أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - معتصم بوبكر - نيتشه ومعنى التفلسف عند الإغريق















المزيد.....


نيتشه ومعنى التفلسف عند الإغريق


معتصم بوبكر

الحوار المتمدن-العدد: 5030 - 2015 / 12 / 31 - 22:50
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لقد كتب "غادمير" في كتابه "بداية الفلسفة" حيث يعبر عن رأيه في خصوص ماكتب عن ماضي الفلسفة قائلا : "لقد تشرب موقفنا من الماضي بنيتشه ،كما أنه خلق أثر على أعمالنا الفلسفية الحالية". إن نيتشه قد فتح أبواب البحث الفلسفي في الفلسفة الإغريقية بوجه عام وماقبل سقراط على وجه الخصوص ،حيث صارت بذلك (أبحاث نيتشه)هي التي إستهوت فلاسفة كثر .إذ أيقظت في نفوسهم الحنين الى المغامرة الاغريقية .
إن التمعن في هذه البداية البسيطة تقودنا الى طرح إشكال فلسفي وهو: ماذا قال نيتشه عن الإغريق ليدفع بالفلاسفة في هذا الزمان بدءا من هيدجر ووصولا الى جورج هانز غدامير ،الى وضع مسألة الأصول الإغريقية لأوربا في صميم أبحاتهم واهتماماتهم؟
قد يكون الجواب أن نيتشه إهتم مرات عدة من جراء مهنته كأستاذ لفقه اللغات القديمة بفلسفة الاغريق القدامى ،حيث نجد بذلك ألف عدة دراسات حول(ديوجين لايرث) بإعتبار هذا الاخير هو أحد أكبر المصادر أهمية في تاريخ وقضايا الفلسفة القديمة .ومن جانب آخر نجد نيتشه ألقى بذلك عدة محاضرات في جامعة (بال) أثناء اشتغاله لمنصب أستاذ الفلسفة ،حول أغلبية الفلاسفة الذين سبقوا سقراط ،وكتب "مقدمة لدراسة المحاورات الأفلاطونية" وقام أيضا بإعداد دراسة وجيزة بعنوان "نشأة الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي" سنة 1873.
من هنا بدأ الفضل المعرفي والفلسفي يعود الى نيتشه حيق قام بإدخال شق يفصل بين سقراط وأفلاطون ومن خلفهم من الفلاسفة السابقين أو "المأساويين" كما يسميهم نيتشه، من هنا يروي نيتشه قصة هؤلاء الفلاسفة الذين سبقوا سقراط حيث يبدأ أطوار قصته بالإعتراف بأن الإغريق ليست لهم ثقافة أصلية :"لاشك فيما يقول نيتشه أنه تم السعي لإظهار مدى تعلم الإغريق واكتشافهم أشياء عند جيرانهم الشرقيين ومدى تنوع إقتباسهم عنهم ،وقد برز بذلك مشهد طريف حينما تمت مقارنة المعلمين الشرقيين بتلامذتهم الإغريق ،ومقارنة زرادشت بهيراقليطس والهندوس بالإيليين والمصريين بأنبدوقليس ،وتوصلت تلك المقارنة حتى الى رد أنكساغوراس الى اليهود وفيتاغوراس إلى الصينيين".
فلنعد أدراجنا الى الوراء قليلا ونقوم بتأمل فلسفي في هذه الفقرات ذات الأهمية البالغة ،حيث لا يسعني سوى أن نجد نيتشه يجعل مسألة الأصول والهوية الأوربية في قلب أبحاثه عن الإغريق ،فهو وتحث تأثير بالغ الاهمية حول الدراسات الخاصة بالأديان وكذا الأفكار الفلسفية الشرقية التي إنتشرت إبان فترة من فترات القرن التاسع عشر ،نجد نيتشه يعترف من تلقائية نفسه أن الشرق هو الموطن الأصلي الذي إنحدرت منه الثقافة اليونانية وبذلك يعتبره أيضا المنبع ،أي منبع الحكمة التي نهل منها الإغريق .
ومن هنا يتضح لنا أن نيتشه يندمج مع الفترة التي شهدت تدفق سيل من الأفكار الهندية الى أوربا سببت له في هزة ثقافية عنيفة ،لالشيئ سوى أن عالم الإغريق كان يحتل مكانة سامية ويمثل بذلك مثلا يتعين الإقتداء به، بعدما أن كانت أثينا تمثل طفولة أوربا هاهي الهند أصبحت المصدر الحقيقي لجميع ألسنة البشر والمصدر الأول لتطور جميع الأفكار .
إن الشرف لم يستهوي أحدا كما إستهوى "شوبنهاور" ذاك الذي يرى أن الهند هي مهد لأقدم أنواع الحكمة وأكثرها صفاء حيث يعتقد هذا الأخير أن إكتشاف البوذية ،يعتبر بذلك منعطفا وآخر ولحظة حاسمة في الحياة الفلسفية لأوربا المعاصرة .ويعتبر موقف شوبنهاور هذا من الشرق والبوذية على وجه الخصوص ،تأثير بالغ الأهمية على كل من (فاغنر) و(نيتشه) في مرحلة ما من مراحل فلسفتهما.
لقد كتب(فاغنر) الذي اعتاد على وصف نفسه بالبوذي خطابا الى احد أصدقائه يصف له البوذية بقوله :"يا له من مدهب سامي المكانة ..إذا ما قرناه بالمذهب المسيحي اليهودي". أما الأخير نيتشه فقد إختار بذلك (زرادشت) ممثل العقيدة الفارسية ليكون بذلك نبيه وشخصيته الرئيسية ، إن التأمل من هذا السير الجارف والكم الهائل من الأفكار الشرقية وانتشاره مده السريع على أوربا ،فلا يمكننا أن نلاحظ أنه جاء من خلال شيئين اثنين وهما .
- أولا : خلال فترة فقدت فيها المسيحية رسالتها في أوربا .
- تانيا : يتمتل في رد فعل مضاد للتأثيرات اليهودية على الحضارة الأوربية .
إذا لا مجال ولا وقت للضياع بل يتطلب الأمر التسريع بالقول ، أن هذا الأخير جاء كرد فعل أو كتعبير إن صح القول عن "أزمة إيمان" وكأداة لتطوير رؤية نقدية للقيم اليهودية والمسيحية والفلسفة المتأثرة بهما ،ومما لا شك فيه أن تأثير هذه الأحداث على نيتشه كان واضح المعالم مند البداية ،اذ من السهل جدا أن نلمح وبسهولة الحضور البوذي في تأملات نيتشه إلا أن علاقة نيتشه بالبوذية وبالترات الشرقي هي علاقة مزدوجة وغامضة . وبسهولة أيضا نجد في أفكار وفلسفة نيتشه حركة معادية للبوذية والشرق ، إلا أن حقيقة هذا التعارض حسب الدارسين لفلسفة نيتشه هو استتماره للأفكار الشرقية وذلك كأذاة لتعرية التراث اليهودي_المسيحي وتهميشه في بناء هوية أوربية وذلك من أجل إعادة ربطها من جديد بأصولها اليونانية . إن ارتباط نيتشه بالفلسفة الشرقية يمكن رد اعتباره جزء من استراتيجية هذفها هو إعادة الدور الذي لعبته اليونان ،وتاليا أوربا.
وعموما فإن نيتشه بعد أن يثبت الأصل للشرق في الفقرة المذكورة أعلاه ،نجده مجددا يعود للفقرة ذاتها ليثبت التفوق للغرب ،فإعترافه بأن الثقافة اليونانية وبالتالي الاوربية ثقافة حسب نيتشه مقتبسة من الشرق ،لا يجب في نظره أن يفرض علينا أن نستنتج أن الفلسفة ماهي إلا استيراد قام به الإغريق أو بتعبير أدق "جسم غريب نبت خارج الوطن بل كانت الأكثر سموا والأكثر انسانية ،وإذا ما استطاع الاغريق أن يوفلو في البعد الى حد كبير فذلك لانهم عرفوا أن يلتقطو الرمح من حيث تركه شعب آخر لكي يلقو به الى أبعد" .
وفي سياق متصل يتضح لنا أن الثقافة اليونانية هي الأفضل في نظر نيتشه من بين كل ماعرفه من حضارات عبر تاريخ البشرية كله لأنها الأكثر قابلية للتحسين ،حيث نجده في كتابه المعنون ب "الفلسفة في العصر المأساوي الاغريقي" يكتب :" لقد قام الاغريق بإكمال هذه العناصر الوافدة وأضافو إليها وجعلوها أكثر سموا وأكثر نقاء بشكل تحولو معه هم أنفسهم إلى مبتكرين ولكن بمعنى أنقى وفي حلقة أنقى ". من هنا وفي هذه الفقرة بدأ في نظر نيتشه أن الاغريق القدامى يتميزون عن الأجيال اللاحقة ،وجعلهم يتخطون ويتجاوزون جميع الشعوب الأخرى لالشيئ سوى أنهم عرفوا جيدا كيف يبدأون التفلسف في الوقت المناسب وقت العافية حسب نيتشه .إذ يقول "ليس من المفروض إذا أن نبدأ بالتفلسف حين نكون تعساء ،كما يتصور أولئك الذين يردون الفلسفة الى الإستيلاء ،بل بالعكس يجب أن نتفلسف في نظر نيتشه حينما نكون سعداء ومنتصرين وفي إكتمال رجولتنا".وبعبارة أدق وفي نفس المرجع يخبرنا مجددا نيتشه أن :" فلسفة الاغريق القدامى تعلمنا أن العافية هي السلطة التي كانت تقرر ماهية الفلسفة وأن القوى الايجابية ،وهي الفرح والصحة والجمال هي التي تحكمت في تحديد الثقافة لأن الحياة التي شهدها الاغريق الأوائل كانت ذات إمتلاء مفرط . كما تعلمنا من جهة أخرى أن شكلا جديدا للفيلسوف انطلق مع هؤلاء الاغريق الأوائل وهو "الحكيم" الذي يعني الشخص النقي ،أي خادم الحياة الذي لم ينفد الى أوردته دم اللاهوت ،وهكذا فإن ما يحدد العبقرية الإغريقية هو أن الشعب الاغريقي له حكماء وأما الشعوب الأخرى فلها قديسون".
لقد أصبح نيتشه هنا كما نلاحظ من خلال مجموعة الأفكار هذاه ،أنه لا يندمج كثيرا مثل معاصريه مع ذاك الأفق الشرقي ،بل يقوم بالتعالي عليه ويجعل منه متعارضا مع عالم الاغريق العزيز على قلبه ،وهو عالم قد نجده احتل مكانة سامية في قلب الفلسفة النتشاوية ، إن نيتشه يرى أيضا أن المسيحية هي الدين النقيض للجنس الآري المفعم بالحيوية والنشاط كما هو الشأن بالنسبة لأحفاد الاغريق أيضا ، ومن هنا بدأ نيتشه اختياره أن يؤمن بإله يوناني هو (ديونيزوس) ذاك الذي أخبرنا عنه نيتشه في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" : "إن الإله الذي يمكنني أن أومن به إنما هو الإله الذي يرقص"، فمن هو الإله الذي يرقص حسب نيتشه ؟ ليس الإله المسيحي واليهودي الذي يفتدي بآلامه الذنب والعذاب البشريين في نظر هذا الأخير ،بل هو إله السكر والنشوة والموسيقى . ومن هنا فبالتعارض بين الإلهين هو تعارض يعبر عنه نيتشه بالتساؤل التالي : "هل جرى فهمي ؟ديونيزوس ضد المصلوب " .
وانطلاقا من الفقرة أعلاه بعد هذا التقديم حول العلاقة التفاعلية القائمة بين الاغريق السابقين ونيتشه ،يتضح لنا أن نيتشه بعد إنتهاءه من تقديم الملاحظات والخصائص ،تلك الملاحظات التي تطبع خصائص أقدم الفلاسفة اليونانيين ،نجده مجددا يشير الى مسألة جوهرية في تناوله لتاريخ الفلسفة اليونانية بإعتبارها لحظة شديدة الأهمية في تاريخها، وهي اللحظة التي حدت فيها إصطدام بين الثقافتين ،الثقافة الشفاهية العريقة في تاريخ الاغريق والثقافة الكتابية تلك التي نشأت على يد أفلاطون وأرسطو ، من هنا بدأ نيتشه أسفه مجددا على ضياع تلك النصوص التي تعود لفلاسفة الاغريق القدامى ،وهذا الأسف يجسده كلامه في كتابه "الفلسفة في العصر المأساوي الاغريقي" حيث يقول :" إنه من المؤسف حقا أن لا يبقى لدينا من أعمال معلمي الفلاسفة الأوائل إلا القليل ، وأن يكون كل إنتاجهم قد أفلت من أيدينا ،وبسبب هذه الخسارة نحن نحكم عليهم ،الآن ...،إنطلاقا من مقاييس خاطئة وتبعا لإنخداعنا بأفلاطون وأرسطو ". من خلال هذا الكلام لا يسعني القول سوى أن نيتشه يعود بنا مجددا وفي كل لحظة إلى هدمه ومطرقته المشهورة حيث نستنتج أن هذه اللحظة شهدت أولى ممارسات الإقصاء التي تعرضت لها معظم التصورات الفكرية تلك التي سبقت أفلاطون وأرسطو .
عموما فتاريخ الفلسفة ،بل التأريخ للفلسفة قد يحدث بل حدت في مرات عدة ، أن يعرف تغيرات من مؤرخ الى آخر ،فالكل ينطلق من وجهة نظره الخاصة فهناك من من تطغى عليه الذاتية والتحيز الفكري لجهة ومرحلة معينة ،وهناك من ينطلق من وجهة نظر السابقين بل والاعتماد عليهم ،حيث إذا كان تاريخ الفلسفة قد تبث الفضل لأرسطو بوصفة أول من أرخ للفلسفة وأفلاطون بوصفه أول فيلسوف حافظ على بعض مظاهر الإنتاج الفكري للفلاسفة الإغريق ،فالدراسة الموضوعية هنا تكشف لنا أولى ما تكشفه في نظر نيتشه ، أن أفلاطون وأرسطو لم يؤرخان بالمعنى الذي من وجهة نظر الموضوعية التأريخية فقد كان حسب قول "عبدالله ابراهيم" في كتابه "إشكالية التكون والتمركز حول الذات" ،"أنهما كانا يقصيان ويدمجان في آن واحد ما يتعارض وما ينسجم مع منظومتهما الفلسفية ".
من هنا تجدر الإشارة مباشرة الى أن نيتشه ينقلنا الى تفسير الفلاسفة الاغريق القدامى للوجود ، إذ يرى أن منظومته فلسفتهم تتضمن فكرة مهمة ألا وهي البحث عن أصل الأشياء ، ومما لا شك فيه أيضا أن هذا البحث هو الذي دفع ب "طاليس" الى القول بأن "الماء هو أصل كل الأشياء" ، رغم أن طاليس لا يبرهن على فرضيته هاته لكن كان ذلك كافيا ليجعل من طاليس أول فيلسوف يوناني يثبت له البعض حق الريادة في قضية التفلسف ، ومن هنا أيضا جاء على لسان نيتشه في كتابه الفلسفة في العصر المأساوي الاغريقي" "أن طاليس معلما مبدعا طرح السؤال الفلسفي الصحيح لأول مرة "، لكن وبموازاة مع هذا القول وعلى الرغم من ارتباط نظرة طاليس وغيره من معظم فلاسفة الاغريق القدامى بجملة من المعتقدات التي كان المجتمع الاغريقي يؤمن بها إلا أنه يعتبر معلما وأول من طرح السؤال الفلسفي الصحيح لذى نيتشه.
أما اللحظة الموالية ،لحظة سقراط وأفلاطون وأرسطو أو اللحظة المهمة في لحظات تطور الفلسفة الاغريقية وحياتها العامة، على حد تعبير نيتشه ، من هنا فتحت أبواب الهجوم لدى هذا الأخير كما سجلت أيضا لحظة سجاله مع أصحاب هذه اللحظة ، وكأن نيتشه أمام خصم وند عنيد . إن البدايات الأولى للتصدي لهذه اللحظة بدأت بنقد لسقراط ، أي بمعنى واضح نقد نيتشه للفلسفة التي بدأت مباشرة مع سقراط ، ومن هنا يختلف نيتشه تماما مع كل من يعتبرون أن سقراط هو اللحظة المهمة في تاريخ الفلسفة الاغريقية على وجه الخصوص والفلسفة بشكل عام ، حيث نجد هذا الأخير-سقراط- يبدو في نظر نيتشه بمثابة بدأ لإنحلال الفلسفة اليونانية ، ولا يقف نيتشه عند هذا الحد بل تجاوزه الى ماهو أبعد من ذلك ،حيث لا يعتبر سقراط منحلا أو منحطا فقط بل مؤسسا للإنحلال ، ومن هنا يأتي على لسان نيتشه "كان التقدم عند الإغريق سريعا ، ولكن الإنطفاء كان سريعا أيضا لأن حركة آلة التقدم كانت سريعة الى درجة كان فيها رمي حصاة واحدة كافيا لقلبها ، وكانت إحدى هذه الحصى هي سقراط الذي كانت ليلة واحدة كافية بالنسبة إليه لإطفاء تقدم العلم الفلسفي الذي كان يسير بإنتظام رائع وبسرعة فائقة".
إن ما يعتبره نيتشه علامة الإنحطاط والتدهور عند سقراط في المقام الأول هو وضعه للغرائز والعقل في طرفي نقيض وانحيازه الى العقل وتميزه على كل شيئ ، ويعتبر هذا الإنحياز لذى نيتشه إحتقارا من جهة سقراط للواقع الفعلي وكراهيته للجمال والجسد ، ويترتب عن هذا نتيجة من نتائج الضجر والإحتقار للحياة ، وهو ما عبر عنه سقراط في لحظة إحتضاره : " ما الحياة سوى مرض عضال" .ومن جانب آخر لا يمكن إعتبار سقراط مجرد شخصية فلسفية فقط ، بل هو بالنسبة لنيتشه نموذج لمجموعة من المفكرين الذين يحاولون السيطرة والتطويق على الحياة بواسطة الفكر أو العقل وما ظاهرة الجسد إلا ظاهرة تجسد القوى الإرتكاسية التي تستعمل الفكر للحط من قيمة الحياة ونفي للغريزة التي تمثل مجمل ما أوتي به من الثقافة السابقة . إن هذه الفكرة تقودنا الى طرح إشكالات فلسفية عدة يحاول نيتشه الإجابة عنها وهي على الشكل التالي :
- كيف أمكن للقكر السقراطي المزور للفكر المأساوي أن ينتصر ؟ وماهي الوسيلة التي استعملها سقراط ليؤسس لسيادة الميتافيزيقا العقلية ؟ . يجيب نيتشه ، إنه "الجدل" (الديالكتيك ) فالجدل السقراطي لم يكن يوما ما حسب نيتشه وسيلة للمعرفة فقط وإنما كان أيضا بمثابة فنا جديدا للصراع بين النبلاء والعبيد أو بين الأرستقراطية والعامة .
إن الجدل يبدو في نظر نيتشه هو السلاح الأخير للضعيف ووسيلة "الدفاع عن النفس بالنسبة لأولئك الذين لا يملكون أسلحة أخرى" ، وبعبارة أدق إنه شكل من أشكال الإنتقام , ومن هنا يتبين لنا أن صراع سقراط المتمثل في الجدل مع ألذ خصومه ، ماهو بالنسبة لنيتشه سوى صراع صادر عن حقد شعبي لخصومه ،فسقراط ينتمي بمنشئه إلى أحط مراتب العامة ، وهو عامي أيضا من حيث مجمل قناعاته وهو قبيح ولمنظره صورة الوحوش الخيالية بل هو رمز القبح في دنيا اليونانيين الجميلة حسب نيتشه . كما أن نيتشه لا يقف عند هذا الحد في نقده لسقراط بل يشك حتى في إنتماء سقراط للإغريق .هكذا ولا يكتفي نيتشه بسرد كل هذه اللحظات القبيحة حول سقراط بل يضيف إليها صفات آخرى ، فكل شيئ في سقراط حسب -نيتشه- زائد عن حده ، حيث يقول " هو ضفضع وكاركاتوري وهذه الصفات وإن كانت بارزة عنده فإن كل شيئ فيه كان في الآن ذاته مستترا وغامضا بسبب خبته ،ولهذا يظهره نيتشه بمظهر شيطاني". إذا فحملة نيتشه على سقراط تحددها ،إذا كما نرى مجموعة من الدوافع ،من بينها فلسفته ووصعه الاجتماعي وأخيرا هيئته . أما الصورة التي يقدمها لنا نيتشه عن سقراط صورة تختلف عن تلك الصورة التقليدية عند أغلبية الفلاسفة الآخرين أولئك الذين يقدمون سقراط على هيئة بطل من أبطال الثقافة الغربية .أما نيتشه يعتبر سقراط هو المسؤول الأول عن عن إنحلال الثقافة اليونانية .
هذا وبعد انتهاء نيتشه من نقده لسقراط إنتقل بنا مباشرة إلى شن هجومه الحقيقي على أفلاطون ،ذاك الذي يرى فيه هو أيضا تباشير من التفكك والإنحلال في الثقافة اليونانية ولهذا نجد نيتشه يقول "إكتشفت لذى سقراط وأفلاطون أعراض وانحطاط تدهور الهلينية وإغريقين مزيفين مضادين للإغريق" .إن السبب في إنحلال أفلاطون حسب نيتشه هو معلمه سقراط حيث أفسده حينما تقدم بتلقينه أهمية الأخلاق والمنهج الجدلي واحتقار الفن ،مما جعل من أفلاطون مفكرا جدليا بعكس طبيعته وفي هذا الصدد يقول نيتشه في "مقدمته لمحاورات أفلاطون" : " ان هذا التأثير يمثل إحتقارا للواقع وصراعا ضده ، ولقد نقل سقراط هذا الحقد على العالم المحسوس إلى أفلاطون فغدا التحرر من الحواس لديه واجبا وأخلاقيا ". عموما وحسب نيتشه دائما فسقراط هو الذي أصاب افلاطون بالعدوى ،فإن هذا الأخير أي أفلاطون أسوأ بكثير من سقراط ، بإعتباره منشإ ارستقراطي ومع هذا فإنه حسب نيتشه خضع لإستاذه صاحب الأصل العامي.
إن كتابات أفلاطون تمتلك في نظر نيتشه قيمة كبيرة ، ولكنها لا تكتفي لإستحضار السمات الأساسية لأفلاطون الإنسان والمواطن ، ومن هنا وجب علينا الانتقال مباشرة من حياة الفيلسوف الى فكره ، ذلك أن الإغريق لم يكن رجل فكر إلا بصفة عرضية وعابرة حسب نيتشه في كتابه مقدمة لقراءة محاورات أفلاطون . هكذا وبعد دراسته لشخصية أفلاطون ثم الظروف السياسية التي عاش في وسطها ،توصل نيتشه بذلك إلى إستنتاج عام مفاده ، أن أفلاطون كان مواطنا سيئا ،حيث قام بشن حربا شعواء على الظروف السياسية القائمة ، وأصبح بعد أن أوجد مفاهيم لكل الأشياء ، رد كل الناس الى مجانين وقد تحللوا من الأخلاق ،كما قام أيضا أفلاطون بإعتبار مؤسساتهم جنونا وعراقيل أمام الفكر الحقيقي ، وهذا ما دفع بنيتشه إلى وصف أفلاطون ب :"التعصب" ، وهذا التعصب يمكن إكتشافه بسهولة في كيفية تعامل أفلاطون مع المواطنين في محاوراته ، إن أفلاطون يقول نيتشه "يعيش وسط التجريدات فهو لا يرى شيئا ولا يسمع أحدا وهو لا يعطي قيمة لكل ما يمتلك قيمة عند البشر ، إنه يكره العالم الواقعي وهو يسعى الى ترويج هذه الكراهية ويعيش كما لو كان في كهف ومن المعلوم أن البشر الآخرين يعتبرون الفيلسوف فاقدا للعقل عندما يدعوهم الى الكف عن الإعتقاد في واقع الأشياء التي يرونها ويسمعونها ",
من هنا نجد نيتشه يصور لنا سقراط في في صورة المصارع ضد النبلاء ، فإنه يصور بذلك أفلاطون في صورة سياسي نشط يريد بذلك أن يغير العالم القائم في مجالات متعددة كالسياسة والأخلاق والفن تغييرا جذريا ، بحيث يعتبر تأسيس الأكاديمية بالنسبة لأفلاطون حدثا أكثر أهمية ، وهو حدث يعتبره نيتشه بمثابة "ترسيخ لأقدام أفلاطون وأتباعه في حلبة الصراع ضد خصومهم" ، وهكذا فإن أفلاطون ذلك الذي انطلق من احتقاره للواقع الفعلي وإزدراء للناس ، نجده في نظر نيتشه سرعان ما نزع منزع التعصب والإستبداد ، ومع هذا فإن نيتشه يرى أن إحتقار أفلاطون للواقع ويأسه القاتم ، ماهما إلا نتيجة لمجموعة من التأثيرات التي تلقاها من فلاسفة سابقين عليه ، والذي يذكره نيتشه على لسان أرسطو أن "أفلاطون هو أول هجين كبير" ، لأن روافد فلسفته المتعددة وجدها نيتشه تنحدر من منابع كثيرة ، أما بالنسبة لنظريته في المثل فهي خليط من عناصر كثيرة من بينها : إيلية وأيونية وسقراطية , وهذا الخلط رأى فيه نيتشه مظهرا سلبيا لا لشيئ سوى أن فلسفة أفلاطون في نظر هذا الأخير لا تمثل نموذجا صافيا أو نقيا .فمن هنا نجد نيتشه لا يبصر إطلاقا في أفلاطون تباشير التفكك حسب "جاك دريدا" في الثقافة اليونانية فقط ، بل يرى فيه أيضا تهيئة للمسيحية و"رفيقا للمسيح" فالأفلاطونية حسب نيتشه هي إحدى أصول المسيحية مع اليهودية .
وبالفعل فقد وجد التأويل المسيحي في نظرية المثل الأفلاطونية مذهبا يلائم "مملكة الرب" وهكذا فإن نيتشه عندما أعلان محاربته للمسيحية لا لشيئ سوى أنها في نهاية المطاف "أفلاطونية للشعب" .
وختاما نود القول بأن كل ما ذكرناه ما هو إلا محاولة نيتشه لدراسة الثقافة الإغريقية بإعتبارها محاولة تتضمن الكثير من الأفكار العلمية ، كما تتضمن أيضا أفكار أيديولوجية بإعتبارها أفكارا لم تكن مؤثرة في عصرها ، ولكن صارت بذلك الأكثر تأثيرا في عصرنا . فما الذي يتبين لنا في الأخير بعد عرضها ؟
بداية يتبين لنا أن الإغريق استخدموا عند نيتشه -كأداة- ليمارس بها نقده الجدري للمسيحية واليهودية ، وان صح التعبير كحلبة صراع واجه فيها نيتشه الإرث الديني لأوربا ولكي يعيد بناء الأصول وكذا أشكال التقارب والإحتكاك ومن تم التمازج الثقافي بين الشعوب والإتنيات والحضارات والثقافات والأعراق . إلا أن هذه العودة الى الأصول لم تكن سهلة أو خالية من المخاطر ، إذ أدت الى أنحراف عرقي كان سببا في هزة عنيفة تلك الهزة التي لا زالت أوربا تعاني منها الى اليوم ، فقد ربط نيتشه أوربا باليونان وربط الديانة المسيحية واليهودية بالشرق ، وفجأة أصبحت هذه الأخيرة جسما غريبا حسب نيتشه في جسم أوربا الهيلينية ، وكان معه أن تحولت دراسة الأصول الإغريقية لأوربا الى مناهضة للسامية ولكل ما ليس أوربيا ، وأدت هذه الهودة الى الأصول من جهة تانية الى نتيجة أخرى لا تقل خطورة على الأولى وهي عدم الإعتراف بأي دور للثقافات الأخرى غير الأوربية ،على الرغم من الإعتراف بوجود أصول مشتركة ووجود احتكاك وتلاقح ثقافي ، ما يعني أن الفلسفة الأوربية من نيتشه إلى هيدجر ، لم تستطع أن تقهر إنحيازها لأصولها الإغريقية .



#معتصم_بوبكر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بـ82 صوتًا.. البرلمان الأردني يمنح الثقة لحكومة جعفر حسّان
- من حرّض ترمب للتهديد بـ-حجيم- في الشرق الأوسط؟.. إعلام عبري ...
- مصر وأوغندا توقعان إعلانا مشتركا لتعزيز مصالحهما والتشاور بش ...
- محمد صلاح يقترب من توقيع عقد جديد مع ليفربول
- نكت جنسية وتحرش.. مقدم برنامج -ماستر شيف- يجبر -بي بي سي- ع ...
- سهيل الحسن..-جندي الأسد المفضل- يظهر من جديد
- اليونسكو تدرج زي الشرق الجزائري ضمن الموروث الثقافي غير الما ...
- مقتل مصور وكالة الأنباء الألمانية أنس الخربوطلي بقصف جوي بسو ...
- قديروف يعلن مهاجمة مسيرة أوكرانية وسط العاصمة الشيشانية غروز ...
- بيان مصري عن محادثات لافروف وعبد العاطي عن التطورات في سوريا ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - معتصم بوبكر - نيتشه ومعنى التفلسف عند الإغريق