أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - دونكان هالاس - كتاب - ماركسية تروتسكى















المزيد.....



كتاب - ماركسية تروتسكى


دونكان هالاس

الحوار المتمدن-العدد: 372 - 2003 / 1 / 19 - 07:42
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


المقدمة
 
الثورة الدائمة
 
الستالينية
 
الاستراتيجية والتكتيك
 
الحزب والطبقة
 
الإرث
 
المصادر
 
 
********************************************************* 


المقدمة

ولد ليون تروتسكى في 1879 ونضج وتطور وعيه في عالم  حمل عصاه ورحل، عالم ماركسية الاشتراكية الديمقراطية الخاصة بالأممية الثانية.
 وفي كل جيل توجد حالات ذهنية عديدة وممكنة، تضرب بجذورها في الظروف الواسعة الاختلاف، وفى النظام الاجتماعي، والأيديولوجيات التي تتعايش مع بعضها البعض في وقت واحد. وقد كانت أيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية هي الأكثر تطورا، الأكثر قربا من رؤية مادية علمية للعالم حتى ذلك الوقت، وكان إنجازاً في حد ذاته أن يصل لهذه الرؤية لي دا فيدوفيتش برونشتاين (الاسم الحقيقي لتروتسكى) وهو ابن لعائلة فلاحيه يهودية من أوكرانيا. كان برونشتاين الأب فلاحا غنيا - كولاك - وهو ما أتاح لتروتسكى الحصول على قسط بسيط من التعليم - كان يهوديا في بلد تشجع فيه السلطات معاداة السامية ومذابح اليهود. على أي حال أصبح تروتسكى الشاب بعد بداية قصيرة من الثورية الرومانسية، ماركسيا. وبعد ذلك، وتحت ظروف الاوتوقراطية القيصرية، أصبح ثوريا محترفا وسجينا سياسيا . قبض عليه لأول مرة في عمر التاسعة عشر وحكم عليه بالنفي لسيبيريا لمدة 4 سنوات بعد أن قضى 18 شهرا بالسجن، وقد هرب عام 1902، ومنذ ذلك الحين وحتى موته، ظلت الثورة مهنته.
هذا الكتاب الصغير يهتم بالأفكار وليس بالأحداث، ولا يمكن اعتباره بأي حال من الأحوال تاريخ لحياة تروتسكى، فثلاثية دويتشر، بغض النظر عن نقدنا للاستنتاجات السياسية للكاتب، ستظل البيوجرافيا الأساسية عن تروتسكى لزمن طويل. إلا أن أي محاولة لتقديم ملخص لأفكار تروتسكى ستواجه فورا بمشكلة كبيرة. لقد كان تروتسكى مهتما طول حياته أكثر من أي من المفكرين الماركسيين العظام (باستثناء لينين) بالمشاكل المباشرة التي تواجه الثوريين في الحركة العمالية. فتقريبا كان ما قاله أو كتبه له علاقة بمسألة كانت آنية أو بصراع كان دائرا، إن الفرق بين هذا وبين ما يعرف الآن بالماركسية الغربية فرق شاسع. وقد كتب مؤرخ متعاطف مع هذه الماركسية الغربية "إن أول وأهم صفاتها الجوهرية هو انفصالها البنيوى عن الممارسة السياسية" [i][i] . هذا هو آخر ما يمكن أن يقال عن ماركسية تروتسكى.
 لذا، فإن من الضروري تقديم بعض عناصر الخلفية للأحداث التي كوَن  من خلالها تروتسكى آراءه، ولو بشكل سريع وغير كافي.
  كانت روسيا متخلفة، وأوروبا متقدمة، تلك كانت نقطة البداية لكل الماركسيين الروسيين (وليس الماركسيين فقط بالطبع). أوروبا كانت متقدمة لأن تصنيعها كان متطورا ولأن الاشتراكية الديمقراطية، في شكل أحزاب عمالية كبيرة الحجم تدعى الولاء للبرنامج الماركسي، كانت تنمو بسرعة بالنسبة للروس (ولدرجة ما بالنسبة للجميع) كانت أحزاب الدول الناطقة بالألمانية هي الأهم. كانت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية للإمبراطورتين الألمانية والنمساوية أحزابا عمالية تتوسع واعتنقت برامج ماركسية بالكامل (برنامج الايرفورت الألماني عام 1891 وبرنامج هاينفلد النمساوي عام 1888) وقد كان تأثيرهم على الماركسيين الروس كبير. وقويت الصلة نتيجة لأن بولندا، والتي كانت طبقتها العاملة ثائرة بالفعل، كانت مقسمة بين إمبراطورية القيصر الروسي وإمبراطوريتي القيصرين الألماني والنمساوي. وقد ولدت روزا لوكسمبورج، كما نعلم، في هذا الجزء من بولندا الذى كان يقع تحت الاحتلال الروسي غير أنها أصبحت شخصية بارزة ومهمة في الحركة الألمانية. لم يكن هذا مستغربا على الإطلاق. فالاشتراكيون الديمقراطيون كانوا يعتبرون الحدود القومية مسألة ثانوية.
 ومن ناحية الأفكار فلقد تمكنت هذه الحركة (السرية في ألمانيا بين 1878 و 1890 قبل أن تحصل على مليون ونصف صوت في انتخابات محدودة في 1890) من الاستمرار نتيجة لاندماج الماركسية المبكرة بالتطويرات آلتي أضافها فريدريك إنجلز في أواخر القرن التاسع عشر. لقد كان كتابه ضد دوهرنج (1878)، وهو محاولة للوصول لنظرة كلية علمية للعالم، أساسا لفجاجات كارل كاوتسكي، بابا الماركسية، والأطروحات الأكثر عمقا للروسي بليخانوف.
 في هذا العالم الثقافي/ العملي المثير- حيث أسس إنجلز ومقلدوه سياسات الربط بين النظرية والممارسة في الحزب العمالي-  تطور تروتسكى الشاب نظريا وسرعان ما أصبح أكثر من تلميذ للكبار. وكان احترامه أمر عميق، إلا أنه في خلال سنوات من تشبعه بالرؤية الماركسية للعالم تحدى الأرثوذكسية الماركسية في مسألة الدول المتخلفة. ولكن قبل ذلك كان عليه أن يقابل قادة الماركسية الروسية المهاجرون وأن يعلب دورا مرموقا في مؤتمر 1903 للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي - وهو المؤتمر التأسيسى الحقيقي.
هرب تروتسكى من  فيركولند في سيبيريا مختبئا في كومة من القش في صيف 1902، وبحلول أكتوبر كان قد وصل إلى مركز قيادة الاشتراكية الديمقراطية الروسية بالقرب من محطة كينجز كروس في لندن، وحيث كان يعيش كل من لينين وكروبسكايا ومارتو وفيرا زاسوليتش في هذه المنطقة ومن هناك خرجت الإيسكرا، مجلة أنصار حزب مركزي منظم، وكانت توزع سريا في روسيا وسرعان ما اشترك تروتسكى في الخلافات الدائرة داخل فريق عمل الإيسكرا، وقد أراد لينين ضمه لهيئة التحرير بينما عارض بليخانوف الفكرة بشدة - وهكذا تعرف تروتسكى عن قرب على قادة المناشفة المستقبليين بليخانوف ومارتوف بالإضافة إلى لينين. لقد كان الانقسام في مجموعة الإيسكرا قد بدأ في الاختمار. وظهر الخلاف والانقسام على السطح في المؤتمر في صيف 1903، وقد وقف الأيسكراويون معا ضد مطالب البوند، المنظمة اليهودية الاشتراكية، في الاستقلال بالعمل في وسط اليهود. كما وقفوا معا ضد الاتجاه الإصلاحي للاقتصادويين. ثم أتى الانقسام في مجموعة الإيسكرا إلى الأغلبية البلشفية والأقلية المنشفية. لم يكن الانقسام قاطعا منذ البداية - فالمسائل المختلف عليها ذاتها لم تكن واضحة تماما. وقف بليخانوف إلى جانب لينين في البداية بينما ساند تروتسكى القائد المنشفى مارتوف.
 وبعد عامين عاد تروتسكى لروسيا. وكانت ثورة 1905 قد اندلعت. وصعد تروتسكى فيها إلى قمة مجده. في سن السادسة والعشرين أصبح تروتسكى أكثر قائد ثورة مرموق وشخصية معروفة عالميا. لقد خرج من حياة المجموعات الصغيرة وسياسة المنفى لكي يتحول لخطيب رائع وقائد جماهيري. وقد تمكن كرئيس لسوفيت بتروجراد من ممارسة درجة ما من القيادة التكتيكية وأثبت درجة عالية من الثقة وأعصاب حديدية، وهى الصفات التي ستميزه مرة أخرى إبان صعود ثورة 1917.
هزمت الثورة، وارتج الجيش القيصري، ولكن لم ينكسر ومن هذه التجربة، التي سماها لينين "البروفة"، ابتعدت الاتجاهات المتباينة داخل الاشتراكية الديمقراطية عن بعضها البعض أكثر، أما تروتسكى والذي كان ما يزال منشفياً اسميا. فقد طور تحليله الخاص جدا، نظرية الثورة الدائمة.
وأمضى الثوريون العقد التالي في حلقات المهاجرين الصغيرة وفى محاولات فاشلة لتوجيه ما كان قد أصبح تيارات متعارضة. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى والنضال ضدها، ثم التخلص من القيصر في فبراير 1917. وانضم تروتسكى للحزب البلشفي، والذي كان قد أصبح حينئذ حزبا عماليا جماهيريا حقيقيا في يوليو.. وكانت شخصيته وموهبته وسمعته وراء تمتعه بمكانة رفيعة لدرجة أنه صار في غضون أسابيع قليلة الرجل الثاني بعد لينين في أعين الجماهير المؤيدة للحزب. وتم تكليفه بالتنظيم الفعلي لانتفاضة أكتوبر، وفى سن الـ  38 أصبح واحدا من أهم شخصيتين أو ثلاث في الحزب وفى الدولة وبعد ذلك بقليل أصبح أيضا أهم القادة البارزين للحركة الشيوعية العالمية، الأممية الشيوعية. كان المؤسس والموجه الأساسي للجيش الأحمر وشخص مؤثر في كل مجالات العمل الثوري.
ومن على هذه القمم العالية كان مقدرا لتروتسكى أن يسقط . السقوط لم يكن ببساطة تراجيديا شخصية. لقد صعد  تروتسكى مع صعود الثورة وسقط مع سقوطها. ويمتزج تاريخه الشخصي بتاريخ الثورة الروسية والاشتراكية الأممية. ومن 1923 قاد المعارضة للثورة المضادة الستالينية المتنامية في روسيا. ومطرودا من الحزب في 1927 ومن الاتحاد السوفيتي 1929 قضى تروتسكى الـ 11 سنة الأخيرة من عمره في نضال بطولي ضد صعاب مستحيلة من أجل الإبقاء على التراث الشيوعي الحقيقي وبثه في تنظيم ثوري. وقتل في 1940 بأوامر ستالين ، منبوذا ومعزولا. وترك خلفه منظمة أممية هشة وعدة كتابات هي أغنى مصادر الماركسية الثورية.
 هذا الكتاب يركز على أربعة موضوعات - وليست تلك الموضوعات هي كل ما أضاف تروتسكى للفكر الماركسي بأي شكل من الأشكال، لأنه كان كاتبا نادر العبقرية ذو اهتمامات واسعة بشكل غير عادي. ومع ذلك فإن عمل حياته كان مركزا بشكل أساسي على هذه المسائل تلك وتتعلق بها غالبية كتاباته الضخمة بشكل أو بآخر.
 تلك المسائل هي، أولاً، نظرية الثورة الدائمة، وأهميتها للثورات الروسية في القرن العشرين وللتطورات اللاحقة في الدول المستعمرة وشبه المستعمرة، ما يعرف لليوم بـ "العالم الثالث". ثانياً، ما نتج عن ثورة أكتوبر الروسية ومسألة الستالينية. لقد قام تروتسكى بالمحاولة الأولى المتسعة لتحليل مادي تاريخي للستالينية، وتحليله، بغض النظر عن أي انتقادات ممكن توجيهها له، كان نقطة البداية لكل التحليلات اللاحقة الجادة من وجهة نظر ماركسية. ثالثاً، استراتيجية وتكتيكات الحزب الثوري الجماهيري في مختلف الحالات وهو مجال لم تكن إضافة تروتسكى فيه أقل من إضافة ماركس ولينين، رابعاً، مسألة العلاقة بين الحزب والطبقة والتطوير التاريخي الذي أوقع الحركة الثورية في مركز هامشي بالنسبة للمنظمات العمالية الجماهيرية.
 وصف إسحاق دويتشر تروتسكى في سنواته الأخيرة "بالخلاصة المتبقية من الماركسية الكلاسيكية". لقد كان هذا وأكثر. وهذا هو ما يعطى لفكره هذه الأهمية المعاصرة الضخمة.
*********************************************************

الثورة الدائمة

اكتسبت الثورة الصناعية خلال الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، وهى أهم وأعمق تغيير في مجمل تاريخ الجنس البشرى بعد تطوير الزراعة في الماضي القديم، ديناميكية لا تقاوم في ركن صغير من العالم. ولكن سرعان ما وجد الرأسماليون البريطانيون مقلدين لهم في دول أخرى اكتسبت فيها البرجوازية السلطة أو اقتربت من اكتسابها.
 بحلول القرن الحالي كانت الرأسمالية الصناعية قد سيطرت تماما على العالم، وغطت الإمبراطوريات الاستعمارية البريطانية والفرنسية والألمانية والروسية والأمريكية والبلجيكية والهولندية والإيطالية واليابانية على معظم سطح الكرة الأرضية. أما المجتمعات ما قبل الرأسمالية التي حافظت على استقلال أسمى (الصين وإيران والإمبراطورية التركية وإثيوبيا، الخ) فلقد كانت في الحقيقة واقعة تحت سيطرة إحدى القوى الإمبريالية أو مقسمة بين أكثر من واحدة من تلك القوى ويعبر مصطلح "مناطق النفوذ" عن هذا الوضع بدقة. كان هذا "الاستقلال" الرمزي المتبقي نتيجة للنزاعات بين الإمبرياليات المتنافسة (بريطانيا ضد روسيا في إيران، بريطانيا ضد فرنسا في تايلاند، بريطانيا ضد ألمانيا ومعهم روسيا في تركيا، بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا وروسيا وفرنسا واليابان ومنافسين أصغر في الصين.(
 إلا أن الدول التي استعمرت أو سُيطر عليها بواسطة القوى الصناعية الرأسمالية لم تحول، عموما، إلى صورة طبق الأصل من الدولة الأم، على العكس، بقيت تلك الدول غير مصنعة بالأساس. كان تطورها الاجتماعي والاقتصادي متأثرا للغاية - أو مشوها للغاية - بواسطة الاستعمار أو السيطرة ولكنها لم تتحول، عامة، إلى نوع المجتمع الجديد.
 وما يزال وصف ماركس الشهير لتحطيم صناعة النسيج الهندية (والتي اعتمدت على المنتجات رفيعة المستوى يصنعها حرفيين مستقلين) على يد المنتجات القطنية الرخيصة المصنعة بماكينات لانكشير الإنجليزية وصفا معقولا  للتأثير الأولى للرأسمالية الغربية على ما يسمى الآن ب- "العالم الثالث" :الإفقار والتخلف الاجتماعي.
 أدت عملية التطور المركب واللامتكافئ، هذه ، لو استخدمنا تعبير تروتسكى، إلى وضع (لا يزال سارياً حتى يومنا هذا في جوهره) لم يتمكن فيه الجزء الأكبر من سكان العالم من التقدم اجتماعيا واقتصاديا بل وألقى به في المؤخرة. كيف كان (وبالطبع يكون) الطريق للأمام لجماهير الشعوب في تلك الدول ؟.
أضاف تروتسكى، الشاب ذو الـ 26 عاما، إضافة مبدعة لحل هذه المشكلة. كان حلا  يضرب بجذوره في كل من واقع التطور اللامتكافئ للرأسمالية على مستوى العالم، وفى التحليل الماركسي للدلالة الحقيقية للتطور الصناعي - ألا وهى خلق الأساس المادي لمجتمع متقدم بلا طبقات - وفى نفس الوقت - طبقة مُستغَلة، البروليتاريا، التي يمكنها رفع نفسها لمستوى الطبقة الحاكمة ومن خلال حكمها إلغاء الطبقات، والصراع الطبقي، وكل أشكال الاغتراب والقهر.
 ومن الطبيعي أن تروتسكى طور أفكاره هذه بخصوص روسيا بادئ ذي بدء. لذا فمن الضروري التعرف على الخلفية الأيديولوجية للخلافات بين الثوريين الروس في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين حتى نفهم البعد الحقيقي للإضافة. كما لا يمكن إغفال وجود حركة عمالية أممية حقيقية في ذلك الوقت.
"فبعد أن يتم إعادة تنظيم أوروبا وأمريكا الشمالية سيكون هذا بمثابة قوة خرافية ومثل عظيم ستتبعه الدول شبه المتحضرة في نهضتها. وستكون الحاجة الاقتصادية وحدها كافية لحدوث ذلك. ولكننا لا يمكننا إلا تقديم توقعات ضعيفة حول  المراحل الاجتماعية والسياسية التي سيكون علي تلك الدول المرور فيها حتى تصل أيضا  للتنظيم الاشتراكي” (1).
هكذا كتب إنجلز لكاوتسكى في 1882. إنه لم يكن يفكر في روسيا، فالدول التي ذكرت في الخطاب كانت الهند والجزائر ومصر والممتلكات الهولندية والأسبانية والبرتغالية ومع ذلك فإن المنهج العام لإنجلز هو ما سيكون منهج الأممية الثانية (بعد 1889) فشوط التطور السياسي سيعقب شوط التطور الاقتصادي. وحيث تنشأ وتتطور أولا الرأسمالية والتي لا تنفصل عنها البروليتاريا، ستنشأ الحركة الثورية الاشتراكية، التي ستحطم الرأسمالية وتؤدي قي النهاية لتصفية البروليتاريا وكل الطبقات ( بعد فترة من ديكتاتورية البروليتاريا) لندخل في مجتمع المستقبل اللاطبقي.
 كان علي الماركسيين الروس ، والذين تأسست أولي منظماتهم وهي مجموعة "تحرير العمل" ، عام 1883، أن ينظروا لروسيا داخل هذا الإطار التاريخي. ولم يكن لدي بليخانوف ، قائد هذه المجموعة ، أي شك في ذلك، لقد جادل بليخانوف في الثمانينات والتسعينات بأن الإمبراطورية الروسية كانت مجتمعا  قبل رأسمالي بالأساس ولذا كان مقدرا  لها أن تمر خلال عملية التطور الرأسمالي قبل أن يبدأ طرح مسألة الاشتراكية. رفض بليخانوف بشدة الفكرة التي داعبت ماركس نفسه وهي أن روسيا يمكنها ، نتيجة لتطورات معينة في أوروبا ، تفادي المرحلة الرأسمالية تماما وتحقيق انتقال للاشتراكية علي أساس حركة فلاحيه تقضي علي الاوتوقراطية وتهدف للحفاظ علي عناصر الملكية المشاعية التقليدية للأرض (المير) والتي كانت ما تزال موجودة في الثمانينات من القرن الماضي.
كانت آراء بليخانوف والتي تطورت في جداله مع مدرسة "الطريق الفلاحى للاشتراكية" (النارودنيين) هي نقطة انطلاق الماركسية الروسية اللاحقة. إن الرأسمالية كانت تتطور في روسيا ، وإن المير كان نظام يندثر، وإن الطريق الروسي الخاص (الفلاحى) للاشتراكية كان وهم رجعي - كل تلك الأفكار كانت أساسية للجيل التالي من الماركسيين الروس مثل لينين، وبعد ذلك بسنوات قليلة تروتسكى وكل رفاقهم. وإن أول ثلاثة مجلدات من الأعمال الكاملة للينين تحتوي أساسا  علي نقد للناروديين وتدليل علي حتمية - وتقدمية - الرأسمالية في روسيا. وقد أسست مجموعة الإيسكرا ، والتي بدأت في 1900 لخلق منظمة قومية موحدة من المجموعات والحلقات الاشتراكية الديمقراطية المبعثرة ، أسست نفسها بقوة علي رؤية أن الطبقة العاملة الصناعية وهى نتاج التطور الرأسمالي هي قاعدة هذه المنظمة.
 وكما طرحت ثلاثة أسئلة في تلك الفترة : أولا، ما هي العلاقة بين الأدوار السياسية للطبقة العاملة(والتي كانت ما تزال أقلية صغيرة) والبرجوازية والفلاحين (الأغلبية الساحقة) ، ومن ثم ، ما هو الطابع الطبقي للثورة القادمة في روسيا، وأخيرا، ما هي العلاقة بين الثورة وحركات الطبقة العاملة في دول الغرب المتقدمة؟.
 والإجابات المختلفة علي تلك الأسئلة مثلت  واحداً  من موضوعين (الآخر كان حول طبيعة الحزب الثوري) شكلا الفروق بين ما سيصبح فيما بعد اتجاهين متضادين في الاشتراكية الديمقراطية الروسية. وحتى نفهم نظرية تروتسكى : الثورة الدائمة ، من الضروري أن نفحص سريعا  تلك الإجابات كما ظهرت في صورة متطورة بعد ثورة 1905.
 
المنشفية
 يمكن تلخيص الرؤية المنشفية بهذه الطريقة : إن تطور قوي الإنتاج ( أي التخلف الاقتصادي العام لروسيا ممزوجا  بصناعة حديثة صغيرة ولكن مهمة ونامية ) يحدد ما هو ممكن - ألا وهو ثورة برجوازية - مثل الثورة البرجوازية في فرنسا 1789 -1794. لذا يجب أن تستولي البرجوازية علي السلطة - لتؤسس جمهورية برجوازية - ديمقراطية تمحي بقايا العلاقات الاجتماعية ما قبل الرأسمالية وتفتح الطريق أمام تطور سريع للقوي الإنتاج (وتطور سريع للبروليتاريا أيضا) علي أساس رأسمالي. وأخيرا  سيطرح النضال من أجل الثورة الاشتراكية علي جدول الأعمال.
 ولذا فإن الدور السياسي للطبقة العاملة هو دفع البرجوازية للأمام في مواجهة القيصرية ولكن عليها الحفاظ على استقلالها السياسي- أي أنه لا يمكن للاشتراكيين الديمقراطيين الدخول في حكومة ثورية مع قوي غير بروليتارية.
 أما بالنسبة للفلاحين فلا يمكنهم لعب أي دور سياسي مستقل. يمكنهم أن يلعبوا دورا  ثوريا  ثانويا  في مساعدة الثورة البرجوازية المدنية بالأساس ، وبعد انتهاء هذه الثورة سيتعرض الفلاحون لانقسام اقتصادي سريع إلي شريحة من الفلاحين الرأسماليين (ستكون محافظة) وشريحة من أصحاب الملكيات الصغيرة وشريحة من البروليتاريا الزراعية.
 ولا يوجد أي علاقة عضوية بين الثورة البرجوازية الروسية والحركة العمالية الأوروبية ، رغم أن الثورة الروسية ( لو حدثت قبل الثورة الاشتراكية في الغرب) ستقوي الاشتراكية الديمقراطية في الغرب.
 في الحقيقة كانت المنشفية اتجاه متنوع، حيث ركز مناشفه مختلفون علي أجزاء مختلفة من هذه الرؤية العامة (التي هي أساسا رؤية بليخانوف) ولكنهم قبلوا هذا الإطار العام.
 ولكن ثورة 1905 كشفت العيوب الجوهرية في هذه الرؤية : فالبرجوازية رفضت أن تلعب الدور المنوط بها. بالطبع لم يتوقع بليخانوف، الدارس المتعمق للثورة الفرنسية الكبرى، أن تقود البرجوازية الروسية صراعا جذريا  ضد القيصرية بدون ضغط عظيم من أسفل. كما استولت الدكتاتورية اليعقوبية - وهي الحد الأقصى للثورة الفرنسية - علي السلطة بين 1793 -1794 تحت الضغط العنيف للسان كليوت، وهم جماهير العامة في باريس، وبالمثل يمكن  للطبقة العاملة  في روسيا أن تكون قوة الدفع الرئيسية التي تضطر الممثلين السياسيين للبرجوازية (أو جزء منهم) أن يستولوا علي السلطة. ولكن ثورة 1905 وما حدث في أعقابها بينت أنه لم يكن هناك أي ميل "روبسبيرى" داخل البرجوازية الروسية، ففي مواجهة المد الثوري اندفعت البرجوازية إلي أحضان القيصر.
 منذ 1898 أعلن البيان التحضيري للمؤتمر الأول للاشتراكيين الديمقراطيين الروس أن "كلما اتجهنا للشرق في أوروبا كلما أصبحت البرجوازية أضعف من المنظور السياسي وأجبن وأوقح وكلما عظمت المهام الثقافية والسياسية التي تؤول إلي البروليتاريا".(2)
 لم تكن المسألة جغرافية بل تاريخية. لقد جعل تطور الرأسمالية الصناعية والبروليتاريا الحديثة من البرجوازية طبقة محافظة في كل مكان، حتى في الدول التي كان التصنيع فيها جنينياً، وبالفعل، أوضح فشل الثورة الألمانية 1848 - 1849 هذه النقطة قبل ذلك بكثير.
 
البلشفية
 انطلقت الرؤية البلشفية من نفس المقدمات التي انطلق منها المناشفة وهى أن الثورة القادمة ستكون، ولا يمكنها إلا أن تكون، ثورة برجوازية من ناحية طابعها الطبقي. رفضت الرؤية البلشفية من البداية أي اعتماد علي الضغط علي البرجوازية، وطرحت بديلا لذلك :
 أن تحويل الوضع الاقتصادي والسياسي في روسيا ليصبح وضعا برجوازيا وديمقراطيا هو أمر حتمي لا يمكن الفرار منه. وأضاف لينين في كتيبه الشهير "تكتيكان للاشتراكية الديمقراطية في الثورة الديمقراطية" (يوليو 1905) :
"لا تستطيع أي قوة علي الأرض منع هذا التحول، ولكن الفعل المركب للقوي الموجودة يمكن أن يسفر عن أحد شيئين، أي يمكن أن يسبب أحد شكلين لهذا التحول. إما : 1)  أن تنتهي الأمور بإنتصار حاسم للثورة على القيصرية. 2) أن لا تكفي هذه القوي لانتصار حاسم، وتنتهي الأمور بعقد صفقة مع العناصر الأقل تماسكا والأكثر تفردا  من البرجوازية... لابد أن نكون واعين تماما  في عقولنا من هي القوي الاجتماعية الحقيقية المعارضة للقيصرية... والقادرة علي كسب انتصار حاسم ضد القيصرية. لا يمكن أن تكون... البرجوازية الكبيرة مثل تلك القوي فنحن نري أنهم لا يريدون حتى هذا النصر الحاسم. إن وضعهم الطبقي يمنعهم من مواجهة حاسمة مع القيصرية، فهم مكبلين بشكل ثقيل بملكيتهم الخاصة. برأس المال والأرض لدرجة تمنعهم من الدخول في أي صراع حاسم. إنهم يحتاجون القيصرية بشدة ، يحتاجون بيروقراطيتها وجيشها ليستخدموهما ضد البروليتاريا والفلاحين... يحتاجونها لدرجة لا تسمح لهم بأن يريدوا تحطيمها لا، إن القوى الوحيدة القادرة علي إحراز انتصار حاسم علي القيصرية، هي الشعب، أي البروليتاريا والفلاحين... إن الانتصار الحاسم للثورة علي القيصرية يعني إقامة الدكتاتورية الثورية - الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين...
لا يمكنها إلا أن تكون ديكتاتورية لأن تحقيق التغيرات العاجلة والتي لا يمكن للبروليتاريا و الفلاحين الاستغناء عنها سيفسر عن مقاومة شديدة من ملاك الأراضي والبرجوازية الكبيرة والقيصرية... ولكن بالطبع ستكون هذه ديكتاتورية ديمقراطية وليست اشتراكية... في أحسن الأحوال، ستأتي بإعادة توزيع راديكالية للأراضي في صالح الفلاحين، وستقيم ديمقراطية متماسكة وكاملة ويتضمن ذلك تكوين جمهورية ، إزالة كل السمات القهرية للعلاقات الآسيوية ليس فقط في الريف، بل في المصانع أيضا وإرساء أساس تحسين عميق في ظروف العمال ورفع مستوي معيشتهم وأخيرا  وليس بآخر ستحمل الشعلة الثورية لأوروبا. مثل هذا الانتصار لن يحول حتى الآن وبآي وسيلة من الوسائل ثورتنا من ثورة برجوازية إلى ثورة اشتراكية". (3)
 طرح لينين أن خط المناشفة لم يكن مجرد خطأ بل تعبير عن عدم رغبة في القيام بالثورة ودفعها إلي الأمام. إن تصميم المناشفة علي التعلق بالليبراليين البرجوازيين لابد وأن يؤدي لشلل. أما الفلاحين، علي الناحية الأخرى، فكان لديهم مصلحة حقيقية في تحطيم القيصرية وبقايا الإقطاع في الريف. لذا، فإن الديكتاتورية الديمقراطية - وهى حكومة ثورية مؤقتة تضم ممثلين للفلاحين إلي جانب الاشتراكيين الديمقراطيين - كانت النظام "اليعقوبى"، المناسب الذي سيحطم الثورة المضادة ويقيم جمهورية ديمقراطية (بمساواة كاملة وتقرير المصير لكل القوميات)، وسيصادر الأراضي الزراعية الكبرى وبجعل يوم العمل ثماني ساعات" (4).
 
حل تروتسكى
رفض تروتسكى الاعتماد علي البرجوازية الثورية بشدة مثلما فعل لينين وسخر تروتسكى من التصور المنشفى فهو:
 "رؤية لا تاريخية خلقتها استنتاجات وتشبيهات صحفية ... فلأن الثورة في فرنسا قد نفذها إلى النهاية الديمقراطيون الثوريون - اليعاقبة - فلذا تستطيع الثورة الروسية تسليم السلطة فقط إلى أيدي البرجوازية الديمقراطية الثورية. ومن خلال خلق هذه المعادلات الرياضية الجامدة للثورة يحاول المناشفة إدخال قيم حسابية لا وجود لها".(5)
 ولكن من كل النواحي الأخرى اختلفت نظرية تروتسكى :الثورة الدائمة ، التي يعود فضل كبير في تطويرها للماركسي الألماني - الروسي بارفوس، عن الموقف البلشفي.
أولا، وأهم شئ، فلقد استبعدت النظرية احتمال إمكانية أن يلعب الفلاحون أي دور سياسي مستقل: "الفلاحون لا يمكنهم أن يلعبوا أي دور ثوري قيادي، فالتاريخ لا يمكن أن يحمل "الموزيك" مهمة تحرير أمة برجوازية من قيودها. بسبب تبعثرهم، وتخلفهم السياسي، وبالذات تناقضاتهم الداخلية العميقة التي لا يمكن أن تحل داخل إطار النظام الرأسمالي، يمكن للفلاحين أن يكيلوا للنظام القديم بعض الضربات القوية من الخلف بواسطة انتفاضات عفوية في الريف، من ناحية، وبخلق قلاقل داخل الجيش من ناحية أخرى".(6)
 تطابق هذا الموقف مع خط المناشفة وتماشى مع تحليل ماركس للفلاحين الفرنسيين كطبقة. فلأن المدينة تقود في المجتمع الحديث لا يمكن إلا لطبقة مدنية أن تلعب دورا  قياديا ولأن البرجوازية ليست ثورية (ولأن البرجوازية الصغيرة المدنية غير قادرة في أي حال على لعب نفس دور السان كيلوت) فإنه :
"يظل الاستنتاج بأن البروليتاريا، فقط، في صراعها الطبقي، واضعة جماهير الفلاحين تحت قيادتها الثورية، يمكنها إكمال الثورة إلى النهاية".(7)
 لابد أن يؤدى هذا إلى حكومة عمالية، و"ديكتاتورية" لينين الديمقراطية هي ببساطة وهم:
"إن هناك تناقض بين السيطرة السياسية للبروليتاريا، واستعبادها الاقتصادي فبغض النظر عن الراية السياسية التي وصلت تحتها البروليتاريا للسلطة لابد أن تسلك طريق السياسة الاشتراكية. سيكون من الطوباوية المطلقة تصور  أن البروليتاريا يمكنها، بعد أن وصلت للسلطة السياسية من خلال الميكانزم الداخلي للثورة البرجوازية، أن تحدد مهمتها بخلق ظروف جمهورية ديمقراطية للسيطرة الاجتماعية البرجوازية ، حتى لو كانت تريد ذلك".(8)
 ولكن كل هذا يؤدى فورا إلى تناقض. لقد كانت نقطة الانطلاق المشتركة لكل الماركسيين الروس هي أن روسيا افتقدت الأساس المادي الإنساني للاشتراكية- صناعة متطورة جدا  وبروليتاريا حديثة تمثل نسبة كبيرة من الشعب واكتسبت التنظيم والوعي كطبقة "من أجل ذاتها"، كما أعتقد ماركس.
 كان لينين قد رفض بشدة في "تكتيكان للاشتراكية الديمقراطية":
"الفكرة العبثية وشبه الفوضوية التي تريد تطبيق برنامج الحد الأقصى والاستيلاء على السلطة من أجل الثورة الاشتراكية. إن درجة التطور الاقتصادي (وهذا شرط موضوعي) وتطور الوعي الطبقي وتنظيم الجماهير العريضة للبروليتاريا (وهذا شرط ذاتي مرتبط أساسا بالشرط الموضوعي) يجعلان من المستحيل أن تتحرر الطبقة العاملة فورا وبالكامل. يمكن لأكثر الناس جهالة فقط أن يغلقوا أعينهم للطابع البرجوازي للثورة الديمقراطية التي تجرى الآن (أي في عام 1905)".(9)
 من وجهة نظر ماركسية، لا يمكن التعرض بالنقد لفكرة لينين، طالما أننا ننظر إلى روسيا فقط. ولعله من الضروري أن نؤكد على هذه النقطة الأولية إذا أخذنا في الاعتبار التطورات اللاحقة فالاشتراكية بالنسبة لماركس ولكل من اعتبروا أنفسهم من أتباعه في ذلك الوقت، كانت تمثل التحرر الذاتي للطبقة العاملة. لذا فإنها تفترض وجود صناعة حديثة واسعة النطاق وبروليتاريا واعية طبقيا  قادرة على التحرر الذاتي.
 على الرغم من ذلك كان تروتسكى مقتنعا بأن الطبقة العاملة فقط هي التي يمكنها لعب الدور القيادي في الثورة الروسية وأنه، لو فعلت ذلك، لأمكنها الاستيلاء على السلطة ولكن ماذا بعد؟:
"ستواجه السلطات الثورية المشاكل الموضوعية للاشتراكية، ولكن التخلف الاقتصادي لروسيا يمنع حل هذه المشاكل. لا يوجد مخرج من هذا التناقض داخل إطار ثورة قومية. ستواجه الحكومة العمالية منذ البداية مهمة توحيد قواها مع قوى البروليتاريا الاشتراكية في غرب أوروبا. فقط بهذه الطريقة ستصبح سيطرتها الثورية المؤقتة مدخلا  للديكتاتورية الاشتراكية، لذا، ستصبح الثورة الدائمة، بالنسبة للبروليتاريا الروسية مسألة حفاظ على بقاء الطبقة".(10)
 وهنا تقلب الفكرة الأصلية لإنجلز رأسا على عقب. فالتطور اللامتكافئ للرأسمالية يؤدى إلى تطور مركب تصبح فيه روسيا المتخلفة، مؤقتا، طليعة الثورة الاشتراكية العالمية.
 ظلت نظرية الثورة الدائمة محورية في ماركسية تروتسكى إلى نهاية حياته، في ناحية واحدة فقط اختلفت أفكار تروتسكى بعد 1917 عن الرؤية المذكورة. فرؤية ما قبل 1917 اعتمدت على الفعل العفوي للطبقة العاملة. كما سنرى، كان تروتسكى في تلك الفترة خصما  قويا  للبلشفية المركزية، ورفض عمليا الدور القيادي للحزب. في 1917 غير تروتسكى موقفه من هذه المسألة. وبنى تروتسكى تطبيقاته اللاحقة لنظرية الثورة الدائمة حول دور الحزب العمالي الثوري.
 
النتيجة
 إن كل النظريات، على الأقل النظريات التي تدعى العلمية، تجد اختبارها الحاسم في الممارسة. فالدليل على جودة الطعام، كما يقول المثل الشعبي، هو الأكل، ولكن قد يتأخر الاختبار العملي الحاسم، يتأخر حتى بعد موت المنظر وأنصاره ومعارضيه.
 على خلاف العلوم الطبيعية - حيث يمكن دائما  إقامة تجارب (حتى لو لم تكن الوسائل اللازمة متوفرة في الحال) فإن الماركسية كعلم التطور الاجتماعي (وبالطبع، منافسيها البرجوازيين، أشباه العلوم، الاقتصاد وعلم الاجتماع وهلم جرا) لا يمكن اختبارها بناء على مدة زمنية اعتباطية بل في أثناء التطور التاريخي، وحتى هنا يكون الاختبار وقتيا  فقط.
 السبب بسيط جداً، رغم أن النتائج معقدة للغاية. "فالبشر يصنعون تاريخهم" كما  يقول ماركس "رغم أنهم لا يفعلون ذلك في ظروف من اختيارهم". الأفعال الإرادية ، لملايين وعشرات الملايين من البشر، المشكلين تاريخيا  والضاغطين ضد ظروف فرضها عليهم التطور التاريخي السابق (والتي لا يكونوا واعين بها عموماً) تنتج آثارا  أكثر تعقيدا من أن يتوقعها أكثر المنظرين بعدا في النظر إن مقولة نابليون "فلنشتبك ثم نرى" ، التي تعبر عن رأى نابليون في علم الحرب، لابد أن يأخذها الثوريون في الاعتبار، الثوريون المشتركون في محاولة واعية لتشكيل مجرى الأحداث.
 لقد كان الثوريون الروس في بداية القرن العشرين أكثر حظا  من أغلب الثوريين. فقد جاء الاختبار الحاسم لهم سريعا. فشهد عام 1917 اشتراك المناشفة، المعادين من حيث المبدأ للاشتراك في حكومة غير بروليتارية، في حكومة من أعداء الاشتراكية لتنفيذ حرب إمبريالية ومحاولة وقف الثورة.
 لقد أثبت ذلك في الممارسة توقع لينين في 1905 بأن المناشفة هم "جيروند"، الثورة الروسية. لقد شهد 1917 البلاشفة، أنصار الدكتاتورية الديمقراطية وحكومة تحالف ثورية مؤقتة، بعد فترة من التأييد النقدي لما أسماه لينين عند عودته إلى روسيا بـ - حكومة رأسماليين، يتحولون بحسم نحو استيلاء الطبقة العاملة على السلطة تحت تأثير كتيب لينين أطروحات إبريل وضغط العمال الثوريين داخل صفوف البلاشفة.
 وشهد البرهان الرائع على صحة رؤية تروتسكى عندما تبنى لينين عمليا وإن لم يكن من خلال الكلمات منظور الثورة الدائمة وتخلى بدون طقوس عن منظور الدكتاتورية الديمقراطية.
 أيضا  شُهد تروتسكى معزولا وعاجزا عن التأثير على مجرى الأحداث في الأزمة الثورية الكبرى في 1917 إلى أن قاد جماعته الصغيرة والمثقفة إلى داخل الحزب البلشفي الجماهيري. لذا أثبت في 1917 أن نضال لينين الطويل والمرير من أجل حزب عمالي خالي من أي أثر أيديولوجي للماركسيين البرجوازيين الصغار (طالما أمكن تحقيق هذا الاستقلال بوسائل تنظيمية) كان نضالا عظيما ( هذا النضال الذي أطلق عليه تروتسكى لأكثر من عقد "عمل حلقي" )".(11)
كان تروتسكى صائباً حول المسألة الإستراتيجية المركزية في الثورة الروسية ولكنه كان، كما طرح تونى كليف، "جنرالا عظيما بدون جيش يذكر"(12). وقد كتب تروتسكى فيما بعد أن اختلافه مع لينين في 1903 - 1904 حول الحاجة للحزب كان أكبر "خطأ ارتكبه في حياته".
 أوصلت ثورة أكتوبر الطبقة العاملة  الروسية إلي السلطة وفعلت ذلك في إطار مد ثوري صاعد ضد الأنظمة القديمة في وسط، وبدرجة أقل، غرب أوروبا. اعتمدت رؤية تروتسكى، ورؤية لينين بعد إبريل 1917، بشكل جوهري على نجاح الثورة البروليتارية في "بلد أو بلدين على الأقل" (كما كان يطرح لينين بحذره المعهود) من البلدان الرأسمالية المتقدمة.
ولكن هذه الموجة الثورية في ألمانيا والنمسا والمجر وإيطاليا وأماكن أخرى قد قضى عليها قبل أن تتحقق الثورة البروليتارية أو قبل أن تثبت دعائمها حيث تحققت مؤقتاً، وذلك بسبب سيطرة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية على الحركة (تلك الأحزاب التي أثبتت في الممارسة منذ أغسطس 1914 أنها أصبحت محافظة وقومية) وبسبب تأرجحات وسلبية قادة الانشقاقات "الوسطية" من تلك الأحزاب بين 1916-1921.
 سنتعرض لتحليل تروتسكى لنتائج تلك الوقائع فيما بعد. ولكن أولا  سيكون من المفيد أن ننظر للثورة الصينية الثانية (1925 -1927) ونتائجها،  بناء على نظرية تروتسكى.
 
الثورة الصينية 1925 - 1927
 تأسس الحزب الشيوعي الصيني في يوليو 1921 في مناخ تسوده مشاعر معادية للإمبريالية، ونضال قوي للطبقة العاملة في المدن الساحلية حيث كانت الطبقة العاملة الصناعية حديثة التكوين، ولكن كبيرة الحجم، تناضل من أجل تنظيم ذاتها. واستطاع الحزب الشيوعي الصيني الصغير والمتكون في البداية من المثقفين، أن يصبح في أعوام قليلة القيادة الفعلية للحركة العمالية الوليدة.
 كانت الصين وقتذاك شبه مستعمرة، مقسمة بشكل غير رسمي بين الإمبريالية البريطانية والفرنسية والأمريكية واليابانية. وكانت قد تمت إزالة الإمبرياليتين  الألمانية والروسية بواسطة الحرب والثورة قبل 1919.
 حافظت كل قوة إمبريالية علي "منطقة نفوذها" وساندت كل منها الإقطاعي المحلي أو الزعيم العسكري المحلي أو الحكومة "الوطنية " المحلية. وقد وفرت بريطانيا، القوة الإمبريالية المهيمنة في ذلك الوقت لـ وو بي فو أقوى الزعماء الحربيين في وسط الصين والمسيطر على المناطق المجاورة لنهر "يانجستى"، الأسلحة والمال والخبراء. ووفرت اليابان نفس الخدمات لتشانج تسو لين، لورد منشورياً الحربي. بينما سيطرت عصابات عسكرية أصغر مرتبطة بواحدة من القوي الإمبريالية علي معظم بقية البلاد.
 كان الاستثناء كانتون والمنطقة المحيطة بها. هناك كان سان يات سن رائد الوطنية الصينية، قد نجح إلى حد ما فى تأسيس قاعدة علي أساس برنامج استقلال وطني وتحديث وإصلاحات اجتماعية تحت راية "يسارية" مبهمة. اعتمد حزب سان يات سن، الكومينتانج الذي كان جسما بدون شكل وبدون تأثير قبل 1922، علي تسامح الزعيم الحربي "التقدمي" في المنطقة.
 إلا أنه بعد بدء تحركهم منذ 1922، عقد قادة الكومينتانج اتفاقية مع حكومة الاتحاد السوفيتي في 1924 أرسلت بمقتضاها مستشارين سياسيين وعسكريين إلي كانتون وبدأت في إرسال الأسلحة. أصبح الكومينتانج حزبا مركزيا له جيش قوي نسبياً . أكثر من ذلك بدأ في إرسال أعضاء الحزب الشيوعي الصيني من أواخر 1922 إلي داخل الكومينتانج بصفتهم "الفردية" بل كان ثلاثة من أعضاء الحزب الشيوعي أعضاءً  في اللجنة التنفيذية للكومنتانج. كانت هذه السياسة والتي واجهت مقاومة داخل الحزب الشيوعي الصيني، قد فرضت بواسطة اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية. كان الحزب الشيوعي الصيني مرتبطاً  فعلياً  بالكومنتانج. وبعد ذلك وفي بداية صيف عام 1925 انفجرت حركة إضراب جماهيري -أسبابها اقتصادية جزئيا  ولكن سرعان ما تسيست نتيجة للقمع التي تعرضت له من القوات الأجنبية والبوليس - في شنغهاى وانتشرت إلي المدن الصينية الكبرى في وسط وجنوب الصين متضمنة كانتون وهونج كونج. استمرت المسيرات الجماهيرية الضخمة في المدن بين مد وجزر حتى بداية 1927. في أوقات مختلفة، وجدت حالة من ازدواجية سلطة، مثلث فيها لجان الإضراب التي قادها الحزب الشيوعي الصيني وشكل ما سمى بالحكومة الثانية أو رقم (2).
 وفي نفس تلك الفترة انفجرت انتفاضات الفلاحين في عدة مقاطعات مهمة. واهتز نظام الزعامات الحربية تماما . أراد الكومنتانج أن يركب الموجة بمساندة الحزب الشيوعي الصيني ثم يستولى علي السلطة على المستوى القومى  بدون تغيير اجتماعي. في بداية 1926 سمح للكومنتانج بالانضمام للأممية الشيوعية كحزب متعاطف !!.
 كان قد تم استبعاد تروتسكى من مجال التأثير علي السياسة منذ 1925 رغم أنه بقي عضوا  في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الروسي. وكما ذكر دويتشر، فقد طلب تروتسكى في إبريل 1926 انسحاب الحزب الشيوعي الصيني من الكومنتانج (13)
 وتعود أول وثيقة نقدية مهمة كتبها حول هذا الموضوع إلي سبتمبر 1926:
"لقد دخل النضال الثوري في الصين منذ 1925 مرحلة جديدة تتصف أساسا بالتدخل النشيط للقاعدة الواسعة للبروليتاريا. وفي نفس الوقت، تتجه البرجوازية التجارية والعناصر المثقفة المرتبطة بها إلي اليمين متخذين مواقف عدائية ضد الإضرابات والشيوعيين والاتحاد السوفيتي.
من الواضح تماما  في ضوء هذه الحقائق الجوهرية أنه لابد من طرح مسألة إعادة النظر في العلاقة بين الحزب الشيوعي والكومنتانج...
إن اتجاه جماهير العمال الصينيين لليسار هو حقيقة أكيدة مثل اتجاه البرجوازية الصينية لليمين. فحيث أن الكومنتانج تأسس علي التوحد السياسي والتنظيمي مع البرجوازية، لابد أن ينقسم الآن تحت ضغط الصراع الطبقي...
لقد كان اشتراك الحزب الشيوعي في الكومنتانج سليم تماماً عندما كان الحزب في فترة الدعاية والاستعداد للعمل السياسي المستقل مستقبلياً، ولكن الهادف في الوقت ذاته في المشاركة في نضال التحرير الوطني الواقع، ولكن حقيقة نهوض البروليتارية الصينية العظيم ورغبتها في النضال وفي التنظيم الطبقي المستقل، حقيقة لا يمكن إغفالها. إن المهمة الحالية للحزب الشيوعي هي القيادة المستقلة المباشرة للطبقة العاملة المستيقظة. ليس بالطبع لإبعاد الطبقة العاملة عن النضال الوطني الثوري، بل لتأكيد دورها ليس فقط كأشد المقاتلين صلابة ولكن أيضا كقيادة سياسية مسيطرة داخل نضال الجماهير الصينية...
إن الاعتقاد بأنه يمكن كسب البرجوازية الصغيرة من خلال المناورات الذكية والنصح الجيد وذلك من داخل الكومنتانج إنما هو طوباوية يائسة. سيكون الحزب الشيوعي أكثر قدرة علي التأثير المباشر وغير المباشر في البرجوازية الصغيرة المدنية والريفية كلما كان الحزب ذاته قويا، أي، كلما نجح الحزب في كسب الطبقة العاملة الصينية. ولكن هذا ممكن فقط علي أساس حزب طبقي وسياسة طبقية مستقلة".(14)
 كان هذا أمر مرفوضا  تماماً من ستالين وزملائه. كانت سياستهم هي التعلق بالكومنتانج وإرغام الحزب الشيوعي الصيني علي إخضاع ذاته للكومنتانج مهما كان الأمر، بهذه الطريقة كانوا يأملون أن تكون هناك استمرارية حليف للاتحاد السوفيتي يعتمد عليه في جنوب الصين، ومن المحتمل أن يستولي علي السلطة في كل الصين فيما بعد.
تم تبرير هذه السياسة نظرياً  بإحياء أطروحة "الديكتاتورية الديمقراطية". الثورة الصينية هي ثورة برجوازية وبالتالي، هكذا جادل ستالين وزملاؤه، يجب أن يكون الهدف هو ديكتاتورية ديمقراطية للعمال والفلاحين. ومن أجل الحفاظ علي كتلة العمال والفلاحين يجب أن تقيد الحركة نفسها بالمطالب الديمقراطية، لم تكن الثورة الاشتراكية في جدول الأعمال - أما الصعوبة الكامنة في الحقيقة الواضحة لعدم كون الكومينتانج حزب فلاحين فقد تم التعامل معها بالقول أن الكومينتانج كان حزبا متعدد - الطبقية، كتلة من أربعة طبقات (البرجوازية، البرجوازية الصغيرة المدنية، العمال والفلاحين).
"ماذا تعني كتلة من أربع طبقات؟ هل واجهتم مثل هذا التعبير من قبل في الأدبيات الماركسية ؟؟ إذا قادت البرجوازية جماهير الشعب المضطهدة وذلك تحت الراية البرجوازية وتستولي علي سلطة الدولة من خلال قيادتها إذن فلا يمكن أن يعتبر ذلك كتلة بل الاستغلال السياسي للجماهير المضطهدة بواسطة البرجوازية".(15)
 النقطة الحقيقية هي أن البرجوازية ستستسلم للإمبرياليين وبالتالي حتميا  سيلعب الكومينتانج  دوراً  مضاداً  للثورة. 
"إن البرجوازية الصينية واقعية وملمة عن قرب بطبيعة الإمبريالية بالقدر الكافي لكي تفهم أن نضالا جادا حقيقيا  ضد الأخيرة يتطلب هبات من الجماهير الثورية ستكون أساسا خطرا علي البرجوازية ذاتها... وإذا كنا علمنا عمال روسيا منذ البداية عدم التصديق في استعداد الليبرالية وقدرة البرجوازية الصغيرة الديمقراطية علي سحق القيصرية وتحطيم الإقطاع فيجب علينا بنفس الهمة أن نحقن العمال الصينيين منذ البداية بنفس روح عدم الثقة. إن النظرية الجديدة - الكاذبة تماما  التي طالعنا بها ستالين وبوخارين عن الروح الثورية "الكامنة" في برجوازيات المستعمرات هي في جوهرها ترجمة للمنشفية إلي لغة السياسة الصينية".(16)
 إن النتيجة معروفة جيدا  لقد قام تشانج كاي تشيك ، رئيس الكومنتانج بأول انقلاب له ضد اليسار في كانتون في مارس 1926. وخضع الحزب الشيوعي، تحت الضغط الروسي للكومنتانج. وعندما شن جيش تشانج  "الحملة الشمالية" حطمت موجة من انتفاضة الطبقة العاملة والفلاحين قوات زعماء - الحرب ، إلا أن الحزب الشيوعي المخلص، فعل كل ما بوسعه لكي يمنع "التجاوزات". قبل أن يدخل تشانج لشنغهاى في مارس 1927 كان زعماء الحرب قد هزموا بواسطة إضرابين عامين وانتفاضة مسلحة قادها الحزب الشيوعي الصيني. أمر تشانج العمال بإلقاء أسلحتهم ورفض الحزب الشيوعي أن يقاوم. ثم، في إبريل، تم ذبح الشيوعيين ونسف الحركة العمالية. أعقب ذلك وقوع انقسام في الكومنتانج. وشكل القادة المدنيين للكومنتانج، الخائفين (عن حق) من اعتزام تشانج كاي تشيك بأن يصبح ديكتاتورا عسكريا علي الصين، حكومتهم في ووهان (هانكو).
 وأصبح الحزب الشيوعي الصيني، مطالب الآن من الكومنترن أن يساند نظام الكومنتانج "اليساري"، مقدما  وزراء للعمل والزراعة. واستخدم زعيم يسار الكومنتانج وانج تشينج واي الشيوعيين لخدمة أغراضه وبعد أشهر قليلة قام بانقلاب. بعد ذلك رأس الحكومة العميلة في الجزء من الصين  الذي كانت تحتله اليابان. وأضطر الحزب الشيوعي إلي اللجوء للعمل السري وسرعان ما فقد قاعدته الجماهيرية في المدن ، ففي كل مواجهة هامة استخدم هذا الحزب نفوذه لإقناع العمال بعدم مقاومة الكومنتانج.
 بعد ذلك، ولأن الصراع الداخلي في الحزب في روسيا كان قد وصل لمرحلة حرجة قامت مجموعة ستالين - بوخارين الحاكمة في الحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي بتحول 180 درجة. فمن التنازلات المتكررة للكومنتانج أجبر الحزب الشيوعي الصيني للقيام بعملية انتحارية. كان ستالين وبوخارين يحتاجان لانتصار في الصين لمواجهة انتقادات المعارضة (التي كانا يخططان لطردها). في المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي للاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1927. أرسل مبعوث جديد للكومنترن هاينز نيومان، لكانتون حيث حاول القيام بانقلاب في أوائل ديسمبر كان مازال لدى الحزب الشيوعي قوة سرية مهمة في زال لدى الحزب قوة سرية مهمة فى المدينة. اشترك خمسة آلاف شيوعى معظمهم من عمال المدينة، فى تلك الإنتفاضة. ولكن لم يكن هناك أى إعداد سياسى، أى تحريض، أى اشتراك لجماهير الطبقة العالمة. وتم عزل الشيوعيين، وسحقت "كميونة كانتون" فى نفس المدة تقريباً التى سحقت فيها إنتفاضة بلانك فى باريس 1839 - فى يومين - ولنفس الأسباب. كانت النتيجة مذبحة اكبر بكثير جداً من مذبحة شنغهاى. وانتهى وجود الحزب الشيوعى فى كانتون.
 لقد ثبتت صحة نظرية الثورة الدائمة مرة أخرى ولكن بشكل سلبى، وحصلت السيطرة الإمبريالية على الصين على صك جديد للحياة.
 فلنفترض، رغم كل ما سبق، أن الحزب الشيوعى الصينى إتبع نفس الطريق الذى اتبعه البلاشفة بعد إبريل 1917. هل كانت الديكتاتورية ممكنة فى بلد متخلف مثل الصين فى العشرينات من هذا القرن ؟.
كان تروتسكى متفتحاً فى هذه المسألة:
"إن مسألة الطريق غير الرأسمالى، للتطور فى الصين قد طرحها لينين بشكل مشروط، لأن الأمر كله كان بالنسبة له - كما هو بالنسبة لنا - بديهياً أنه لو تركت الثورة الصينية لتعتمد على قوتها الذاتية، أى بدون المساعدة المباشرة للبروليتاريا المنتصرة فى الاتحاد السوفيتى وللطبقة العالمة فى كل  البلاد، لانتهت فقط لأوسع احتمالات التطور الرأسمالى، وبظروف أفضل للحركة العمالية .. ولكن، أولاً وقبل كل شئ، لم تثبت حتمية الطريق الرأسمالى بأى شكل من الأشكال، ثانياً، يمكن حل  المهام البرجوازية بطرق مختلفة".(17)
سيكون من الضرورى العودة للنقطة الأخيرة، ففى النصف الثانى من القرن العشرين حدثت مجموعة من الثورات من أنجولا إلى كوبا إلى فيتنام إلى زنزبار (جزء من تنزانيا الآن) لم تكن ثورات بروليتارية، ولم تكن بالتأكيد ثورات برجوازية بالمعنى الكلاسيكى.
 لم يكن بإمكان تروتسكى أن يتوقع مثل هذا التطور، ولا كان بإمكان أى أحد آخر فى ذلك الوقت أن يتوقعه. إن نظرية الثورة الدائمة والتى أثبتت صحتها بحسم فى النصف الأول من هذا القرن لابد، وهذا واضح، أن يعاد النظر فيها فى ضوء التطورات التالية. سنتعرض لهذه المسألة فى الفصل الأخير من هذا الكتاب.

*********************************************************

الستالينية

إن الأمل فى تحقيق مجتمع حر ولا طبقى هو أمل قديم للغاية، ففى أوروبا مثلاً نجد دلائل موثقة على ذلك فى ضوء ما تبقى من أفكار الثائرين والهراطقة، ونجد فى مجتمعات أقدم كثيراً من ذلك حركات شبيهه فى بدايات المسيحية مثلاً وفى بدايات الإسلام.
 لقد طرح ماركس فكرة جديدة نوعياً، من الممكن تلخيصها كالآتى: إن آمال أكثر المفكرين تقدماً فى الأجيال السابقة (قبل الصناعية) - مهما كانت قيمتها الإلهامية للمستقبل ومهما كان إعجابنا بها - فهى لم تكن إلا آمال وأفكار طوباوية لم يكن من الممكن تحقيقها.
 إن المجتمع الطبقى والاستغلال والاضطهاد ستظل أموراً حتمية طالما ظلت قوى الإنتاج وإنتاجية العمل فى مستوى منخفض نسبياً. مع نمو الرأسمالية الصناعية لم تعد هذه الأشياء حتمية إذا ما أطيح بالرأسمالية. لقد اصبح المجتمع اللاطبقى المبنى على أساس الوفرة (النسبية) إمكانية موضوعية، لقد خلق تطور الرأسمالية نفسه آداه تحقيق المجتمع اللاطبقى: البروليتاريا الصناعية.
 كانت هذه الأفكار بالطبع، القاسم المشترك لماركسية ما قبل 1914، واتخذها كل الثوار الماركسيين كمسلمات، ولكن المجتمع الذى أفرزته ثورة أكتوبر فى روسيا لم يكن مجتمعاً حراً ولا طبقى،حتى فى المراحل الأولى للثورة كان الوضع بعيداً كل البعد عن تصورات ماركس للدولة العمالية (كما طرحها فى الحرب الأهلية فى فرنسا) وعن أفكار لينين (فى كتاب الدولة والثورة)، وقد تطور الوضع فيما بعد إلى استبدادية مطلقة.
من الصعب المبالغة فى أهمية هذه الحقائق، فوجود دولة، وفيما بعد سلسلة من الدول، ادعت أنها اشتراكية فى حين أنها لم تكن إلا كاريكاتيرات مقززة للاشتراكية، لابد وأن يعتبر عاملاً أساسياً فى بقاء الرأسمالية الغربية.
يدعى إيديولوجيو اليمين أن الستالينية هى النتيجة الحتمية لمصادرة أملاك الطبقة الرأسمالية. أما إيديولوجيو الاشتراكية الديمقراطية فادعوا أن الستالينية هى النتاج الحتمى للمركزية البلشفية، وأن ستالين الحليف الطبيعى للينين.
كان تروتسكى أول من تصدى لتحليل الستالينية مستخدماً المادية التاريخية. مهما كانت الانتقادات التى من الممكن أن يثيرها هذا التحليل فقد كان بمثابة نقطة البداية لكل التحليلات الماركسية الجادة التى طرحت فيما بعد.
كيف كان الواقع الاجتماعى فى1921 فى روسيا حيث كان لينين ما يزال يرأس مجلس قوميسارى الشعب، وتروتسكى ما يزال قوميسار الشعب للحرب ؟. فى أواخر 1921 تحدث لينين مدافعاً عن السياسة الاقتصادية الجديدة وقال:
"إذا انتفعت منها الرأسمالية سينمو الإنتاج الصناعى، وستنمو معه البروليتاريا، سينتفع الرأسماليون من سياستنا وسيخلقون البروليتاريا الصناعية، التى أصبحت فى بلادنا، بسبب الحرب والفقر المدقع والدمار، مخلوعة من أساسها الطبقى، ولم تعد موجودة كبروليتاريا. البروليتاريا هى الطبقة التى تعمل فى إنتاج القيم المادية فى الصناعة الرأسمالية الثقيلة وحيث أن الصناعة الرأسمالية الثقيلة قد دمرت، وأصبحت المصانع معطلة تماماً، فإن البروليتاريا قد اختفت، إنها تظهر أحياناً فى الإحصائيات، ولكنها لم تعد متماسكة اقتصادياً"(1).
إن البروليتاريا لم تعد موجودة كبروليتاريا ! ما الذى حدث إذن للديكتاتورية البروليتارية، للبروليتاريا كطبقة حاكمة ؟.
 دمرت الحرب والحرب الأهلية الصناعة الروسية التى كانت أصلاً ضعيفة بالمقارنة بالصناعة الغربية. ظلت روسيا الثورية فى حالة حرب مع ألمانيا والنمسا - المجر منذ ثورة أكتوبر وحتى مارس 1918 عندما وقعت معاهدة بريست ليتوفسك. فى الشهر التالى وصلت أول جيوش التدخل "المتحالفة"، دخل اليابانيون إلى فلاديفوسك وبدءوا فى الزحف على سيبيريا. لم تنسحب هذه القوات حتى نوفمبر 1922. فى تلك السنوات، غزت قوات من أربع عشر دولة أجنبية أراضى الجمهورية الثورية (بما فى ذلك قوات من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا) تم أيضاً تسليح وتمويل جنرالات الجيش الأبيض فى أوج حرب التدخل. فى صيف 1919، كانت الجمهورية السوفيتية قد أصبحت دولة صغيرة فى وسط روسيا الأوروبية حول موسكو مع بعض القلاع خارج هذه المنطقة يدافعون عنها بصعوبة، وحتى فى الصيف التالى حيث كان الجيش الأبيض قد هزم بشكل حاسم، كان لابد من إرسال ربع المخزون الكلى من القمح فى الجمهورية السوفيتية إلى الجيش الغربى الذى كان يحارب الغزاة البولنديين.
 كانت المدن فى ذلك الوقت فى حالة مجاعة، فر أكثر من نصف سكان بتروجراد وتقريباً نصف سكان موسكو إلى الريف، وكرست الصناعات التى تمكنوا من الإبقاء عليها بالكامل تقريباً للإنتاج الحربى، واستدعى هذا التضحية بالبنية الإنتاجية ككل من أجل الإبقاء على نشاط جزء منها. أدت هذه الظروف إلى بداية تحلل الطبقة العاملة الروسية، التى كانت تشكل أصلاً أقلية صغيرة.
 إن الوقائع معروفة بما يكفى وهى معروضة ببعض التفصيلات فى الجزء الثانى من كتاب إى بى كار "الثورة البلشفية"(2).
 بحلول عام 1921 كان مجمل الإنتاج الصناعى قد تضائل إلى ثمن ما كان عليه فى عام 1913، علماً بان الإنتاج فى 1913 كان ضئيلاً جداً بالنسبة للإنتاج الأمريكى أو البريطانى أو الألمانى.
 استطاعت الثورة أن تبقى من خلال مجهودات وتضحيات هائلة أدارتها ديكتاتورية ثورية تعدت بكثير ديكتاتورية اليعاقبة فى 1793 فى قدرتها على التعبئة السياسية ولكن ثمن هذا البقاء كان الدمار الإقتصادى، كما ظلت الثورة معزولة فبحلول 1921 كانت الحركة الثورية فى أوروبا قد انحسرت بوضوح.
 ما يشغلنا هنا هو النتائج الاجتماعية لهذه الوقائع. كانت سياسة ما سمى "بشيوعية الحرب" خلال 1918 - 1921، فى الواقع نظام حصار اقتصادى وحشى. شملت هذه السياسة فى جوهرها مصادرة القمح من الفلاحين بالقوة وتفكيك الصناعة والتجنيد الإجبارى وقمع هائل من أجل البقاء.
 كان جزء كبير من إنتاج الفلاحين للقمح، قبل الثورة، يحول إلى المدن فى شكل إيجارات وفوائد ضرائب أو تعويضات مدفوعة إلى الطبقات الحاكمة القديمة، كانت روسيا القيصرية مصدراً هاماً للقمح. مع تحطيم النظام القديم انتهى هذا الدور وأصبح الفلاحون ينتجون من أجل الاستهلاك أو التبادل ولكن مع دمار الصناعة لم يتبق شيئاً تقريباً للتبادل لذا بدأت المصادرة بالقوة.
 كانت الثورة قد استمرت فى بلد أغلبية سكانه من الفلاحين بسبب تأييد جماهير الفلاحين المنتفعين من الثورة - وهو تأييد سلبى فى أغلب الأحيان.
 ولكن مع نهاية الحرب الأهلية، انتهى هذا التأييد وأوضحت انتفاضات كرونشتادت، وتامبوف أن الفلاحين وقطاعات من الطبقة العاملة اصبحوا معارضين للنظام، أدخلت السياسة الاقتصادية الجديدة "النيب" بسبب هذه الظاهرة ضرائب محددة "مدفوعة بالقمح" حيث أن النقود كانت قد أصبحت عديمة القيمة فى زمن شيوعية الحرب، بدلاً من المصادرات العشوائية. ثانياً، تم السماح بإحياء التجارة الخاصة والإنتاج الصغير الخاص. ثالثاً، تم فتح أبواب (بشكل غير ناجح) لرأس المال الأجنبى للتمتع بامتيازات. رابعا، وكان هذا فى غاية الأهمية، أدخلت النيب الإلزام الصارم بمبدأ الربحية فى أغلب الصناعات المؤممة مع إدخال نظام مالى صارم على أساس معيار الذهب لتحقيق استقرار فى العملة وفرض نظام السوق على المشروعات العامة والخاصة.
 حققت هذه الإجراءات التى تمت بين 1921 - 1928 انفراجاً اقتصادياً كان هذا الانفراج بطيئاً فى البداية ولكن بحلول 1926 - 1927 وصل مستوى الإنتاج الصناعى إلى ما كان عليه فى 1913، متحدياً إياه فى بعض المواقع. كان النمو فى إنتاج المحاصيل الغذائية (أساساً: القمح) أبطأ كثيراً، وازداد الإنتاج ولكن استهلاك الفلاحين كان قد ازداد مع الثورة وبقيت المدن فى حالة نقص. تحقق هذا الانفراج الإقتصادى من خلال إجراءات رأسمالية أو شبه رأسمالية ولذا كان لها عواقب اجتماعية موازية.
"اصبح للمدن التى نسيطر عليها سمات غريبة، شعرنا بأنفسنا نغرق فى الوحل .. المال هو الذى يسير الآلة بأكملها كما كان فى الرأسمالية. مليون ونصف عامل يحصلون على معونات غير كافية فى المدن الكبيرة .. ولدت الطبقات من جديد تحت أعيننا، عند اسفل السلم يحصل العاطلون على 24 روبل فى الشهر وعند أعلى السلم يحصل المهندس (أى التقنى المتخصص) على 800 روبل، وبين الاثنين يحصل موظف الحزب على 222 روبل ولكنه يحصل على أشياء كثيرة مجاناً. كانت هناك فجوة واسعة تزداد اتساعاً بين ثراء الأقلية وبؤس الأغلبية"(3).
 تسببت سياسات النيب فى حدوث أحياء عددى للطبقة العاملة، إلا أن إحياءً سياسياً لم يحدث، أو على الأقل لم يكن كافياً لزعزعة سلطة البيروقراطى ورجل النيب، والكولاك. كان كرباج البطالة الواسعة النطاق - الذى كان أشد قسوة كثيراً فى روسيا العشرينات منه فى بريطانيا الثلاثينات - عاملاً أساسياً فى هذا.
 
دولة عمالية مشوهه
 كان تحلل الطبقة العاملة قد وصل إلى مستوى متقدم عندما اندلع نقاش فى الحزب الشيوعى الروسى قرب نهاية عام 1920 حول ما سمى بمسألة النقابات. على السطح كانت المسالة حول احتياج العمال لمنظمات نقابية للدفاع عن أنفسهم ضد دولتهم ولكن على مستوى أعمق كان الخلاف حول مسائل اكثر جوهرية.
 هل كانت دولة 1917 العمالية لا تزال موجودة ؟، كانت الديموقراطية السوفيتية قد فنيت عملياً فى الحرب الأهلية.الحزب الشيوعي كان قد حرر نفسه من الحاجة لتأييد أغلبية الطبقة العاملة وأصبحت السوفيتيات مجرد ختم من المطاط لقرارات الحزب كما تطورت عملية العسكرة والمركزة بشكل هائل داخل الحزب.
ثارت المعارضة العمالية ضد هذه التطورات، ونادت باستقلالية النقابات منذرة بسيطرة الحزب ومسترجعة تراث سيطرة العمال علي الإنتاج (الذي كان مطلب حزبي في فترة سابقة).
      إن تبني هذه الإجراءات كان سيعني نهاية النظام - فأغلبية الجزء المتبقي من الطبقة العاملة كان قد أصبح في ذلك الوقت لا مبالي، إذا لم يكن معادياّ للبلاشفة، كذا أيضاّ جماهير الفلاحين اللذين كانوا يشكلون الغالبية العظمى من السكان. الديمقراطية في هذه الظروف لم تكن تؤدي إلا إلى الثورة المضادة وديكتاتورية يمينية.
اضطر الحزب لاستبدال الطبقة العاملة المتلاشية بنفسه، وفي الحزب نفسه ازدادت سلطة المستويات القيادية علي العضوية المتنامية ولكن بشكل غير منظم (وصل عدد أعضاء الحزب الشيوعي الروسي بالتقريب إلى 115 ألف عضو في أوائل 1918 و 313 ألف عضو في أوائل 1919 و 650 ألف عضو في صيف 1921 - كان العمال الصناعيون يشكلون أقلية متضائلة من هذه العضوية).
     أصبح الحزب وصياً علي طبقة عاملة لم تعد قادرة علي إدارة شئونها بنفسها (وضع كان من المرجو أن يكون مؤقتاً). ولكن الحزب نفسه لم يكن محصناّ من التأثر (لأنهم هم أيضاً كانوا قد أصبحوا انعكاساً لتخلف روسيا وانهيار الطبقة العاملة) بالقوى الاجتماعية القوية التي ولدها التدهور الصناعى وانخفاض إنتاجية العمل والتخلف الحضاري والثقافي وفي الواقع كان لازماّ لكي يعمل الحزب كوصي أن يتم حرمان غالبية أعضائه من أى دور فعال في إدارة الأحداث.
   كان الحل الذي طرحه تروتسكى لهذه المشكلة في البداية، هو الاستمرار علي نهج الاستبدالية:
"من الضروري أن نخلق فيما بيننا وعياّ بالحق التاريخي للحزب. إن الحزب مجبر علي إبقاء ديكتاتورية بغض النظر عن التموجات المؤقتة في المزاج العفوي للجماهير وبغض النظر عن الاهتزازات المؤقتة في الطبقة العاملة.إن هذا الوعي يمثل لنا عنصر الوحدة الأساسي"(4). 
أدى هذا الموقف، لطرحه فكرة ضرورة استيعاب جهاز الدولة للنقابات (كما حدث بعد ذلك في ظل ستالين، فعلياّ إن لم يكن شكلياً). لم يكن هناك حاجة أو مبرر حتى لاستقلالية نسبية للنقابات التى لم تكن تمثل إلا مركزاً للمعارضة.
كانت أطروحات لينين المعارضة لهذا الموقف في ديسمبر 1920 ويناير 1921 ،في غاية الأهمية بالنسبة للتطورات التالية في تحليل تروتسكى عن "دولة عمالية". "اسمحوا لي أن أقول أن هذه فكرة مجردة من الطبيعي أن نكتب عن دولة عمالية في 1917 ولكنه يصبح الآن خطأ واضحاً أن نقول بما أن هذه دولة عمالية بدون أي برجوازية، ضد من إذن تتم حماية الطبقة العاملة ولأي غرض؟، إن المسألة كلها أن هذه ليست بالضبط دولة عمالية. هنا يرتكب الرفيق تروتسكى أحد أخطائه الأساسية" (5).
وكتب لينين في الشهر التالي:
"كان يجب أن أقول: أن الدولة العمالية تجريد. عندنا في الواقع دولة عمالية بهذه الخصوصية،أولاً، أن البلد يهيمن عليه السكان الفلاحون وليس الطبقة العاملة، ثانياً، أنها دولة عمالية ذات تشوهات بيروقراطية".(6)  
دولة عمالية ذات تشوهات بيروقراطية في ببلد يهيمن عليه الفلاحون. في المرحلة الثانية، النيب، تبنى تروتسكى هذا الموقف وعمق مضمونه.
ليس من الضروري هنا إعطاء وصف تفصيلي لتطورات المعارضة اليسارية(1923) والمعارضة الموحدة(1926 - 1927) (7). واللتين لعبا فيهما تروتسكى الدور الرئيسي، يكفي عرض بعض مواقفهم الأساسية.
طالبت المعارضة اليسارية والموحدة بمقرطة الحزب وتحجيم أجهزته وأيضاً ببرنامج مخطط للتصنيع يمول من الضغط علي الكولاك ورجال النيب من أجل محاربة البطالة ولإحياء الطبقة العاملة اقتصادياً وسياسياً وبذلك إحياء أساس الديمقراطية السوفيتية.
أعلن برنامج المعارضة:
"لابد من تقوية الوضع المادي للبروليتاريا داخل البلد مطلقاّ ونسبياّ(نمو عدد العمال والموظفين وخفض عدد الباطلين وتحسين المستوى المادي للطبقة العاملة .. إن التأخر المزمن في الصناعة وأيضاً في النقل والكهرباء والبناء،هذا التأخر عن تلبية احتياجات ومطالب السكان وعن الاقتضاء العام والنظام الاجتماعي ككل،يخنق بقبضة حديدية التحول الاقتصادي للبلد"(8).
إن التناقض الداخلي لهذا الموقف يكمن من ناحية،في أن مقرطة الحزب كانت ستسمح للسخط الفلاحى والعمالي أن يجد التعبير المنظم عنه،ومن ناحية أخري فزيادة ضغط الدولة علي الأغنياء الجدد (وبالذات علي الأغنياء الفلاحين) كان سيؤدي إلى نفس التوتر الشديد الذي شهدته فترة شيوعية الحرب والذي تسبب في قمع المعارضة الشرعية خارج الحزب في البداية ثم القضاء علي المعارضة بداخل الحزب وإقامة ديكتاتورية جهاز الحزب بعد ذلك.
كانت المعارضة أيضاّ مخنوقة. لقد كان برنامجها يهدد ويتحدى المصالح المادية للطبقات الثلاث المستفيدة من النيب:البيروقراطية ورجال النيب والكولاك. إن نجاح المعارضة كان متوقفاً على إحياء نشاط الطبقة العاملة والتي كانت تشكل السند الوحيد الممكن لها. ولكن سياسات النيب جعلت ذلك الإحياء مستحيل تقريباّ طالما ظلت الثورة معزولة.
عارض ستالين، قائد وممثل الشرعية المحافظة بين مسئولي الحزب والدولة الذين كانوا في الواقع يحكمون البلاد، عارض بشدة مطلبي التصنيع المخطط والمقرطة (كما فعل أيضاّ حلفاؤه علي أقصى يمين الحزب - بوخارين ومؤيدوه). كان هذا المضمون الاجتماعي لشعار "الاشتراكية في بلد واحد" والذي تبنته المجموعة الحاكمة منذ 1925، والذي كان بمثابة إعلان عن تأييد للوضع الحالي وضد أي نوع من الانتفاضات وضد التوقعات الثورية وضد اتباع سياسة ثورية نشطة في الخارج. حتى في أبريل 1924 كان ستالين ما زال يردد الموقف السائد وقد لخصه بنفسه كالتالي:     
"إن مجهودات بلد واحد تكفي للإطاحة بالبرجوازية - يثبت ذلك نجاح ثورتنا ولكن من أجل إحراز الانتصار النهائي للاشتراكية ولتنظيم عملية الإنتاج الاشتراكي لا تكفي مجهودات بلد واحد، خاصة إذا كان بلداً فلاحياً مثل بلدنا - لهذا نحتاج إلى مجهودات الطبقة العاملة في عدد من البلدان المتقدمة" (9).
لم يكن هذا أكثر من وصف الواقع الاجتماعي الاقتصادي وإعادة طرح لأفكار لينين.ولكن هذا الرأي الأصلي والذي كان يتبناه الماركسيون الروس بكل اتجاهاتهم، كان يوضح الطبيعة المؤقتة للنظام واعتماده، من أجل تطور اشتراكي علي ثورات في الغرب. وهو ما أصبح هنا غير مقبول بالمرة من قبل الشرائح الحاكمة.
فلقد كانت الاشتراكية في بلد واحد بمثابة إعلان لاستقلالهم عن الحركة العمالية. 
لخص تروتسكى التجربة، بعد الهزيمة النهائية للمعارضة ونفيه من روسيا،في مقال كتب في فبراير 1929:
"بعد الاستيلاء علي السلطة،فصلت بيروقراطية مستقلة نفسها عن وسط الطبقة العاملة.كان هذا الانفصال وظيفياّ في البداية ثم أصبح فيما بعد اجتماعياّ.بالطبع كان للتطورات بداخل البيروقراطية صلة وطيدة بالتطورات الجارية في البلد ككل فعلى أساس السياسة الاقتصادية الجديدة ظهرت من جديد شريحة عريضة من البرجوازية في المدن وأعيد إحياء المهن الحرة، وفي الريف، رفع الفلاح الغني،الكولاك،رأسه،واقتربت قطاعات عريضة من الموظفين الحكوميين بسبب صعودهم فوق الجماهير علي وجه التحديد من الشرائح البرجوازية وخلقت روابط أسرية بينهم وبشكل متزايد أصبحت المبادرة والنقد من قبل الجماهير تعتبر تدخلاً ..  إن أغلبية هؤلاء الموظفين الذين صعدوا فوق الجماهير محافظون بشدة .. هذه الشريحة المحافظة والتي تشكل التأثير الرئيسي لستالين في صراعه ضد المعارضة تميل أكثر من ستالين نفسه والنواة الأساسية في فصيلة،إلى الذهاب بعيداّ نحو اليمين" (10).
الاستنتاج السياسي النابع من هذا التحليل هو إمكانية حدوث ثرميدور سوفيتي، يذكرنا بما حدث في التاسع من ثرميدور (27 يوليو 1794)، حيث أطاح المجتمع بديكتاتورية اليعاقبة ووضع محلها نظاماّ يمينياً (الإدارة من 1795) والتي أشرفت علي الردة السياسية والاجتماعية في فرنسا ومهدت الطريق لديكتاتورية بونابرت من 1799. كان الثرميدور نهاية الثورة الفرنسية العظمية وقد كانت الظروف الآن تهدد بثرميدور روسي.
"إن عناصر من عملية ثرميدورية، بخصوصية كاملة بالتأكيد، نجدها أيضاّ في بلاد السوفيتيات. أصبحت هذه العوامل شديدة الوضوح في الأعوام الأخيرة. فالذين في السلطة اليوم أما أنهم لعبوا أدوارا ثانوية في الأحداث الهامة أو كانوا معادين للثورة ولم ينضموا إليها إلا بعد انتصارها.انهم يعملون الآن كستار لتلك الشرائح المعادية للاشتراكية ولكنها في نفس الوقت أضعف من أن تنفذ انقلاب مضاد للثورة ولذلك تبحث عن تحرك ثرميدوري سلمي يعود بهم إلى الطريق المؤدي إلى المجتمع البرجوازي.أنهم يرغبون في التدحرج إلى أسفل مع استخدام الفرامل علي حد تعبير أحد إيديولوجيي تلك الشريحة (11).
ولكن هذا التطور لم يكن قد حدث بعد ولم يكن حتميا. كانت الدولة العمالية مازالت باقية وان كان بشكل متآكل. كان تروتسكى يؤمن بأن الحصيلة النهائية:
"سيحددها مسار الصراع نفسه كما تخوضه القوى الحية في المجتمع.سيكون هناك فترات صعود وانحسار يعتمد مداها بشكل كبير علي الوضع في أوروبا والعالم ككل" (12).
كانت هناك إذن ثلاث قوى أساسية متفاعلة في الاتحاد السوفيتي:قوى اليمين، العناصر الرأسمالية الجديدة، الكولاك ورجال النهب، الخ .. الذين كان يخدمهم قطاع كبير من الجهاز الحاكم، الطبقة العاملة والتي كان يمثلها سياسياً المعارضة التي كانت قد قمعت الآن، وأخيراّ البيروقراطية الوسطية - فصيل ستالين في قمة الجهاز - التي لم تكن هي نفسها ثرميدورية ولكنها استندت علي الثرميدوريين وأخذت تتأرجح بين اليسار واليمين في محاولتها للحفاظ علي السلطة. ما بين 1923 و 1928 كان الميل يميناً ثم جاء بعد ذلك الميل اليساري. كتب تروتسكى في عام 1931 عن "مسار1928 - 1931":
"إن هذا المسار يمثل، إذا تركنا جانباّ التأرجحات والانزلاقات الضرورية، محاولة من قبل البيروقراطية للتكيف مع البروليتاريا ولكن بدون التخلي عن المبادئ الأساسية في سياستها أو ما هو أكثر أهمية، سلطتها المطلقة. إن تأرجحات الستالينية توضح أن البيروقراطية ليست طبقة، وليست عنصراً تاريخياً مستقلا، بل هي أداة أو جهاز تنفيذي للطبقات. إن المسار اليساري يثبت أنه مهما كان المدى الذي وصل إليه المسار اليميني فهي علي الرغم من ذلك قد تطورت علي أساس ديكتاتورية البروليتاريا" (13).
كانت السلطة إذن ما تزال في أيدي الطبقة العاملة - أو علي الأقل كان بإمكان الطبقة العاملة استرجاع السلطة بدون تحول جذري:
"إن إدراك طبيعة الدولة السوفيتية الحالية كدولة عمالية لا يعني فقط أن البرجوازية لا تستطيع الاستيلاء علي السلطة إلا من خلال انتفاضة مسلحة بل يعني أيضاّ أن البروليتاريا السوفيتية مازالت قادرة علي إخضاع البيروقراطية لها وإحياء الحزب من جديد وإعادة نظام الديكتاتورية بدون ثورة جديدة ولكن باستخدام أساليب وطريق الإصلاح" (14).
كانت هذه الاطروحات في الوقت الذي كتبت فيه، قد أصبحت بدون أى أساس فقد كان تحليل القوى الثلاث في العشرينات محاولة واقعية لتحليل ماركسي لمسار التطورات في الاتحاد السوفيتي ولكنه أصبح غير صالح للتطورات اللاحقة.
كانت الطبقات الرأسمالية الجديدة وتأثيرها علي الجناح اليميني للحزب الحاكم أمراً واقعاً في فترة 1924 - 1927. كان أيضاّ الدور المتذبذب لفصيل ستالين الحاكم. في ذلك الوقت، كما وصفه تروتسكى، ولكن تغيراً جذرياّ قد حدث في 1928 - 1929.
بحلول 1928 دخلت سياسة النيب أزمتها الأخيرة.كان لرجال النيب والكولاك مصالح حيوية في الإبقاء عليها وفي توسيع نطاق التنازلات المعطاة لرأس المال الصغير في الريف والمدن. لم يكن لقيادات البيروقراطية وأتباعهم في الدرجات السفلي للسلم البيروقراطي نفس هذه المصالح كانت المصلحة الحيوية الوحيدة لهم هي مقاومة المقرطة في الحزب والدولة وكانوا قد تحالفوا مع قوي الرأسمالية الصغيرة (وجناح اليمين البوخاريني في الحزب) ضد المعارضة وضد خطر صحوة الطبقة العاملة.
ولكن عندما واجهت البيروقراطية، بعد تحطيم المعارضة، هجوم الكولاك من خلال إضراب القمح فى 1927 - 1928 اكتشفت أن القاعدة الأساسية لها هي ملكية الدولة، وهما عنصران لم يكن لهما أى علاقة عضوية بسياسات النيب. دافعت البيروقراطية عن مصالحها بعزم ضد حلفاء الأمس.
كان الكولاك عمليا يتحكمون في كل القمح المسوق، أى القمح الذى يفيض من استهلاك الفلاحين (تقريباً خمس الفلاحين ينتجون أربعة أخماس القمح المباع في السوق). وأدت محاولتهم لرفع الأسعار من خلال حجب محاصيلهم عن السوق إلى اضطرار البيروقراطية لاستخدام سلاح المصادرة، ومع بدء هذه السياسة، التي قوضت أسس النيب، اضطروا للأخذ ببرنامج التصنيع الذي كانت تطرحه المعارضة ولكن بشكل مبالغ فيه لأقصى درجة، كما تم تنفيذ سياسة التجميع الجبري في الريف، القضاء علي الكولاك كطبقة، باختصار انطلقت الخطة الخمسية الأولى.
فسر تروتسكى هذه التطورات كانعطاف يسارى (مؤقت) للبيروقراطية الستالينية كمحاولة لتكييف نفسها مع البروليتاريا. وكان هذا خطئا كبيراّ لتروتسكى فقد كانت هذه السنوات هي نفسها التي شهدت تفتيت البروليتاريا السوفيتية وتعريضها لأول مرة، لاستبدادية شمولية حقيقية فانخفضت الأجور الحقيقية بحدة، كما كان ارتفاع الأسعار أسرع بكثير من الارتفاع في الأجور النقدية وتوقفت أى إحصائيات ذات معنى عن الصدور بعد 1929 ولكن في إحدى التقديرات التي نشرت بعد الأحداث بفترة طويلة (1966) كان تقدير الأجر الحقيقي 88.6 في 1932 (100 = 1928) إن التقدير الصحيح للأجر الحقيقي، إذا كان في استطاعتنا معرفته، سيكون أقل بكثير من 88.6. كما علق "ألكسنوف" وهو مصدر هذه المعلومات (15).
بدأت الخطة الخمسية بفترة من التوجيه للاقتصاد علي أساس خطة شاملة،والنمو الصناعي السريع،والتجميع الجبري في ا لريف،وتدمير ما تبقى من حقوق سياسية ونقابية للطبقة العاملة والنمو السريع لعدم المساواة الاجتماعية والتوتر الاجتماعي الشديد والعمل بالسخرة علي نطاق واسع، بدأت أيضاً ديكتاتورية ستالين الفردية ونظام الإرهاب البوليسي التابع له وبعدها بقليل بدأت عملية القتل المنظم (بالرصاص أو بالموت البطيء في معسكرات العمل) لأغلبية الكوادر الأصلية في الحزب الشيوعي ولأغلبية الفصيل التابع لستالين في العشرينيات. ثم أيضاً قتل أعداد كبيرة من مواطنين أخريين في الاتحاد السوفيتي ومن الشيوعيين الأجانب. باختصار كانت هذه ذروة حكم ستالين.
كان تحليل تروتسكى الأولي لهذه الأحداث علي أنها تمثل انعطافه إلى اليسار، مؤشراً علي سقوطه في الاستبدالية بخصوص الاتحاد السوفيتي ولم يستطع أبداً تصحيح هذا الخطأ بشكل كامل. إن فكرة إن البيروقراطية ليست عنصراّ تاريخياّ مستقلاّ وأنها أداة أو جهاز تنفيذي لطبقات أخري كانت قد فندت تماماً عندما دمرت نفس هذه البيروقراطية طبقة الكولاك وفتت الطبقة العاملة.
في نفس الوقت كان من الممكن بصعوبة مناقشة الوقائع فى بداية الثلاثينات،فقد فرض النظام الشمولي الجديد تعتيم كلي علي المعلومات الصحيحة وتم استبدالها بجهاز دعاية رهيب ولكن تروتسكى كان من أقل الناس المخدوعة بهذا. ولكن رؤيته النظرية هي التي أدت به إلى طرح إمكانية الإصلاح في الاتحاد السوفيتي. خرج في تلك الفترة التشبيه الشهير والخادع للاتحاد السوفيتي بنقابة مبقرطة، وطالما استمرت استراتيجية الإصلاح، ظلت هذه التحليلات علي الأقل متسقة منطقياً.              
   
 
الدولة العمالية والثرميدور والبونابرتية
في أكتوبر 1933، غير تروتسكى موقفه بشكل مفاجئ قائلاّ بأن النظام لا يمكن إصلاحه.ولا بد من الإطاحة به.إن طريق" الإصلاح" لم يعد ممكناّ. الثورة فقط هي التي بإمكانها تحطيم البيروقراطية:       
"بعد تجربة السنوات القليلة الماضية يصبح من الطفولي تصور أن البيروقراطية الستالينية من الممكن إزاحتها من خلال مؤتمر للحزب أو السوفيتات.في الواقع كان آخر مؤتمر للحزب البلشفي في بدايات 1923، المؤتمر الثاني عشر للحزب.
لم تكن كل المؤتمرات التالية إلا مواكب للبيروقراطية، واليوم تم التخلي حتى عن هذه النوعية من المؤتمرات.لم يعد هناك طرق دستورية طبيعية لإزاحة الفئة الحاكمة،لن تجبر البيروقراطية علي التخلي عن السلطة لطليعة البروليتاريا إلا عن طريق القوة" (16).
لا بد ادن من تحطيم النقابة المبقرطة،وليس إصلاحها،صحيح أن هذه المقالة تضمنت مقولة"أن التمزق في التوازن البيروقراطي في الاتحاد السوفيتي اليوم سيكون بالتأكيد في صالح القوى المضادة للثورة"،ولكن هذا الموقف الملتبس سرعان ما تغير إلى موقف ثوري.
نقد تروتسكى وراجع،بأمانته المعتادة،رؤيته الإصلاحية السابقة فكتب في 1935:
"إن مسألة "الترميدور" مرتبطة بتاريخ المعارضة اليسارية في الاتحاد السوفيتي .. وفي أى حال كانت المواقف حول هذه المسألة في1926 كالآتي بالتقريب:
مجموعة "المركزية الديمقراطية" (ف0م0سميرنوف وسبر نوف وآخرين ممن طاردهم ستالين حتى الموت في المنفى)أعلنوا أن "الترميدور واقع قد أنجز "كان المنتسبون لمنبر المعارضة اليسارية يرفضون هذا الزعم بشكل مبدئي … من الذي أثبتت الأحداث صواب موقفه ؟ ... الراحل ف. م. سمير نوف - أحد أفضل ممثلي المدرسة البلشفية القديمة - رأى أن التأخر الصناعي ونمو الكولاك ورجال النيب (البرجوازية الجديدة) والعلاقة الخاصة بينهم وبين البيروقراطية وأخيراّ انحطاط الحزب قد وصل إلى درجة تجعل العودة إلى الاشتراكية بدون ثورة جديدة أمراّ مستحيلا.إن البروليتاريا قد فقدت السلطة .. المكاسب الأساسية لثورة أكتوبر قد تم تصفيتها" (17).
كان استنتاج تروتسكى:
"إن"ثرميدور الثورة الروسية العظيمة ليس أمامنا ولكنه وراءنا بمسافة كبيرة.يستطيع الثرميدوريون الاحتفال بالعيد العاشر تقريبا ّلانتصارهم (أى أنه حدث حوالي عام 1925)" (18).
هل كان المركزيون الديمقراطيون إذن علي حق في 1926 ؟. رد تروتسكى الآن بنعم أولاً. كانوا محقين في مسألة الثرميدور ولكن مخطئين حول دلالته. إن النظام السياسي الحالي في الاتحاد السوفيتي هو نظام بونابرتية وسوفيتية (أو معادية للسوفيت) أقرب في طبيعتها للإمبراطورية منها للقنصلية في فرنسا ولكنه أكد: في الأسس الاجتماعية والتوجهات الاقتصادية يظل الاتحاد السوفيتي دولة عمالية.
كان هذا التحليل معقولاّ في إطار التشابهات الشكلية. فالثرميدوريون وبونابرت كما أشار تروتسكى كانوا يمثلون ردة علي أساس الثورة البرجوازية وليس عودة إلى النظام القديم.
كان جوهر أطروحة سبر نوف أن البروليتاريا كانت قد فقدت السلطة بالفعل وكان تروتسكى رافضّا لهذه الفكرة بشدة. في ذلك الوقت كان تروتسكى يعتبر أن الحزب مهما بلغت درجة بقرطته،ما زال يمثل الطبقة العاملة فلا تستطيع الطبقة العاملة،على عكس البرجوازية أن تمسك بالسلطة إلا من خلال منظماتها.
وقد أعلن 1924:
"أيها الرفاق لا يوجد بيننا من يريد أو يستطيع أن يكون محقا في مواجهة الحزب. فالحزب، في التحليل الأخير، يكون دائماّ علي حق لأنه الأداة الوحيدة التي تمتلكها الطبقة العاملة لإنجاز مهامها الأساسية ... لا يستطيع أحد أن يكون محقاّ إلا مع الحزب ومن خلال الحزب لأن التاريخ لم يخلق أى وسيلة أخرى للتحقيق من صحة المواقف ... هناك المثل الإنجليزي القائل، وطني محقاً كان أو مخطئاً، نستطيع أن نقول الآن، بمبررات أعظم كثيراً: حزبي، محقا كان أو مخطئا"في مسائل محددة وفي لحظات معينة" (19).
كان موقف تروتسكى قي أواخر 1933 هو أن الحزب-الحزب الروسي-كان قد أصبح أداة في البداية للثرميدور والآن للبونابرتية.
بما أن الحزب قد توقف عن كونه أداة للطبقة العاملة-لا بد من الإطاحة بالنظام بالقوة.وبما أن العمال الروس لم يكن لديهم أى أدوات أخرى(كانوا في الواقع مفتتين وتحت وطأة الإرهاب)فما الذي تبقى إذن من الدولة العمالية ؟.
لا شئ، كان هذا هو الاستنتاج الوحيد الممكن إذا كانت المصطلحات ستظل لها معانيها المسلم بها حتى ذلك الوقت.كان هناك ضرورة لثورة جديدة ولانتفاضة ثورية منتصرة لتستعيد الطبقة العاملة الحكم في الاتحاد السوفيتي.كانت الطبقة العاملة قد فقدت سلطتها ولم يكن هناك طريق سلمي دستوري لاسترجاع السلطة من جديد. لم يعد إذن للدولة العمالية وجود.كانت الثورة المضادة قد تمت.
رفض تروتسكى هذه الاستنتاجات وكان عليه لذلك أن يحدث تغيير جوهري في تعريفه للدولة العمالية:
"إن السيطرة الاجتماعية لطبقة (أى ديكتاتوريتها) من الممكن أن تجد أشكالا سياسية متنوعة جداّ.يثبت ذلك تاريخ البرجوازية كله منذ القرون الوسطى وحتى يومنا هذا.أصبحت الآن تجربة الاتحاد السوفيتي كافية لمد هذا القانون السوسيولوجي- بكل التغيرات الضرورية-لديكتاتورية البروليتاريا هي الأخرى ... إن السيطرة الحالية لستالين لا تتشابه بأى شكل مع حكم السوفيتات في الفترة الأولى من الثورة ... ولكن هذا الاغتصاب للسلطة أصبح ممكنا لأن المضمون الاجتماعي لديكتاتورية البيروقراطية تحدده تلك العلاقات الإنتاجية التي خلقتها الثورة البروليتارية.وبهذا المعنى يحق لنا القول بأن ديكتاتورية البروليتاريا وجدت التعبير المشوه ولكن الأكيد لها في ديكتاتورية البيروقراطية" (20).
ظل تروتسكى متمسكا بهذا الموقف في جوهره للخمس سنوات الأخيرة من عمره.وقد شرح تروتسكى هذا الموقف باستفاضة في كتابه "الثورة المغدورة" (1937) الغني بالتفاصيل والأمثلة الحية.
إن جوهرية وأهمية هذا التحول عن أفكاره السابقة لا يمكن المبالغة فيه.إن القول بإمكانية حدوث تشوه أو انحراف أو انحطاط بيروقراطي للدولة العمالية (كما طرح لينين) يختلف تماماّ عن القول بعدم وجود أى صلة ضرورية بين ديكتاتورية البروليتاريا وسلطة العمال.
أصبحت ديكتاتورية البروليتاريا تعني أساساّ ملكية الدولة للصناعة واقتصاد مخطط (مع أنه لم يكن هناك تخطيط يذكر في فترة النيب)، تظل الدولة"عمالية"حتى مع تجزؤ الطبقة العاملة وتعرضها لحكم ديكتاتوري مستبد.
لا بد من القول هنا أن تروتسكى كان يواجه ظاهرة غير مسبوقة.فقد كان هو وجميع المعارضين في العشرينات،يرى أن الخطر الرئيسي على النظام يأتي من القوة المتصاعدة للرأسمالية الصغيرة. هذا ما كانوا يعنونه بالثرميدور.لم تكن النتيجة الفعلية متوقعة.فقد توسعت ملكية الدولة بشكل سريع ولعبت البيروقراطية في الواقع دورا مستقلا.وهي حقيقة لم يعترف بها تروتسكى بشكل كامل أبدا.كان النظام الذي نشأ فريدا في ذلك الوقت.
لم يكن هناك إعادة إحياء للبرجوازية.وأيضا حدث في الاتحاد السوفيتي نمو اقتصادي سريع في وقت كان الغرب فيه يعاني من ركود صناعي عميق وهي مسألة ظل تروتسكى يؤكد عليها دفاعاّ عن زعمه بأن النظام لم يكن رأسمالياّ.
 
التشخيص
كتب تروتسكى في" البرنامج الانتقالي" لعام 1938:               
"خرج الاتحاد السوفيتي من ثورة أكتوبر كدولة عمالية.وقد فتحت ملكية الدولة لوسائل الإنتاج،وهي شرط ضروري لتطور الاشتراكية،الإمكانية لنمو سريع لقوى الإنتاج،ولكن جهاز الدولة العمالية شهد انحطاطا كاملا في نفس الوقت.فقد تحول من سلاح في يد الطبقة العاملة إلى سلاح العنف البيروقراطي ضد الطبقة العاملة ولدرجة متنامية سلاح لتخريب اقتصاد البلد.إن بقرطة دولة عمالية معزولة ومتخلفة وتحول البيروقراطية إلى شريحة ذات امتيازات وسلطة مطلقة يشكل الدحض المقنع ليس فقط النظري بل أيضا العملي لنظرية الاشتراكية في بلد واحد.لذا يجسد الاتحاد السوفيتي في تناقضات هائلة.ولكنه ظل دولة عمالية منحطة. هذا هو التشخيص الاجتماعي أما التشخيص السياسي فله طابع مختلف:إما أن تصبح البيروقراطية لدرجة أكبر أداة البرجوازية العالمية داخل الدولة العمالية وتطيح بالأشكال الجديدة للملكية وتعيد البلد مرة أخرى للرأسمالية،أو تحطم الطبقة العاملة البيروقراطية وتفتح الطريق للاشتراكية" (21).
ولكن لماذا يجب أن الوضع كذلك! .. كان تروتسكى مقتنعا بأن البيروقراطية كانت غير مستقرة بالمرة ومتنوعة سياسيا.وزعم في 1938 أن اتجاهات عديدة كانت بداخلها من البلشفية الحقيقية إلى الفاشية التامة.كانت هذه الاتجاهات مرتبطة بقوى اجتماعية وتشمل:
"اتجاهات رأسمالية واعية … أساساّ  القطاع الأغنى من المزارع الجماعية… والذي يوفر لنفسه قاعدة عريضة من الاتجاهات البرجوازية الصغيرة بتراكم الثروات الشخصية علي حساب الفقر العام،وتشجيعهم بشكل واعي للبيروقراطية"(22).
وبداخل البيروقراطية:
"تعبر اتجاهات فاشية مضادة ومتنامية بشكل مستمر عن مصالح الإمبريالية العالمية.هؤلاء المرشحون لدور الكومبرادور يعتبرون ولأسباب وجيهة أن الشريحة الحاكمة الجديدة لن تستطيع تأكيد مواقعهم المتميزة إلا من خلال نبذ التأميم والتجميع واحتكار التجارة الخارجية من أجل استيعاب"الحضارة الغربية" … أى الرأسمالية.فوق هذا النظام ذو التناقضات المتصاعدة تتمسك الأوليجاركية الثرميدورية والتي أصبحت اليوم ليس أكثر من مجموعة ستالين البونابرتية،تتمسك بالحكم من خلال أساليب إرهابية.إن تصفية البلاشفة القدامى والممثلين الثوريين للجيل المتوسط والشاب قد سبب اضطراب في التوازن السياسي في صالح الجناح اليميني البرجوازي من البيروقراطية وحلفائها في سائر أنحاء البلاد.من هؤلاء أي من اليمين،نتوقع محاولات أكثر تصميما لتغيير الطبيعة الاشتراكية للاتحاد السوفيتي ولتقريبها من نمط الحضارة الغربية في شكلها الفاشي" (23).
من المثير للاهتمام أن ينبه تروتسكى في ذلك الوقت للتشابه بين الفاشية الستالينية عندما كانت الجبهة الشعبية لا تزال في مجدها.وقد كتب في" الثورة المغدورة" أن "الستالينية والفاشية،بالرغم من الفارق العميق في الأساس الاجتماعي،هما ظواهر متماثلة" (24).
وأيضا كتب "كما في البلاد الفاشية، والتي لا يختلف عنها جهاز ستالين السياسي إلا في توحشه الأكثر سفوراً" (25).
ما يشتركون فيه،هو تحطيم كل المنظمات العمالية المستقلة وتفتيت الطبقة العاملة هو مثير للدهشة،ولكن علي افتراض أن هناك فرق عميق في الأساس الاجتماعي،هل يعني هذا أن دولة عمالية فاشية قد وجدت؟..ولكن الأهم من ذلك هو مسألة الاتجاهات البيروقراطية الراغبة في إعادة الرأسمالية، وهو مادفع تروتسكى لكى يناقش فى كتاباته فى تلك الفترة مسألة حق التوريث: 
"ليس للامتيازات إلا نصف قيمتها إذا لم يكن من الممكن نقلها للأبناء، ولكن حق التوريث لا يمكن فصله عن حق الملكية. ليس من الكافي أن تكون مديرا لشركة من الضروري أن تكون حاملا لأسهم" (26). 
يوضح تروتسكى هكذا،الضغط الشديد علي البيروقراطية من أجل التخلي عن سيطرتها في الاتحاد السوفيتي لتصبح الشريك الأصغر "الكومبرادور" للقوى الإمبريالية المختلفة.
ظل الاتحاد السوفيتي، بالنسبة لتروتسكى، "مجتمع متناقض في منتصف الطريق بين الرأسمالية والاشتراكية .. في التحليل الأخير ستحسم المسألة (التقدم إلى الاشتراكية أو العودة إلى الرأسمالية) من خلال صراع القوى الاجتماعية الحية في الساحة المحلية والعالمية" (27).
كان هذا الصراع قد تطور بالفعل بطريقة أجهدت تروتسكى إلى أقصى حد في السنوات الأخيرة السابقة علي وفاته.
************************

الاستراتيجية والتكتيك

هدف إنشاء حركة عمالية أممية، قديم قدم البيان الشيوعي ذاته بشعاره "يا عمال العالم اتحدوا"، هذا إن لم يكن أقدم بالفعل.في 1864 (الأممية الأولى)كانت هناك محاولات لإعطاء هذا الهدف تعبيرا تنظيميا.وقد انهارت الأممية الثانية في 1914 عندما تخلت أحزابها الكبيرة في الدول المتحاربة عن الأممية،وأيدت حكومات القيصرين الألماني والنمساوي،والملك الإنجليزي،والجمهورية الثالثة البرجوازية الفرنسية.
ولم يكن الأمر أنهم أخذوا بالمفاجأة.فمؤتمرات ما قبل الحرب كررت التنبيه على مخاطر الإمبريالية والنزعة العسكرية،وتهديد الحرب المتزايد،وحاجة الأحزاب العمالية للوقوف،بحزم ضد حكوماتها،بل واستخدام الأزمة الناتجة عن الحرب لتسريع سقوط الحكم الطبقي،الرأسمالي،كما جاء في مؤتمرات شتوتجارت للأممية الثانية 1907 .
الاستسلامات التالية في 1914، وهي هزيمة  شديدة للحركة الاشتراكية، دعت لينين لإعلان: لقد ماتت الأممية الثانية … تحيا الأممية الثالثة.بعد ذلك بخمس سنوات في 1919، تم تأسيس الأممية الثالثة بالفعل،وقد لعب تروتسكى دورا كبيرا في الأعوام الأولى للأممية.
في وقت لاحق،مع صعود الستالينية في الاتحاد السوفيتي،تم الاتجار بالأممية في خدمة الدولة الستالينية في روسيا.وقد حارب تروتسكى أكثر من أى شخص،ضد هذا الانحطاط،ان الكثير من أقيم كتاباته حول استراتيجية وتكتيكات الأحزاب العمالية الثورية تتعلق بالأممية الثالثة،الكومنترن،سواء في فترة صعوده أو في فترة هبوطه التالية.
"طارحين جانبا تراخ وأكاذيب وفساد الأحزاب الاشتراكية الرسمية التي تخطت عمرها الافتراضي،نحن الشيوعيون،المتحدون في الأممية الثالثة،نعتبر أنفسنا الاستمرار المباشر للمحاولات الهادئة والاستشهاد البطولي لخط طويل من الأجيال الثورية من بابوف إلى كارل ليبكنخنت وروزا لكسمبورج.
إذا كانت الأممية الأولى قد مهدت للنهج المستقبلي للتطور ودلت علي سبله،وإذا كانت الأممية الثانية قد جمعت ونظمت ملايين العمال،فأن الأممية الثالثة أذن هي أممية العمل الجماهيري المفتوح،أممية التحقيق الثوري،أممية الفعل".(1)
كان تروتسكى في الأربعين من عمره وفي قمة قوته عندما كتب بيان الأممية الشيوعية،الذي أخذت منه السطور السابقة،بصفته قوميسار الشعب للحرب في الجمهورية السوفيتية المحاربة،كان الثاني  وراء لينين في كونه المتحدث المعترف به باسم الشيوعية العالمية.
لم تكن رؤيته في ذلك الوقت،بالطبع،متميزة بشكل خاص.لقد كانت الرؤية المشتركة للقيادة البلشفية بأجمعها،وهي رؤية لم تحل دون وجود خلافات شديدة في الرأي حول هذا الموضوع أو ذاك إلا أنها كانت متجانسة في الأساس،ومع ذلك فان تروتسكى سيعتبر مع الوقت الداعية البارز لأفكار الأممية الشيوعية في فترتها البطولية. فالأحداث - التي لم يتوقعها أى من الزعماء الثوريين في 1919 أو أعدائهم - خفضت في وقت لاحق حاملي هذا التراث الأصيل إلى بضعة أفراد،وفاقهم تروتسكى جميعا كعملاق وسط الأقزام.
ومرة أخرى في كتاباته في أواخر العشرينات وخلال الثلاثينات،كان تروتسكى يشير إلى قرارت المؤتمرات الأربعة الأولى للكومنترن كنموذج للسياسة الثورية.ما هي هذه القرارات وفي أية ظروف تم اتخاذها ؟.
كان اليوم 4 مارس 1919، صوت 35 مندوباً اجتمعوا فى الكرملين، بامتناع واحد عن التصويت لصالح إنشاء الأممية الثالثة أو الشيوعية. لم يكن الاجتماع ذا وزن أو تمثيل كبير فقد كان المندوبون خمسة من الحزب الشيوعى الروسى فقط (بوخارين، شيشرين، لينين، تروتسكى، وزينوفييف) يمثلون حزباً جماهيرياً وثورياً أصيلاً فى نفس الوقت. جاء (ستانج) من حزب العمال النرويجي (NAP) من حزب جماهيري، إلا أن حزب العمال النرويجى، كما اثبتت الأحداث بعد ذلك كان بعيداً عن الثورية فى الممارسة. أما "إبرلاين" من الحزب الشيوعى الألمانى (TDP) حديث التكوين فقد مثل منظمة ثورية حقيقية ولكنها كانت لا تضم سوى بضعة آلاف قليلة. وأغلب المندوبين الباقين مثلوا ما هو قليل جداً.
لقد سلمت الأغلبية بأن "أممية" دون تأييد جماهيري حقيقيي فى عدد من البلاد هى هراء. وطرح زينوفييف "أن التأييد الجماهيرى كان قائماً بالفعل وأن ضعف كثير من الوفود أمراً عرضياً. ولدينا ثورة بروليتارية منتصرة فى بلد كبير. ولديكم فى ألمانيا حزب متجه إلى السلطة سيكون فى بضعة شهور قليلة حكومة بروليتارية. وهل علينا أن نؤجل مع ذلك ؟ إن أحداً لم يفهم ذلك" (2).
لم يكن أى من المندوبين يشك فى أن الثورة الاشتراكية كانت إمكانية فورية فى أوروبا الوسطى وخاصة ألمانيا. وبكلمات إبرلاين:
"إذا لم تكن كل المؤشرات خادعة فإن البروليتاريا تواجه الصراع الحاسم الأخير. مهما كانت الصعوبات، فإن الظروف مواتية للشيوعية" (3).
 كان لينين، أكثر الثوريين رزانة وحساباً، قد قال فى خطبته الافتتاحية إن:
"ليس فقط فى روسيا ولكن فى أكثر البلدان تقدماً فى أوروبا، ألمانيا على سبيل المثال الحرب الأهلية هى أمر واقع … الثورة العالمية تبدأ وتزداد قوة فى كل مكان" (4).
 لم يكن هذا خيالاً ففى نوفمبر 1918، إنهارت الإمبراطورية الألمانية التى كانت أقوى دولة فى أوروبا حتى ذلك الوقت. حل ستة من قوميسارى الشعب - ثلاثة اشتراكيون ديمقراطيون وثلاثة اشتراكيون ديمقراطيون مستقلون - محل حكومة القيصر، وغطت مجالس العمال والجنود البلد، وكانت السلطة الفعلية فى يدها. صحيح أن زعماء الشيوعيين الديمقراطيين، الذين سيطروا على هذه المجالس، وجهوا كل جهودهم نحو إعادة إنشاء سلطة الدولة الرأسمالية الجديدة تحت قناع "جمهوري جديد". وقد كان هذا سبباً إضافياً لخلق أممية ثورية ذات قيادة مركزية قوية لإرشاد وتأييد الصراع من أجل ألمانيا سوفييتية. وقد بدا أن هذا الصراع، على الرغم من القمع الدموي لانتفاضة سبارتكوس فى يناير 1919، كان يتنامى. ومن يناير إلى مايو 1919، مع إفرازات وصلت إلى أوج الصيف، شنت حرب أهلية دموية فى ألمانيا (5). وبعد شهر واحد من اجتماع موسكو أعلنت الجمهورية السوفييتية البافارية.
 أما القوى العظمى الأخرى فى أوروبا الوسطى، الإمبراطورية النمساوية المجرية، فكانت قد توقفت عن الوجود وكانت الدول التى خلفتها، على درجات متفاوتة من الاختمار الثورى. فى الجزء الناطق بالألمانية من النمسا كانت القوه المسلحة الفعالة الوحيدة هى جيش الشعب، الذى تسيطر عليه الاشتراكية الديمقراطية. وفى المجر، أعلنت الجمهورية السوفيتية فى 21 مارس 1919. وكانت جميع الدول الجديدة أو المعاد إنشاؤها - تشيكوسلوفاكيا، يوجوسلافيا، بل وبولندا - تموج بعدم الاستقرار.
 كان دور الزعامات الاشتراكية فاصلاً. لقد أيدت الأغلبية الآن الثورة المضادة باسم الديمقراطية. زعم أغلبهم أنهم - وقد كانوا كذلك بالفعل فى وقت ما - ماركسيون وأمميون. لقد كانوا الآن فى هذا الوقت الحرج، الدعامة السياسية للرأسمالية، مستخدمين الجمل الاشتراكية والمصداقية التى نالوها من سنوات معارضتهم للأنظمة القديمة قبل 1914 لمنع إنشاء السلطة العمالية، وقد اعتبرت محاولاتهم إعادة إنشاء الأممية الثانية فى اجتماع فى برن سبباً ملحاً إضافياً لإعلان الأممية الثالثة. كان لينين قد كتب فى 1914 وليس بعد ذلك:
"لقد ماتت الأممية الثانية، قضت عليها الانتهازية .. تحيا الأممية الثالثة" (6). والآن، بعد ثمانية عشر شهراً من ثورة أكتوبر كان للشعار أن يتحول إلى حقيقة.
 ماذا إذن كان الأساس الجوهرى للأممية الثالثة ؟، لقد ارتكزت على مبدأين أساسيين: الأممية الثورية والنظام السوفيتى باعتباره الوسيلة الوحيدة التى سيحكم العمال بها. أعلن القرار الأساس لمؤتمر 1919:
"لقد اتخذت الديمقراطية أشكالاً مختلفة وطبقت بدرجات مختلفة فى جمهوريات اليونان القديمة، ومدن العصور الوسطى، والبلاد الرأسمالية المتقدمة. سيكون من الهراء المحض الاعتقاد بأن أكثر الثورات عمقاً فى التاريخ، الحالة الأولى فى العالم لانتقال السلطة من الأقلية المستِغلة إلى الأغلبية المستَغلة، يمكن أن تحدث داخل إطار الديمقراطية البرلمانية البرجوازية القديم الذى أهلكه الزمن، بدون تغييرات شديدة وبدون خلق أشكال جديدة للديمقراطية، مؤسسات جديدة تجسد الظروف الجديدة لتطبيق الديمقراطية" (7).
سوفييتات أم برلمان ؟. عقب ثورة أكتوبر، حل الحزب الشيوعى الروسى الجمعية التأسيسية المنتخبة حديثاً، التى كان لحزب الاشتراكيين الثوريين الأغلبية فيها، لصالح السلطة السوفيتية. ولكن عقب ثورة نوفمبر، حل الحزب الاشتراكى الألمانى مجالس العمال والجنود التى كان لديها أغلبية فيها، لصالح الجمعية الوطنية التى لم تكن له أغلبية فيها.
فى الحالتين، كانت مسألة الأشكال الدستورية فى الحقيقة مسألة سلطة طبقية. كانت نتيجة تصرف الحزب الشيوعى الروسى هى خلق دولة عمالية. وكانت نتيجة تصرف الحزب الاشتراكى الألمانى هى خلق دولة برجوازية، جمهورية "فيمار".
كان ماركس قد كتب، عقب كومونة باريس، أنه "خلال الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، شكل الدولة لا يمكن إلا أن يكون الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا".
لقد توصل الاشتراكيون الديمقراطيون، فى الممارسة، إلى رفض جوهر النظرية الماركسية حول الدولة، وهو أن جميع الدول هى دول طبقية، وأن ليست هناك دولة "محايدة". لقد توصلوا إلى رفض موقفهم السابق حول حتمية الثورة لصالح الطرق البرلمانية "السلمية" للاشتراكية. ومع ذلك فإن جمهورية فيمار كانت نتاج الإسقاط العنيف للدولة السابقة، مثلها فى ذلك مثل الجمهورية السوفيتية الروسية تماماً. فالجنود المتمردون والعمال المسلحون، وليس الناخبون هم اللذين أسقطوا الإمبراطورية الألمانية.
ويصح هذا بالنسبة للدول التى خلفت الإمبراطورية النمساوية المجرية. إلا أن التحول الأكبر، القضاء على الراسمالية، كان ينبغى تحقيقه بواسطة الآليات العادية للديمقراطية البرجوازية!.
فى الواقع، كان ذلك يعنى التخلى عن الاشتراكية كهدف. أعادت الأممية الثالثة ذكر الموقف الماركسى بحدة فى "برنامج 1919": "يتمثل انتصار الطبقة العاملة فى تحطيم السلطة المنظمة للعدو وتنظيم السلطة العمالية، إنه يشتمل على تدمير آلة الدولة البرجوازية وإنشاء الدولة العمالية" (8).
إن مسألة الاشتراكية من خلال البرلمان غير واردة. كان لينين، فى 1917 قد اقتبس باستحسان ما ذكره إنجلس عن أن "الاقتراع العام هو مؤشر على نضج الطبقة العاملة لا يمكن له أن يكون ولن يكون أبداً أى شئ أكثر من ذلك فى دولة حديثة" (9)، "لم تكن أية جمهورية برجوازية فى أى وقت، مهما كانت ديمقراطية، ولا كان ممكناً لها أن تكون أى شئ غير آلة لقمع الجماهير العاملة بواسطة رأس المال، وأداة الديكتاتورية البرجوازية، الحكم الأساسى لرأس المال" (10).
هكذا كتب لينين عقب مؤتمر موسكو مباشرة. الجمهورية العمالية، القائمة على أساس المجالس العمالية، كانت ديمقراطية حقاً.
"جوهر السلطة السوفيتية يتمثل فى هذا، أن الأساس الدائم والوحيد لسلطة الدولة بأسرها، لجهاز الدولة كله، هو التنظيم الجماهيرى لتلك الطبقات التى طغى عليها الرأسماليون، أى العمال وأنصاف العمال (الفلاحون الذين لا يستغلون العمل)" (11).
 لقد كانت روسيا بعيدة عن هذا المثال، حتى فى 1919، إلا أن الانحرافات تم تفسيرها بتخلف البلد، والحرب الأهلية التى كانت لا تزال محتدمة والتدخل الأجنبى.
 أيد تروتسكى آنذاك، وحتى يوم وفاته جميع هذه الأفكار دون أدنى تحفظ. لقد كان متفقاً مع لينين حول مسألة الديمقراطية البرجوازية والإصلاحية فى 1919، ولم يغير رأيه أبداً.
 أنشأ المندوبون المجتمعون فى موسكو الأممية الجديدة على أساس التمسك الشديد بالأممية، والانفصال الحاسم والنهائي عن خونة 1914، والسلطة العمالية، والمجالس العمالية، والدفاع عن الجمهورية السوفيتية، وأفق الثورة فى المستقبل القريب فى أوروبا الوسطى والغربية. كانت المشكلة الآن هى خلق الأحزاب الجماهيرية التى تستطيع جعل كل هذا حقيقة.
 
الوسطية واليسارية المتطرفة
"إن أحزاباً وجماعات التحقت حديثاً بالأممية الثانية تتقدم لعضوية الأممية الثالثة بشكل متزايد، رغم أنها لم تصبح شيوعية حقاً .. إن الأممية الشيوعية إلى حد ما، قد أصبحت موضة .. فى بعض الظروف، قد تواجه الأممية الشيوعية خطر ضعف نقائها من خلال تدفق مجموعات متذبذبة ومترددة لم تمارس قطعاً بعد، مع أيديولوجية الأممية الثانية" (12).
 هكذا كتب لينين فى يوليو 1920، إن افتراض مؤتمر 1919 للكومنترن أن حركة ثورية جماهيرية حقيقية كانت موجودة فى أوروبا قد تبينت صحته فى السنة التالية.
 فى سبتمبر 1919 صوت مؤتمر بولونيا للحزب الاشتراكى الإيطالي بأغلبية كبيرة بناء على توصية لجنته التنفيذية، لصالح الالتحاق بالأممية الشيوعية. وأكد حزب العمال النرويجي التحاقه، كما انضمت إليها أيضا الأحزاب البلغاري واليوغوسلافي (الصربي سابقاً) والروماني. كانت الأحزاب الثلاثة الأولى منظمات هامة فحزب العمال النرويجي - الذى كان قائماً على أساس الالتحاق النقابي، مثل نظيره البريطانى - كان يسيطر على اليسار النرويجي، كما كان الحزب الشيوعى البلغاري يتمتع بتأييد الطبقة العاملة البلغارية بأسرها فعلياً، منذ البداية. أما الحزب الشيوعى اليوجوسلافي، فقد نال 54 مقعداً فى الانتخابات الحرة الأولى (والوحيدة) التى جرت فى الدولة الجديدة. فى فرنسا، كان الحزب الاشتراكى، الذى زادت عضويته بأكثر من الضعف، من 90 ألف إلى 200 ألف بين 1918 و 1920، كان قد سار بعيداً نحو اليسار، وكان يغازل موسكو. وهكذا كان الأمر بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين المستقلين الألمان، وهى منظمة كانت تكسب مزيداً من الأرض بسرعة على حساب الحزب الاشتراكى الديمقراطي. كما سار على نفس الخط بالأساس الاشتراكيون الديمقراطيون اليساريون السويديون، والجناح اليساري التشيكوسلوفاكي. وأحزاب أصغر فى بلاد أخرى (منها حزب العمال المستقل البريطانى). لقد كان ضغط قواعدهم يجبرهم على إعلان الولاء اللفظي لثورة أكتوبر والتفاوض على القبول فى الأممية الشيوعية. "إن رغبة جماعات (وسطية) بارزة فى الانضمام للأممية الثالثة". هكذا كتب لينين، "توفر تأكيدا غير مباشر علي أنها ( الأممية الثالثة ) قد اكتسبت تعاطف الغالبية العظمى من العمال ذوي العي الطبقي في جميع أنحاء العالم،وأنها تصبح قوة أكبر مع كل يوم".(13)
إلا أن هذه الأحزاب لم تكن منظمات شيوعية ثورية.كان تراثهم هو تراث اشتراكية ديمقراطية ما قبل الحرب.الثورية بالكلمات،والسلبية في الممارسة.وكان يقودها رجال مستعدون للقيام بأى التواء أو دوران من أجل استمرار سيطرتهم ومنع إقرار استراتيجية وتكتيك ثوري أصيل.
 بدون كتلة الأعضاء الخاصة بتلك الأحزاب، لم يكن للأممية الجديدة أن تأمل فى ممارسة تأثير حاسم فى أوروبا فى المدى القصير. وبدون قطع مع القادة الوسطيين لم يكن لها أن تأمل فى ممارسة تأثير ثورى. ولم يكن الوضع مختلفاً كثيراً بالنسبة للأحزاب الجماهيرية التى كانت داخل الأممية بالفعل. فالحزب الاشتراكى الإيطالى، على سبيل المثال، كان فى داخل قيادته وسطيون بل وبعض الإصلاحيين على طول الخط.
 لقد تعقد الصراع ضد الوسطية بفعل عامل أخر. لقد تواجدت قيادات يسارية متطرفة قوية داخل كثير من المنظمات الشيوعية وخارج هذه المنظمات كانت هناك بعض المنظمات النقابية "السنديكالية" التى كانت قد اقتربت من الأممية الثالثة، إلا أنها كانت لا تزال ترفض الحاجة إلى الحزب الشيوعى. لقد كان كسب ودمج هذه القوى الكبيرة عملية صعبة ومعقدة. لقد اقتضت صراعاً على جبهات مختلفة عديدة.
 كانت قرارات المؤتمر الثانى ذات أهمية جوهرية. بمعنى ما: كان هذا هو المؤتمر التأسيسى الحقيقى. وقد جرى أثناء أوج الحرب مع بولندا، عندما كان الجيش الأحمر يقترب من وارسو. وفى ألمانيا، كان عمل الطبقة العاملة الجماهيرى قد احبط فى التو محاولة لإقامة ديكتاتورية عسكرية. وفى إيطاليا، كان احتلال المصانع على وشك الابتداء. كان مزاج التفاؤل الثورى أقوى من أى وقت سابق. أعلن زينوفييف، رئيس الأممية: "إننى مقتنع بعمق بأن المؤتمر العالمى الثانى للأممية الشيوعية هو تمهيد لمؤتمر عالمى أخر، المؤتمر العالمى للجمهوريات السوفيتية" (14).
 لم تكن هناك حاجة إلا لأحزاب شيوعية جماهيرية حقيقية، تقود الحركة إلى النصر. كان أهم تدخلات تروتسكى فى المؤتمر متعلقاً بطبيعة مثل هذه الأحزاب.
"آيها الرفاق قد يبدو من الغريب حقاً أنه بعد ثلاثة أرباع قرن من ظهور البيان الشيوعى، فإن النقاش يثور فى مؤتمر شيوعى أممى، حول ما إذا كان الحزب ضرورياً أم لا .. من البديهى أننا إذا كنا نتعامل مع السادة شيدمان أو كاوتسكى أو شركائهم فى الفكر الانجليزى، فإنه لن يكون ضرورياً بالطبع، أن نقنع هؤلاء السادة بأن الحزب لا غنى عنه للطبقة العاملة. لقد خلقوا حزباً للطبقة العاملة ووضعوه تحت خدمة البرجوازية والمجتمع الرأسمالى .. فقط لأننى أعرف أن الحزب لا غنى عنه ولأننى واعى جيداً بقيمة الحزب، وفقط لأننى أرى شيدمان على ناحية، وعلى الناحية الأخرى، أرى نقابيين أمريكان أو أسبان أو فرنسيين لا يرغبون فقط فى القتال ضد البرجوازية، وإنما على العكس من شيدمان، يريدون حقاً أن يقطعوا رأسها - لهذا السبب أقول أننى أفضل، أن أتناقش مع هؤلاء الرفاق الأسبان والأمريكان والفرنسيين لكى أثبت لهم أن الحزب لا غنى عنه لتحقيق المهمة المطروحة عليهم - تدمير البرجوازية ..
آيها الرفاق، يقوم السينديكاليون الفرنسيون بعمل ثورى داخل النقابات، عندما أتناقش اليوم، مثلاً، مع الرفيق روزمر، فإننا نقف على أرضية واحدة. لقد قال السينديكاليون الفرنسيون، متمردين على تقاليد الديمقراطية وخداعها: إننا لا نريد أية أحزاب، إننا نناضل من أجل النقابات البروليتارية ومن أجل الأقلية الثورية داخلها التى تطبق العمل المباشر .. ماذا تعنى هذه الأقلية بالنسبة لأصدقائنا ؟، إنها القسم المختار من الطبقة العاملة الفرنسية، قسم له برنامج واضح ومنظمة خاصة به، منظمة يناقشون فيها كل الأسئلة ولا يناقشون فقط وإنما يقررون أيضاً، وهى منظمة يلتزمون فيها بنظام معين" (15).
 طرح تروتسكى أن تلك كانت جذور المسألة. كان النقابيون الثوريون أقرب كثيراً إلى تكوين حزب شيوعى من الوسطيين الذين أخذوا فكرة الحزب كأمر مفروغ منه. لم يكن الموقف السينديكالى سليماً تماماً، كان من اللازم إضافة شئ "مستودع .. يركز التجربة الكاملة المتراكمة لدى الطبقة العاملة. هكذا نفهم حزبنا. هكذا نفهم منظمتنا الأممية" (16).
 لم يكن من الممكن أن تكون منظمة دعائية بالأساس. أثناء حديثه أمام اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية فى مواجهة اليسارى المتطرف الهولندى جورتر الذى كان قد اتهم الأممية الثالثة بـ "ملاحقة الجماهير" أعلن تروتسكى:
"ماذا يقترح الرفيق جورتر ؟ ماذا يريد ؟ الدعاية ! هذه خلاصة منهجه كله. يقول الرفيق جورتر أن الثورة ليست متوقفة لا على الحرمان ولا على الظروف الاقتصادية وإنما على الوعى الجماهيرى، فإن الوعى الجماهيرى بدوره تشكله الدعاية. الدعاية هنا ينظر إليها بطريقة مثالية تماماً، قريبة جداً من مفهوم مدرسة التنوير والعقلانية فى القرن الثامن عشر .. إن ما تريد عمله الآن هو بمثابة استبدال للتطور الديناميكى للأممية بوسائل التجنيد الفردى للعمال من خلال الدعاية. إنك تريد نوعاً من الأممية النقية المكونة من المختارين" (17).
 النوع السلبى، الدعائى، من اليسارية المتطرفة، لم يكن هو الشكل الوحيد الممثل فى الكومنترن فى بداياته. فى 1921 نمت نزعه انقلابية فى قيادة الحزب الألمانى. فى مارس من هذا العام، وفى غياب حالة ثورية على المستوى الوطنى (محلياً، فى أجزاء من ألمانيا الوسطى، كان يوجد ما يشبه حالة ثورية) حاولت قيادة الحزب أن تدفع معدل السرعة، أن تستبدل حركة جماهيرية حقيقية بمناضلى الحزب .. كانت نتيجة "عمل مارس" هذا هزيمة خطيرة. انخفضت عضوية الحزب من حوالى 350 ألف إلى حوالى 150 ألف وقد استخدمت "نظرية الهجوم" لتبرير تكتيك الحزب الشيوعى الألمانى.
"تم تقديم ما يسمى بنظرية الهجوم، ما هى خلاصة هذه النظرية ؟. خلاصتها هى أننا دخلنا عصر تفسخ المجتمع الرأسمالى، أى بكلمات أخرى، العصر الذى يجب فيه إسقاط البرجوازية. كيف ؟. عن طريق هجوم الطبقة العاملة، على هذا الشكل المجرد تماماً، فإن النظرية سليمة بلا شك. إلا أن بعض الأفراد سعوا إلى تحويل هذا الرأسمال النظرى إلى عملة مقابلة تتكون من مقامات أصغر، وأعلنوا أن هذا الهجوم يتكون من عدد متوالى من الهجمات الأصغر".
 هكذا لاحظ تروتسكى فى خطاب فى صيف 1921، وقد أضاف:
"ايها الرفاق، إن تشبيه الصراع السياسى للطبقة العاملة بالعمليات العسكرية، قد أسئ استخدامه كثيراً. ولكن إلى حد معين يمكن للمرء أن يتحدث هنا عن تشابه من النواحى العسكرية، نحن أيضاً كان لدينا (أيام مارس). إذا تحدثنا الألمانية، و(أيام سبتمبر) إذا تحدثنا الإيطالية (الإشارة إلى فشل الحزب الاشتراكى الإيطالى فى استغلال الأزمة الثورية فى سبتمبر 1920). ماذا يحدث بعد هزيمة جزئية ؟. يقع بعد الاختلال فى الجهاز العسكرى، وينشأ بعض الاحتياج إلى فكرة التقاط الأنفاس، احتياج لإعادة التوجيه، وتقدير أكثر دقة للقوى المتقابلة: أحياناً لا يكون كل هذا ممكناً إلا فى ظروف تراجع استراتيجى، ولكن لكى نفهم هذا جيداًُ، لكى نرى فى الحركة إلى الوراء، فى التراجع جزءاً من خطة استراتيجية موحدة، فمن الضرورى توفر خبرة معينة .. ولكن إذا فكر المرء بشكل مجرد تماماً وأصر على الحركة للأمام دائماً .. على أساس أن كل شئ يمكن تجاوزه عن طريق نفحه إرادية إضافية، فآية نتائج إذاً يحصل عليها المرء ؟. دعونا نأخذ على سبيل المثال أحداث سبتمبر فى إيطاليا، أحداث مارس فى ألمانيا. يقال لنا أن الحالة فى هذين البلدين لا يمكن علاجها إلا بهجوم جديد .. فى ظل هذه الظروف، فإن هذا قد يجعلنا نلقى هزيمة أكبر وأخطر كثيراً. لا يا رفاق، بعد هزيمة كهذه يجب أن نتراجع" (18).
 
الجبهة الموحدة
 والواقع أنه بحلول صيف 1921 كانت قيادة الكومنترن قد قررت أن تراجعاً استراتيجياً بمعنى أكثر عمومية كان ضرورياً. كتب تروتسكى فى البرافدا فى يونيو:
"فى السنة الأكثر حرجاً للبرجوازية سنة 1919 كانت بروليتاريا أوروبا قادرة بلا شك على الاستيلاء على السلطة بالحد الأدنى من التضحيات، لو كان هناك على رأسها حزب ثورى أصيل، يطرح أهدافاً واضحة ويكون قادراً على السير نحو تحقيقها، أى حزب شيوعى قوى. ولكن لم يكن هناك أى حزب على هذا النحو .. أثناء السنوات الثلاث الأخيرة قاتل العمال كثيراً وعانوا كثيراً من تضحيات كبيرة ولكنهم لم يكسبوا السلطة. نتيجة لذلك، أصبحت الجماهير العمالية أكثر حذراً منها فى 1919 - 1920" (19).
 تم التعبير عن نفس الفكر فى "أطروحات حول الوضع العالمى" التى كتبها تروتسكى وتم إقرارها فى المؤتمر الثالث للكومنترن فى يوليو 1921:
"أثناء السنة التى مرت بين المؤتمرين الثانى والثالث للأممية الشيوعية، انتهت سلسلة من الانتفاضات والصراعات العمالية بهزائم جزئية (تقدم الجيش الأحمر إلى وارسو فى أغسطس 1920، إنتفاضة العمال الألمان فى مارس 1921). ويبدو أن الفترة الأولى لحركة ما بعد الحرب الثورية، المتميزة بالطابع التلقائى لهجماتها وعدم الدقة الواضح لأهدافها ووسائلها والذعر الشديد الذى أنشأته بين الطبقات الحاكمة، قد انتهت جوهرياً. ولا شك أن الثقة بالنفس لدى البرجوازية كطبقة، والاستقرار الخارجى لأجهزة دولتها، قد زادا قوة .. بل أن قادة البرجوازية يتباهون بقوة أجهزة دولهم وانتقلوا إلى الهجوم ضد العمال فى كل البلاد سواء على الجبهة الاقتصادية أو السياسية" (20).
 بعد انتهاء المؤتمر بقليل، بدأت اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية تضغط على الأحزاب لتحويل التركيز فى عملها على الجبهة المتحدة. وقد لخص تروتسكى بوضوح شديد جوهر هذا السبيل فى أوائل 1922:
"إن مهمة الحزب الشيوعى هى قيادة الثورة البروليتارية .. لتحقيقها ينبغى للحزب الشيوعى أن تكون قاعدته الغالبية الساحقة للطبقة العاملة، لا يستطيع الحزب تحقيق هذا إلا بالبقاء كمنظمة مستقلة تماماً لها برنامج واضح ونظام داخلى صارم. ولهذا لم يكن هناك مفر من قيام الحزب بقطع أيديولوجى مع الإصلاحيين والوسطيين. وبعد أن يضمن لنفسه الاستقلال الكامل والتجانس الأيديولوجى لقواعده فإن الحزب الشيوعى يناضل من أجل التأثير على غالبية الطبقة العاملة ولكن من البديهى تماماً أن الحياة الطبقية للبروليتاريا لا تعلق أثناء فترة الإعداد للثورة هذه. فالصدامات مع الصناعيين، مع البرجوازية، بمبادرة من هذا الطرف أو ذاك تأخذ مجراها الطبيعى.
فى هذه الصدامات - بمقدار ما تشمل من المصالح الحيوية للطبقة العاملة كلها، او أغلبيتها، أو هذا القسم أو ذاك - تشعر الجماهير العاملة بالحاجة للوحدة فى العمل، أو الوحدة فى مقاومة هجوم الرأسمالية، أو الوحدة فى اتخاذ المبادرة ضدها. إن أى حزب يضع نفسه بشكل ميكانيكى فى الوجه المقابل لهذه الحاجة لدى الطبقة العاملة للوحدة فى العمل، سيدان حتماً فى عقول العمال. ومن ثم، فإن مسألة الجبهة المتحدة ليست على الإطلاق، سواء من حيث الأصل أو من حيث المضمون، مسألة خاصة بالعلاقات المتبادلة بين الفصيل البرلمانى الشيوعى والاشتراكى أو بين اللجان المركزية لكلا الحزبين .. وعلى الرغم من أن الانفصال حتمى فى هذه الحقبة بين التنظيمات السياسية المتنوعة التى تبنى نفسها على أساس الطبقة العاملة فإن مسألة الجبهة المتحدة تنشأ من الحاجة الملحة لتأمين إمكانية جبهة متحدة للطبقة العاملة فى الصراع ضد الرأسمالية.
والحزب لمن لا يفهم هذه المهمة، هو مجرد جمعية دعائية وليس تنظيم للعمل الجماهيرى ..
إن وحدة الجبهة تفترض استعدادنا، فى حدود معينة وحول قضايا محددة لربط ممارساتنا عملياً بممارسة تلك التنظيمات الإصلاحية. للدرجة التى تظل فيها هذه التنظيمات تعبر اليوم عن إرادة قطاع هام من البروليتاريا المحاربة.
ولكن ألم ننفصل نحن عنهم ؟. نعم لأننا نختلف معهم حول مسائل جوهرية للحركة العمالية، ومع ذلك نحن نسعى لاتفاق معهم !، نعم فى كل الحالات التى تكون فيها الجماهير التى تتبعهم مستعدون للاشتراك فى كفاح مشترك مع جماهيرنا وعندما يضطر الاصلاحيون لدرجة تقل أو تكثر أن يصبحوا أداة لهذا الكفاح ..
إن سياسة تستهدف تأمين جبهة متحدة لا تتضمن بالطبع ضمانات أوتوماتيكية على أن تلك الوحدة ستتحقق فى كل الظروف على العكس، ففى حالات كثيرة بل من المحتمل فى غالبية الحالات ستكون الاتفاقات التنظيمية نصف محققه أو غير محققة على الإطلاق. ولكن من الضرورى أن تعطى الجماهير المكافحة دائماً الفرصة لإقناع أنفسهم بأن عدم تحقيق الوحدة فى الممارسة لم يكن نتيجة لتضاد شكلى لا يمكن حله، ولكن كان نتيجة غياب إرادة حقيقية للنضال لدى الإصلاحيين" (21).
 كان المؤتمر الرابع للكومنترن 1922 والذى اهتم أساساً بمسألة الجبهة المتحدة، هو الأخير الذى حضره لينين والأخير الذى اعتبر تروتسكى قراراته صحيحه فى جوهرها. وبعد ذلك بعشرة أعوام وفى بيان المبادئ الأساسية طرح تروتسكى موقفه من قرارات المؤتمر الأولى للكومنترن:
"تقف المعارضة اليسارية الأممية على أرضية المؤتمرات الأربعة الأولى للكومنترن. وهذا لا يعنى أنها تنحنى أمام كل حرف من قراراتها، فكثير من هذه القرارات كان لها طابع لحظى وقد نقضتها الأحداث التالية. ولكن كل المبادئ الأساسية (بخصوص الإمبريالية والدولة البرجوازية والديمقراطية والإصلاحية ومسائل الانتفاضة وديكتاتورية البروليتاريا والعلاقة مع الفلاحين والقوميات المضطهدة والعمل فى النقابات والبرلمانية وسياسة الجبهة المتحدة) كل هذه المبادئ تظل حتى اليوم أعلى تعبير للإستراتيجية البروليتارية فى حقبة الأزمة العامة للرأسمالية. ترفض المعارضة اليسارية القرارات التحريفية للمؤتمر الأممى الخامس والسادس (1924 - 1928)" (22).
 شهد عام 1923 ظهور الحكم الثلاثى لستالين وزينوفييف وكامينيف من جهة، والمعارضة اليسارية من الجهة الأخرى. وشهد نفس العام فى أوروبا هزيمتين كبيرتين للكومنترن. ففى يولية تبنى الحزب الشيوعى البلغارى، وهو حزب جماهيرى يتمتع بتأييد الطبقة العاملة بأكملها تقريباً سياسة سلبية تماماً فى مواجهة الانقلاب اليمينى ضد حكومة الحزب الفلاحى. وبعد ذلك، بعد تدمير النظام البرجوازى الديمقراطى وتكوين حكم عسكرى ديكتاتورى وإرهاب الجماهير، شن الحزب يوم 22 سبتمبر إنتفاضة مفاجئة بدون أى تحضير سياسى جاد. كانت النتيجة هى تدمير الانتفاضة وبداية فترة إرهاب أبيض متوحش.
 وفى ألمانيا حدثت أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة، وكان السبب فيها هو الاحتلال الفرنسى لمنطقة "الرو"، والتضخم الفلكى الذى جعل النقود فعلياً بلا قيمة. "كان الوضع الألمانى فى خريف 1923 اكثر يأساً من أى وقت منذ 1919 والبؤس أكبر، والأمل فى المستقبل أضعف" (23). وتم التخطيط لانتفاضة فى أكتوبر بعد أن كان الحزب الشيوعى قد شكل حكومة ائتلافية مع الاشتراكيين الديمقراطيين فى سكسونيا، ولكن الخطة تم إلغائها فى اللحظة الأخيرة (فى هامبورج لم يصل قرار الإلغاء فى الوقت المناسب وحدثت انتفاضة معزولة وتم تحطيمها بعد يومين)
 رأى تروتسكى أن فرصة تاريخية قد ضيعت. ومنذ ذلك الوقت أصبحت سياسة الكومنترن تشكل بشكل متزايد فى البداية على أساس احتياجات جناح ستالين فى الصراع الداخلى للحزب فى الاتحاد السوفيتى ثم بعد ذلك على أساس احتياجات السياسة الخارجية لحكومة ستالين.
 وبعد انحراف "يسارى" قصير فى 1924، دفع الكومنترن فى اتجاه يمينى واستمر حتى 1928 ثم فى اتجاه يسارى متطرف (1928 - 1934)، وأخيراً دفع بشدة فى إلى اليمين فى فترة الجبهة الشعبية (1935 - 1039). وقد حلل تروتسكى ونقد كل هذه المراحل والتحولات. ومن الملائم تقديم نقده باستخدام ثلاثة نماذج.
 
اللجنة النقابية الأنجلو – سوفيتية: 
بجانب الثورة الصينية (1925 - 1927) والتى تم تناولها، كانت سياسة الحزب الشيوعى البريطانى (تحت توجه الكومنترن) قبل وخلال الإضراب العام فى 1926 هى أهم علامة على كارثية هذه التوجهات.
كان إضراب مايو 1926 نقطة تحول حاسمة فى التاريخ البريطانى وكان هزيمة أكيدة للطبقة العاملة. وقد أنهى هذا الإضراب فترة طويلة، وإن كانت متقطعة، من النضالية العمالية وأدى إلى السيطرة طويلة الأجل للجناح اليمينى فى النقابات بسياساته المتواطئة طبقياً وأدى هذا أيضاً إلى تقوية إصلاحية حزب العمال على حساب الحزب الشيوعى.
كان المد فى الحركة النقابية فى 1924-1925 يتجه يساراً. وكانت حركة الأقلية التى أنشأها الحزب الشيوعى عام 1924 حول شعارات مثل " أوقفوا التراجع" و" العودة إلى النقابات" تزداد نفوذاً. وفى نفس الفترة ازداد نفوذ وتأثير مجموعة من القيادات اليسارية فى الحركة النقابية الرسمية. وبدأ فى ربيع 1925 مؤتمر النقابات العمالية فى التعاون مع اتحاد النقابات العمالية السوفيتية من خلال اللجنة الأنجلو-سوفيتية الاستشارية المشتركة. وقد أعطى ذلك أعضاء المجلس العام نوع من الرداء
" الثورى" وغطاءاً ضد الانتقادات من اليسار.
كان جوهر نقد تروتسكى هو أن الحزب الشيوعى البريطانى كان، بضغط من موسكو، يقوم ببناء الثقة فى هؤلاء البيروقراطيين اليساريين ( كان الشعار المركزى للحزب الشيوعى هو كل السلطة للمجلس العام) الذين كانوا بالضرورة سيخونون الحركة فى اللحظة الحاسمة ( وهذا ما فعلوه بالطبع) وهذا بدلاً من أن تقوم كوادر الحزب بالبناء بشكل مستقل داخل القواعد باستخدام أى إطار يوفره النقابيون اليساريون، ولكن ، دون الاعتماد عليهم وبدون تشجيع القيادات القاعدية على الاعتماد عليهم، بل على العكس التأكيد على أنهم سيخونون، والتحذير من هذه الخيانة والتحضير لها.
كتب تروتسكى فيما بعد:
"زينوفييف جعلنا نفهم أنه يعتمد على أن تجد الثورة مدخلها ليس من خلال المدخل الضيق للحزب الشيوعى البريطانى ولكن من خلال البوابات الواسعة للنقابات العمالية. وقد استبدل النضال من أجل كسب الجماهير المنظمة فى النقابات من خلال الحزب الشيوعى بأمل الاستخدام الأسرع لأجهزة النقابات "الجاهزة" من أجل الثورة. ونبع من هذا الموقف الخاطئ سياسة اللجنة الأنجلو-سوفيتية التى وجهت ضربة للاتحاد السوفيتى وكذلك للطبقة العاملة البريطانية وهى ضربة لم تتعداها إلا الهزيمة فى الصين… وكنتيجة لأعظم حركة ثورية فى بريطانيا منذ أيام الشارتية، لم ينمو الحزب الشيوعى البريطانى فى حين يتربع المجلس العام على العرش بشكل أقوى وأكثر رسوخاً مما كان عليه قبل الاضراب العام. هذه هى نتائج تلك "المناورة الاستراتيجية الفريدة". (24)
لم يطرح تروتسكى أن سياسة العمل الشيوعى المستقل ستؤدى بالضرورة إلى انتصار الإضراب:
" لم يطرح أى ثورى يزن كلماته أن انتصاراً كان مؤكداً من خلال اتباع هذا الخط. ولكن انتصاراً كان ممكناً فقط عبر هذا الطريق. كما إن الهزيمة على هذا الطريق هى التى يمكن أن تؤدى فيما بعد إلى انتصار".(25)
ولكن هذا الطريق:
" يبدو طويلاً وغير مؤكد لبيروقراطى الأممية الشيوعية. وقد اعتبروا أنه من خلال التأثير الشخصى على أمثال "بورسل" و "هيكس" و "كوك" وآخرين… يمكن جذبهم بالتدريج وبشكل غير ملحوظ إلى الأممية الشيوعية. ولضمان مثل هذا النجاح… كان يجب عدم إزعاج أو إقلاق الأصدقاء الأعزاء (بروسل وهيكس وكوك) وكان يجب اتخاذ تدبير راديكالى وهو إخضاع الحزب الشيوعى لحركة الأقلية… عرف الجماهير فقط بورسل وهيكس وكوك، الذين رشحتهم موسكو أيضاً، كقيادات لهذه الحركة.
هؤلاء الأصدقاء "اليساريون" قد خانوا البروليتاريا فى الاختبار الجاد. وقد دخل العمال الثوريون فى حالة من التخبط وغرقوا فى حالة اللامبالاة وامتد بالطبع إحباطهم إلى الحزب الشيوعى الذى لم يكن سوى الجزء السلبى فى آلة الخيانة والغدر. وقد انهارت حركة الأقلية، وإلى الصفر عاد الحزب الشيوعى إلى حلقة صغيرة يمكن تجاهلها". (26)
إن الاعتماد على قيادات نقابية "يسارية" لا زال أحد الخصائص المميزة للإصلاحيين اليساريين عن الثوريين. ولا زال نقد تروتسكى ذا أهمية بالغة اليوم.
 
ألمانيا فى الفترة الثالثة:
بدأ المؤتمر العالمى السادس للكومنترن (صيف 1928) كعملية رد فعل عنيفة للخط اليمينى فى فترة 1924-1928. وقد فرض خط يسارى متطرف ذا طبيعة بيروقراطية خاصة على الأحزاب الشيوعية فى كل مكان، بغض النظر عن الظروف المحلية. كان هذا الخط انعكاساً لبدء الخطة الخمسية الأولى وللتجميع القهرى فى الريف بالاتحاد السوفيتى، وقد أعلن هذا الخط "الفترة الثالثة" كفترة من النضالات الثورية المتصاعدة.
كان هذا يعنى عملياً أنه فى الوقت الذى كانت فيه الفاشية تشكل خطراً حقيقياً ومتنامياً، خاصة فى ألمانيا، تم اعتبار الاشتراكيين الديمقراطيين بمثابة العدو الأساسى. وقد أعلن المؤتمر العاشر للكومنترن عام 1929 أن:                                                                                     "تصبح الفاشية أكثر فأكثر المنهج المهيمن للحكم البرجوازى. وفى البلاد التى بها أحزاب اشتراكية ديمقراطية قوية تأخذ الفاشية شكل " الفاشية الاجتماعية" والتى تخدم بشكل متزايد البرجوازية كأداة لشل نشاط الجماهير فى النضال ضد نظام الديكتاتورية". (27)
وقد استتبع ذلك أن سياسة الجبهة المتحدة كما كانت تفهم حتى ذلك الوقت كان يجب التخلص منها. لم يعد مطروحاً محاولة إجبار الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الجماهيرية والنقابات التى يسيطرون عليها للدخول فى جبهة متحدة ضد الفاشيين، فهم أنفسهم كانوا فاشيون اجتماعيون. حتى أضاف المؤتمر الحادى عشر للكومنترن أن الاشتراكية الديمقراطية " هى العامل المحرك لتطور الدولة الرأسمالية نحو الفاشية". (28)
إن هذا التحليل الخاطئ تماماً لطبيعة الفاشية والاشتراكية الديمقراطية قد أدى إلى افتراض أن هناك إمكانية للتواجد المشترك "لأحزاب اشتراكية ديمقراطية قوية" ونظام "ديكتاتورية فاشية"، وأن مثل هذا الوضع كان موجوداً بالفعل فى ألمانيا حتى قبل وصول هتلر للسلطة " والدليل أن حكومة "فون بابن شليخر" أسست فى ألمانيا بمساعدة "الرايخسفير" و "الشتالهلم" والنازيون شكل من الديكتاتورية الفاشية". (29) هكذا طرح المؤتمر الثانى عشر للكومنترن فى 1932.
وقد كتب تروتسكى ضد هذا الغباء الإجرامى بإلحاح وقلق متزايدين من 1929 وحتى كارثة 1933. وبلا شك فإن براعة وقوة أعماله حول الأزمة الألمانية لم يتخطاها أى ماركسى.
إن الفكرة الأساسية فى كل هذه الكتابات هى ضرورة "الجبهة العمالية المتحدة ضد الفاشية" وهو عنوان إحدى أشهر هذه الكتابات. ولكن الطرح كان أكثر تعقيداً من ذلك بكثير، وقد أجبر تروتسكى نفسه على المتابعة الدقيقة للاطروحات العجيبة التى كان يطرحها الستالينيون الألمان دفاعاً عن مالا يمكن الدفاع عنه. وقد واجهت ودحضت كتاباته فى هذه الفترة تشكيلة متنوعة من الاطروحات شبه الماركسية، وفى نفس الوقت شرحت بوضوح استثنائى " أعلى تعبير للاستراتيجية البروليتارية" وسيمكننا فقط التعرض لجزء صغير من هذه الكتابات هنا:
"تصور الصحافة الرسمية للكومنترن الآن نتائج الانتخابات الألمانية (سبتمبر 1930) كأنها انتصار عظيم للشيوعية، والتى تطرح اليوم شعار ألمانيا السوفيتية كشعار أدنى. إن المتفائلين البيروقراطيين لا يريدون التفكير فى معنى علاقات القوة التى توضحها الإحصاءات الانتخابية، فهم ينظرون إلى أرقام الأصوات التى حققها الشيوعيون بشكل مستقل عن المهام الثورية التى يخلقها الوضع الحالى والعقبات التى يشكلها.
وقد حقق الحزب الشيوعى حوالى 4.6 مليون صوت مقارنة بـ 3.3 مليون فى 1928. من وجهة نظر الميكنة البرلمانية "الطبيعية" مكسب 1.3 مليون هو مكسب جدير بالإحترام حتى إذا أخذنا فى الاعتبار الزيادة فى العدد الكلى للمصوتين. ولكن المكسب الذى حققه الحزب يصبح ضئيلاً إذا ما قورن بقفزة الفاشية من 800 ألف إلى 6.4 مليون صوت. واللافت للنظر أيضاً أن الاشتراكية الديمقراطية وعلى الرغم من خسائر كبيرة، قد حافظت على كوادرها الأساسية وحققت أصواتاً عالمية أكثر بكثير مما حققه الحزب الشيوعى.
وفى الوقت نفسه،إذا سألنا أنفسنا عن أفضل ظروف دولية ومحلية تستطيع تحويل الطبقة العاملة نحو الشيوعية بشكل أسرع، لن نجد ظروفاً أكثر مناسبة لمثل هذا التحول من الوضع الحالى فى ألمانيا… الأزمة الاقتصادية وانهيار الحكام وأزمة البرلمان، والفضح الذاتى الرهيب للاشتراكية الديمقراطية فى الحكم. من زاوية هذه الظروف التاريخية الملموسة، يظل التأثير المحدود للحزب الشيوعى الألمانى، رغم كسب 1.3 مليون صوت، صغير نسبياً.
إن الصفة المميزة الأولى لحزب ثورى حقيقى هى القدرة على النظر إلى الواقع وجهاً لوجه… من أجل ان تؤدى الأزمة الاجتماعية إلى ثورة بروليتارية. من الضرورى أن يحدث هذا بجانب شروط أخرى، تحول حاسم للطبقة البرجوازية الصغيرة فى اتجاه البروليتاريا. وهذا التحول سيعطى البروليتاريا فرصة لتضع نفسها فى مقدمة الأمة لقيادتها. لقد أوضحت الانتخابات الأخيرة، وهنا نرى أهميتها الأساسية، تحولاً فى الاتجاه العكسى. لقد انعطفت البرجوازية الصغيرة، تحت وطأة الأزمة، ليس فى اتجاه الثورة البروليتارية، ولكن فى اتجاه أقصى شكل من الرجعية الإمبريالية وجذبت وراءها قطاعات ليست ضئيلة من البروليتاريا.
إن النمو الضخم للنازية هو تعبير لعاملين:
الأزمة الاجتماعية العميقة التى افقدت جماهير البرجوازية الصغيرة اتزانها وغياب حزب ثورى يمكن أن تعتبره اليوم الجماهير الشعبية القيادة الثورية الحقيقية. إذا كان الحزب الشيوعى هو حزب الأمل الثورى، فإن الفاشية هى ، كحركة جماهيرية، الحزب اليائس المضاد للثورة. عندما تعتنق الجماهير البروليتارية ككل الأمل الثورى فهى تجذب بالضرورة قطاعات واسعة من البرجوازية الصغيرة على طريق الثورة. وبالتحديد فى هذا المجال، قد أوضحت الانتخابات الأخيرة صورة عكسية: فقد اعتنقت جماهير البرجوازية الصغيرة اليأس المضاد للثورة بقوة شديدة لدرجة أنها جذبت وراءها قطاعات كبيرة من البروليتاريا…
الفاشية فى ألمانيا قد أصبحت خطراً حقيقياً، كتعبير حاد للوضع العاجز للنظام البرجوازى والدور المحافظ للاشتراكية الديمقراطية فى النظام والضعف المتراكم للحزب الشيوعى للإطاحة به. إن الذى ينكر ذلك هو إما أعمى أو متبجح".(30)
طرح تروتسكى أن إصلاح الوضع يتطلب أولاً نفض الحزب الشيوعى من تطرفه الراديكالى العقيم. يجب استبدال سياسة "التهديد البيروقراطى" وهى محاولة (لاغتصاب الطبقة العاملة بعد الفشل فى إقناعها) بسياسة مناورات نشطة على أساس سياسة الجبهة المتحدة.
"إن تعبئة أغلبية الطبقة العاملة الألمانية للهجوم هى مهمة صعبة. فكنتيجة لهزائم 1919 و 1921 و 1923 ولمغامرات "الفترة الثالثة" فقد طور العمال الألمان، المرتبطون فوق ذلك كله بتنظيمات محافظة قوية، درجة عالية من التردد والخوف. ولكن على الجانب الآخر فإن التضامن التنظيمى للعمال الألمان، والذى منع بشكل كامل تقريباً حتى الآن دخول الفاشية فى صفوفهم، يفتح المجال لإمكانيات واسعة للنضالات الدفاعية. ويجب ملاحظة أن سياسة الجبهة المتحدة أكثر تأثيراً بشكل عام فى الدفاع عنها فى الهجوم. إن القطاعات الأكثر محافظة أو تخلف يمكن جذبهم بسهولة أكبر للنضال من أجل ما لديهم، من النضال لمكاسب جديدة". (31)
لقد استخدم الستالينيون كل أشكال السفسطة لإبهام المسألة ولتصوير ما كان ذات مرة سياسة الكومنترن على أنه "تروتسكية مضادة للثورة". وقد طرحوا أن الجبهة المتحدة يمكن أن تأتى فقط من أسفل، أى أن الاتفاقيات مع الاشتراكيين الديمقراطيين مرفوضة ولكن الاشتراكيون الديمقراطيون الأفراد يمكنهم المشاركة فى "الجبهة المتحدة الحمراء"- على شرط قبولهم قيادة الحزب الشيوعى!
وقد تم التشجيع المتزايد للوهم القاتل والملخص بشعار "بعد هتلر، يأتى دورنا". وقد أكد تروتسكى كثيراً أن هذه الرؤية هى رؤية السلبية والعجز مقنعة بشعارات راديكالية. وقد عاد مراراً وتكراراً لمسألة الجبهة المتحدة وفضح السفسطة وتجاهل الإهانات والتركيز على المسائل الأساسية كما فى المثال البارع:
"أخذ تاجر ماشية فى مرة عدة ثيران إلى المذبح، وجاء الجزار واقترب بسكينه الحادة واقترح أحد الثيران "لنتضامن معاً ونقتل هذا الجلاد بقروننا". ورد ثور آخر "لو سمحت، كيف يكون الجزار أسوأ من التاجر الذى أتى بنا إلى هنا بنبوته؟" وكان هذا الثور قد حصل على تعليمه السياسى فى مؤسسة مانويلسكى.
وكان الرد "ولكننا سنستطيع التعامل مع التاجر فيما بعد!" غير أن الثيران ردوا فى صوت واحد " لن ينفع هذا… أنت تحاول أن تحمى أعدائنا فى اليسار، أنت نفسك جزار اجتماعى! ورفضوا أن يتضامنوا" من أساطير أيسوب. (32)
ظل الحزب الشيوعى متماسكاً بمنهجه القاتل وجاء هتلر إلى السلطة وحُطمت الحركة العمالية.
 
الجبهة الشعبية والثورة الأسبانية:
دفع انتصار هتلر زعماء الاتحاد السوفيتى للبحث عن "تأمين" من خلال حلف عسكرى مع القوتين الغربيتين المهيمنتين حتى ذلك الوقت-فرنسا وبريطانيا- وإلى دفع الكومنترن بقوة لتبنى سياسات يمينية. وذلك كعامل مساعد للدبلوماسية الستالينية، وكان هذا هو الدور الجديد للكومنترن. وقد أقيم المؤتمر السابع والأخير عام 1935 كبرهان علنى على أن الثورة لم تصبح على الإطلاق مطروحة على جدول الأعمال. وقد نادى المؤتمر بـ "جبهة شعبية متحدة " تناضل من أجل السلام وضد إثارة الحرب. وتضم كل المهتمين بإبقاء السلام.(33)
وقد ضمت قائمة المهتمين بإبقاء السلام، المنتصرون فى 1918: الطبقات الحاكمة الفرنسية والبريطانية، وهم هدف الخط الجديد.
وقد صرحت القيادة التنفيذية للكومنترن فى مايو 1936:
"إن الوضع اليوم ليس ما كان عليه فى 1914، فالآن ليس فقط الطبقة العاملة والفلاحون وكل الجماهير الكادحة هم المصرون على إبقاء السلام ولكن أيضاً الدول المضطهدة والضعيفة التى تهدد الحرب استقلاليتها… وفى المرحلة الحالية هناك عدد من الدول الرأسمالية يهمها أيضاً إبقاء السلام. ولذلك هناك إمكانية لخلق جبهة واسعة من الطبقة العاملة وكل الجماهير الكادحة وأمم بأكملها ضد خطر الحرب الإمبريالية". (34)
إن مثل هذه الجبهة كانت بالطبع دفاع عن الوضع الإمبريالى القائم حينذاك. وكان يجب استخدام لغة إصلاحية بشكل مرن لإخفاء هذه المسألة وهذا ما حدث بشكل ناجح جداً لفترة.
ففى المرحلة الأولى أدى الحماس الجماهيرى للوحدة إلى تحقيق الأحزاب الشيوعية لمكاسب ضخمة:
فقد نمى الحزب الفرنسى من 30 ألف عام 1934 إلى 150 ألف بنهاية 1936 بالإضافة إلى 100 ألف من منظمة الشباب الشيوعى. وقد سلح الأعضاء الجدد ضد انتقادات اليسار بإيمان أن التروتسكيين يعملون كعملاء للفاشية!.
وفى مايو 1935 تم التوقيع على المعاهدة الفرنسية- السوفيتية وبحلول شهر يوليو وصل الحزب الشيوعى والحزب الاشتراكى الفرنسى إلى اتفاق مع الحزب الراديكالى وهو العمود الفقرى للديمقراطية البرجوازية الفرنسية. وفى إبريل 1936 فازت "الجبهة الشعبية" المكونة من الأحزاب الثلاث فى الانتخابات العامة على أساس سياسة "الأمن الجماعى" والإصلاح. ونال الحزب الشيوعى 72 مقعداً وكانت حملته الدعائية على أساس شعار " من أجل فرنسا قوية وحرة وسعيدة" وأصبح جزء أساسى من الأغلبية البرلمانية بقيادة "ليون بلوم" زعيم الحزب الاشتراكى ورئيس وزراء حكومة الجبهة الشعبية. واستطاع "موريس ثوريز"، السكرتير العام للحزب الشيوعى، أن يزعم "أننا حرمنا عدونا بشجاعة من الأشياء التى سرقت منا وسحقت تحت الأقدام. لقد استعدنا نشيد المارسييز وراية الألوان الثلاث". (35)
وعندما استتبع الانتصار الانتخابى لليسار موجة ضخمة من الإضرابات والاعتصامات ( وقد شارك بها 6 ملايين عامل فى يونيو 1936) بذل الأبطال السابقون "للنضال الثورى المتصاعد" جهداً كبيراً لاحتواء الحركة فى أطر ضيقة ولإنهائها على اساس تنازلات "اتفاقية ماتينون" ( أساساً 40 ساعة عمل بالأسبوع واجازات مدفوعة الأجر) وبحلول نهاية العام كان الحزب الشيوعى، والذى أصبح على يمين حلفائه الاشتراكيين الديمقراطيين، ينادى بتوسيع "الجبهة الشعبية" إلى "جبهة فرنسية" من خلال ضم بعض المحافظين اليمينيين المعاديين بشدة للألمان على أسس قومية.
كان الحزب الفرنسى أول المنفذين لهذه السياسات، لأن التحالف مع فرنسا كان مركزياً لسياسة ستالين الخارجية، ولكن سرعان ما تم تبنيها من قبل الكومنترن كله.
وعندما اندلعت الثورة الأسبانية فى يوليو 1936، كرد فعل لمحاولة فرانكو الاستيلاء على السلطة، فعل الحزب الشيوعى الأسبانى، والذى كان جزء من الجبهة الشعبية الأسبانية التى فازت بالانتخابات فى فبراير واستولى على السلطة، كل ما بوسعه للإبقاء على الحركة داخل إطار "الديمقراطية" وقد نجح فى ذلك بمساعدة الدبلوماسية الروسية والاشتراكيين الديمقراطيين بالطبع.
وقد صرح "يسوس هرنانديس"، محرر الجريدة اليومية للحزب:
"من الخطأ تماماً تصور أن هدف الحركة العمالية هو إنشاء ديكتاتورية البروليتاريا بعد انتهاء الحرب… نحن الشيوعيون أول من يرفض هذا التصور.إن ما يحركنا هو فقط الرغبة فى الدفاع عن  الجمهورية الديمقراطية". (36)
ونتيجة لهذا هذا الخط دفع الحزب الشيوعى الأسباني وحلفائه البرجوازيين سياسات الحكومة الجمهورية أكثر فأكثر إلى اليمين. ففى أثناء الحرب الأهلية الممتدة أخرج البوم   (P.O.U.M)  من الحكومة وكان هذا الحزب على يسار الحزب الشيوعى وكان تروتسكى قد انتقده بشدة لدخوله أصلاً فى الجبهة الشعبية وبالتالى تجريد نفسه من قوته السياسية وإعطاء "غطاء " يسارى للحزب الشيوعى ثم للجناح اليسارى للحزب الاشتراكى الأسبانى.
أدى "الدفاع عن النظام الجمهورى مع الدفاع عن الملكية" (37) إلى فترة من الحكم الإرهابى فى الجمهورية الأسبانية ضد اليسار. وهذا ما مهد السبيل، كما طرح تروتسكى، لانتصار فرانكو. وقد كتب فى ديسمبر 1937:
"لقد أظهرت البروليتاريا الأسبانية قدرات عسكرية من الدرجة الأولى. فى وزنها النسبى فى الحياة الاقتصادية للبلد وفى مستواها السياسى والثقافى، وقفت البروليتاريا الأسبانية فى اليوم الأول للثورة فى مستوى أعلى من البروليتاريا الروسية فى بداية 1917. وقد وقفت تنظيماتها كالعقبات الأساسية فى طريقها للنصر. لقد تكونت الفئة المسيطرة من الستالينيين، وفى توافق مع وظيفتهم المضادة للثورة، من مرتزقة ووصوليين وعناصر بلا طبقة وبشكل عام كل أنواع الحثالة الاجتماعية.
أما ممثلى التنظيمات العمالية الأخرى: إصلاحيون بلا إصلاحات، وفوضويين مرددين للشعارات ووسطيوا البوم (P.O.U.M) العاجزون، كل هؤلاء تذمروا وتأهلوا وترددوا وتناوروا ولكن فى النهاية تأقلموا مع الستالينيين. وكنتيجة لنشاطهم المشترك تم إخضاع معسكر الثورة الاجتماعية- العمال والفلاحون، للبرجوازية أو بالأصح لظلها. لقد تم استنزافها حتى الموت وتدمير طابعها.
لم يكن هناك نقصاً فى البطولة من جانب الجماهير أو من جانب الثوريين الأفراد. ولكن  الجماهير تركوا لمبادراتهم الذاتية فى حين ظل الثوريون مفككين وبدون برنامج وبدون خطة عمل. وكان يهم القيادات العسكرية الجمهورية تحطيم الثورة الاجتماعية أكثر من إحراز انتصارات عسكرية. وقد فقد الجنود ثقتهم بقياداتهم وفقدت الجماهير ثقتها فى الحكومة وتراجع الفلاحون وأصبح العمال منهكون، فالهزيمة يتبعها هزيمة ونمى الإحباط سريعاً.
لم يكن هذا كله من الصعب التكهن به منذ بداية الحرب الأهلية فمن خلال وضع الجبهة الشعبية لنفسها مهمة إنقاذ النظام الرأسمالى حكمت على نفسها بالهزيمة العسكرية. ومن خلال قلب البلشفية على رأسها نجح ستالين تماماً فى تنفيذ دور حفار قبر الثورة". (38)
إن المسألة ليست فقط ذات أهمية تاريخية ولكن أيضاً ذات أهمية عملية مباشرة. إن كتابات تروتسكى حول الاستراتيجية والتكتيك فى علاقاتها بهذه القضايا الكبرى هى بالفعل كنز عظيم. ويمكن القول وبدون مبالغة أنه لم ينتج أحد منذ 1923 أعمالاً تقترب حتى من أعمال تروتسكى فى البراعة والعمق وهى بالفعل أعملاً لا غنى عنها للثوريين اليوم.

*********************************************************

الحزب والطبقة

أكد ماركس أن تحرير الطبقة العاملة هو عمل الطبقة العاملة ذاتها، ولكنه طرح أيضاً "أن الطبقات الحاكمة تسيطر على أدوات الإنتاج الذهنى وبالتالى تكون الأفكار المهيمنة فى أى حقبة هى أفكار الطبقة الحاكمة" من هذا التناقض تبرز ضرورة الحزب الاشتراكى، إن طبيعة الحزب، وقبل كل شئ طبيعة علاقته بالطبقة العاملة ظلت مسائلة مركزية فى الحركة الاشتراكية منذ البداية. لم تكن أبداً مجرد مسألة تنظيمية "تقنية" كان الجدل، فى كل مرحلة حول علاقة الحزب بالطبقة، وبالتبعية حول طبيعته أيضاً، جدلاً حول أهداف الحركة، كان الاختلاف حول الوسائل، يتضمن فى جزء منه بالضرورة خلافاً حول الأهداف. هكذا كانت صدامات ماركس مع بردون، وشابير، وبلانك، وباكونين وآخرين حول هذا الموضوع مرتبطة تماماً بالخلافات حول طبيعة الاشتراكية ووسائل تحقيقها.
وإذا نظرنا إلى روسيا، نجد أن الخلاف حول هذا الموضوع بدأ منذ بداية المحاولات لبناء حزب الطبقة العاملة. كانت نظرة تروتسكى الأولى حول الحزب الثورى هى بالأساس ما أطلق عليه فيما بعد "النظرة اللينينية"، والتى كان هو قد طرحها بمعزل عن لينين فى منفاه فى سيبريا فى 1901 (1). على أى حال كان تروتسكى من أوائل مؤيدى "إيسكرا" ووقف مدافعاً عن فكرة منظمة عالية المركزية فى مؤتمر حزب العمال الاشتراكى الديمقراطى الروسى فى 1903.
"إن قواعدنا…تمثل عدم الثقة المنظم من الحزب تجاه كل أقسامه، أى السيطرة التامة على كل المنظمات المحلية ومنظمات المناطق والمنظمات القومية".(2)
وبعد أن أخذ تروتسكى صف المناشفة فى إنشقاق المؤتمر ارتد بعنف عن هذه النظرة، وأصبح فى خلال سنة واحدة أبرز ناقد لمركزية المناشفة. " إن طريقة لينين تؤدى إلى أن تحل مؤسسات الحزب التنظيمية محل الحزب كله وأن تحل اللجنة المركزية محل مؤسسات الحزب، وفى النهاية يأتى الديكتاتور" (3)،هكذا كتب تروتسكى فى 1904.
كان تروتسكى مثل روزا لوكسمبرج، يتخوف من "محافظة الحزب" ويؤكد بشدة على أهمية تحرك الطبقة العاملة العفوية:
"لقد أصبح لدى الأحزاب الاشتراكية الأوربية، وخاصة أقواهم الحزب الألمانى، روح محافظة تنمو وتقوى كلما نما حجم الجماهير المتأثرة بهم، وكلما ازدادت كفاءة التنظيم وانتظام الحزب. ولذا، من الممكن أن تكون الاشتراكية الديمقراطية عقبة فى طريق الصدام المباشر بين العمال والبرجوازية". (4)
للتغلب على هذه المحافظة، اعتمد تروتسكى على المد التلقائى للثورة الذى "يقتل روتين الحزب، ويدمر محافظته" كما كتب بعد ثورة 1905 (5) وهكذا يتقلص دور الحزب إلى الدعاية بالأساس. أنه ليس طليعة الطبقة العاملة.
كانت لتخوفات تروتسكى تلك بالطبع ما يبررها. ففى روسيا من 1905 إلى 1907 حتى الحزب البلشفي أظهر محافظته، وتكرر ذلك فى 1917 (6). وفى الغرب حيث للمحافظة قاعدة مادية أكثر تتمثل في ميزات الأرستقراطيات العمالية، لعبت دورا حاسما ضد الثورة في 1918 - 1919.
أثرت بالطبع تجربة 1905 علي تكوين هذه الآراء، حيث لعب تروتسكى دوراً غير عادي في تلك الثورة كفرد بدون ارتباطات حزبية حقيقية (كان في تلك الفترة منشفياً بالاسم، ولكنه عملياً حراً تاماً) مما عضد فكرته عن كفاية الفعل العفوي الجماهيري.
ولقد ظل في فترة المد الرجعي بعد 1906، وفي فترة تصاعد الحركة العمالية من 1912، ناقدا لـ "استبدالية" البلاشفة، داعيا إلى وحدة كل الاتجاهات، الاقتراح الذي كان بالأساس موجها ضد البلشفية. (قد يكون، هذا قد ساهم في بطئه في اكتشاف أخطار الاستبدالية الحقيقية بعد 1920).
لقد أثبتت الأحداث خطأ موقف تروتسكى في الفترة ما بين 1904 و 1917 كتب تروتسكى أنه بدون لينين ما كانت هناك ثورة أكتوبر، ولكن المسألة لم تكن ببساطة مسألة وصول لينين إلى محطة فنلندا في أبريل 1917. بل كانت مسألة الحزب الذي بناه لينين ومعاونيه عبر السنوات السابقة. إن الميل المحافظ لدى كثير من قادة ذلك الحزب (والذي ساعده بالتأكيد الطرح النظري "الديكتاتورية الديمقراطية" الذي كان لينين قد دافع عنه طويلاً) كان غالبا ما سيمنع الاستيلاء علي السلطة لولا وضع لينين الفريد وإصراره. ولكن بدون الحزب، رغم كل عيوبه لما طرحت المسألة أصلا.إن الحركة الجماهيرية "العفوية" تستطيع إسقاط نظام مستبد.وقد حدث ذلك بالفعل في روسيا في فبراير 1917 وفي ألمانيا والنمسا والمجر في 1918 وقد حدث ذلك عدة مرات منذ ذلك الحين وكان آخرها في إيران.
ولكن تروتسكى غير آرائه في 1917، وانضم إلى الحزب البلشفي، بعدما أثبتت الأحداث أهمية حزب من النمط اللينيني حتى يتسنى للطبقة العاملة ليس فقط إسقاط النظم القائمة ولكن أيضا الاستيلاء علي الحكم.ولم يتنازل تروتسكى عن هذا الرأي بعد ذلك، بل وفي بعض الأحيان صاغه في حدة، حتى أنه في 1932 ، ورداً علي مقولة أن مصالح الطبقة العاملة تأتي قبل مصالح الحزب، كتب يقول:       
"إن الطبقة متروكة بذاتها، هى فقط مادة للاستغلال، إن البروليتاريا تتبوأ دوراً مستقلاً فقط حينما تتحول من طبقة اجتماعية بذاتها إلى طبقة سياسية لذاتها. وهذا لا يمكن حدوثه إلا من خلال حزب. إن الحزب هو الأداة التاريخية التى تستطيع الطبقة من خلالها أن تصبح واعية بذاتها. أن نقول أن "الطبقة تقف أعلى من الحزب" هو أن نقول أن الطبقة الخام تقف أعلى من الطبقة في طريقها إلى الوعي بذاتها. هذا ليس خاطئ فقط، إنه رجعى".(7)
 هذا التصور في الواقع يطرح صعاب عديدة، فلقد أظهرت التجربة التاريخية أن هذه الأداة التاريخية يمكن لها أن تنحط! كيف إذن يتسنى الدفاع عن التنظيم الحزبي.
 
الأداة المشروطة تاريخياً
 كان تروتسكى واعيا  بتلك المشكلة، فلقد شهد انحطاط الأممية الثانية في 1914، والدور المباشر الذي لعبته الاشتراكية الديمقراطية ضد الثورة في 1918- 1919، وبالطبع صعود الستالينية.
 فإذا استكملنا الفقرة أعلاه:
"إن عملية تطور الطبقة تجاه وعيها الطبقي أي بمعنى آخر، بناء الحزب الثوري، عملية معقدة ومليئة بالمتناقضات. فالطبقة ذاتها ليست متجانسة تماما. وشرائحها المختلفة تصل إلى الوعي الطبقي في أوقات وبسبل مختلفة، وتشارك البرجوازية بإيجابية في هذه العملية، فتخلق مؤسسات لها داخل الطبقة العاملة، أو تستخدم مؤسسات موجودة بالفعل، حتى تضرب شرائح وفئات عمالية بأخرى. هكذا تتصارع داخل البروليتاريا أحزاب عديدة في نفس الوقت، لذا نجد البروليتاريا منقسمة سياسيا  في الشوط الأعظم من مشوارها السياسي، ومن هنا بالضبط تنبع إشكالية "الجبهة المتحدة" التي تبرز بحدة على السطح، في بعض الأحيان تجد المصالح التاريخية للبروليتاريا تعبيرها في الحزب الشيوعي (عندما تكون سياساته صحيحة) وتكمن مهمة الحزب الشيوعي في كسب أغلبية البروليتاريا هكذا فقط تكون الثورة الاشتراكية ممكنة، ولا يمكن للحزب الشيوعي تحقيق مهمته إلا عن طريق الحفاظ على استقلاليته السياسية والتنظيمية عن الأحزاب والتنظيمات الأخرى داخل وخارج الطبقة العاملة، والتعدي على هذا المبدأ الأساسي في الماركسية هو اقتراف لأفظع الجرائم ضد مصالح البروليتاريا كطبقة.. لكن البروليتاريا لا تقترب من الوعي الثوري من خلال اجتياز الامتحانات المدرسية، بل من خلال معترك الصراع الطبقي، الذي يجب أن تمتلك فيه البروليتاريا وحدة الصف حتى تستطيع القتال. وهذا يسرى على مستوى صراع اقتصادي جزئي بين حوائط مصنع واحد، كما على الصراعات السياسية "القومية" كالنضال ضد الفاشية. ولذا فتكتيك "الجبهة المتحدة" ليس اصطناعيا أو من قبيل الصدفة على الإطلاق، إنه ينبع كليا من الظروف الموضوعية التي تحكم تطور البروليتاريا.(8)
 هذا التحليل الواقعي المتماسك لم يكن بالطبع تعميما  سوسيولوجيا أبديا، وإنما تحليل يضرب بجذوره في التطورات التاريخية الواقعية. وقد ساعدت أحزاب الأممية الثانية، في وقت ما، على خلق:
"تلك القلاع من الديمقراطية العمالية (المنظمات العمالية، وبخاصة النقابات) داخل الدولة البرجوازية... الضرورية من أجل مسار الثورة.
إن عمل الأممية الثانية يتمثل بالضبط في خلق تلك القلاع في الحقبة التاريخية التي كانت لازالت فيها تؤدى دورا  تقدميا  تاريخيا" (9).
 كانت أحزاب الأممية الثانية قد استسلمت لبرجوازياتها أمام اختبار الحرب العالمية الأولى (باستثناء البلاشفة والبلغاريون والصرب)، أو اتخذت مواقف "وسطية" (كالإيطاليين والاسكندنافيين والأمريكيين) ومن هذا الاستسلام، ومن الأزمات الانشقاقات التي ولدها، ومن مد المعارضة العمالية المتصاعدة للحرب بعد 1916، ومن ثورات 1917، 1918، نشأت الأممية الشيوعية، "الاستمرار المباشر للمحاولات الهائلة والاستشهاد البطولي لسلسلة طويلة من الأجيال الثورية من بابوف إلى كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورج" (10).
 أصبحت هذه الأممية الشيوعية الآن "الأداة التاريخية التي تستطيع الطبقة من خلالها أن تصبح واعية بذاتها". وقد اقترفت أحزاب الأممية الشيوعية منذ 1923 أخطاءً جسيمة (لم يكن تروتسكى بالطبع غافلاً عن أخطائهم السابقة)، واتبعت سياسات انتهازية أو انفصالية تحت قيادة ستالين والنخبة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي. على الرغم من ذلك كانت الأممية حقيقة واقعية وليست فرضا  نظريا، لها تأييد أو تعاطف الملايين في العالم. ورغم التناقض الظاهري فإن تلك المساوئ ذاتها تدل على أنها كانت حقا منظمة جماهيرية، فلم يعتقد تروتسكى بتلك الرؤية التبسيطية لأحزاب الكومنترن على أنها فقط أدوات بأيدي البيروقراطية الستالينية، المشكلة هي تصحيح مسارها. "كل الأنظار إلى الحزب الشيوعي، يجب أن نشرح له يجب أن نقنعه".(11)
وكضرورة سياسية ، يجب أن يكون النظام الداخلي للحزب ديمقراطيا :
"النضال الداخلي يدرب الحزب وينير له الطريق. من هذا النضال يكتسب كل الأعضاء ثقة عميقة بصحة سياسات الحزب وبجدارة القيادة.
"إن هذه الثقة من الأعضاء العاديين، والمكتسبة من خلال الممارسة والصراع الأيديولوجي هو الذي يعطى القيادة الفرصة لقيادة الحزب كله في ميدان المعركة في اللحظة الضرورية، فقط ثقة عميقة من الحزب نفسه بصحة سياساته تعطى الجماهير العاملة الثقة بالحزب. ما يشل حركة الحزب الشيوعي الأسباني الآن .. هو الانشقاقات المصطنعة من خارجه وغياب صراع أيديولوجي نزيه وحر".(12)
 هكذا كتب تروتسكى في 1931، وتنطبق المقولة بشكل عام. ولكن المسألة لم تكن بهذه البساطة، فبعد طرده من الاتحاد السوفيتي بقليل في 1929، أوضح تروتسكى ما اعتبره المسائل الأساسية لمؤيدي المعارضة اليسارية في أوروبا (المواقف من اللجنة النقابية الإنجليزية الروسية، الثورة الصينية، ومن الاشتراكية في بلد واحد).
"قد يتعجب بعض الرفاق أنى أتجاهل ذكر مسألة نظام الحزب، لكنى أفعل ذلك عن عمد، فنظام الحزب ليس له معنى مستقل مكتف بذاته، وإنما ينبع من سياسة الحزب، إن عناصر مختلفة عدة تتعاطف مع النضال ضد البيروقراطية الستالينية... بالنسبة لماركس، الديمقراطية داخل حزب أو داخل دولة ليست شيئا مجردا. الديمقراطية مشروطة دائما بصراع القوى. البيروقراطية تعنى عند العناصر الانتهازية المركزية الثورية، وبالطبع لا يمكن أن يكون هؤلاء رفاقنا في التفكير".(13)
 من الممكن من خلال كتابات تروتسكى بعد 1917، أن تبرز كتابات تؤكد على الديمقراطية داخل الحزب وتدين الإجراءات "الإدارية" ضد النقد، وكتابات أخرى تؤكد ضرورة التطهير والاستبعاد. المسألة ليست استقطاع جمل خارج سياقها، بل إن العلاقة بين الديمقراطية والمركزية بالنسبة لتروتسكى لم تكن علاقة ثابتة. لقد كانت القضية هي المضمون السياسي لكليهما في أي مرحلة. كتب تروتسكى نحو نهاية 1932:
"إن مبدأ ديمقراطية الحزب ليس على أي وجه مطابقا  لسياسات الباب المفتوح. لم تطلب المعارضة اليسارية إطلاقا من الستالينيين أن يحولوا الحزب إلى حاصل جمع ميكانيكي للأجنحة والجماعات والأفراد. نحن نتهم البيروقراطية "الوسطية" بتبني سياسة خاطئة، تضعهم في كل خطوة في تناقض مع زمرة البروليتاريا، ثم البحث عن مخرج لذلك التناقض عن طريق خنق الديمقراطية الحزبية".(14)
 قد يبدو هذا ملتبسا. وهو ملتبس بالفعل بالمعيار الصوري البحت، إن حل التناقض يكمن في ديناميات تطور الحزب. آمن تروتسكى أن الحزب لا يمكن أن ينمو (بمعيار التأثير الجماهيري وليس النمو العددي فقط) إلا من خلال علاقة تبادلية، عملية تفاعل، مع شرائح متزايدة من العمال. ومن أجل هذه العملية فإن ديمقراطية الحزب الداخلية أساسية ولا يمكن الاستغناء عنها، فهي وسيلة اكتساب الحزب، لخبرات الطبقة وهذا التطور ليس ممكنا  دائما، فكثيرا ما تعوق العوامل الموضوعية مثل ذلك التطور ولكن يجب أن يكون الحزب متهيئا حتى يمكن له اقتناص الفرص التي تسنح من وقت لآخر.
 لذلك يجب أن يكون النظام الداخلي مفتوح ومرن بقدر الإمكان في كل الأوقات، بما يتمشى مع الحفاظ على وحدة الحزب الثورية. إن هذا الشرط هام، فقد تضعف الظروف الارتباط بين الحزب وشرائح العمال المتقدمين وبذلك تزيد مشكلة "الأجنحة، والجماعات والفئات"، مما يعيق تطور الديمقراطية الداخلية كما فهمها تروتسكى، بالأساس كآلية من خلالها يرتبط الحزب بشرائح متزايدة من العمال، يتعلم منهم وفى ذات الوقت يكتسب حق القيادة.
 ولتجسيد الأطروحة لننظر إلى هذه الفقرة من تاريخ الثورة الروسية التي يتناول فيها تروتسكى عزلة لينين عن أغلبية قيادة الحزب بعد ثورة فبراير.
"وجد لينين في موقفه ضد البلاشفة القدامى (في إبريل 1917) التأييد من شريحة أخرى في الحزب أكثر حداثة وأكثر ارتباطا  بالجماهير.
في ثورة فبراير، كما نعلم، لعب البلاشفة العمال الدور الحاسم، لقد رأوا من البديهي، أن الطبقة التي فازت بالنصر يجب أن تستولي على السلطة.. في كل مكان تقريبا  أتُهمَ  البلاشفة اليساريون بالتطرف، وحتى بالفوضوية. هؤلاء العمال الثوريون افتقدوا فقط المرجع النظري، للدفاع عن آرائهم، ولكنهم كانوا مستعدين لإجابة النداء الواضح الأول. على هذه الشريحة من العمال التي قامت على القدمين في سنوات صعود 1912- 1914، كان لينين يستند (15).
 يتكرر هذا النموذج مرة بعد أخرى في كتابات تروتسكى. إن حزبا جماهيريا، على غير الحلقات السياسية، يصطدم بقوى شديدة خاصة في الظروف الثورية، هذه القوى حتما ما تجد تعبيرا عنها داخل الحزب أيضا، وحتى يظل الحزب على مساره (عمليا، حتى يصحح هذا المسار باستمرار في الموقف المتغير) فإن العلاقة المركبة بين القيادة والمستويات المختلفة من الكوادر والعمال الذين يؤثرون عليهم ويتأثرون بهم تعبر عن نفسها، يجب أن تعبر عن نفسها كصراع سياسي داخل الحزب. ولو أن هذه العملية خنقت بالوسائل الإدارية لأضاع الحزب طريقه.
 إن من وظائف القيادة الثورية (تلك القيادة التي تكونت عن طريق الانتقاء من الصراعات السابقة) التي لا غنى عنها أن تعرف متى تغلق أبواب الحزب حتى تحافظ على صلب المنظمة من التفكك نتيجة للضغوط الخارجية غير المواتية -أن تشدد على المركزية- ومتى تفتح المنظمة وتعتمد على شرائح من العمال المتقدمين داخل الحزب وخارجه للتغلب على روح المحافظة لدى بعض أقسام الكادر والقيادة. أن تؤكد على الديمقراطية  وذلك لتُعَدل من المسار بسرعة.
كل هذا يتضمن فهما  مُعَظماً  لدور القيادة، وذلك بالضبط ما فعله تروتسكى بعد 1917، فكان ليؤكد في 1938، أن الأزمة التاريخية للإنسانية يمكن أن تلخص إلى أزمة القيادة الثورية.
 ومع هذا فقد كان فهما  للتطور العضوي للكادر القيادي بالارتباط مع تجارب الحزب في الصراع الطبقي الواقعي. بالطبع، يجب أن يُجَسد الكادر القيادي تراث وخبرات الماضي (من بابوف إلى كارل ليبكنخت)، ومعرفة بالإستراتيجية والتكتيك الذي اختبر في بلاد عدة في أوقات مختلفة على مدى سنين، لم يكن تروتسكى ليقلل أبدا  من شأن تلك المعرفة التي كانت نظرية في غالبها، إلا أنها كانت بالنسبة لتروتسكى عامل ضروري للقيادة الناجحة ولكنه ليس كافيا. فتجارب الحزب من الصراع ومن علاقته المتغيرة بقطاعات مختلفة من العمال، هي العامل الإضافي الذي لا يمكن الاستغناء عنه والذي يتطور فقط بالممارسة.
 
التناقض
 في حياة تروتسكى كان حزب شيوعي وحيد - الحزب الموجود في الاتحاد السوفيتي - يسيطر على السلطة بالإضافة إلى المناطق التي سيطر عليها الحزب الشيوعي الصيني في الثلاثينات ولقد صَنف تروتسكى كل الأحزاب الشيوعية في تلك الفترة كمنظمات "بيروقراطية وسطية" تتأرجح ما بين السياسات الثورية والإصلاحية. وبعد 1935 مع خط "الجبهة الشعبية" توصل إلى أنهم أصبحوا اشتراكيين وطنيين "الأيادي الصفراء للرأسمالية المتعفنة".(16)
 ولكن كل هذه التوصيفات تشير مع ذلك إلى منظمات عمالية، إلى أحزاب تتنافس مع أخرى، على كسب التأييد بين حركات الطبقة العاملة، إلا أن الحزب الشيوعي السوفيتي بالتأكيد بعد 1929 إن لم يكن أسبق، توقف عن كونه حزبا على الإطلاق بهذا المعنى. لقد كان جهازا  بيروقراطيا، أداة استبدادية شمولية، ولقد سلم تروتسكى بذلك جزئيا، كما كتب في 1930 : "إن الحزب السوفيتي كحزب لم يعد موجودا  اليوم. إن الجهاز الوسطى قد قام بخنقه".(17)، ولكنه مع ذلك أكد أن الحزب السوفيتي يختلف جوهريا ونوعيا عن الأحزاب العمالية خارج الاتحاد السوفيتي.
 وحتى بعدما فقد تروتسكى الأمل (أكتوبر 1933) في إصلاح سلمى للنظام في الاتحاد السوفيتي ظل هذا اللبس، وبالطبع فإن هذا التناقض كان مرتبطا  تماما  باعتقاده أنه حتى وإن كان الإصلاح مستحيلا، يبقى الاتحاد السوفيتي دولة عمالية، وإن كانت منحطة.
 زادت أهمية وتعقد هذا اللبس، بظهور دول ستالينية عديدة، بعد وفاة تروتسكى، بدون ثورات عمالية، يحكمها "أحزاب شيوعية"، من الواضح أنها ليست أحزابا عمالية بمفهوم تروتسكى وكانت بذرة التناقض موجودة في موقف تروتسكى بعد 1933.
 
انقطاع الخيط
 كما رأينا فإن مفهوم تروتسكى الناضج للعلاقة بين الحزب والطبقة لم يكن مجرداً أو اعتباطياً، لكنه اعتمد على تجارب البلشفية في روسيا وعلى التطورات التاريخية الواقعية التي أدت إلى أحزاب شيوعية جماهيرية في عدد من البلاد المهمة.
 ولكن لماذا إذن ذهبت هذه التطورات أدراج الرياح؟ لماذا إذا فشلت "الأداة المشروطة تاريخيا" في الاختبار؟ فكر تروتسكى في هذا الاحتمال، ولكن فقط ليرفضه بحزم، فكما كتب في 1931:
"دعونا نأخذ مثالا آخر لتوضيح أفكارنا: يدعى هوجو أوربانز - الذي يعتبر نفسه شيوعي يساري- إفلاس الحزب الألماني، ويدعو لخلق حزب جديد. لو كان أوربانز محقا، فإن هذا يعنى أن انتصار الفاشية مؤكد. فمن أجل خلق حزب  جديد يحتاج إلى سنوات عديدة (ولم يبد ما يدل على أن حزب أوربانز سيكون على أي نحو أفضل من حزب تيلمان: عندما كان أوربانز على رأس الحزب، لم تكن الأخطاء بأي معيار أقل). نعم لو أن الفاشيين استولوا على السلطة فسيعنى هذا ليس فقط التدمير المادي للحزب، ولكن الإفلاس السياسي بحق أيضا... إن استيلاء الفاشيين على السلطة سيعنى ضرورة خلق حزب ثوري جديد، وعلى أغلب الاحتمالات أممية جديدة أيضا، وسيكون ذلك كارثة تاريخية مخيفة. أما القول بأن كل هذا أمر محتوم، فهو عمل الصوفيين الذين يعجلون بالاستسلام والخنوع في وجه الصراع مختبئين تحت عباءة الشعارات الجوفاء.. نحن واثقون بإمكانية الانتصار على الفاشيين، ليس بعد قدومهم إلى السلطة، وليس بعد خمسة عشرة أعوام أو بعد عشرين عاما ولكن الآن، تحت الظروف المعطاة، في الشهور والأسابيع القادمة".(18)
 ولكن هتلر أتى بالفعل إلى السلطة، وبغض النظر عن قوة إقناع وبريق أطروحات تروتسكى، فلقد توجه الحزب الألماني سريعا بالربع مليون من أعضائه، والستة ملايين صوت (في 1932) إلى مساره المهلك. لقد تحطم، بدون مقاومة، إلى جانب "الاشتراكيين الفاشيين"، والنقابات، وكل المنظمات السياسية والثقافية والاجتماعية التي خلقتها الطبقة العاملة الألمانية في الستين سنة السابقة.
 في 1931 كتب تروتسكى يصف ألمانيا بأنها "مفتاح الوضع الدولي...على تطورات الأزمة في ألمانيا يعتمد ليس فقط مصير ألمانيا (وهذا وحده شيء جسيم) ولكن مصير أوروبا ، مصير العالم لسنوات عديدة".(19)
 وكان هذا تنبؤاً دقيقاً: فلقد غيرت هزيمة الطبقة العاملة الألمانية السياسة العالمية. وكان فشل الحزب الشيوعي حتى في محاولة المقاومة ضربة بنفس قوة استسلام الاشتراكية الديمقراطية في 1914.
 ماذا يتبقى إذن من "الأداة التاريخية التي تستطيع الطبقة من خلالها أن تصبح واعية بذاتها". لقد جاهد تروتسكى منذ 1933 حتى وفاته في أغسطس 1940 في محاولة حل معضلة ثبت أنه لا حل لها ، في ذلك الوقت في يونيو 1932 كتب:
"يريد الستالينيون باضطهادهم لنا الدفع بنا على طرق حزب آخر ثاني وأممية رابعة وهم يعرفون أن خطئا  قاتلا  كهذا من المعارضة سيبطئ نموها لسنوات، إن لم يقض على نجاحاتها بالكامل".(20)
 وبعد أقل من سنة اضطر تروتسكى إلى أن يقر أولا، بأن الحزب الشيوعي الألماني قد انتهى، ثم وبعد أن أعلنت اللجنة التنفيذية للكومنترن في إبريل 1933 أن سياستها في ألمانيا كانت "صحيحة تماما" أقر بأن جميع الأحزاب الشيوعية قد انتهت كمنظمات ثورية وأن ما يحتاج إليه هو "أحزاب شيوعية جديدة وأممية جديدة" (عنوان مقال في يوليو 1933).
 كانت الوصلة بين النظرية والممارسة قد قطعت. اعتمد تروتسكى قبل 1917 على تحركات الطبقة العاملة التلقائية لمحاربة محافظة الحزب. وبعد 1917 أكد على الحزب العمالي الثوري كالأداة التي لا يمكن الاستغناء عنها للثورة الاشتراكية، إن غياب أحزاب من ذلك الطراز متجذرة في الطبقة العاملة، ولها كوادر ثورية ناضجة ذات خبرة، أدى إلى مأساة الحركات الثورية الجماهيرية في ألمانيا والنمسا والمجر، ونضالات تلقائية في أماكن أخرى عديدة في 1918-1919. وكانت وسائل تلافى هذا النقص -أحزاب الأممية الشيوعية- قد انحطت في ذلك الوقت إلى مستوى أنهم أصبحوا عقبة في طريق الحل الثوري لأزمات اجتماعية عميقة جديدة.
 كان لابد من البدء من جديد، ولكن ماذا تبقى للبدء به؟ بالأساس لم يكن هناك إلا بعض المجموعات الصغيرة المنفصلة عن الحركات الحقيقية للطبقة العاملة وعن الاشتراك المباشر في النضالات العمالية.
 كان الاستثناء الجزئي لهذا الوضع العام وهى تلك المجموعات التي كان أعضاؤها بالمئات والآلاف وليس بالعشرات، هي تنظيمات في اليونان وهولندا وأسبانيا(البوم) ولكن هذه التنظيمات أثبتت ضعفها ووسطيتها وبالتالي كانت تشكل.
 بدأ تروتسكى في إعادة البناء بهذه القوى الضئيلة. لم يكن لديه اختيار إلا إذا اعتبرنا السلبية اختيار(أو تلك السلبية المسماة بالماركسية الغربية أو الأكاديمية) ولكن هناك تداخل حتمي بين الوسائل والأهداف. فبدون صلات حقيقية بالطبقة العاملة بدأت التروتسكية، حتى في حياة تروتسكى، في التأقلم مع جمهورها الواقعي وهو القطاعات الراديكالية من مثقفي البرجوازية الصغيرة. وقد حارب تروتسكى، كما سنرى حرباً طويلة ضد هذا التأقلم ولكن في نفس الوقت أدت ضرورات الوضع القاسية إلى تبنيه لمواقف ساعدت على الرغم من إرادته وفهمه في نمو هذا الاتجاه.
 
الأممية الجديدة
"لو أن اليسار الشيوعي في العالم كله يتكون من خمسة أفراد فقط، لكان لزاما عليهم أن يشرعوا في بناء منظمة دولية في ذات وقت بناء منظمات وطنية. إنه من الخطأ أن ينظر إلى المنظمات الوطنية على أنها حوائط وإلى المنظمة الدولية على أنها السقف فالعلاقة هنا مختلفة تماما. بدأ ماركس وإنجلز الحركة الشيوعية بوثيقة أممية في 1847 وبخلق حركة أممية، تكرر نفس الشيء في خلق الأممية الأولى وأيضا  يسار زمرفالد في التحضير للأممية الثالثة. واليوم يفرض علينا هذا الطريق نفسه بقوة أكثر من أيام ماركس، فمن الممكن بالطبع في مرحلة الإمبريالية أن تنشأ حركة عمالية ثورية في بلد أو أخرى لكنه من المستحيل أن تتطور في بلد واحد منعزل، في اليوم التالي لتكوينها يجب عليها أن تبحث عن وتخلق صلات دولية، لأن الضامن لصحة السياسات الوطنية لا يمكن إلا أن يكون في هذا الطريق. أما إذا أغلقت حركة ما على نفسها وطنيا  فإنها تحكم على نفسها بالانحطاط بلا رجعه".(21)
 كتب تروتسكى ذلك حين كان يعتقد بإمكانية إصلاح الأحزاب الشيوعية الموجودة، وكان يطرح جناح عالمي، مبنى على الأممية الموجودة. إن منطق ذلك، على عكس الحجج التي بنى عليها، لا دحض لها. أما الحجج فإنها لن تتماسك أمام الاختبار النقدي. فماركس وإنجلز لم يبدءا بـ "خلق حركة أممية". والبيان الشيوعي كتب لعصبة شيوعية كانت موجودة بالفعل (بالرغم من بدائية أفكارها الشيوعية)، وكانت أممية فقط بمعنى تواجدها في عدد من البلدان، لقد كانت بالأساس منظمة ألمانية، تتكون من حرفيين ومثقفين ألمان مهاجرين إلى باريس  وبروكسل وأماكن أخرى، بالإضافة إلى مجموعات أخرى بمنطقة الراين وسويسرا الألمانية.
 والأممية الأولى بدأت كتحالف بين منظمات نقابية إنجليزية تحت تأثير ليبرالي وأخرى فرنسية تحت تأثير برودونى، وفيما بعد اجتذبت تجمعات بصفات أخرى ومن جنسيات مختلفة، وبعيدا  عن تكرار تجربة العصبة الشيوعية تطورت الأممية الأولى على عكس المسار، بدون قاعدة برنامجية أساسية وبدون تنظيم مركزي. ونفس الشيء ينطبق، وإن بدرجه أقل، على الأممية الثانية، والتي لم يذكرها تروتسكى هنا.
وحتى الإشارة إلى يسار زيمرفالد لن تتماسك أمام الفحص، فيسار زيمرفالد (علي خلاف تيار زيمرفالد ككل) لم يتكون إلا من الحزب البلشفي كحزب جماهيري قوي، بالإضافة إلي أفراد معدودين معزولين بدرجة أو بأخرى (داد ليتواني، كارل راديك البولندي، مندوبان سويدان، وجوليان بوركارد مندوب مجموعة صغيرة، الاشتراكيون الأمميون الألمان) (22).
 [ومع ذلك كله، فلم يكن لتروتسكى خياراً. لم يكن له في ذلك الحين أية قاعدة في أية حركة عمالية، وكانت كل اتصاله بمؤيديه في الاتحاد السوفيتي قد قطعت في ربيع 1933.(32) لقد كانت المسألة بالنسبة له هي تجميع، كل ما يستطيع، أينما وجد، لخلق تيار سياسي. وعلاوة علي ذلك. فإن حجته عن أهمية وجود منبر دولي، تحليل مشترك لقضايا الحركة العمالية، لا يمكن دحضها، ذلك ما قدمه تروتسكى، ولكن اللبس بين الأفكار والتنظيم، بين التيار السياسي والحزب العالمي كان قد ظهر. وفي خلال بضعة سنوات، كان تروتسكى قد أسقط ضمنيا  مفهومه عن الحزب "الأداة التاريخية التي تصبح الطبقة من خلالها واعية بذاتها" ودشن أممية بدون أية قاعدة، ذات أهمية، في أية حركة عمالية.
 بحث تروتسكى فى البداية عن قوي جديدة، ولكن المجموعات التروتسكية كانت صغيرة ومعزولة بقوة الستالينينة ومحصورة في وجودها الاجتماعي في فئة إنتلجنسيا البرجوازية الصغيرة.
 كيف كان يمكن الخروج من ذلك المأزق، كيف كان يمكن بلترة التروتسكية وجذب أعدادا واسعة من العمال، لبناء أحزاب شيوعية جديدة ؟. لقد كان هناك صعاب هائلة في ذلك الطريق. فلقد كان من الآثار البعيدة المدى للهزيمة في ألمانيا هو خلق شعور عام بين مناضلي الحركة العمالية بأهمية الوحدة، حتى أن الدعوة إلي أحزاب جديدة، أي انشقاقات جديدة، كانت تقع عليهم وقوعها علي الأرض الصخرية. كان تروتسكى رائد الدعوة إلي الجبهة العمالية المتحدة ضد الفاشية، ولكن ما أن بدأت هذه الدعوة تكتسب أرضية في الأحزاب الاشتراكية بعد 1933 (وبعد قليل في الأحزاب الشيوعية أيضا)، حتى ظهر أنصار تروتسكى كانشقاقيين، لقد كانوا يدعون إلي أحزاب جديدة وأممية جديدة. وهكذا وطدت عزلتهم.
 وبعدما فشلت محاولات أولية للالتقاء مع تجمعات "وسطية" ويسارية إصلاحية عديدة (كان نتاجها كتابات غنية لتروتسكى في السجال ضد الوسطية)، أقترح تروتسكى خطوة خطيرة وهى الدخول في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية.
 وللدقة، فإن تلك الخطوة طرحت فقط لحالات معينة - في البداية فرنسا (ومن هنا أتت تسميته "المنعطف الفرنسي") - ولكنها عممت في التطبيق. كانت الحجة هي أن الاشتراكيين الديمقراطيين يتجهون إلي اليسار وهكذا يخلقون مناخ أفضل للعمل الثوري، وأنهم يجذبون شرائح جديدة من الطبقة  العاملة وهكذا يمثلون مناخا بروليتاريا  أكثر بما لا يدعو للمقارنة من مجال الحركة المتوفر للمجموعات التروتسكية المعزولة.
 كانت النظرة الأساسية إلي هذه العملية علي أنها خطوة قصيرة الأجل: الدخول في تلك الأحزاب، ثم صراع عنيف مع الوسطيين والإصلاحيين، ثم الانشقاق وخلق الحزب. "إن الدخول في حزب إصلاحي أو وسطي في حد ذاته لا يشمل منظور طويل الأمد. إنها فقط مرحلة يمكن أن تختصر تحت ظروف معينة إلي واقعة عرضية" (24).
 ولكن تلك العملية أخفقت في تحقيق هدفها الإستراتيجي، فلقد فشلت في تغيير ميزان القوي وفي تحسين التكوين الاجتماعي للمجموعات التروتسكية. كانت الأسباب الرئيسية للفشل هي عواقب الهزيمة الألمانية وتحول الكومنترن أولا  إلي الجبهة المتحدة (1934) ثم إلي  الجبهة الشعبية (1935) ونتائجها التي أدت إلى الانزلاق لليمين للحركة العمالية بأسرها. بالإضافة إلي ذلك، كانت حملة ستالين ضد تروتسكى قد نجحت في تصوير تروتسكى ومؤيديه علي أنهم عملاء للفاشية.
 ببساطة فإن الظروف التي جعلت بإمكان الثوريين أن يكسبوا أحزاب وسطية جماهيرية متجهة يسارا  مثل الحزب الألماني وأغلبية الاشتراكيين الفرنسيين في 1919 - 1920، لم يكن لها أي وجود في 1934 - 1935. إن تأثير أي أخطاء ارتكبها تروتسكى ومؤيدوه أثناء المنعطف الفرنسي تصبح تافهة إذا ما قورنت بتأثير الأوضاع غير الملائمة.
 ولكن بعض الفوائد المفترضة من ذلك التكتيك قد تحققت، فمثلا  القطع مع كثير ممن دعاهم تروتسكى "الانشقاقيين المحافظين" الذين لم يستطيعوا التوافق مع السياسة النشطة
نحو أواخر 1933 كتب تروتسكى :
"لا تستطيع منظمة ثورية أن تتطور بدون تطهير نفسها، بالذات تحت ظروف العمل القانوني حين يحدث أن يتجمع تحت لواء الثورة عناصر غريبة ومنحطة... نحن علي أبواب منحني ثوري هام. وفي تلك اللحظات تصبح الانشقاقات والأزمات الداخلية محتومة. أن الخوف منها يساوي استبدال السياسة الثورية بعاطفية البرجوازية الصغيرة والمخططات الشخصية.
إن العصبة (المجموعة التروتسكية الفرنسية) تمر بأول أزمة تحت معايير ثورية واضحة، وتحت هذه الظروف يصبح انشقاق جزء من العصبة خطوة عظيمة إلي الأمام. سوف تطرح جانبا  كل ما هو مريض. كسيح وعقيم، وسوف تعطي درسا لكل العناصر المترددة المائعة، وتزيد من صلابة القسم الأفضل من الشباب. سوف تحسن من مناخ العمل، وتفتح أمام العصبة آفاقا  جديدة وعظيمة.(25)
 بدون شك كان كل هذا صحيحا علي مستوي المبدأ، وعمليا  تم ضم عناصر جديدة من منظمات الشباب الاشتراكية لتحل محل أولئك الذين تم استبعادهم (أو بالأحرى تساقطوا) ولكن رغم ذلك ظل ميزان القوي علي حاله - ضعف اليسار الثوري الشديد. ماذا إذن؟
 دفع تروتسكى في طريق إنشاء الأممية الرابعة، بعد أن كان قد كرر مرارا  أن ذلك لا يمكن أن يكون هدفا  مباشرا بسبب عدم وجود القوى التي يمكنها تحقيق ذلك. فحتى 1935 كان يهاجم الفكرة السخيفة القائلة بأن  "التروتسكيين يريدون أممية رابعة الخميس القادم"، وفي أقل من سنة كان يطرح إنشاء الأممية الجديدة.
 في ذلك الحين لم يستطع إقناع مؤيديه، لكن بحلول 1938 كان قد جذبهم إلي صفه. كانت القوى الملتصقة بالأممية الرابعة في 1938 أضعف من تلك الموجودة في 1934 (باستثناء حزب العمال الاشتراكي الأمريكي)، وكانت الثورة الأسبانية قد خنقت. برر تروتسكى موقفه بتراجع جزئي إلى شبه العفوية التي كان يدعو  إليها قبل 1917، وبالتشبه بموقف لينين في 1914.
 كتب تروتسكى في 1938 :
"إننا نري بجلاء أكثر من منتقدينا الفجوة ما بين قوتنا وأهدافنا الحالية، ولكن الجدلية المأساوية القاسية لهذه المرحلة تعمل لصالحنا. فعندما تصل الجماهير إلي أقصي درجات السخط والنقمة لن تجد بديلا  لقيادة الأممية الرابعة"(27).
لقد أثبتت دروس أعوام 1917 إيجابياً، و 1918 - 1919 سلبياً وقبل كل شيء دروس الثورة الأسبانية فى 1936 ، أنه لا غني عن أحزاب ثورية متجذرة في الطبقة العاملة من خلال الصراع الطويل حول مطالب جزئية، وكان تروتسكى يدرك ذلك جيدا، لكنه الآن وبسبب غياب تلك الأحزاب، ولأن هذه الأحزاب لم تكن موجودة والحاجة لها كانت شديدة الإلحاح تبنى تروتسكى رؤية أن انفجار  الثورة نفسه سيخلق من الحركة الغاضبة والعفوية للجماهير هذه الأحزاب طالما رفعت راية ثورية نقية. وسيرفع الانفجار العفوي خلال الحرب و بعدها بقليل قيادات فصائل الأممية الرابعة المعزولة وقليلة الخبرة إلى قيادات أحزاب جماهيرية.
أما عن التشبه بموقف لينين في 1914 عندما أعلن "إن الأممية الثانية قد ماتت، فلتحيا الأممية الثالثة" فلقد كان خطئاً مزدوجا،  فلينين عندما أعلن ذلك كان بالفعل أقوي القادة لحزب جماهيري حقيقي في دولة كبيرة، على الرغم من ذلك لم يفكر لينين بإنشاء الأممية الثالثة إلا بعد سنه ونصف من ثورة أكتوبر عندما كانت هناك حركة جماهيرية ثورية متصاعدة في أوربا. إن تجاهل تروتسكى لكل ذلك هو نتيجة لإرادته الثورية الشديدة ولكن النتيجة السياسية لذلك كان التشوش والتخبط لأتباعه عندما حدث بعد موت تروتسكى صعود حقيقي للجماهير ولم يتمكنوا من التأثير فيه بسبب عزلتهم وصغر حجمهم وأدى ذلك أيضاً إلى الصعوبة الشديدة التي واجهوها في تطوير توجه ثوري واقعي.
 كان هناك عنصراً ذاتياً غاية فى الأهمية في رؤية تروتسكى في تلك الفترة ، التى شهدت صعود الفاشية وتراكم هزائم الحركة العمالية . ففي موقفه شديد الصعوبة ووجود حرب عالمية جديدة علي الأبواب، كان يجب رفع لواء الثورة والتأكيد علي البرنامج الشيوعي إلي أن تقوم الثورة بإعادة ترتيب الأوراق.
 من الجائز أنه كان يستحيل عليه أن يحفظ تماسك أتباعه إلا بتبنى مثل هذا التوجه، وإذا كان الأمر كذلك فلقد كان انحرافاً ضرورياً عن أفكاره الناضجة، ولكن العواقب مع هذا كانت حقيقية.

*********************************************************

الإرث

 إن جوهر التراجيديا، كما كتب تروتسكى ذات مرة، هو التفاوت بين الأهداف العظيمة والوسائل الضئيلة. مهما يمكن القول عن هذا التعميم فإنه بالتأكيد يلخص محنة تروتسكى في السنوات الأخيرة من حياته. فالرجل الذي نظم فعليا انتفاضة أكتوبر والذي قاد عمليات الجيش الأحمر، الذي تعامل كصديق أو كعدو.. مع الأحزاب العمالية الجماهيرية (ثورية وإصلاحية) من خلال الكومنترن، كان الآن يناضل فقط من أجل أن تبقي معاً مجموعات صغيرة جدا متفرقة، كلها غير قادرة علي التأثير في مجري الأحداث، حتى بشكل هامشي. لقد اضطر لأن يتدخل مرة بعد أخري في مئات النزاعات الصغيرة داخل عدد من المجموعات الصغيرة، تضمنت بعض تلك النزاعات، بالفعل، مسائل هامة عن المبادئ السياسية ولكن حتى هذه النزاعات، كما رأي تروتسكى ذاته بوضوح، كانت تجد جذورها في عزلة المجموعات عن الحركة الحقيقية للطبقة العاملة وتأثير المناخ البرجوازي الصغير - لأن هذا هو المناخ الذي نشطوا فيه، والذي تأقلم عليه الكثيرون منهم.
 رغم كل ذلك، ناضل تروتسكى حتى النهاية؟. أثرت عزلته المفروضة عن المشاركة الفعالة في الحركة العمالية، التي لعب فيها يوما ما دورا كبيرا، أثرت لحد ما علي فهمه للمجري المتغير دائما  للصراع الطبقي. لم تكن حتى خبرته الواسعة ولمحاته التكتيكية المتفوقة لتغني تماما عن التفاعل مع المناضلين المشتركين في الصراع اليومي، الأمر الذي لا يمكن حدوثه إلا في حزب شيوعي حقيقي. ولكلما طالت فترة العزلة كلما وضح ذلك أكثر. قارن مثلا بين "البرنامج الانتقالي" الذي كتبه في 1938 وبين برنامج العمل المخصص لفرنسا (1934) فالأخير متفوق بوضوح في نضارته، وفي علاقته الوثيقة بالموضوع، في خصوصيته وواقعيته بالنظر إلي الصراع الحقيقي.
 لم تكن هذه بالتأكيد مسألة إخفاق في القوة الفكرية فبعض أعمال تروتسكى الأخيرة التي لم يكملها، خاصة "النقابات العمالية في حقبة التفسخ الإمبريالي" تعتبر إضافات رائعة للفكر الماركسي. ولكنها كانت مسألة غياب للعلاقة الوثيقة مع أعداد مهمة من المناضلين المشتركين في الصراع الحقيقي.
 إلا أنه عندما قُتل تروتسكى علي يد عميل ستالين جاسكون - ميركادير كان بالفعل قد ترك وراءه حركة. مهما كان ضعف وفشل هذه الحركة، وهما أمران واضحان، كانت تعد إنجازاً عظيما. لقد كاد نمو الستالينية ثم انتصار الفاشية في معظم أوروبا أن يقضي تماما علي التراث الشيوعي الحقيقي في الحركة العمالية. كان تدمير الفاشية مباشراً. لقد دمرت التنظيمات العمالية حيثما وصلت للسلطة. فعلت الستالينية نفس الشيء بوسائل مختلفة داخل الاتحاد السوفيتي وخارج الاتحاد السوفيتي أفسدت الستالينية ثم خنقت فعليا  التراث الثوري كحركة جماهيرية.
 يصعب اليوم تقدير القوة الكاملة للسيل الجارف من الافتراء والسب الذي تعرض له تروتسكى وأتباعه في الثلاثينات. لقد خصصت موارد الدعاية في الاتحاد السوفيتي وأحزاب الكومنترن، بالكامل، لإدانة "التروتسكيين" (الحقيقيين والزائفين) كعملاء لهتلر والإمبراطور الياباني وكل أنواع الرجعية. لقد وصف ذبح البلاشفة القدامى في الاتحاد السوفيتي (بعضهم بعد محاكمات "مسرحية" رائعة، ومعظمهم بالقتل دون محاكمتهم)، كانتصار لقوي "الاشتراكية" و"السلام" بناء علي الشعار الستاليني وقتذاك "كل خائن - ضعيف، فاسد أو طموح - للاشتراكية في الاتحاد السوفيتي قد أُُجر ليقوم بالأعمال القذرة للرأسمالية والفاشية".
هكذا أعلن تقرير اللجنة المركزية المقدم للمؤتمر ال 15 للحزب الشيوعي الإنجليزي في 1938: 
"في مقدمة التحطيم والتخريب والاغتيال نجد دائماً العميل الفاشي تروتسكى. ولكن دفاعات الشعب السوفيتي قوية. فتحت قيادة الرفيق البلشفي يزهوف، تم فضح الجواسيس والعملاء أمام العالم وتقديمهم للمحاكمة".(1)
 يزهوف هذا الذي وصل للسلطة بعد قرار إعدام سلفه ياجودا، كان رئيس الشرطة الذي قام بعملية ذبح الشيوعيين وآخرين كثيرين في الاتحاد السوفيتي في 1937- 1938 في قمة الإرهاب الستاليني.
 الخط الرسمي، الذي أعلنه ستالين بنفسه، كان إن "التروتسكية هي رأس حربة البرجوازية المضادة للثورة، التي تشن الصراع ضد الشيوعية"(2). واستمرت هذه الحملة الجبارة من الأكاذيب يساندها الكثيرون من "الليبراليين" والاشتراكيين الديمقراطيين الذين انجذبوا للأحزاب الشيوعية بعد 1935، أكثر من عشرين عاما. ساعدت هذه الحملة علي تلقيح المناضلين في الأحزاب الشيوعية ضد النقد الماركسي للستالينية. وهناك أيضا أمر آخر علي الأقل يتساوى في الأهمية مع ما ذكرناه بالنسبة للتنظيمات الثورية الصغيرة في ذلك الوقت وهو الإحباط العام الذي ترسب نتيجة لانهيار الجبهات الشعبية وقدوم الحرب العالمية الثانية.
 عبر تروتسكى عن كل هذا في النقاش الذي دار في ربيع 1939:
"نحن لا نتقدم سياسيا. نعم، هذه حقيقة تعبر عن التحلل العام للحركة العمالية في ال 15 عاما الماضية. إن السبب العام الأساسي. عندما تكون الحركة الثورية عموما  في هبوط، عندما تعقب الهزيمة الأخرى، عندما تنتشر الفاشية في العالم. عندما تكون "الماركسية" هي التنظيم الأكثر قوة في خداع العمال، هكذا يصبح أمرا حتميا أن تعمل العناصر الثورية ضد التيار التاريخي العام، حتى ولو كانت أفكارنا وشروحنا دقيقة وحكيمة إلي أقصي حد. ولكن الجماهير لا تتعلم من خلال الرؤية التنبؤية، بل بالتجارب العامة في حياتها. هذا هو التفسير العام جدا. الوضع كله ضدنا".(3)
 لقد كانت حركة الأممية الرابعة التي نجت من تلك الظروف شديدة الصعوبة تحت إلهام تروتسكى وتوجيهه خائفة سياسيا  من التجربة بدرجة كبيرة. وقد دخلت تباعاً في المزيد من التشوهات. ولكن، علي كل الأحوال، كانت هي التيار الشيوعي الحقيقي الوحيد الذي نجا من العصر الجليدي.
 
الرؤية العالمية 1938 - 1940
 مثل الاعتقاد بأن النظام الرأسمالي قريب من نَفسه الأخير مركز رؤية تروتسكى للعالم في أعوامه الأخيرة.
"إن الشرط المسبق الاقتصادي للثورة البروليتارية قد وصل عموما  إلي أعلي نقاط نضجه التي يمكن الوصول إليها في ظل الرأسمالية. إن قوي إنتاج البشرية في حالة ركود. ولم تعد الاختراعات والتحسينات الجديدة قادرة علي رفع مستوي الثروة المادية" هكذا كتب تروتسكى في برنامج 1938 :
"الأزمات المتضافرة في ظل ظروف الأزمة الاجتماعية للنظام الرأسمالي ككل، تُنزل حرمانا ومعاناة أكثر علي، الدوام بالجماهير. والبطالة المتزايدة بدورها، تعمق الأزمة المالية للدولة وتضعف الأنظمة النقدية غير المستقرة وتترنح الأنظمة الديمقراطية، فضلا عن تلك الفاشية، من أزمة لأخرى".(4)
 وتصلح هذه الفقرة كوصف، لحالة معظم الاقتصاد العالمي، في ذلك الوقت. وكما قيل فقد تأثر تروتسكى بشدة التباين بين هذا الركود والنمو الصناعي السريع للاتحاد السوفيتي (لقد كانت هناك استثناءات أخري مهمة أيضا  لم يأخذها تروتسكى في الاعتبار، فالناتج الصناعي تضاعف في اليابان بين 1927 - 1936 واستمر في النمو، كما اختفت البطالة تماما في ألمانيا الهتلرية نتيجة للطموح نحو إعادة التسلح).
 إلا أن تروتسكى ذهب إلى أكثر من هذا. لقد اعتقد أن حالة الرأسمالية لا يمكن علاجها. "لقد وصل تفسخ الرأسمالية إلي حدود قصوى، وبالمثل تفسخ الطبقة الحاكمة القديمة ويستحيل استمرار هذا النظام أكثر من ذلك"(5) هكذا كتب تروتسكى في 1939.
 بالتالي، لا يمكن أن تحصل الأحزاب العمالية الإصلاحية علي أي مكاسب لأنصارها، "وحيث يتعدى كل مطلب جاد للبرولتياريا بل وكل مطلب جاد للبرجوازية الصغيرة، حتميا، حدود علاقات الملكية الرأسمالية والدولة البرجوازية"(6)، كما جاء في برنامج 1938 .
 هذا لم يعني أن الأحزاب الجماهيرية الإصلاحية ستختفي تلقائيا - ستحافظ عليها قوة الدفع التاريخية وغياب البديل الواضح لفترة قصيرة. إلا أنها لم يعد لها أي أساس آمن نسبيا. لقد تم زعزعتهم. وستدمرهم هذه الحرب وأزمة ما بعد الحرب.
 واعتقد تروتسكى أن تلك الأحزاب تتضمن الأحزاب الشيوعية.
"إن عبور الكومنترن لجانب النظام البرجوازي ودوره المضاد للثورة السافر في جميع أنحاء العالم خاصة في أسبانيا وفرنسا والولايات المتحدة ودولا "ديمقراطية" أخرى، قد خلق صعوبات استثنائية للبروليتاريا العالمية. وتحت راية ثورة أكتوبر تصيب السياسات التوفيقية التي تنتهجها "الجبهات الشعبية" الطبقة العاملة بالعجز".(7)
 لقد حمل تروتسكى منذ 1935 الاعتقاد بأن "لا شيء الآن يفرق الشيوعيين عن الاشتراكيين الديمقراطيين إلا الخطاب التقليدي الذي يسهل تجاهله".(8)
 أثبت الواقع أنه أكثر تعقيدا، وهذا الأمر عَجل أخيرا  بأزمة جوهرية في حركة الأممية الرابعة لقد كان تروتسكى يشير إلي اتجاه حقيقي إلا أن المدة الزمنية لهذا الاتجاه كانت أطول بكثير مما تصور تروتسكى. بعد حلف هتلر- ستالين (أغسطس 1939) ظلت أحزاب الكومنترن موالية لموسكو. وفي "الحرب الباردة" منذ أواخر 1948 لم تسلم تلك الأحزاب لبرجوازياتها أيضا لم تكن سياساتهم ثورية ولكنها لم تكن ببساطة إصلاحية بالمعني المعتاد. لقد حافظوا، قرابة 20 عاما علي توجه "يساري" تجاه الدولة البرجوازية (دعم ذلك استبعادهم عن الحكومة في فرنسا وإيطاليا وبلاد أخرى بعد 1947) الأمر الذي صعب جدا  مهمة خلق بديل ثوري، حتى لو كانت الظروف الأخرى أكثر مناسبة .
 وفي حالة مهمة واحدة وهى الصين، وحالات أقل (من ضمنهم ألبانيا ويوغوسلافيا وفيتنام الشمالية، حطمت بالفعل أحزاب ستالينية دولا برجوازية ضعيفة واستبدلتهم بأنظمة علي النمط الروسي. أثارت الثورة الصينية 1948 - 1949 خاصة، الأسئلة حول التحليل التروتسكي الكلاسيكي للأحزاب الستالينية، علي الأقل بالنسبة للدول المتخلفة. فلو نُظر إليها كثورة بروليتارية لهدم أساس وجود الأممية الرابعة وهو الطبيعة المضادة للثورة جوهريا  للستالينية ولو كانت، علي الجانب الآخر، بمعني ما من المعاني، ثورة برجوازية أو "ديمقراطية جديدة" كما ادعى ماو تسي تونج حينذاك، لاهتزت نظرية الثورة الدائمة. سنعود لهذه المسألة فيما بعد ما يهمنا هنا هو أن حدوث الثورة، بغض النظر عن التحليلات المختلفة لطبيعتها، جددت الصورة الثورية للستالينية لمدة طويلة.
 ولكن الخطأ الأهم الذي ارتكبه تروتسكى في ذلك الوقت هو اعتقاده أنه لا مخرج للرأسمالية اقتصاديا، حتى لو تم تجنب الثورة  البروليتارية. لقد كان هذا اعتقاده بدون أدني شك. وقد كتب قرب نهاية 1939:
"حتى لو سلمنا بأن الحرب الحالية لن تسفر عن ثورة بل عن انحدار للبروليتاريا فسيبقي بديل آخر: المزيد من التحلل للرأسمالية الاحتكارية، المزيد من اندماجها مع الدولة واستبدال الديمقراطية أينما بقيت بنظام شمولي يمكن حقيقة أن يسفر عجز البروليتاريا عن الأخذ بزمام قيادة المجتمع، في ظل هذه الظروف، إلي نمو طبقة مستغلة جديدة من البيروقراطية البونابرتية الفاشية هذا سيكون إذا أخذنا في الاعتبار كل الدلائل، نظام ينحدر يعطي الإشارة بخسوف شمس الحضارة" (9).
 كان يمكن لتروتسكى أن يوافق علي إمكانية انتعاش اقتصادي مؤقت ما علي أساس دوري. لقد لمح تروتسكى قبل غيره الصحوة المحدودة في الرأسمالية الأوروبية في 1920 - 1931 (واستخلص النتائج السياسية من ذلك) وأشار إلي صحوة معينة في بداية الثلاثينات بعد مصائب 1929-1931 ولكنه استبعد تماما  إمكانية صعود اقتصادي طويل الأمد مثل ذلك الذي نتجت عنه الإصلاحية كقوة جماهيرية قبل الحرب العالمية الأولي. لقد كانت وجهه نظر تروتسكى وجهة نظر منتشرة داخل صفوف اليسار في ذلك الوقت. ولكن كانت هناك دلائل حتى في ذلك الوقت علي أن إنتاج الأسلحة في نطاق واسع يمكن أن يؤدي إلي نمو اقتصادي شامل - نمو لم يكن ليقتصر علي قطاع الأسلحة في الاقتصاد. بالطبع كانت هذه الدلائل متعلقة بالاستعدادات المباشرة للحرب العالمية الثانية. ولكن ماذا لو إن الإعداد للحرب يمكن أن يكون دائما أو شبه دائم ؟.
 في الحقيقة، بعد الحرب العالمية الثانية، شهدت الرأسمالية صحوة جبارة، وبعيدا  جدا عن سيطرة الانكماش والانحدار الاقتصادي، كان هناك توسعا  اقتصاديا  أكبر من التوسع في الفترة الكلاسيكية للإمبريالية قبل 1919. وكما أشار "مايكل كيدرون" في 1968، "فالنظام ككل لم ينم أبدا بنفس السرعة التي نما بها بعد الحرب - ضعف سرعة 1913 - 1950 في الفترة بين 1950 -1964" (10).
حصلت الإصلاحية علي صك حياة جديد في الدول الرأسمالية المتطورة علي أساس ارتفاع مستوي حياة جماهير الطبقة العاملة. لقد كان هناك اختلاف بين الإصلاحيين والماركسيين حول كون الانتعاش الاقتصادي الجبار في الخمسينات والستينات أساسا  نتيجة إنفاق الدولة المتزايد بضخامة (بالتحديد الإنفاق علي الأسلحة) أم لا، ولكن ما كان يجمع عليه الجميع هو أن نبوءة تروتسكى كانت خاطئة.
 فالنتائج السياسية للانتعاش كذبت التنبؤ بأن البدائل المباشرة كانت إما الثورة البروليتارية أو الدكتاتورية الفاشية أو البونابرتية التي ستؤدي إلي "خُسوف شمس الحضارة".
 علي العكس، أصبحت الديمقراطية البرجوازية وسيطرة الإصلاحية علي الحركة العمالية هي القاعدة مرة أخري في معظم الدول المتطورة.
 مثلت نجاة الأنظمة البرجوازية من الهبات الكبرى في 1944-1945، عندما كانت الدول الفاشية تحطم بواسطة مزيج من القوة العسكرية للحلفاء ونمو متصاعد من التمرد الجماهيري، شرطا لاغني عنه في مثل هذا التطور اللاحق. في معظم الدول الأوروبية نمت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية بسرعة في هذه الحقبة الحرجة  ليلعبوا دورا  مضادا  للثورة (في شرق وغرب أوروبا) ودورا حاسما كذلك معادى للثورة في فرنسا وإيطاليا. إلا أن تروتسكى سلم بأنه في المراحل الأولي للثورة ستنتعش الأحزاب العمالية الموجودة بالفعل (وتكفي كتاباته عن الثورة الروسية لتؤكد ذلك تماما) وستمارس سياستها المضادة للثورة ولأن رؤية تروتسكى كانت تعتمد على الكارثة الاقتصادية، الإفقار الجماهيري ونمو الأنظمة الشمولية كالبديل الوحيد للثورة البروليتارية في الأمد القصير، فإنه اعتقد أن انتعاش الإصلاحية سيكون قصير للغاية - مثل فترة حكم كيرنسكي.
 هذا هو السبب الذي جعله يكتب بمنتهى الثقة في أواخر 1938، "خلال العشر سنوات القادمة سيصبح برنامج الأممية الرابعة موجهاً للملايين وستعرف هذه الملايين الثورية كيف تزلزل السماء والأرض".(11)
 جعل هذا المناخ من التوقعات الطوباوية التي أنتجته مثل هذه المقولات من الصعب علي أتباع تروتسكى أن يقيموا بواقعية ورصانة التحولات الحقيقية في وعي الطبقة العاملة والتغيرات في توازن القوي الطبقية، والتغيرات التكتيكية اللازمة للاستفادة القصوى منها (وهذا هو جوهر الممارسة السياسية للينين).
 لابد أن نذكر هنا تركيز تروتسكى علي أهمية "المطالب الانتقالية" التي سمي بها برنامج 1938:
"من الضروري مساعدة الجماهير في عملية النضال اليومي لنوجد المعبر بين المطالب الحالية والبرنامج الاشتراكي للثورة. لابد أن يتضمن هذا المعبر نظاما للمطالب الانتقالية النابعة عن ظروف اليوم ووعي شرائح واسعة من الطبقة العاملة اليوم تؤدي بوضوح لاستنتاج نهائي محدد: استيلاء البروليتاريا علي السلطة".(12)
 مسألة ما إذا كان من الممكن أم لإيجاد شعارات أو مطالب تتماشى مع هذه الخصوصيات المحددة جدا  تعتمد بالطبع علي الظروف. فلو كان وعي شرائح واسعة في وقت ما هو وعي غير ثوري فلن يكون ممكناً تغييره بالشعارات. يتطلب الأمر تغيرات في الظروف الواقعية.
 إن المسألة في كل مرحلة هي التوصل إلى والدفع بتلك الشعارات التي لن تضرب فقط علي وتر حساس  لدي بعض قطاعات الطبقة العاملة (أو الطبقة العاملة كلها مثالياً) بل والتي تستطيع أن تدفعها إلى الحركة. كثيراً ما ستكون تلك الشعارات غير انتقالية بتعريف تروتسكى الضيق جدا .
 بالطبع لا يمكن أن نحمل تروتسكى مسئولية ميل معظم أتباعه لتصنيم فكرة المطالب الانتقالية بل والمطالب الخصوصية في برنامج 1938 وأكثرها بروزا هو "المقياس المنزلق للأجور". إلا أن تركيزه علي هذا الأمر كان زائداً عن اللازم وشجع الاعتقاد بأن لتلك "المطالب" قيمة مستقلة عن التنظيم الثوري في الطبقة العاملة.
 
 
 
الاتحاد السوفيتي والستالينية - الحرب والنتيجة
 بدأت الحرب العالمية الثانية بالهجوم الألماني علي بولندا الذي سرعان ما أعقبه تقسيم أراضي دولة بولندا بين هتلر وستالين. ظل هتلر وستالين حلفاء قرابة العامين (من صيف 1939 إلي صيف 1941). وفي تلك الفترة استطاع نظام ستالين أن يضم دول البلطيق وبوكوفينا وباساربيا بالإضافة لمعظم أوكرانيا الغربية وبيلو روسيا الغربية.
 منذ 1935 حتى 1939 كانت السياسة الخارجية لستالين موجهة نحو تحقيق التحالف العسكري مع فرنسا وإنجلترا ضد هتلر. كانت سياسة "الجبهة الشعبية" هي الوجه الآخر لهذا التحالف. ومع مجيء تحالف هتلر - ستالين تحولت الأحزاب الشيوعية إلي موقف معادي للحرب، وهو موقف لا علاقة له بالثورية، إلي أن جاء هجوم هتلر علي الاتحاد السوفيتي (بعد ذلك أصبحت الأحزاب الشيوعية في دول الحلفاء شديدة الوطنية).
 أنتج تحالف هتلر - ستالين وتقسيمه لبولندا حالة نفور داخل الحلقات اليسارية خارج الأحزاب الشيوعية (وعدد من الانسحابات من تلك الأحزاب أيضاً)، الأمر الذي كان له أثره أيضاً علي المجموعات التروتسكية. في أكبر تلك المجموعات، حزب العمال الاشتراكي الأمريكي بدأت تظهر معارضة لشعار تروتسكى "الدفاع غير المشروط عن الاتحاد السوفيتي ضد الإمبريالية" وهو الشعار الناتج عن تعريفه للاتحاد السوفيتي كدولة عمالية منحطة، وبعد ذلك بقليل بدأت هذه المعارضة في إعادة التفكير في هذا التعريف ذاته.
 وفي أثناء الجدل الذي أعقب ذلك أكمل تروتسكى تطوير تحليله للستالينية في الاتحاد السوفيتي وتعامل مع المواقف البديلة، بغرض نقدها.
"دعونا نبدأ بطرح التساؤل عن طبيعة الدولة السوفيتية لا علي الصعيد السوسيولوجي المجرد بل علي صعيد المهام السياسية المحددة، هكذا كتب تروتسكى في سبتمبر 1939. دعونا نسلم للحظة بأن البيروقراطية هي طبقة جديدة وأن النظام الحالي في الاتحاد السوفيتي هو نظام خاص للاستغلال الطبقي. ما هي الاستنتاجات السياسية الجديدة التي ستتبع من هذه التعريفات؟ لقد توصلت الأممية الرابعة منذ زمن لضرورة التخلص من البيروقراطية بواسطة انتفاضة ثورية للكادحين. لا يطرح، ولا يمكن أن يطرح هؤلاء الذين يدعون بأن البيروقراطية "طبقة" مستغلة شيء آخر فالهدف المنشود من الإطاحة بالبيروقراطية هو إعادة بناء حكم السوفييتات، طاردين منها البيروقراطية الحالية لا يقترح، ولا يمكن أن يقترح، المنتقدون اليساريون أي شيء آخر. إن مهمة السوفييتات العائدة مرة أخري للحياة. هي أن تتعاون مع الثورة العالمية وتبني المجتمع الاشتراكي. إن الإطاحة بالبيروقراطية تفترض أولا  المحافظة علي ملكية الدولة والاقتصاد المخطط.. فطالما بقيت هناك علاقة بين مسألة الإطاحة بالأولجياركية الطفيلية والمحافظة علي ملكية الدولة، سنطلق علي الثورة المستقبلية اسم ثورة سياسية. إن بعض منتقدينا (سيلينا، برونو، وآخرين) يريدون، وليحدث ما يحدث، أن يطلقوا علي الثورة المستقبلية ثورة اجتماعية. فلنوافق علي هذا التعريف. ماذا سيغير هذا في جوهر الموقف؟ لن يضيف أي شيء علي الإطلاق لمهام الثورة التي حصيناها".(13)
 يبدو هذا الرأي قويا جدا عند النظرة الأولي. ولكن ماذا إذن عن مسألة الدفاع عن الاتحاد السوفيتي؟
"إن الدفاع عن الاتحاد السوفيتي يتماشى عندنا مع الإعداد للثورة العالمية ويسمح فقط بتلك الوسائل التي لا تتعارض مع مصالح الثورة. إن الدفاع عن الاتحاد السوفيتي مرتبط بالثورة الاشتراكية العالمية كمهمة تكتيكية مرتبطة بمهمة إستراتيجية. والتكتيك يخضع لهدف استراتيجي ولا يمكن أن يتناقض مع الأخير".(14)
 فلو دخلت متطلبات العملية التكتيكية في تعارض مع الهدف الاستراتيجي (وهو ما اعتقد منتقدو تروتسكى اليساريون بضرورة حدوثه) لبات من الضروري التضحية بالتكتيك - الدفاع عن الاتحاد السوفيتي علي هذا الأساس، يبدو إنه يسهل علي منتقدي تروتسكى (هؤلاء الذين اعتبروا أنفسهم ثوريين) أن يختلفوا مع تسميته. ولكن لماذا الانشقاق بسبب مجرد كلمات؟
 كان رأي تروتسكى هو أن المسألة أكبر من ذلك. فلو شكلت البيروقراطية بالفعل طبقة ومثل الاتحاد السوفيتي شكلا  للمجتمع المستغل. إذن لما أمكن الافتراض بأن روسيا الستالينية هي النتاج الاستثنائي جدا  لظروف فريدة، ولما أمكن الافتراض بأنها محكوم عليها بالزوال بسرعة، وهو ما كان تروتسكى مقتنعاً به.
 لم تتوقف الأمور عند هذا الحد أيضاً. لقد أشار تروتسكى لوجهة نظر "في الهواء" لو جاز التعبير، في نهاية الثلاثينيات، وهي تزايد "البقرطة" و"الدولنة" في كل مكان وأن هذا دلل علي شكل المجتمع القادم "الدولة الشمولية" والتي توقع لها تروتسكى نفسه أن تتطور لو لم تعقب الثورة البروليتارية الحرب. وعبرت رواية جورج أورويل 1984 (التي نشرت في عام 1944) عن هذا المزاج. هكذا أصبح السؤال ملتبساً مع "المنظور التاريخي العالمي لعقود، إن لم تكن لقرون قادمة: هل دخلنا في حقبه الثورة الاجتماعية والمجتمع الاشتراكي أم، علي العكس، في حقبة المجتمع المنحدر إلي البيروقراطية الشمولية".(15)
 طرحت البدائل بشكل خاص. لقد كانت تنبؤات كتاب برونوريزي "بقرطة العالم"، الذي أشار إليه تروتسكى، تنبؤات انطباعية وليست نتاج تحليل ولم يستنتج صحة الادعاء بأن الاتحاد السوفيتي مجتمع مستغل. افترض أنه كان شكلا جديدا  للرأسمالية، لو صح ذلك، لتهدمت كل مقولات "المنظور التاريخي العالمي" تماماً.
 بالطبع كان تروتسكى مدركاً لمفهوم رأسمالية الدولة. كتب في الثورة المغدورة:
"نظرياً، من المؤكد، يمكن تصور وضع تشكل فيه البرجوازية ككل شركة مساهمة تدير بواسطة دولتها كل الاقتصاد القومي. ولن تقدم القوانين الاقتصادية لمثل هذا النظام لغزا. الرأسمالي الفردي، كما هو معروف، يأخذ في شكل ربح نصيباً من فائض القيمة الكلي الذي خلق في البلد ككل بما يتوازى مع رأسماله الخاص، وليس فائض القيمة الذي خلقه عمال مؤسسته. ففي ظل رأسمالية الدولة الموحدة، سيتحقق قانون معدل الربح المتساوي هذا ليس بواسطة طرق ملتوية -أي التنافس بين رؤوس الأموال المختلفة بل فوراً ومباشرة من خلال دفاتر الدولة - ولكن، لم يوجد أبداً مثل هذا النظام، ولن يوجد أبداً بسبب التناقض بين المالكين أنفسهم، خاصة لأن الدولة في صفتها هنا كوعاء عام للملكية الرأسمالية، ستصبح هدفاً شديد الجاذبية للثورة الاجتماعية".(16)
 فعلي الرغم من أن تروتسكى اعتقد أنه من الممكن نظرياً وجود نظام رأسمالية دولة موحدة (أي كامل) إلا أن هذا النظام لن يوجد أبدا. ولكن فلنفترض أنه قد تم تحطيم برجوازية ما بواسطة ثورة وفشلت البروليتاريا - بسبب ضعفها العددي والثقافي - في الاستيلاء علي السلطة أو الحفاظ عليها بعد الاستيلاء عليها. ماذا إذن؟ تصبح بيروقراطية تبرز كشريحة ذات امتيازات (كما وصف تروتسكى باستفاضة في حالة بيروقراطية ستالين) سيدة الدولة والاقتصاد. ماذا سيكون في الواقع دورها الاقتصادي؟ ألن تكون "بديل" للطبقة الرأسمالية ؟. لا يمكن أن يجادل أحد بأنها ليست رأسمالية لأنها تسيطر علي الاقتصاد القومي كله. لقد سلم تروتسكى من حيث المبدأ، بأن برجوازية دولة يمكنها أن تشغل مثل هذا الموقع. الدفع الجاد الوحيد الذي يمكن تقديمه، بناء علي تحليل تروتسكى، هو ما قدمه تروتسكى ذاته. "البيروقراطية لا تملك لا أسهم ولا سندات"، هناك نقطتان بهذا الصدد: أولا، وهذه هي النقطة الأقل أهمية، إن هذا ببساطة ليس صحيحا، فأي شخص في الاتحاد السوفيتي ذو إمكانيات يستطيع أن يشتري سندات دولة بفائدة ويستطيع توريثها إذا دفع ضريبة ميراث معقولة (أصغر بكثير من ضريبة الميراث في الغرب، بالضبط كما أن أعلي معدلات ضريبة الدخل في الاتحاد السوفيتي أصغر بكثير عنها في معظم الدول الرأسمالية الغربية)، ثانيا، وهذه هي النقطة الأهم، فمن وجهة نظر ماركسية يعتبر استهلاك الفرد الرأسمالي، كما قال ماركس، "سرقة تتم علي حساب التراكم"، أي أنه استنزاف للموارد كان يمكن أن يذهب نحو التراكم، وهو بالتأكيد ليس الاعتبار الأهم. الاعتبار الأهم هو من يسيطر علي عملية التراكم.
 وعند عودته لذات المسألة في 1939 كتب تروتسكى :
"لقد رفضنا، وما زلنا نرفض، هذا المصطلح (رأسمالية الدولة) الذي يتجاهل الفرق الجوهري بين الدولة السوفيتية والدول الرأسمالية، رغم أنه يُوَصف بالفعل خصائص معينة لهذه الدولة، هذا الفرق هو عدم وجود البرجوازية كطبقة مالكة، ووجود شكل ملكية الدولة لأهم وسائل الإنتاج، وأخيراً الاقتصاد المخطط الذي سمح به قيام ثورة أكتوبر" (17).
 لقد أصر تروتسكى علي التعامل مع تحليل المجتمع الستاليني من وجهة نظر شكل الملكية وليس علاقات الإنتاج الاجتماعية الحقيقية - رغم أنه كثيرا  ما استخدم هذا التعبير الذي اعتبره متطابقاً مع شكل الملكية. إلا أنهما ليسا متطابقين.
 في نقده لبرودون أوضح ماركس :
"لكي نُعَرف الملكية البرجوازية لابد أن نتعرض لكل علاقات الإنتاج البرجوازي الاجتماعية. أما محاولة تعريف الملكية كعلاقة مستقلة، كتصنيف منفصل - كفكرة مجردة أبدية - فلا يمكن اعتباره إلا وهما ميتافيزيقياً أو حقوقياً" (18).
 هذا هو الحال في الاتحاد السوفيتي. لا يمكن النظر إلي شكل الملكية (ملكية الدولة في هذه الحالة) كشيء مستقل عن علاقات الإنتاج الاجتماعية. لقد كانت، وما تزال، العلاقة المهيمنة في الإنتاج في الاتحاد السوفيتي (خاصة بعد التصنيع) هي علاقة العمل المأجور / رأس المال المميزة للرأسمالية: فالعامل في الاتحاد السوفيتي يبيع سلعة، قوة العمل، بنفس الطريقة التي يبيعها بها العامل في الولايات المتحدة. ولا يأخذ العمال فى المقابل حصص كما هو الحال مع العبيد، أو جزء من المنتج كما هو الحال مع الأقنان، ولكن يُدفع لهم بالمال الذي يصرف علي شراء السلع التي أُنتجت لتُباع.
 العمل المأجور يعني وجود رأس مال. لا توجد برجوازية في الاتحاد السوفيتي. ولكن بالتأكيد يوجد رأس مال - كما عرف ماركس رأس المال. لسنا بحاجة إلي أن نكرر كماركسيين، أن رأس المال لا يتكون من الماكينات والمواد الخام والقروض. وهكذا "أن رأس المال هو قوة اجتماعية مستغلة، أي أنه، بوصفه قوه جزء من المجتمع، يحافظ علي ذاته ويكبر من خلال التبادل مع قوة العمل الحية المباشرة. إن سيطرة العمل المتراكم، السابق تحقيقه، علي العمل الحي المباشر هي التي تحول العمل المتراكم إلي رأس مال".(19)
يوجد مثل هذا الوضع بالتأكيد في الاتحاد السوفيتي.
 بالنسبة لماركس، كانت أهمية البرجوازية تكمن في كونها تشخيص لرأس المال، في الاتحاد السوفيتي، تؤدي البيروقراطية هذا الدور. لقد أنكر تروتسكى هذه النقطة الأخيرة. فبالنسبة له كانت البيروقراطية مجرد "عسكري" في عملية التوزيع يحدد فقط من يأخذ ماذا ومتي، ولكن هذا لم يكن منفصلا عن توجيه عملية التراكم الرأسمالي. إن الادعاء بأن البيروقراطية لا تقود عملية التراكم، أي أنها لا تعمل كـ "تشخيص" لرأس المال، لا يمكن أن يصمد أكثر من لحظة أمام أي اختبار. إن لم تكن البيروقراطية، إذن من؟ بالتأكيد ليس الطبقة العاملة. إن النقطة الأخيرة توضح بالضبط الفارق الأساسي بين مجتمع انتقالي حقيقي (دولة عمالية، ديكتاتورية البروليتاريا) حيث سيستمر العمل المأجور لفترة من الوقت، وأي شكل للرأسمالية، فالسيطرة الجماعية للطبقة العاملة علي الاقتصاد تحول (عاجلا  أو أجلا  تزيل) علاقة العمل المأجور / رأس المال. وإذا تم التخلص من هذه السيطرة في مجتمع  صناعي، تعود سلطة رأس المال. والمعضلة هنا… إن مفهوم الدولة العمالية سيكون خالياً من أي معني، بدون درجة ما، من سيطرة العمال علي المجتمع ؟. كما أنه لو تم وصف مجتمع الاتحاد السوفيتي كشكل من أشكال رأسمالية الدولة ولابد من الاعتراف بأنه مجتمع رأسمالي ذو شكل عالي الخصوصية، رغم أنه بالطبع أقرب بشكل ضخم جدا للطبائع الرأسمالية، مشوشة أو غير ذلك، منه لدولة عمالية. (لا يمكن مناقشة خصوصيات وديناميات الاتحاد السوفيتي هنا. وسنجد أفضل تحليل لها في كتاب رأسمالية الدولة في روسيا لتوني كليف).(20)
 ما يخصنا هنا هو فشل تروتسكى في اختبار علاقات الإنتاج الحقيقية في الاتحاد السوفيتي وتبعات هذا الفشل. جاءت نظرته الأخيرة هكذا.
"إن نظاما  شموليا، سواء من نوع ستاليني أو فاشي، لا يمكن أن يكون إلا نظاماً انتقاليا مؤقتاً بطبيعته. فالدكتاتورية العارية في التاريخ كانت بشكل عام نتيجة وعرض من أعراض أزمة اجتماعية حادة، وليست مطلقا  نظاما  مستقرا. لا يمكن أن تكون الأزمة الحادة وصفاً دائماً للمجتمع. إن دولة شمولية تستطيع قمع التناقضات الاجتماعية خلال فترة معينة، ولكنها غير قادرة علي إعادة إنتاج ذاتها بدون حدود. إن التصفيات الوحشية في الاتحاد السوفيتي هي أقوى دليل لكون المجتمع السوفيتي يتجه بشكل عضوي نحو الإطاحة بالبيروقراطية. إن ستالين لا يدل على شئ، في ضخامة ووحشية وكذب تصفياته، إلا عدم قدرة البيروقراطية على تحويل نفسها إلى طبقة حاكمة مستقرة. ألن نضع أنفسنا إذاً في موقف غاية في السخف إذا أطلقنا على الأوليجاركية البونابرتية لقب طبقة حاكمة جديدة قبل بضع سنوات أو حتى بضعة شهور من سقوطها الغير مأسوف عليه".(21)
 وتم توقع هذا السقوط إما لأن البيروقراطية والتي ستصبح أكثر فأكثر أداة البرجوازية العالمية ستتخلص من الأشكال الجديدة للملكية، أو بسبب ثورة بروليتارية (أو بالطبع بسبب الغزو الأجنبي). كان متوقع  حدوث ذلك في سنوات قليلة أو شهور قليلة.
 كان هذا هو التفسير الذي تركه تروتسكى لأتباعه والذي أوقعهم في الخطأ تماماً مثلما فعل منظوره للرأسمالية الغربية. ولكن ثبت أن وجود جناح من البيروقراطية راغب في إعادة الرأسمالية ما هو إلا خرافة علي الأقل لوقت طويل جدا (وتناقض اعتقاد تروتسكى في حدوث ذلك بشدة مع رؤيته لإمكانية شمولية الدولة في الدول الرأسمالية المتقدمة). خرج الاتحاد السوفيتي من الحرب أقوي من قبل (بالنسبة للقوى الأخرى) والبيروقراطية ثابتة في حكمها علي أساس الصناعة المؤممة. الأكثر من ذلك، أنها فرضت أنظمة علي النموذج الروسي في بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا وبلغاريا وألمانيا الشرقية وكوريا الشمالية. كما أشرنا من قبل وصلت أنظمة ستالينية "أصلية" للسلطة في ألبانيا ويوغوسلافيا وبعد ذلك بقليل في الصين وفيتنام الشمالية بدون تدخل مباشر مهم من الجيش الروسي. لم تكن الستالينية، بالتأكيد علي "فراش الموت" ولكنها كانت، في ظل غياب الثورة البروليتارية، وسيلة للتراكم الرأسمالي بدلا من رأسمالية الدولة الاحتكارية "الكلاسيكية".
 
الثورة الدائمة المنحرفة
 لم تلعب الطبقة العاملة الصناعية أي دور علي الإطلاق في استيلاء الحزب الشيوعي الصيني علي السلطة في 1948 - 1949 كما لم يلعب العمال أي دور داخل الحزب الشيوعي الصيني.
 ويكفى الإشارة هنا إنه. في نهاية 1925 شكل العمال 66% من عضوية الحزب الشيوعي الصيني (الفلاحين 5% والبقية للبرجوازية الصغيرة الحضرية التي لعب المثقفون دورا  قياديا  بينها). علي العكس من ذلك، فبحلول 1930 شكل العمال، حسب إحصائيات الحزب الشيوعي ذاته 6ر1% من عضوية الحزب.(22)
 بعد ذلك أصبح الرقم فعلياً صفر إلي أن استحوذت قوات ماو تسي تونج علي الصين بعد هزيمة كوميونة كانتون في نهاية 1927 تراجعت بقايا الحزب الشيوعي الصيني إلي أعماق الريف ولجأت إلي حرب العصابات. وتم تأسيس "جمهورية كيانجسي السوفيتية" الفلاحية في أجزاء متغيرة من وسط الصين. ولما هزمتها قوات تشانج كاي تشيك في 1934 بدأ الجيش الأحمر "المسيرة الطويلة" نحو تشانس في أقصي الشمال الغربي. تركت هذه العملية البطولية، التي تمت برغم المصاعب الجمة، الحزب - الجيش (لقد أصبح من الصعب التفريق بينهما) في منطقة بعيدة تماما عن الحياة المدنية، الصناعة الحديثة والطبقة العاملة الصينية. اعترف تشوتين القائد العسكري في الحزب حينذاك بأن المناطق الواقعة تحت سيطرة الشيوعيين هي أكثر المناطق المتخلفة اقتصاديا  في البلد كله.(23) وكان هذا البلد، الصين، بدوره واحد من أكثر البلاد المتخلفة في العالم.
 وهناك خاضت قوات الحزب الشيوعي الصيني النضال من أجل البقاء ضد جيوش تشانج (رغم أنها كانت متحالفة معه شكليا  بعد 1935) والغزاة اليابانيين. وتم بناء جهاز دولة في هذه المنطقة الفلاحية بالكامل علي الأسس السلطوية والهرمية المعتادة حيث كان المثقفون المدنيون المنزوعون من طبقاتهم في القمة والفلاحون في القاع. سيطر الجيش الياباني علي كل المناطق ذات التطور الصناعي الهام من 1937 حتى 1945، علي منشوريا (التي كانت تشهد نمواً صناعيا ) وعلي المدن الساحلية حيث كانت الصناعة و(البروليتاريا) تتضاءل.
 ومع الاستسلام الياباني في 1945 أعادت قوات الكومنتانج احتلال معظم الصين بمساندة الولايات المتحدة ولكن النظام شديد الفساد للكومنتانج كان قد أصبح في حالة متطورة من التحلل. وبعد أن فشلت محاولات إقامة حكومة تحالف بين الكومنتانج والحزب الشيوعي قضي الحزب علي عدوه المنقسم والمثبط بأساليب عسكرية بحته. ولم تؤثر الإمدادات العسكرية الأمريكية الضخمة والمساندة للكومنتانج علي مجري الصراع. هربت وحدات الكومنتانج، وفي بعض الأحيان لواءات وفرق، بالجملة وكثيرا ما هرب معهم جنرالاتهم.
 وكانت إستراتيجية ماو تشجع مثل هذا التحول في الولاء وتهدئة أي فعل مستقل للفلاحين أو العمال - خاصة الأخيرين. لقد كان الحزب الشيوعي منفصلا تماما عن الطبقة العاملة. وقبل سقوط بكين أصدر لين بياو، قائد جيش الحزب في المنطقة وخليفة ماو حتى إدانته وموته مهانا في 1971، بيانا يدعو فيه العمال "ألا يثوروا بل أن  يحافظوا علي النظام ويستمروا في العمل بموافقتهم، إن رجال الشرطة والكومنتانج، في كل مؤسسات الحكومة، مدعوين للاستمرار في مراكزهم" (24). في يناير1949 استسلم القائد العام الكومنتانجي لحامية بكين. وتم الحفاظ علي النظام وحل حاكم عسكري محل آخر.
 وحدث نفس الشيء عندما اقتربت قوات الحزب الشيوعي من نهر اليانسجتي والمدن الكبرى لوسط الصين مثل شنغهاي وهانكوا والتي كانت المراكز العاصفة للثورة بين 1925-1927. أعلن بيان خاص وقع عليه ماو تسي تونج (رئيس الحكومة) وتشو تيه (القائد العام للجيش) أن :
"العمال والموظفين في كل المجالات سيستمرون في العمل وستستمر الأعمال التجارية كالمعتاد.. علي موظفي الكومنتانج.. من مختلف المستويات.. ورجال الشرطة البقاء في مراكزهم وإطاعة أوامر جيش التحرير الشعبي وحكومة الشعب" (25).
 ثورة غريبة تلك التي تستمر فيها الأعمال التجارية كالمعتاد! وهكذا مضي الأمر إلي النهاية وتم إعلان الجمهورية الشعبية في أكتوبر 1949. ولهذه الأسباب أنكر الكثير من أتباع تروتسكى، ومن ضمنهم حزب العمال الاشتراكي الأمريكي، ولسنوات عديدة بعد 1949 حدوث أي تغير حقيقي في الصين. ثبت خطأ مثل هذه الرؤية. لقد حدث تحول حقيقي. ولكن من أي نوع؟ إن الأمر المحوري في نظرية الثورة الدائمة أن البرجوازية في الدول المتخلفة غير قادرة علي قيادة الثورة البرجوازية لقد ثبت صحة هذا الاعتقاد مرة أخري. ولكن من المحوري، أيضا ، الاعتقاد بأن الطبقة العاملة فقط يمكنها قيادة الفلاحين والبرجوازية الصغيرة المدنية في الثورة الديمقراطية التي ستندمج في الثورة الاشتراكية.
 هذا ثبت خطأه فقد ظلت الطبقة العاملة الصينية، في غياب أي حركة عمالية ثورية جماهيرية عالميا  سلبية. ولم يفند الفلاحون رؤية ماركس حول عدم قدرتهم علي لعب دور سياسي مستقل. لم تكن 1949 حركة فلاحين. ومع كل ذلك حدثت ثورة. لقد تم توحيد الصين. وتم طرد القوي الإمبريالية من أرض الصين. وعلى الرغم من أن المسألة الفلاحية لم تحل فلقد تم علي أي حال تسويتها بطريقة لا علاقة لها بالاشتراكية، من خلال تصفية كبار ملاك الأرض وتم تحقيق كل العناصر الأساسية للثورة البرجوازية (أو الديمقراطية) كما فهمها تروتسكى فيما عدا الحرية السياسية التي يمكن من خلالها للحركة العمالية أن تتطور.
 لقد تم كسب كل هذا بقيادة المثقفين المنزوعين من طبقاتهم والذين بنوا جيشا  فلاحيا  وقضوا بأساليب عسكرية علي نظام كان قد تعفن لدرجة التحلل، كل هذا في إطار أزمة اجتماعية عامة. قبل ألفي عام تأسست إمبراطورية "هان"  في ظروف مشابهة تحت قيادة هان الذي أتي من أسرة فلاحيه غنية، مثل ماو. ولكن في منتصف القرن العشرين اعتمد بقاء النظام الجديد علي التصنيع. وتوجد جذور الستالينية الصينية في هذه الضرورة.
 لم يستطع تروتسكى أن يترك مساحة لمثل هذا التطور. لا يعد هذا أمراً مستغرباً أو هاماً في حد ذاته. ولكن، وبالترابط مع نتائج أخري غير متوقعة، كان لهذا أثره علي مستقبل حركة تروتسكى.
 لقد تطرقنا هنا إلي تجربة الصين فقط -علي أساس أهميتها الفائقة. ولكن قبل تلك التجربة جاءت تجارب يوغوسلافيا وألبانيا وبعدها جاءت تجارب فيتنام الشمالية وكوبا، وحملت كلها سمات متشابهة. لقد طوَر توني كليف مفهوم "الثورة الدائمة المنحرفة" ليصف هذه الظواهر. البعيدة إلى حد ما عن نظرية الثورة الدائمة كما فهمها تروتسكى".(26)
 
التروتسكية بعد تروتسكى
 إن الإشكاليات السياسية التي واجهت أتباع تروتسكى في سنوات ما بعد موته تهمنا هنا لسببين، أولا، لأن تروتسكى ذاته آمن بالأهمية القصوى للأممية الرابعة. ثانيا، لأن تلك الإشكاليات السياسية ألقت الضوء علي نقاط القوة والضعف في أفكار تروتسكى.
صلبت أممية تروتسكى الثورية، التي لا تعرف المساومة، موقف أتباعه في مقاومتهم أي تهاون مع الإمبريالية "الديمقراطية" لمعسكر الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، علي الرغم من الضغط العارم (متضمنا  ضغط معظم جماهير الطبقة العاملة ومعظم أفضل مناضليها).
 لقد سبح أتباع تروتسكى بالفعل ضد التيار وخرجوا مرفوعي الرأس علي الرغم من اضطهادهم وسجنهم (في الولايات المتحدة وبريطانيا) وبالطبع في الدول التي احتلها النازيون حيث تم إعدامهم. الأمر الذي أفقدنا عدداً كبيرا  من المناضلين التروتسكيين في أوروبا.
لقد حافظ أتباع تروتسكى علي هذا التراث ضد كل المصاعب والعقبات، وضموا للحركة عناصر جديدة ونجحوا، في بعض حالات علي الأقل، فى تشكيل حركات عمالية التكوين (ينطبق هذا بالتأكيد علي التروتسكيين الأمريكيين والبريطانيين). لقد منحهم اعتقادهم الراسخ بقرب حدوث الثورة البروليتاريةقوة فائقة. هكذا أصدرت المجموعة البريطانية الرئيسية في عام 1944 كتيبا  يحتوي علي وثيقة في عام 1942 بعنوان "الإعداد للسلطة"  رغم أنه لم يكن هناك أكثر من 200 أو 300 تروتسكى في ذلك الوقت.. ويعود هذا التجاهل الهائل للمصاعب المباشرة والتي كان من الواضح أنها خارقة، والذي امتزج بإيمان لا يهتز في المستقبل، يعود إلى أفكار تروتسكى. هكذا كان حال أتباع تروتسكى في كل مكان.
 للأسف كان هناك جانب آخر للمسألة: اعتقاد حرفي بصحة رؤية تروتسكى للعالم وتنبؤاته بين 1938 -1940. لقد امتزج عنصران مختلفان، الأممية الثورية المصحوبة بالإيمان بالانتصار النهائي للاشتراكية، والتقييم المجدد لاحتمالات تطور الرأسمالية والستالينية. بالتالي أصبح الاهتمام بوقائع الحال المتغير بسرعة، في نظر أتباع تروتسكى الأكثر "أرثوذكسية" مطابق للـ "تحريفية". وقفت الحركة، في معظمها، لسنوات عديدة بعد 1945 في "خندق 1938" وعندما تمكنت الحركة في النهاية من الخروج منه، ظهر عدد من التيارات المختلفة، بعضها يحافظ علي عناصر من التراث الشيوعي الحقيقي أكثر من بعضها الآخر. لقد تمثلت نقطة ضعفهم الكبرى في عدم قدرتهم عموماً علي مقاومة قوة جذب الستالينية بالكامل، وبعد ذلك بقليل، في الخمسينات والستينيات، علي مقاومة قوة جذب حركات العالم الثالث. وهذا بدوره أبعدهم عن التركيز المتماسك والمصمم علي إعادة إحياء تيار ثوري في الطبقة العاملة الصناعية هكذا تقوت طبيعتهم البرجوازية الصغيرة وتأكدت، ودارت الحلقة المفرغة دورتها من جديد.
 بعد ذكر كل هذا، يبقي صحيحاً أن تراث نضال تروتسكى طول حياته، والذي خاضه في السنوات الأخيرة من حياته تحت ظروف بالغة الصعوبة، تراث قيم وثري للغاية بالنسبة لكل هؤلاء الماركسيين الذين يعتبرون الماركسية ربطا بين النظرية والتطبيق، وليست مجرد تحليلات أكاديمية. ويبقى صحيحاُ أيضاً إن إضافات تروتسكى للماركسية لا يمكن لمناضلى اليوم الاستغناء عنها لإنجاز هذا الربط .
*********************************************************

المصادر

المقدمة :
1.       ب .أندرسون "تصورات حول الماركسية الغربية"، لندن 1976، ص 29.
الفصل الأول : الثورة الدائمة
1.       "إنجلز  إلى كاوتسكي" ماركس وإنجلز: مراسلات مختارة 1846 1895، لندن 1936، ص 399.
2.        بيان حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي 1898 ، في ر.ف .دانيلز، تاريخ وثائقي للشيوعية، نيويورك، 1962 المجلد، 1 ص 7.
3.        لينين الأعمال الكاملة موسكو 1960، المجلد 9 ص 55 - 57.
4.                     المصدر السابق المجلد 21 ص 33.
5.                     تروتسكى "خلافاتنا" في 1905 نيويورك 1972، ص 312.
6.                     المصدر السابق.
7.                     المصدر السابق ص 313 - 314.
8.                     تروتسكى "نتائج وتوقعات" في الثورة الدائمة، نيويورك 1962، ص 194 - 195.
9.        لينين الأعمال الكاملة. موسكو 1960، المجلد 9 ص 28.
10.                  تروتسكى "خلافاتنا" المصدر السابق ص 317.
11.       إن محاولة تبرير هذه المقولات سيأخذنا بعيدا عن الهدف المحدد لهذا الكتاب ستجد أدلة حاسمة، من زوايا مختلفة بعض الشيء في تروتسكى: "تاريخ الثورة الروسية" لندن 1977 وتوني كليف "لينين"، لندن 1976، المجلد الثاني.
12.      ت. كليف "لينين"، لندن 1976، المجلد الثاني، ص 138.
13.      إ. دويتشر "النبي الأعزل"، لندن 1959، ص 323.
14.      تروتسكى "الحزب الشيوعي الصيني والكومنتانج"، في ليون تروتسكى حول الصين نيويورك 1976، ص 113-115.
15.      تروتسكى "الخطاب الأول حول المسألة الصينية"، في ليون تروتسكى حول الصين المصدر السابق ص 222.
16.      تروتسكى "ملخص تصورات للثورة الصينية" المصدر السابق ص 229.
17.      تروتسكى "الثورة الصينية وأطروحات الرفيق ستالين" المصدر السابق ص 162 - 163.
الفصل الثاني : الستالينية
1.       لينين "الأعمال الكاملة" موسكو 1960، المجلد الثاني ص 65 - 66.
2.       إ.ه.كار "الثورة البلشفية" لندن 1963، المجلد الثاني ص 194 - 200.
3.       ف سيرج "من لينين إلى ستالين" نيويورك 1973، ص 39.
4.       تروتسكى في إ. دويتشر "النبي المسلح" لندن 1954، ص 509.
5.       لينين، المصدر السابق المجلد 32 ص 24.
6.       المصدر السابق ص 48.
7.       هناك سرد تفصيلي في إ. دويتشر "النبي الأعزل" لندن 1959، خاصة الفصل الثاني والخامس.
8.       منبر المعارضة، لندن 1973، ص 35 - 36.
9.       ستالين في تروتسكى "الثورة المغدورة" لندن 1967، ص 291.
10.      تروتسكى “إلى أين تسير الجمهورية السوفيتية" في كتابات ليون تروتسكى 1929 نيويورك 1975، ص 47 - 48.
11.      المصدر السابق ص 50.
12.      المصدر السابق ص 51.
13.      تروتسكى "إشكاليات تطور الاتحاد السوفييتي" في كتابات ليون تروتسكى 31 - 1930 نيويورك 1973، ص 215.
14.      المصدر السابق ص 225.
15.      أ.نوف “تاريخ اقتصادي للاتحاد السوفييتي" لندن 1965، ص 206.
16.      تروتسكى "الطبيعة الطبقية للدولة السوفيتية" في كتابات ليون تروتسكى 1933 - 1934 نيويورك 1972، ص 117 - 118.
17.      تروتسكى “الدولة العمالية وترميدور والبونابرتية” في كتابات ليون تروتسكى 1934-1935 نيويورك 1971، ص 166 - 167.
18.      المصدر السابق ص 182.
19.      إ. دويتشر، المصدر السابق ص 139.
20.      تروتسكى " الدولة العمالية وترميدور والبونابرتية" المصدر السابق ص 172 - 173.
21.      تروتسكى "عذاب موت الرأسمالية ومهام الأممية الرابعة" في وثائق الأممية الرابعة، نيويورك 1973، ص 210.
22.      المصدر السابق ص 211.
23.      المصدر السابق ص 211 - 212.
24.      تروتسكى "الثورة المغدورة"، لندن 1967، ص 278.
25.      تروتسكى "عذاب موت الرأسمالية ومهام الأممية الرابعة"، المصدر السابق ص 213.
26.      تروتسكى "الثورة المغدورة" المصدر السابق ص 254.
27.      المصدر السابق ص 255.
الفصل الثالث: الإستراتيجية والتكتيك
1.       تروتسكى “بيان الأممية الرابعة الشيوعية إلى عمال العالم”، في السنوات الخمس الأولى للشيوعية، نيويورك 1945، المجلد الأول ص29 - 30.
2.       ج. دجراس "الأممية الشيوعية 1919-1934 " لندن 1971، المجلد الأول ص 16.
3.       الصدر السابق ص 6.
4.       لينين، الأعمال الكاملة، موسكو 1960، المجلد 28 ص 455.
5.       س هافنر، فشل ثورة ألمانيا 1918-1919، لندن 1973، ص 152.
6.       لينين، المصدر السابق المجلد 21 ص 40.
7.       ج.دجراس، المصدر السابق المجلد الأول ص 12 - 13.
8.       ج.دجراس، المصدر السابق ص 19.
9.       لينين، المصدر السابق، المجلد 25 ، ص 393.
10.      المصدر السابق، المجلد 29 ص 311.
11.      ج.دجراس، المصدر السابق ص 13.
12.      لينين، المصدر السابق المجلد 31 ص 206 - 207.
13.      المصدر السابق ص 206.
14.      ج.دجراس المصدر السابق ص 109.
15.      تروتسكى خطاب حول تقرير الرفيق زينوفيف عن دور الحزب" في السنوات الخمس الأولى للأممية الشيوعية، المصدر السابق المجلد الأول ص 97 - 99.
16.      المصدر السابق ص 101.
17.      المصدر السابق ص 141.
18.      المصدر السابق ص 303 - 305.
19.      المصدر السابق ص 294 - 295.
20.      ج.دجراس، المصدر السابق، المجلد الأول ص 230.
21.      تروتسكى، السنوات الخمس الأولى للأممية الشيوعية، المصدر السابق المجلد الثاني ص 91 - 95.
22.      تروتسكى، كتابات ليون تروتسكى 32-1933 نيويورك 1972، ص 51 - 55.
23.      إ.ه كار "فترة التحول 1923-1924 " لندن 1965، ص 221.
24.      تروتسكى “دروس الإضراب العام" في كتابات تروتسكى حول بريطانيا، لندن 1974، المجلد الثاني ص 241 - 245.
25.      المصدر السابق ص 242.
26.      المصدر السابق ص 252 - 253.
27.      ج.دجراس "الأممية الشيوعية: وثائق" لندن المجلد 3 ص 42.
28.      المصدر السابق ص 159.
29.      المصدر السابق ص 224.
30.      تروتسكى "التحول في الأممية الشيوعية" في الصراع ضد الفاشية في ألمانيا، نيويورك 1971، ص 57 - 60.
31.      تروتسكى "ماذا بعد ؟"، في المصدر السابق ص 248.
32.      المصدر السابق ص 254.
33.      ج.دجراس المصدر السابق المجلد 3 ص 375.
34.      المصدر السابق ص 390.
35.      المصدر السابق ص 384.
36.      أنظر ف.مورو "الثورة والثورة المضادة في أسبانيا"، نيويورك 1938، ص 34.
37.      المصدر السابق ص 35.
38.      تروتسكى "دروس أسبانيا: التحذير الأخير"، في الثورة الأسبانية 31-1939 نيويورك 1973، ص 322 - 323.
الفصل الرابع : الحزب والطبقة
1.       إ. دويتشر "النبي المسلح"، لندن 1954، ص 45.
2.       "1903 :المؤتمر الثاني لحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي" ، لندن ص 204.
3.       تروتسكى "مهامنا السياسية"، في د  ف. دانيلز، تاريخ وثائقي للشيوعية نيويورك 1962، المجلد الأول ص 31.
4.       أنظر شورر "الثورة الدائمة"، لندن 1962، ص 73.
5.       المصدر السابق ص 74.
6.       أنظر ت. كليف "لينين" لندن 1976، المجلد الأول ص 168 - 179، المجلد الثاني ص 97 -139.
7.       تروتسكى "ماذا بعد ؟ " في الصراع ضد الفاشية في ألمانيا، نيويورك 1971، ص 163.
8.       المصدر السابق ص 163 - 164.
9.       المصدر السابق ص 159.
10.      تروتسكى "بيان الأممية الشيوعية لعمال العالم"، نيويورك 1945، المجلد الأول ص 29.
11.      تروتسكى "ماذا بعد ؟" المصدر السابق ص 254.
12.      تروتسكى "الثورة الأسبانية والخطر الذي يهددها"، نيويورك 1973، ص 133.
13.      تروتسكى "التجمعات في المعارضة الشيوعية”، فى كتابات ليون تروتسكى 1929، نيويورك 1975، ص 81.
14.      تروتسكى "المعارضة اليسارية الأممية: مهامها ومنهجها" في كتابات ليون تروتسكى 32 -1933، نيويورك 1972، ص 56.
15.      تروتسكى "تاريخ الثورة الروسية" لندن 1977، المجلد الأول ص 306.
16.      تروتسكى "تطور الكومنترن"، وثائق الأممية الرابعة، نيويورك 1973، المجلد الأول ص 128.
17.      تروتسكى "ترميدور والبونابرتية"، في كتابات تروتسكى 30 - 1931، نيويورك 1973، ص 75.
18.      تروتسكى "من أجل جبهة متحدة عمالية ضد الفاشية"، في الصراع ضد الفاشية في ألمانيا  المصدر السابق ص 134.
19.      تروتسكى "ألمانيا مفتاح الوضع الأممي"، في الصراع ضد الفاشية في ألمانيا  المصدر  السابق ص 121 - 122.
20.      تروتسكى "بيروقراطية ستالين في مأزق" كتابات ليون تروتسكى 1932، نيويورك 1973، ص 125.
21.      تروتسكى "إلى هيئة تحرير برومتيو" ، كتابات ليون تروتسكى 35-1936، نيويورك 1970، ص 285 - 286.
22.      ت. كليف "لينين"، لندن 1976، المجلد الثاني ص 12.
23.      ج. فان هيجنورت "مع تروتسكى في المنفى"، بوسطن 1978، ص 38.
24.      تروتسكى "دروس تدخل ال( أس.أف.أى.أو.)"، في كتابات ليون تروتسكى 35 - 1936، نيويورك 1970، ص 31.
25.      تروتسكى "حان الوقت للتوقف"، في كتابات ليون تروتسكى 33-1934، نيويورك 1972، ص 90 - 91.
26.      تروتسكى "وسطية أم ماركسية"، في كتابات ليون تروتسكى 34 - 1935، نيويورك 1971، ص 274.
27.      تروتسكى "إنجاز عظيم" في كتابات ليون تروتسكي37 -1938، نيويورك 1976، ص 439.
 
الفصل الخامس : الإرث
1-    أنظر محاكمات موسكو: مختارات، لندن 1967، ص 12.
2-      أنظر إ. دويتشر "النبى المنبوذ"، نيويورك 1964، ص 171.
3-      تروتسكى " النضال ضد التيار"، فى كتابات ليون تروتسكى 38-1939، نيويورك 1974، ص 151-
        252.
4-      تروتسكى " عذاب موت الرأسمالية ومهام الأممية الرابعة"، فى وثائق الأممية الرابعة، نيويورك
         1973، ص 180.
5-      تروتسكى " الاتحاد السوفيتى فى الحرب"، دفاعاً عن الماركسية، لندن 1971،
       ص 9.
6-      تروتسكى " عذاب موت الرأسمالية ومهام الأممية الرابعة"، المصدر السابق،
       ص180.
7-     المصدر السابق ص 182
8                     -تروتسكى " مؤامرة تصفية الكومنترن"، فى كتابات ليون تروتسكى 35-   1936،نيويورك 1970،ص 11.
9-     تروتسكى " الاتحاد السوفيتى فى الحرب"، المصدر السابق ، ص 10.
10-    م .كيدرون "الرأسمالية الغربية منذ الحرب"، لندن 1967، ص11.
11-          تروتسكى " تأسيس الأممية الرابعة"، فى كتابات ليون تروتسكى 38-1939،
         المصدر السابق،ص 87.
12-    تروتسكى " عذاب موت الرأسمالية"، المصدر السابق، ص 183.
13-    تروتسكى " الاتحاد السوفيتى فى الحرب"، المصدر السابق ، ص 4-5.
14-    المصدر السابق ص21.
15-    المصدر السابق ص 18.
16-          تروتسكى "الثورة المغدورة"، لندن 1967، ص145-146.
 
17-          تروتسكى " عشر سنوات"، فى كتابات ليون تروتسكى 38-1939، المصدر
         السابق، ص 341.
18-    ماركس "بؤس الفلسفة"، لندن 1937، ص 129-130

*********************************

 



#دونكان_هالاس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال ...
- الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف ...
- السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا ...
- بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو ...
- حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء ...
- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - دونكان هالاس - كتاب - ماركسية تروتسكى