتمنحني قدرة إضافية على اكتشاف وكشف المناورات التنظيمية والألاعيب الجماهيرية التي تمارسها مختلف القوى السياسية بما فيها جماعة الإخوان المسلمين, حتى أن أول أبحاثي المنشورة باسمي كان ذلك الذي أصدرته لي جامعة القاهرة قبل نهاية السبعينيات تحت عنوان "الإخوان المسلمون على مذبح المناورة", وقد أعادت إحدى المؤسسات الثقافية اللبنانية الكبرى في منتصف الثمانينيات طباعته ونشره وتوزيعه باللغة العربية مع طرحه على مترجمي اللغات الأجنبية الحية لترجمته, حيث ترجمه إلى اللغة الروسية أحد كوادر الأمن السياسي السوفيتي المسئولين عن مكافحة جماعات التطرف الإسلامي النشطة داخل جمهوريات الاتحاد السوفيتي الإسلامية والذي كان يعمل في حينه مستتراً تحت غطاء أكاديمي بجامعة بيروت, بعد أن كان الإخوان المسلمون قد أدركوا أنني أراهم على حقيقتهم العارية بوعي مكتمل فسارعوا إلى محاولة خطفي ذهنياً عبر سعيهم الدءوب لاحتوائي بين صفوفهم على أي وضع يرضيني, ومع انتفاء تلك الإمكانية لانعدام ثقتي فيهم لم يكن أمامهم لإطفاء الأضواء المسلطة من جانبي على انحرافاتهم السياسية سوى السعي إلى تشتيتي وإنهاكي أو تصفيتي جسدياً بواسطة شعبة العمليات الدموية المعروفة باسم "النظام الخاص", لاسيما وقد واتتهم الفرصة الذهبية للانفراد بي مع انتقالي عند بداية تسعينيات القرن العشرين للعمل والإقامة في دولة السودان, التي كان يحكمها آنذاك تحالف ثنائي بين الفرع السوداني لجماعة الإخوان المسلمين المصرية المعروف باسم "الجبهة الإسلامية" والفرع السوداني للأجهزة السيادية المصرية المعروف باسم "جبهة الإنقاذ الوطني"!!. (10) بلغ زميل دراستي "الأحدب" مرحلة المراهقة قبل أقرانه لذلك فقد سبقنا جميعاً من حيث النواحي الذكورية بفترة زمنية قصيرة ميزته علينا ومنحته الفرصة للتباهي أمامنا تعويضاً عن عيوبه الخلقية العديدة, ورغم تفوقه الدراسي فقد ظل فخوراً بالسبق الذكوري حتى التحق بالأجهزة السيادية التي أخضعته كغيره من توابعها لبرنامج "الثبات الانفعالي", مما أسفر عن تعطيل وعيه كما أسفر في الوقت ذاته عن ردم كافة مشاعره الإنسانية الإيجابية وعلى رأسها ميوله العاطفية والغرامية نحو الجنس الآخر, لتصبح المرأة بالنسبة له مجرد أداة لامتصاص شحنة من الإفرازات الفيزيائية المتراكمة داخل جسده منعاً للاحتباس الناجم عن عدم تفريغها, ونظراً لإخلاصه المفرط وطاعته العمياء فقد حصل "الأحدب" على حصص إضافية وبالتالي جرعات زائدة من الثبات الانفعالي ترتب عليها انهيار الجانب الذكوري في جهازه العصبي بدرجة أدت إلى إفشال كل مساعيه لإقامة أية علاقة نسائية حميمية مكتملة, حتى دفعه تكرار الفشل نحو ممارسة الشذوذ الجنسي السلبي الذي يتعارض مع طبيعة عمله الأمني فأخذ يتخبط بين عدة محاولات متتالية وفاشلة للانتحار, وبحلول النصف الثاني لعام 2014 قررت الأجهزة السيادية إنهاء خدمته وإحالته إلى التقاعد لعدم صلاحيته "الصحية" مع إيداعه قسراً دار رعاية معاقي الإصابات الجسمانية والعجزة والمسنين الكائنة بضاحية "التجمع الخامس" في محافظة "القاهرة", حيث التقاني عقب اضطراري للإقامة هناك تحت ضغط إصابتي بعدة إعاقات جسدية ناجمة عن محاولة فاشلة لاغتيالي خلال عملي الدبلوماسي في السودان بما أسفرت عنه من كسر عمودي الفقري وما أعقبها من عمليات استهداف طبي متعددة تجاهي, كانت قد فشلت بدورها في تصفيتي ربما لأن المسئول الأمني الذي تولى الإشراف على تخطيطها وتنفيذها كان هو ذاته "الأحدب" الفاشل, وقد حاول استثمار هذا الأمر لخداعي بادعاء كاذب مفاده أن الأجهزة قد أنهت خدمته على خلفية اتهامه بتعمد الفشل في تصفيتي لإبقائي حياً بالمخالفة لتعليمات تلك الأجهزة, رغم أن إصابتي بعدة إعاقات جسدية مستديمة على يديه تعني حسب بروتوكولات جداول الاستهداف نجاحه في تنفيذ مهمته ولو بشكل نسبي, ومع اتساع نطاق كراهيته السوداء المزمنة ليشمل الأجهزة السيادية التي تجاهلت سوابق "خدماته الجليلة العديدة" وغدرت به دون منحه "فرصة أخرى" لإصلاح أحواله الشخصية, فقد روى لي "الأحدب" ما لديه من تفصيلات تتعلق بمحاولات الاستهداف الطبي التي مورست ضدي سواء ارتكبتها المحطات الطبية في قطاعات العمليات الميدانية بتلك الأجهزة أو ارتكبتها الأسرة الطبية في شعبة النظام الخاص بجماعة الإخوان المسلمين, ليكشف لي أنني كنت أسيراً محاصراً بين مطرقة "الدكاترة الأمنجية" وسندان "الدكاترة الإخوانجية" في مصر والسودان على مدى ربع قرن زمني, حيث اتفق هؤلاء وأولئك على السعي لكتمان شهاداتي الحية حول تجاربي المؤلمة سواء مع الأجهزة أو مع الجماعة أو كليهما معاً, لاسيما وأن الفريقين كانا قد تحالفا سوياً منذ عام 1979 في مصر ومنذ عام 1989 في السودان, بموجب تقسيم عمل سري أبقى على الأجهزة السيادية في الصف الأول لتتولى القيادة الرسمية للدولة بينما أبقى على الإخوان المسلمين في الصف الثاني ليتولوا القيادة الموازية للمجتمع, وكما حارب الفريقان معاً على الساحتين المصرية والسودانية ضد الشيوعيين والليبراليين المحليين, فقد حاربا معاً على الساحات الخارجية المختلفة تحت القيادة العسكرية الأمريكية المباشرة ضد العديد من حركات التحرر الوطني والديمقراطي والاجتماعي في المستعمرات السابقة المعروفة حالياً باسم دول العالم الثالث!!. (11) أصدر مجلس الدولة يوم 3/5/2014 حكماً تاريخياً في الدعوى المقيدة تحت رقم 3556 للسنة القضائية رقم 67 حيث نص على إلزام الدولة المصرية بكل وزاراتها وهيئاتها وأجهزتها المعنية بوقف كافة الجرائم الطبية الموجهة ضدي وإزالة الآثار المترتبة عليها, مع تأكيد القاضي لأن الحكم المذكور ينطق بالحق في وجه الباطل بعد فحص دقيق وعميق لجميع وقائع القضية المثبتة بالأدلة والبراهين والمستندات وأقوال الشهود العدول, ورغم ما نص عليه منطوق الحكم بشكل واضح وصريح من وجوب تنفيذه فوراً ولو بالقوة الجبرية استناداً لمسودته ودون حاجة إلى الإعلان القانوني المسبق للمسئولين المحكوم عليهم, إلا أنهم امتنعوا عمداً عن تنفيذه وهم يخرجون ألسنتهم الساخرة في وجهي لاسيما وقد منحهم القانون المصري حصانة من المثول أمام القضاء وحصانة من الخضوع للرقابة على أفعالهم ذات الصلة المباشرة بموضوع القضية المشار إليها, ليبقى ملف الدعوى القضائية مجرد سجل رسمي يوثق للباحثين عدة وقائع استهداف طبي تجاوزت في غرابتها الدرجة القابلة للتصديق, وهي الوقائع التي بدأت منذ التحاقي بالعمل الدبلوماسي كمستشار إعلامي للسفارة المصرية في السودان مع بداية تسعينيات القرن العشرين بعمليتي استهداف طبي متقاطعتين ومتزامنتين إحداهما للأجهزة السيادية والأخرى لجماعة الإخوان المسلمين, حيث دفعت الأجهزة بمجموعات متتالية من النساء المحترفات المصابات بفيروس الإيدز القاتل إلى حياتي, بعد تعطيلها العمدي لكل محاولات تحصيني بالزواج من أية عروس مناسبة سواء كانت مصرية أو سودانية أو حتى أجنبية وفق التفاصيل التي لا يتسع المجال هنا لذكرها, بينما دفع النظام الإخواني الخاص بمجموعات متتالية من النساء المحترفات المصابات بطفيل الملاريا القاتل إلى حياتي, بعد تعطيله العمدي لكافة محاولات تحصيني بالأمصال واللقاحات الوقائية اللازمة وفق التفاصيل التي لا يتسع المجال هنا أيضاً لذكرها, فكانت النتيجة المفاجئة لتوابع العصابتين "الأمنجية والإخوانجية" ولي أنا قبلهم باعتباري المجني عليه هي أن كل واحدة من عمليتي الاستهداف الطبي قد أفسدت الأخرى وأبطلت مفعولها, كحقيقة علمية مفادها أن وجود فيروس الإيدز مع طفيل الملاريا داخل نفس الجسد البشري في الوقت ذاته يؤدي إلى استمرار تصارعهما حتى يفنيان معاً فكلاهما يعتبر القاتل الحيوي الوحيد للآخر, الأمر الكفيل بالحفاظ على حياة الشخص المستهدف وسلامته كأنه لم يتعرض أصلاً لأية إصابة سواء بالإيدز أو بالملاريا, وهي حقيقة علمية لم تكن معروفة عند بداية استهدافي بل توصلت إليها منظمة أطباء بلا حدود العالمية التي اكتشفتها على الأراضي السودانية في حينه واكتفت بإعلانها لاحقاً على نطاق علمي ضيق, وهكذا شاهدني ملايين المصريين والسودانيين في أعقاب تلك العملية الطبية المزدوجة الفاشلة على كل شاشات التليفزيون الأرضية والفضائية, خلال تأديتي لأحد مقتضيات عملي المهني بهمة ملحوظة ونشاط ظاهر أثناء إشرافي على المركز الإعلامي الخاص بمباراة كرة القدم المقامة آنذاك بين فريقي مصر والسودان ضمن تصفيات كأس الأمم الأفريقية, بينما كان توابع الأجهزة السيادية يعلنون في صحفهم الصفراء خبر وفاتي متأثراً بالإيدز وتوابع الإخوان المسلمين يعلنون في صحفهم الصفراء خبر وفاتي متأثراً بالملاريا, دون أي تعليق من جانب المكتب الإقليمي لمنظمة أطباء بلا حدود العالمية الذي استمر في إرسال طواقمه بانتظام إلى منزلي لسحب عينات الدم وتحليلها أولاً بأول ثم طمأنتي على سلامتي بخلو تلك العينات من أية فيروسات أو طفيليات!!. (12) لضمان حصولهم على مساهمة هيئة التأمين الصحي في سداد فواتير العلاج خصماً من رصيدهم المالي لديها ولضمان احتساب فترة علاجهم كإجازة مرضية مدفوعة الأجر وليس انقطاعاً عن العمل يستوجب الخصم من الأجر, فإن موظفي الدولة يضطرون إلى التعامل مع مستشفيات وزارة الصحة عندما يتعرضون لمرض أو إصابة باستثناء الحالات الخاصة التي يرغبون في عدم إدراجها داخل ملفات خدمتهم الوظيفية لسبب أو آخر, مثلما حدث معي عند اكتشاف إصابتي بالتهاب بواسير حاد عقب عودتي إلى "القاهرة" بعد خمسة أعوام متتالية من ممارستي للعادات الغذائية السودانية المليئة بالشطة والبهارات الحارقة, فكان ذهابي شبه السري إلى أقرب عيادة خاصة لطبيب جراح اتضح لاحقاً أنه ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين بما يعنيه ذلك من حيازته لمعلومات تفصيلية عني أنا وغيري من سكان الحي, وقد قادني الطبيب الإخواني إلى أحد المستشفيات الخاصة بجماعته حيث أجرى لي جراحة يوم واحد لإصلاح البواسير الملتهبة دون إخطاري بما أعطاني إياه من عقاقير كيميائية قبل وأثناء وبعد الجراحة, إلا أن آلاماً مبرحة لمغص معوي متواصل داهمتني في اليوم التالي لعودتي إلى منزلي فما كان مني سوى الاتصال هاتفياً بجهة عملي لمنحي إجازة مع إبلاغهم حسب اللوائح بنيتي التوجه نحو المستشفى العمومي المجاور, وهناك طلب مني أطباء قسم استقبال الطوارئ الرحيل والعودة في الصباح الباكر لمناظرتي بمعرفة رئيس قسم الجراحة شخصياً, رغم إدراكهم لحقيقة حالتي الصحية المتمثلة في انفجار الزائدة الدودية نظراً لحقني بعقاقير خاطئة أثناء جراحة البواسير مع إدراكهم لحقيقة أن مثل هذه الحالة الطارئة لا تنتظر حتى حلول الصباح, وخلال مغادرتي انشق طبيب شاب أسمر اللون عن زملائه وهرول خلفي ليكشف لي الحقائق التي أخفوها عني وينصحني بالعودة فوراً إلى المستشفى التابع للجماعة موضحاً أنه يناوب فيه ليلاً من أجل تحسين دخله المالي, فلم يكن أمامي سوى تسليم نفسي إلى الطبيب الإخواني مرة أخرى لإصلاح ما سبق أن أتلفه داخل جسدي, وهكذا أخضعني مجدداً لجراحة جديدة استأصل فيها الزائدة الدودية ثم أغلق فتحة الجراحة بإحكام شديد دون ترك مخارج أو تركيب مضخات وعند سؤاله أفادني بأن جراحته نظيفة لدرجة عدم احتياجها إلى المخارج والمضخات, وهي كذبة قاتلة مقصودة لإخفاء جريمة طبية بشطارة أبناء الكار حيث ظل الجرح الداخلي ينزف دماً ملوثاً وصديداً كما هو متوقع سلفاً دون أية إمكانية لضخ هذه السموم وطردها خارج جسدي, مما أدى إلى انتشارها وتغلغلها واقترابها من القلب والأعضاء الحيوية الأخرى الأمر الذي أدخلني في غيبوبة تسمم دموي مؤدية نحو موت مؤكد, ولكن زائراً سرياً تسلل قبيل الفجر وانفرد بجسدي المسجى بلا حراك عقب إغلاقه الغرفة من الداخل ليحشر في فمي وسادة قطنية ويخرج مشرطاً طبياً كان يخفيه داخل ملابسه, طعنني نفس الطبيب الشاب الأسمر طعنة واحدة قوية وغائرة بمشرطه الحاد في فتحة الجراحة الخارجية المغلقة, فأطلق جسدي نافورة سوداء من الدم الملوث والصديد طالت سقف الغرفة وجدرانها متخلصاً بذلك من السموم القاتلة ليعاودني الوعي بطيئاً فأجد صاحب المشرط يُذَكِرُني بنفسه, مؤكداً أنه يحاول رد جميل سابق بمنحي إياه تأشيرة دخول مجانية وتذكرة سفر مخفضة إلى "القاهرة" عقب فشله في الحصول على عمل كطبيب بالسودان نظراً لنشاطه السياسي خلال دراسته الجامعية, مع استضافتي له داخل صالون مكتبي في "الخرطوم" إلى حين حلول موعد إقلاع طائرته حيث لم يكن بمقدوره مالياً العودة لمنزله الكائن في إحدى القرى النائية البعيدة, أخذ الطبيب يربت على كتفي وهو يطمئنني باللهجة العامية السودانية قائلاً "هاسي - دي- كفارة – يا ابن النيل" فوجدتُني أرد عليه شاكراً باللهجة العامية السودانية قائلاً "حبابك - هناي - كبشة – يا زول"!!. (13) كان إصراري على تأدية عملي المعلوماتي كمستشار إعلامي للسفارة المصرية في السودان بموضوعية مهنية وأمانة سياسية قد أزعج بعض الأجهزة المحلية والإقليمية والعالمية المتخصصة في مجال المعلومات, لإصرارها على تضليل الشعوب والحكومات والمؤسسات الدولية بشأن أخطار غير قائمة من أجل ضمان استمرار حصولها على تمويل ونفوذ غير مستحقان, فدبرت تلك الأجهزة معاً محاولة لاغتيالي عبر تهشيم سيارتي بواسطة عدة مركبات شبه عسكرية ذات دفع رباعي ثم "دحرجة" سيارتي بعد تهشيمها للسقوط في النيل الأزرق وأنا بداخلها, الأمر الذي لم يسفر عن التخلص مني ولكنه أدى إلى كسور مضاعفة في عمودي الفقري بسبب العنف المستخدم في عملية التهشيم ثم اصطدامي العنيف بالصخور عند قفزي خارج السيارة وهي تتدحرج للأسفل سقوطاً نحو النيل, وبمجرد عودتي إلى "القاهرة" عقب انتهاء عملي في السودان خلال النصف الثاني لتسعينيات القرن العشرين استدعاني أحد الأجهزة السيادية المصرية المتورطة في محاولة الاغتيال الفاشلة لمقره القريب من مطار"القاهرة", حيث طالبني قائد الجهاز بعدم البوح أو الإفصاح عما جرى لي أثناء محاولة اغتيالي لأي شخص حتى لو كان رئيس الجمهورية نفسه, مقابل وعده بإعادة إلحاقي على وجه السرعة كمستشار إعلامي للبعثة الدبلوماسية المصرية في "نيويورك" التي تضم أبرع أطباء العمود الفقري, كما تضم أيضاً القيادة الأمريكية العليا لمختلف الأجهزة السيادية في كافة دول العالم باستثناء روسيا والصين وكوبا وفيتنام وكوريا الشمالية, ومع مرور أعوام من مماطلة قائد الجهاز في تنفيذ وعده بإعادة الإلحاق العلاجي تفاقمت إصابتي إلى حد الإعاقة الحركية فكان قراري بدخول المستشفى العمومي المتخصص الأكبر في مصر عام 2002, لتتدخل الأجهزة فوراً بعرقلة إجراء الجراحة إلى حين نقل بعض توابعها المدربين المتخصصين في جراحات العمود الفقري للمستشفى حتى يشرفوا بأنفسهم على تنفيذ خطط استهدافي الطبي, ورغم أن مدير عام المستشفى الذي طالما زاملني داخل النادي الشهير قد وافق من حيث المبدأ على التجاوب مع تلك الأجهزة فيما يخصني تحاشياً لأذاها إلا أنه عاد وتحفظ إزاء ما وصفه لي لاحقاً بالتجاوزات الصارخة في مدى ونوعية خطط الاستهداف, فصدر قرار مشترك لوزيري الصحة والخارجية بانتدابه إلى وظيفة مستشار طبي في إحدى السفارات المصرية بالخارج مع النص على ضرورة إسراعه في التنفيذ لخلو الموقع الوظيفي بانتظار وصوله, ولكنه أرسل للوزيرين تهديداً ضمنياً ناعماً بكشف مستور الأجهزة السيادية لو أصابني مكروه داخل المستشفى أثناء إدارته لها ثم تلكأ عمداً في تنفيذ قرار الندب حتى عودتي إلى منزلي, الأمر الذي اضطر معه توابع الأجهزة من الأطباء إلى تنفيذ الخطة البديلة تجاهي, حيث قاموا بفتح وإغلاق منطقة أسفل الظهر وتركيب بعض الشرائح والمسامير الطبية عشوائياً دون العلاج الحقيقي لعمودي الفقري المكسور بما كان يقتضيه من إعادة تقويمه واستعداله قبل تثبيته, مع عبث كيميائي في الغدد الليمفاوية أصابني بخلل هرموني أدى إلى تضخم هائل لحجم المعدة مما زاد كثيراً من الضغط المؤلم على العمود الفقري المكسور, رغم أن أولئك التوابع كانوا قد نجحوا في استنطاقي معلوماتياً تحت جرعات تخدير مبرمجة خلال وجودي داخل غرفتي العمليات والعناية المركزة تباعاً, وهو الاستنطاق الذي كشف لهم ولرؤسائهم أن بحوزتي وفرة من المعلومات السرية النادرة التي تهم الأجهزة السيادية, وأن استخدامي لهذه المعلومات كان ومازال يتم في إطار الحرص على حماية حقوق ومصالح الوطن ودرء المخاطر عنه حتى لو كان الخطر صادراً عن تلك الأجهزة ذاتها!!. (14) في 30 يونيو 2012 تولى الإخوان المسلمون رسمياً حكم مصر بتسلم مرشحهم الاحتياطي "محمَّد مرسي" رئاسة الجمهورية عقب أسابيع من حصول نوابهم على الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة, وسارع الإخوان بمحاولة التمكين لأنفسهم على مظنة اعتلائهم للاتجاه الإسلامي بشقيه الآخرين السلفي والجهادي وشرعوا في مناوراتهم السياسية الغبية, والتي تمثلت إحداها آنذاك في النفاق الفج للأجهزة السيادية والاحتضان الدافئ لامتدادها المدني داخل الاتجاه القومي باعتبارهم من "المؤلفة قلوبهم" مع الإقصاء الخشن لشركائهم السابقين في انتفاضة يناير 2011 المنتمين إلى الاتجاهين الشيوعي والليبرالي باعتبارهم من "الكفار والضالين", وفي ظل تلك المناورة الغبية أطلقت وسائل إعلام الاتجاه الإسلامي بمكوناته الإخوانية والسلفية والجهادية هوجة من الفتاوى الفقهية الشاذة, استوقفتني إحداها في تلميحها بعدم جواز علاج "الكفار والضالين" من أمراضهم وإصاباتهم الجسدية لأن الأولوية هي لعلاج عقولهم "المنحرفة" فإذا استعصى ذلك يكون الأصلح للدعوة الإسلامية تركهم دون علاج حتى يموتون "بإذن الله", ولأنني أنتمي فكرياً إلى المنطقة الحدودية المشتركة بين الاتجاهين الشيوعي والليبرالي بما يعنيه ذلك من إدراجي ضمن جداول "الكفار والضالين" الذين كان حكام تلك الأيام يدعون لعدم علاجهم, فقد دفعني الخوف إلى إقامة الدعوى المقيدة تحت رقم 3556 للسنة القضائية رقم 67 في مجلس الدولة والخاصة بوقف وإزالة آثار الجرائم الطبية المرتكبة ضدي, ليتصل بي وزير الصحة الإخواني طالباً مني سحب الدعوى القضائية مقابل التزامه بعلاجي الفوري تحت إشرافه الشخصي وهو ما نصحني القانونيون بقبوله من خلال تعليق الدعوى فقط بحيث يمكن إعادتها لو أخل الوزير بوعده, وهكذا تقرر في نوفمبر 2012 البدء باستئصال جزء من معدتي المتضخمة الضاغطة على العمود الفقري كإجراء تحفظي مسبق وضروري تمهيداً لإصلاح كسور عمودي الفقري, وذلك داخل مستشفى عمومي متخصص يقع على أطراف العاصمة كان أطباء الاتجاه الإسلامي قد أحكموا سيطرتهم عليه بمجرد توليهم إدارة الدولة, وهناك قام فريق "الدكاترة الإخوانجية" بفتح جسدي من الرقبة لما بين الفخذين وتركه دون إغلاق بأي خياطة نهائية بعد أن كانوا قد شقوا معدتي إلى نصفين, ثم أوصلوني بعشرات الأجهزة والمضخات والخراطيم والأنابيب لمختلف أنواع الصادر والوارد من وإلى جسدي الممزق والممدد على فراش محاط بقضبان حديدية جرى تقييد أشلائي المكومة فيها بحجة منعي من الحركة الضارة, وخلال إحدى مرات الانقطاع الدوري التكراري للتيار الكهربائي العمومي تم إطفاء كل توصيلات الصادر والوارد المذكورة وفصل سلوك الهاتف الداخلي وزر الاستغاثة عن المولد الكهربائي الاحتياطي, مع إغلاق باب الغرفة من الخارج في الوقت ذاته بالمفتاح الموجود حصرياً لدى مدير عام المستشفى الملتحي الأمر الذي يؤدي إلى موت مؤكد خلال ساعات قليلة, لاسيما في ظل عجزي الكامل عن الحركة الجسدية وعدم وجود مرافق معي ومنع الزيارات عني وسحب هاتفي المحمول, بل وحظر متابعتي من قبل أفراد الطواقم التمريضية إلا في وجود المدير العام شخصياً استناداً إلى فتوى فقهية شاذة حول انكشاف عورتي لعدم ارتدائي ملابس داخلية, ولما كان دخولي المستشفى الإخواني في العهد الإخواني متزامناً مع إجراء انتخابات مجلس نقابة التجاريين المؤجلة منذ ثلاثة عقود, فقد اتفق ممثلو الاتجاهات الإسلامية والقومية والشيوعية والليبرالية بالنقابة على تزكيتي للاستمرار في نفس موقعي الذي أشغله منذ ثلاثين عاماً كممثل لخريجي أقسام العلوم السياسية بالمجلس, وشكلوا وفداً يضم الاتجاهات الأربعة لزيارتي بهدف استيفاء توقيعي على أوراق الترشيح للانتخابات, حيث فوجئ أعضاء الوفد النقابي بحالتي المتردية داخل المستشفى فصبوا جام غضبهم على زميلهم ممثل الاتجاه الإسلامي والذي تصادف كونه عضواً في مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة آنذاك, وهم يتوعدونه بوقف كافة أشكال التنسيق النقابي مع أعضاء جماعته بل والسعي لإسقاطهم في انتخابات مجلس النقابة الوشيكة, فانفعل القيادي الإخواني تحت الضغط المهني المكثف لزملائه النقابيين وقام باستدعاء مدير عام المستشفى الملتحي لتهديده بإقالته الفورية لو استمرت حالتي على ما هي عليه, وهكذا أسرع مدير عام المستشفى من جانبه بالتراجع عن خطة استهدافي الطبي التي بدأ تنفيذها فعلياً مع إخوانه ليحاولوا لملمة أشلائي قدر استطاعتهم, بعد أن كانوا قد حقنوني بعقار كيميائي خاص أسفر عن ارتفاع شديد في ضغط العين أوشك أن يصيبني لاحقاً بالعمى!!. (15) أدى انشطار معدتي إلى نصفين مع تضخمها لإتلاف جدارها الخارجي وتمزق الحجاب الحاجز فبرز جهازي الهضمي كله بشكل واضح إلى الأمام وتدلى في الوقت ذاته نحو الأسفل, الأمر الذي زاد من إعاقاتي الحركية ودفعني لإعادة إحياء الدعوى القضائية الخاصة بوقف الجرائم الطبية المرتكبة ضدي وإزالة آثارها, حيث تم تداولها أمام مجلس الدولة على مدى عدة جلسات مغطاة بصخب إعلامي كبير ابتداءً من يناير 2013 حتى يناير 2014 عندما قرر القاضي حجز الدعوى إلى جلسة 3/5/2014 لإصدار الحكم فيها, مما أثار مخاوف الأجهزة السيادية التي كانت قد استعادت لتوها السيطرة على الدولة عقب انقلاب عسكري ناجح لوزير الدفاع "عبدالفتاح السيسي" الذي أطاح بحكم الإخوان المسلمين يوم 3/7/2013 مستفيداً من تنامي الغضب الشعبي تجاه الغباء الإخواني, فاستدعاني القائد الحالي لأحد تلك الأجهزة إلى مقره القريب من مطار "القاهرة" حتى يقوم بتنفيذ ما سبق أن وعدني به القائد السابق للجهاز ذاته قبل عدة أعوام, وسلمني قراراً جمهورياً يحمل رقم 644 بإعادة إلحاقي كمستشار إعلامي للبعثة الدبلوماسية المصرية في "نيويورك" التي تضم أبرع أطباء العمود الفقري, كما تضم أيضاً القيادة الأمريكية العليا لمختلف الأجهزة السيادية في كافة دول العالم باستثناء روسيا والصين وكوبا وفيتنام وكوريا الشمالية, كما سلمني قائد الجهاز أيضاً جواز سفري الدبلوماسي الجديد مؤشراً عليه بدخول الأراضي الأمريكية والإقامة فيها لمدة خمسة أعوام مع تذاكر السفر والعودة بالدرجة الممتازة, إلى جانب قرار صادر من خدمة التأمين الصحي الأمريكي بدخولي أحد أكبر مستشفيات "نيويورك" لعلاج عمودي الفقري وجهازي الهضمي معاً, وطالبني قائد الجهاز بمقابل فوري لكل تلك "الخدمات" يتمثل في تنازلي النهائي عن الدعوى القضائية الخاصة بعلاجي, بالإضافة إلى إعلان تأييدي السياسي الواضح للإطاحة العنيفة بالحكم الإخواني باعتبارها ثورة شعبية وليست انقلاباً عسكرياً شعبوياً فيما كانت وسائل الإعلام تنشره لي آنذاك بانتظام من مقالات وتعليقات, واستمع القائد بمكر شديد وهو صامت لمساوماتي القائمة على بديلين آخرين يحفظان كرامتي وهما تقديم محامي الدولة دون اعتراض مني ما يفيد شروع الدولة في علاجي لإقناع القاضي بإغلاق ملف الدعوى استناداً إلى تصحيح الخطأ قبل صدور الحكم, مع التزامي بوقف نشر تحفظاتي السياسية سواء تجاه الطبيعة الغبية لمرحلة حكم الإخوان أو تجاه الطبيعة الغاشمة لمرحلة الحكم العسكري التالي عليهم كنوع من الحياد المؤقت بين الفريقين, اللذين يتفقان سوياً على كراهيتي أنا وأمثالي بنفس قدر كراهيتهما للمطالب الشعبية بالحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية, وترجم القائد رفضه العملي لحرصي على حقي وكرامتي معاً بجبروت نموذجي في اقتداره خلال أيام قليلة حيث تم إنزالي عن سلم الطائرة المتجهة إلى "نيويورك" ومنعي من مغادرة أرض المطار لأية دولة أخرى رغم وضوح صفتي الوظيفية السيادية, مع احتجازي داخل صالة كبار الزوار والمغادرين لحين تسليمي قرار جمهوري آخر يسحب إلحاقي ويلغيه دون ذكر الأسباب, وبدلاً من العودة لمنزلي نقلتني سيارة الإسعاف في يناير 2014 إلى المستشفى العمومي المتخصص المجاور لمطار "القاهرة" والواقع تحت سيطرة الأجهزة السيادية, بعد اضطراري لتكبد مخاطر العلاج في المستشفيات المصرية مجدداً تحت ضغط تدهور حالتي الصحية ومنع علاجي بالخارج, وكان الهدف الطبي المعلن لدخولي المستشفى هو تركيب شبكة صناعية تحل محل حجابي الحاجز الممزق وتحمي جدار معدتي التالف ومع ذلك فقد شرع فريق "الدكاترة الأمنجية" في تنفيذ هدف آخر فور دخولي غرفة العمليات, حيث حقنوني بعقاقير كيميائية أسفرت عن تضخم وانتفاخ هائلين أخذا يتصاعدان بسرعة صاروخية حتى انفجر بطني كله, لتتدلى أعضاء الجهاز الهضمي خارج جسدي وتتناثر في كافة الاتجاهات مع نزيف دموي متواصل وغيبوبة دماغية مطبقة متجهة نحو موت مؤكد وشيك, وأصدر قائد الجهاز السيادي تعليماته الشفهية لمرءوسيه بفتح مقبرة الهايكستب العسكرية استعداداً لدفني هناك سراً مع الجنود المجهولين عندما يحل الظلام, ولكن السياسي الروسي الذي كان قد سبق أن ترجم قبل ربع قرن زمني كتابي "الإخوان المسلمون على مذبح المناورة" والذي أصبح في بلاده مسئولاً كبيراً عن الأمن الخارجي لدرجة علمه بما يحدث تجاهي أولاً بأول, أرسل إلى قائد الجهاز برقية مشفرة تقول "كما حقنتموه بالداء عليكم أن تمنحوه الدواء ونعدكم بتكتم الأمر من جانبنا"، ونظراً للأهمية القصوى التي توليها الأجهزة السيادية المصرية حالياً للرضا الروسي فقد تراجعت مرة أخرى عن خطة استهدافي الطبي الأخيرة بعد قطع عدة أشواط في تنفيذها لصالح الخطة البديلة بإهدائي فيروس سي الكبدي الذي يوشك أن يقتلني الآن ليس فقط بدافع المرض، ولكن أيضاً تحت شعوري بالعجز أمام الإفلات الفاجر من العقاب المستحق لمرتكبي كل تلك الجرائم الطبية ضدي ومحرضيهم على مرأى ومسمع سلطات قضائية استمر تخاذلها حتى أزفت الآزفة التي ليس لها من دون الله كاشفة!!. *******
الاستدراج الأمني في مواقع التواصل الاجتماعي... (1) في عام 2006 تنصل رئيس الجمهورية "حسني مبارك" جزئياً من وعده السابق لقادة جماعة "الإخوان المسلمين" بمنح مرشحيهم ثلث المقاعد البرلمانية وهي النسبة اللازمة لتعطيل ما يرفضه الإخوان من قرارات وإجراءات حكومية، حيث لم يمنحهم سوى حوالي ربع المقاعد فقط مما يبقيهم بلا أية سلطات حقيقية في مواجهة الحكومة، رغم سابق التزامهم من جانبهم بوعدهم المقابل عندما دعموا انتخاب "مبارك" لدورة رئاسية جديدة ودعوا حلفائهم داخل معسكر الإسلام السياسي إلى دعمه أو على الأقل الامتناع عن تأييد "أيمن نور" منافسه الشاب القوي في انتخابات رئاسة الجمهورية المقامة عام 2005، الأمر الذي أغضبهم إلى حد اتجاه تفكيرهم نحو التخطيط لانقلاب ضده فأخذوا يبحثون عن الأدوات العسكرية المتاحة للتنفيذ، وفي عام 2007 أجرى "حسني مبارك" عدة تعديلات دستورية محسوبة بدقة لمنع قادة المجلس العسكري الأعلى من الترشح في انتخابات رئاسة الجمهورية التالية المقررة عام 2011 أمام نجله "جمال" الذي كان يعده لخلافته، الأمر الذي أغضبهم إلى حد اتجاه تفكيرهم نحو التخطيط لانقلاب ضده فأخذوا يبحثون عن الأغطية السياسية المتاحة للتنفيذ، وبمهاراتها الاستخباراتية المعتادة نجحت الإدارة الأمريكية قبل حلول عام 2008 في التنسيق بين الطرفين الغاضبين على قاعدة تلبية الاحتياجات المتبادلة لكليهما، فبدأ قادة المجلس العسكري والإخوان المسلمين يعملون معاً بشكل سري من أجل تمهيد الأجواء العامة والخاصة لتنفيذ انقلابهم المزمع، سواء عبر دفع كافة الظروف المحيطة بالدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية نحو الاحتقان والانسداد أو عبر تهيئة أوضاعهم وترتيب صفوفهم ليخلفوا آل "مبارك" بأنفسهم، وبذات المهارات الاستخباراتية حافظت الإدارة الأمريكية على علاقاتها المميزة مع نظام حكم "حسني مبارك" القائم فعلاً دون أن تتوقف عن دعم التحالف الثنائي العسكري - الإخواني الذي يخطط لانقلاب ماكر ومخادع يحمله إلى حكم البلاد مستقبلاً، وقد أوقعت التجليات المختلفة لتلك المهارات الاستخباراتية الأمريكية كل طبقات وفئات الشعب المصري داخل العديد من دوائر الشر التي تقاطعت مخاطرها وأضرارها مبكراً معي على كافة محاور المعلومات والتقديرات والتحليلات والممارسات المهنية والسياسية، فدفعني واجبي الوطني نحو كشف مستورها أمام المفعول بهم لاتخاذ الحذر ونحو إسداء النصح إلى الفاعلين لتحسين الأداء حتى نتحاشى جميعاً تلك الشرور والمخاطر والأضرار، مما ظهر جلياً آنذاك على صفحات كتابي "انهيار الدولة المعاصرة في مصر" المنشور بدار "العالم الثالث" وفي مقالاتي المتتالية المنشورة على صفحات الجرائد والمجلات المصرية والعربية والعالمية دون أية تعليقات أو ردود فعل جادة من جانب أي طرف، إلا أنه بمجرد نشر مقالين متزامنين لي حول الاحتمالات النظرية المرجحة والمؤشرات الواقعية الكاشفة لاقتراب انتقال قيادة الدولة من نظامها الفاسد القائم إلى نظام عسكري قادم على صفحات جريدتي "العربي" القاهرية و"الحياة" اللندنية في بداية عام 2008، استدعاني اللواء "عمر سليمان" رئيس جهاز المخابرات العامة إلى اجتماع فوري بمكتبه بينما كان رجاله في ذات وقت الاستدعاء يطرقون باب منزلي حتى يصطحبونني داخل سيارات الجهاز السوداء ذات الدفع الرباعي، على نفس حالتي التي يجدونني فيها وهو إجراء استثنائي طارئ يضطر الجهاز لاستخدامه فقط عند صدور أحد قرارين إما بالحرب أو بالاعتقال!!. (2) لم يحضر اللواء "عمر سليمان" الاجتماع رغم انعقاده على ضوء استدعائه لي داخل القاعة الملحقة بمكتبه، كما غاب كل النواب والوكلاء وكبار ضباط المخابرات العامة الذين سبق لهم أن تابعوني أو شاركوني أو عملوا معي كرفاق سلاح خلال تأديتي لمهامي المعلوماتية الخارجية السرية تحت الساتر الدبلوماسي، فاقتصر الحضور على ثلاثة لواءات أحدهم يرتدي زيه الرسمي كاملاً مع وشاح أحمر يعلن من خلاله بوضوح تمثيله للادعاء مندوباً عن المجلس العسكري فيما اتضح لاحقاً أنه ليس اجتماعاً بل محكمة تأديبية خاصة مصغرة، حيث اتهمني مندوب المجلس العسكري باستغلال وظيفتي في الهيئة العامة للاستعلامات للاطلاع على الخطط السرية وإفشائها مما يستوجب توقيع عقوبة صارمة ضدي، ورغم محاولات لواءي المخابرات العامة طمأنته بأن خطط قياداته كانت ومازالت وستظل طي الكتمان حيث لا يتعدى الأمر مجرد تحليل احترافي سليم لطبيعة المرحلتين الراهنة والوشيكة، إلا أن ثلاثتهم عقب مداولاتهم المغلقة المطولة وبعد رجوعهم إلى قياداتهم وقياداتي العليا قرروا إلزامي بالامتناع عن الكتابة في الشأن السياسي المحلي لمدة عام كامل يمكنني خلاله الكتابة الأدبية فقط، مع تذكيري بوجوب تنفيذي للعقوبة المذكورة طوعاً تحت طائلة رفع المخابرات العامة حمايتها عني فأجد نفسي وحيداً في مواجهة المجلس العسكري القادر على إلزامي بتنفيذها كرهاً، ولم يكن أمامي سوى رد فعل وظيفي مؤسسي تمثل في تظلمي إلى رئيس الجمهورية "حسني مبارك" بصفته رئيس المجلس العسكري ورئيس مجلس الدفاع الوطني الذي يضم كل الأجهزة المعلوماتية والسيادية والأمنية بما فيها جهة عملي المهني، وسرعان ما وصله عن طريق جميع معاونيه المباشرين المسموح لي بالتعامل معهم وهم الناطق الإعلامي والمستشار السياسي ورئيس الديوان وقائد الحرس تظلمي من تلك العقوبة مصحوباً بتفاصيل وقائعها ومدلولاتها، الأمر الذي أسفر عن تداول عبارة "انقلاب عسكري محتمل" لأول مرة داخل معسكر "مبارك" مما دفع المعسكر الانقلابي إلى تأجيل موعد التنفيذ ثلاثة أعوام مع اتفاق المعسكرين على استمرار عقوبتي، تاركين لي رد الفعل المراوغ الاحترافي الوحيد المتمثل في تغيير شكل كتاباتي الخارجي تنفيذاً لمنطوق العقوبة كنوع من الالتزام بمقتضيات الانضباط المهني مع إبقائي على نفس المحتوى السياسي الداخلي لكتاباتي كنوع من الالتزام بمقتضيات الواجب الوطني، وهكذا قادتني الضرورات نحو كتابة ثلاث مجموعات من النصوص المطولة المتصلة ــ المنفصلة ذات الطابع المزدوج الجامع بين الشكل الأدبي والمحتوى السياسي والتي بدأت بالأوراق ثم الحكايات وأخيراً الكوابيس، وفقاً لخطة مبرمجة سلفاً قامت على أساس نشر كل واحد من نصوص المجموعات الثلاث تلو الآخر بالجرائد والمجلات الجماهيرية قبل تجميعها بين أغلفة ثلاثة كتب نخبوية متتالية يتم نشرها تباعاً، ليصدر الجزء الأول في ثلاثيتي شبه الأدبية شبه السياسية تحت اسم "أوراق من دفتر الأوجاع" عن مؤسسة دار الهلال عام 2009 يليه الجزء الثاني الصادر عن الهيئة العامة للكتاب عام 2012 تحت اسم "حكايات الجوارح والمجاريح"، أما الجزء الثالث والأخير المسمى "كوابيس جمهورية الخوف الأولى" فهو تحت الطبع حالياً بمعرفة إحدى دور النشر العالمية الكبرى، وإذا كان الكاتب المحترف يسعى إلى جذب اهتمام القارئ عبر تدوين أبرز ما حدث قبل تدوينه لكتابه من وقائع تدعم أفكاره وتتسم في الوقت ذاته بالتشويق والإثارة، فإن الكاتب الأكثر احترافية ينتبه أيضاً إلى وقائع أخرى داعمة لأفكاره قد تحدث أثناء التدوين وتتسم بالتشويق والإثارة مثلما جرى خلال رحلتي مع ثلاثية الأوراق والحكايات والكوابيس!!. (3) ظهرت الشرور وتطورت بالتواكب مع تطور الاكتشافات والاختراعات البشرية المفيدة فعندما اكتشف الإنسان البدائي المواد الطبيعية الصلبة ونجح في إعادة تشكيلها ليصنع منها أدوات المعيشة ظهرت وسائل القتل طعناً بالسيوف، وعقب اختراع الإنسان للمعدات الميكانيكية ظهرت وسائل القتل رمياً بالرصاص وبعد اختراعه للأجهزة الكهربائية ظهرت وسائل القتل صعقاً بمقعد الإعدام، وبمجرد اختراعه للتكنولوجيا الحديثة ظهرت وسائل قتل الأشخاص المستهدفين عبر أسلحة الليزر الموجهة عن بعد في ضوء المعلومات المباشرة الواردة بشأنهم من خلال التجسس عليهم عبر الشبكات المخصصة أصلاً للاتصال الاقتصادي والتواصل الاجتماعي، حيث تتم محاصرة هؤلاء الأشخاص باختراق هواتفهم الأرضية والمحمولة وأجهزة الكمبيوتر والمواقع الإليكترونية الخاصة بهم وبطاقاتهم الائتمانية التي يستخدمونها في سحب بعض أموالهم البنكية أو سداد قيمة بعض مشترياتهم التجارية، مع ربط كل خيوط الاختراق المذكورة بشبكات الرصد التكنولوجي التابعة للأجهزة المعلوماتية والسيادية والأمنية حتى يتسنى لها معرفة مواقع وتحركات وأفعال وآراء وأفكار ونوايا الأشخاص المستهدفين أولاً بأول، تمهيداً للسيطرة الاستباقية عليهم والتدخل الفوري عند اللزوم من أجل تطويقهم واحتوائهم أو تشتيتهم وإنهاكهم أو تقييدهم وإعاقتهم أو حتى تصفيتهم جسدياً عبر إحدى عمليات الإزالة المستترة أو المكشوفة حسب ظروف كل حالة على حدا، مما يقتضي ترشيد استخدام التكنولوجيا بالنسبة للمستخدمين ذوي الأنشطة والاهتمامات العامة لتقتصر على الحد الأدنى الضروري وتحت أقصى درجات الحيطة والحذر، لاسيما مع نمو الوعي الجماعي بخطورة الآثار السلوكية الناجمة عن الإفراط في الاعتماد على التكنولوجيا مثل تعطيل الأنشطة الذهنية البشرية الطبيعية داخل أدمغة مدمني التكنولوجيا أو دفعهم نحو جداول اهتمامات وهمية لا تعبر عن احتياجاتهم الحقيقية، أما أنا فقد دفعتني مخاوفي لتحاشي تلك الأجواء التكنولوجية نهائياً عبر لجوئي إلى المكاتب التجارية بهدف كتابة نصوصي الأدبية ــ السياسية ثم تخزينها في الأسطوانات المدمجة تمهيداً لتسليمها واحدها تلو الآخر يدوياً إلى الجرائد والمجلات ودور النشر، حيث يقع أكبر تجمع للمكاتب التجارية المصرية العاملة في مجال خدمات التصوير الضوئي والطباعة والكمبيوتر والإنترنت داخل "بين السرايات"، وهو مربع عشوائي ملتصق بجامعة القاهرة الكائنة في حي "الدقي" الراقي التابع لمحافظة "الجيزة" على مسافة خمسة كيلو مترات من منزلي!!. (4) منذ بداية قيام جمهورية الخوف الأولى على أيدي "الضباط الأحرار" عام 1952 أدركت أجهزة الأمن السياسي حقيقة الدور المحوري لطلاب جامعة القاهرة في قيادة الأنشطة الطلابية، التي بدورها تدفع مجمل المجتمع المصري المقهور والمغلوب على أمره نحو حراك احتجاجي عام ضد استشراء الفساد والاستبداد والتبعية داخل مختلف أروقة الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، فحشدت تلك الأجهزة توابعها لمحاصرة جامعة القاهرة جغرافياً بصفة دائمة حتى يكون في مقدورهم التحرك المضاد السريع حسب توجيهات الأجهزة، وبينما تم تسكين التوابع من الطلاب والأساتذة داخل مدن السكن الجامعي المخصصة أصلاً للمغتربين فقد تم تسكين التوابع من البلاطجة خريجي السجون ومؤسسات إصلاح الأحداث في مربع "بين السرايات"، وتدريجياً أوجد أولئك البلاطجة لأنفسهم مجالاً تجارياً مربحاً هو بيع المستلزمات وتقديم الخدمات الخاصة بنسخ وتصوير وطباعة وتجليد الكتب والأبحاث والمذكرات ودفاتر المحاضرات التي يحتاج إليها طلاب الجامعة وأساتذتها وغيرهم من أصحاب المهن "الكلامية" كالمحامين والصحفيين والكُتّاب، واستغل بلاطجة "بين السرايات" الحماية الأمنية المطلقة الممنوحة لهم فأقاموا لأنفسهم مربعاً جغرافياً عشوائياً يخالف كافة القوانين السارية من جميع النواحي المتعلقة بالبناء والحيازة والأنشطة التجارية وما شابه، وتحت نفس الحماية الأمنية المطلقة تحدى بلاطجة "بين السرايات" كل السلطات القضائية والإدارية والمحلية بمواصلة ارتكابهم الفاجر لمختلف أنواع المخالفات وجرائم الجُنح والجنايات، وذلك مقابل التزامهم بتلبية احتياجات الأجهزة الأمنية على محورين أولهما يتم في حالات التوتر عبر مسارعتهم بالفض الفوري لأية أعمال احتجاجية تقع داخل جامعة القاهرة حتى لو استدعى الفض استخدامهم لأقصى درجات العنف، أما المحور الثاني والذي يتم في حالات الهدوء فيقتضي إبلاغهم لتلك الأجهزة عن أية نصوص "كلامية" ذات طابع معارض يرغب أصحابها في نسخها أو تصويرها أو طباعتها بمكاتبهم دون تقديم الخدمات المطلوبة منهم، ومع مرور الزمن اكتفى البلاطجة بالامتناع فقط عن تقديم الخدمات حرصاً على "أكل عيشهم" الذي سيتأثر سلباً عندما يضيعون وقتهم في إجراءات الإبلاغ، الأمر الذي انتبه إليه المعارضون الإسلاميون مبكراً فقاموا خلال سبعينيات القرن العشرين بشراء عدة مكاتب داخل مربع "بين السرايات" مقابل مبالغ مالية طائلة لتقديم الخدمات المطلوبة إلى كاتبي النصوص المعارضة من الإسلاميين حصرياً مقابل مبالغ رمزية، مع التزامهم بمحاكاة البلاطجة في امتناعهم عن تقديم الخدمات ذاتها للمعارضين غير الإسلاميين مثلي بل وقيامهم أحياناً بتأدية نفس الوظيفة الأصلية للبلاطجة عبر إبلاغهم للأجهزة الأمنية عن النصوص المعارضة إن لم يكن تسليمها إياها!!. (5) تحت ضغط الاحتجاجات الجماهيرية العارمة التي كان يتستر خلفها المخطط الانقلابي الماكر والمخادع للتحالف الثنائي العسكري – الإخواني اضطر الرئيس "حسني مبارك" إلى تعيين "عمر سليمان" نائباً له في أواخر يناير 2011، وتحت استمرار الضغط الاحتجاجي الجماهيري اضطر "مبارك" بعد أقل من أسبوعين لتفويض "سليمان" في سلطات رئيس الجمهورية، ونظراً لتأخر تعيين "عمر سليمان" ثم تفويضه كثيراً عن الأوان الذي كان يمكن أن يسمح له ببعض المناورات المضادة فقد وجد نفسه مضطراً يوم 11 فبراير 2011 لتسليم الحكم إلى المجلس العسكري، الذي أدار البلاد بمشاركة إيجابية حماسية من جانب الإخوان المسلمين حتى يوم 30 يونيو 2012 عندما أضطر لتسليمهم المظاهر الخارجية والشكلية للحكم تحت ضغط نتائج الصناديق الانتخابية المتتالية، وإزاء تكبيل أيادي الإخوان من قبل المجلس العسكري فقد اتسمت إدارتهم للبلاد بالفشل الذريع سواء في تلبية الاحتياجات النخبوية أو في إرضاء التطلعات الجماهيرية، مما خلق حالة احتجاجية عامة وعارمة ضدهم منحت الغطاء السياسي اللازم لعودة المجلس العسكري إلى حكم البلاد مرة أخرى منفرداً عقب انقلاب ماكر ومخادع جديد تم تنفيذه بنجاح يوم 3 يوليو 2013، إلا أن الإخوان المسلمين وحلفائهم داخل معسكر الإسلام السياسي لم يستسلموا بل ظلوا يقاومون بشراسة عودة الحكم إلى المجلس العسكري الذي اضطر لمواجهتهم عبر عدة إجراءات قمعية استثنائية غير مسبوقة، شملت فيما شملته تضييق الحصار على كافة الأنشطة ذات الصلة بالعمل العام بما فيها مكاتب خدمات الكمبيوتر والإنترنت والطباعة والتصوير الضوئي الكائنة بمربع "بين السرايات" والتي دفعها الخوف للامتناع نهائياً عن كتابة نصوصي الأدبية - السياسية، في نفس الوقت الذي شهد تفاقم حدة الاستقطاب العدائي بين أنصار المجلس العسكري وأنصار الإخوان المسلمين داخل أروقة الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، إلى درجة إغلاق معظم الجرائد والمجلات أبوابها أمام الكتابات التي تحاول التوفيق بين الفريقين المتصارعين والكتابات التي تنتقد أداء الفريقين معاً مثل نصوصي، أما الجرائد والمجلات ذات الأبواب المفتوحة فقد نقل بعضها مقار عملها اليومي لعواصم عربية وعالمية أخرى هرباً من الإجراءات القمعية وتحاشياً للوقوع في أفخاخ الاستقطاب، وضاق البعض الآخر بعملية التسليم اليدوي للأسطوانات المدمجة التي تحوي نصوصي نظراً لما كانت تقتضيه من مقابلات واستقبالات شخصية تستدعي التحركات والزيارات نحوي أو نحوهم، لاسيما في ظل إصابة عمودي الفقري بكسر ناجم عن محاولة اغتيال فاشلة نفذتها ضدي جهات مجهولة أثناء سابق تأديتي لمهامي المعلوماتية الخارجية السرية تحت الساتر الدبلوماسي، مما دفعني إلى اتخاذ قرار شراء جهاز كمبيوتر منزلي خاص حتى يتسنى لي كتابة نصوصي بنفسي مع دخولي عالم الإنترنت حتى يتسنى لي إرسال تلك النصوص لناشريها عبر البريد الإليكتروني، ولم يستغرق تنفيذ قراري المذكور سوى ثلاثة أيام متتالية فقط كان أولها مخصصاً لشراء المستلزمات والتجهيزات والثاني لإدخال الخدمات والبرامج والأخير لتشغيل الحسابات والصفحات، التي فتحت أمامي بعض نوافذ تكنولوجيا التواصل الاجتماعي المصحوبة بعدة غرائب معلوماتية تستحق التدوين!!. (6) فور تشغيل حسابي الجديد على موقع الفيسبوك للتواصل الاجتماعي بدأت إدارة الموقع تلح في ترشيح أسماء محسوبة بدقة معلوماتية متناهية لصداقتي، مثل جميع السيدات اللواتي ربطتني بهن علاقات علنية أو سرية ذات طابع خاص في مراحل الشباب والصبا من عمري وأصحاب المحلات التجارية والخدمية المجاورة لمنزلي والذين أتعامل معهم حصرياً دون غيرهم من أصحاب المحلات الأخرى، ومثل الطبيب الذي سبق أن أجرى لي قبل عامين كاملين جراحة جهاز هضمي فاشلة داخل أحد المستشفيات العامة مع أخصائي العلاج الطبيعي الذي ساعدني على استعادة حركتي بعد الجراحة، إلى جانب أشخاص بعينهم من قادة وكوادر جهاز المخابرات العامة الذين كانوا قد تابعوني أو شاركوني أو عملوا معي كرفاق سلاح خلال سابق تأديتي لمهامي المعلوماتية الخارجية ذات الطابع السري للغاية، علماً بأن بياناتهم المسجلة في حساباتهم الإليكترونية تفيد بكونهم ضباط جيش سابقين بينما تفيد بياناتي المسجلة بأنني روائي وكاتب صحفي وإعلامي، بالإضافة إلى أشخاص بعينهم من قادة وكوادر الحركة الشيوعية المصرية مع بعض الشيوعيين العرب والأجانب الذي سبق لهم أن شاركوني كرفاق مسيرة سياسية اتسمت بالطابع السري للغاية، رغم عدم وجود أية بيانات حول هذه المسيرة سوى داخل ملفات وحدات مكافحة الشيوعية في الأجهزة المعنية، وعلى الجانب المقابل استخدمت إدارة الموقع كافة المناورات التقنية لمنع تواصلي الإليكتروني مع أشخاص بعينهم من غير مرشحيها بل وقطع التواصل إذا كان قائماً بالفعل بيني وبينهم رغم حرصي وحرص هؤلاء الأشخاص على استمرار التواصل، وعند اعتراضي أفادتني الإدارة بأن ما لديها من معلومات "موثقة" يشير إلى عدم وجود معرفة سابقة لي مع أصدقائي الجدد في حسابي لتكشف الإدارة بتلك الإفادة أنها تعلم سلفاً هوية أصدقائي السابقين، وباستعلامي من الخبراء في المجالات ذات الصلة أوضحوا لي أن الإدارة المحلية المصرية لموقع الفيسبوك التي تتخذ لنفسها مقراً داخل "القرية الذكية" بمدينة "أكتوبر" في محافظة "الجيزة" خاضعة تماماً لسيطرة مندوبي الأجهزة المعلوماتية والأمنية والسيادية، والذين يتم ترشيحهم من قبل أجهزتهم تنفيذاً لطلباتهم الشخصية على أساس أنهم الأكثر تديناً بين زملائهم وبالتالي الأقدر على "مكافحة" الاستخدامات الاجتماعية الحقيقية لمواقع التواصل الاجتماعي، فيجسدون في سيطرتهم غير المستحقة على تلك المواقع المحلية أبرز السمات الكابوسية المشتركة للفاشيتين العسكرية والدينية معاً، لاسيما وأن ملاك الإدارات العالمية لمواقع التواصل الاجتماعي المتنافسين فيما بينهم على الزبائن المصريين يحجمون عن التدخل الحاسم لحماية زبائنهم من تلك السيطرة الفاشية الكابوسية، حرصاً من أولئك الملاك على استمرار أرباح طائلة قد يوفرها لهم سوق الإعلانات الكبير المتاح في مصر ذات التسعين مليون زبون إذا استمر خضوع وكلائهم المحليين لمندوبي الأجهزة الذين يعتلون أكتافهم!!. (7) فرض مندوبو الأجهزة المعلوماتية والأمنية والسيادية على مواقع التواصل الاجتماعي المحلية أجواء الهوس الأمني بإشاعة حالة عامة من التوجس المرضي تجاه ما أسموه حروب الجيل الرابع، باعتبارها كما يدعون تمثل التطور الطبيعي لسلاح الحرب النفسية التي تشنها القوى الإقليمية والعالمية المعادية لبث الكراهية والفتنة والفرقة بين مختلف طوائف الشعب المصري، بهدف زعزعة الاستقرار القائم وخلق البلبلة ثم الفوضى المؤدية إلى انهيار الدولة والمجتمع والسوق والعلاقات الخارجية، حتى أن جريدة "الأهرام" الرسمية نشرت على صفحات عددها الصادر يوم 16/9/2015 بياناً لقيطاً بدون توقيع يدعو إلى اتخاذ المزيد من التدابير الأمنية على استخدامات الإنترنت في مواقع التواصل الاجتماعي لضمان "السلامة العامة"، مع تأكيد البيان بأن الجيش المصري قد نجح في حماية الأمن القومي على ساحة معارك الإنترنت كما سبق أن نجح في ذلك أيضاً الجيش الصيني، ورغم خطورة أجواء الهوس الأمني إلا أنها قد أصابت الأقلية من زبائن مواقع التواصل الاجتماعي ذوي الاهتمامات السياسية، في حين وقعت أغلبية زبائن تلك المواقع ضحية لأجواء هوس جنسي فرضه أيضاً مندوبو الأجهزة باعتباره النقيض الشكلي والموضوعي للحرية الجنسية كإحدى الحريات الاجتماعية التي يكافحونها، فالحرية الجنسية تلبي الاحتياجات الطبيعية لأصحابها الذين يظلون أحراراً في اختيار جرعة وتوقيت وكيفية حصولهم على الشيء المتاح كما يظلون أحراراً في اختيار امتناعهم عن الحصول عليه كلياً أو جزئياً ، بينما ينتهي الهوس الجنسي بالاحتقان المدمر لأصحابه غير المسموح لهم سواء بحرية الحصول على الشيء المتاح أو حرية الامتناع عنه وفقاً لاحتياجاتهم الطبيعية، حيث نجح مندوبو الأجهزة المعلوماتية والأمنية والسيادية الذين يعتلون أكتاف الإدارات المحلية المصرية لمواقع التواصل الاجتماعي بسهولة شديدة في فرض أجواء الهوس الجنسي على زبائن تلك المواقع، عبر توسيعهم الفج لنطاق جرعات الإثارة المرئية والمسموعة والمكتوبة مع تضييقهم الخانق لنطاق فرص التواصل الحقيقي بين الأصدقاء من الجنسين، فتزداد الشهوات المكبوتة وصولاً إلى حالة الاحتقان المدمر وتزداد معها "اشتغالات" المحتالين الذين يستغلون تلك الحالة من أجل التربح غير المستحق!!. (8) أسفرت رغبتي الواضحة في إخضاع حسابي الإليكتروني داخل موقع الفيسبوك لسيطرتي الشخصية حسب احتياجاتي سواء في قبول أو رفض الصداقات الجديدة أو في تحاشي أجواء الهوس بشقيه الأمني والجنسي عن إغضاب مندوبي الأجهزة المعلوماتية والأمنية والسيادية، فاستغلوا اعتلائهم لأكتاف الإدارة المحلية المصرية كما استغلوا الفارق الكبير بين خبراتهم التقنية الاحترافية المتعددة ومهاراتي الضعيفة كمستخدم مبتدئ للتكنولوجيا من أجل إيقاعي في أفخاخهم، حيث استمرت إحدى النوافذ الإعلانية الخاصة بالفيسبوك تلاحقني منذ اليوم الأول لفتح حسابي بقفزها فوق الشاشة فور فتحها لتدعوني إلى تحديث بعض البرامج الموجودة في حسابي، الأمر الذي أجبرني لاحقاً على التجاوب معها ليس فقط لرغبتي في مواكبة العروض البرامجية الأحدث والتي يفترض أن تكون الأفضل ولكن أيضاً بهدف التخلص من ملاحقة تلك النافذة الإعلانية المزعجة، لأكتشفُ بمجرد اكتمال التحديث فقدان خاصية الصوت في حسابي مما دفعني لطلب المساعدة التقنية من موقع الفيسبوك بالضغط على بعض الأزرار والمفاتيح والأيقونات المخصصة لذلك، والتي أفادتني عقب عدة خطوات متتالية بعودة الصوت المفقود مع إمكانية إجرائي تجربة للتيقن عملياً من ذلك عبر الضغط على أي سهم يكون موجوداً داخل أحد الفيديوهات المنشورة في حسابي، ليتسبب ذلك الضغط من جانبي بشكل فوري في وضع اسمي فوق سيل دافق من مواد فيلمية جنسية إثارية مرسلة إلى حسابات أصدقائي وكأنها يتم إرسالها عمداً مني إليهم، ففرح بعضهم وطالبوني بالمزيد في حين غضب البعض الآخر واحتجوا منسحبين من قائمة أصدقائي بهدف معاقبتي الأمر الذي دفعني مجدداً لطلب المساعدة التقنية من موقع الفيسبوك، فوجهني نحو الضغط على أزرار ومفاتيح وأيقونات أخرى أفادني بأنها مخصصة لمكافحة الاختراقات وإزالة البرامج الضارة عن حسابي، ولكن سرعان ما اتضح لي أنه بضغطي على تلك الأزرار والمفاتيح والأيقونات تكون الإدارة المحلية الخاضعة لمندوبي الأجهزة قد حصلت مني على تنازل يمنحها سلطات السيطرة المطلقة والاحتلال الكامل لحسابي، حيث أصبح في مقدورها إعادة برمجة مكونات وإمكانات وأنشطة واتصالات الحساب بالحذف أو الإضافة أو التعديل أو المنع الاستباقي على أي نحو تراه الإدارة ومن يعتلونها دون أدنى مراعاة لقراراتي باعتباري صاحب الحساب، وقد أوضح لي الخبراء في المجالات ذات الصلة أنني أفضل حظاً من مستخدمين آخرين سبق أن قادتهم أجواء شبيهة داخل موقع الفيسبوك إلى إغلاق حساباتهم نهائياً على غير رغبتهم، وذلك بواسطة الإدارة المحلية للموقع التي يعجز المستخدمون المتضررون عن مقاضاتها نظراً لعدم وجود محل إقامة رسمي لها فوق الأراضي المصرية!!. طارق المهدوي
فهرس المحتويات
مقدمة لابد منها.......................................................... 3 عندما تصحو الكوابيس................................................... 7 الحرس الحديدي، حكام مصر النازيون.................................... 15 مؤسسة الذكاء السياسي.................................................. 30 المناورات الإخوانية....................................................... 47 حظائر السيطرة........................................................... 74 النظام القضائي الخاضع للاستبداد........................................ 97 عصابات البلطجة........................................................ 123 الهجرة الاضطرارية........................................................ 148 الحركة الشيوعية الموبوءة بالفيروس الصهيوني........................... 179 الجرائم الطبية............................................................ 215 الاستدراج الأمني في مواقع التواصل الاجتماعي........................... 239
#طارق_المهدوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كوابيس جمهورية الخوف الأولى - الجزء الاول
-
ألاعيب أزهرية مكشوفة
-
رضينا بالهموم ولكنها ما رضيت بنا
-
صراع الفاشيات الدينية حول الهوية المصرية
-
قائمون على أمن أوطاننا أم نائمون بين أحضان أعدائنا؟
-
الانزلاق الاختياري المصري في مستنقع الصراع الروسي التركي
-
يا فرحة ما تمت...خطفها الغراب وطار
-
معلش...شدة وتزول
-
أتركوا الأطفال يفكرون خارج الصناديق لعلهم يصلحون أحوالكم الب
...
-
للضرورة أحكامها اليوم في مصر...
-
الأولوية لجبهة مكافحة الفاشية كضرورة عملية من أجل التصدي للك
...
-
الفيسبوك وأشباهه...مواقع للتواصل الاجتماعي أم للاستدراج الأم
...
-
عندما تصحو الكوابيس
-
الحرس الحديدي، نازيون يحكمون مصر...
-
بعض ما فعلته مؤسسات الذكاء السياسي بشعوبها...
-
المناورات الخطرة المتبادلة بين الإخوان المسلمين وخصومهم...
-
أينما يولي الشيوعيون المستقلون المصريون وجوههم سيجدون الموت.
...
-
وظائف وأبنية حظائر السيطرة القائمة في مصر...
-
النظام القضائي المصري بين واقع الاستبداد وحلم العدالة...
-
اعتلاء أكتاف الحركة الشيوعية المصرية على جثث الرفاق زكي مراد
...
المزيد.....
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|