|
رسائل الاجتياح التركي
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 5022 - 2015 / 12 / 23 - 22:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يندرج موضوع الأزمة العراقية- التركية الأخيرة، الناجم عن اجتياح القوات التركية للأراضي العراقية في الدائرة الإسلامية، وهي إحدى الدوائر الخمس الأساسية التي حدّد الرئيس التركي الأسبق سليمان ديمريل حدودها وأبعادها. والدائرة الإسلامية تقوم على كون تركيا هي الجسر الموصل بين أوروبا والعالم العربي، وهي دائرة مهمة وأساسية، خصوصاً أنها تشتبك بالدوائر الأربع الأخرى، ونعني بها: دائرة الشرق الأوسط المتمثّلة في الصراع العربي - «الإسرائيلي»، وهذه الدائرة ترتبط بدائرة شرقي البحر المتوسط، تلك التي دفعت تركيا منذ وقت مبكر لإقامة علاقة دبلوماسية كاملة مع «إسرائيل»، وهي أول بلد مسلم اعترف بها في العام 1949، وأبرم معها معاهدات عسكرية وأمنية، أهمها معاهدة "ترايدنت" لعام 1960، إضافة إلى علاقات اقتصادية وتجارية واسعة. كما تشتبك الدائرة الإسلامية مع دائرة القوقاز وآسيا الوسطى التي هي مسرح صراع ونفوذ بين تركيا وإيران، وكذلك مع الدائرة البلقانية التي كانت بؤرة نزاعات مسلحة بعد انقسام يوغسلافيا وتشظّيها، ولاسيّما بعد الدور الصربي الجديد، وكذلك الحرب في كوسوفو، وعلاقة ذلك بالروس وتعارضاتهم مع خطط حلف الناتو. وكانت هذه الدوائر الخمسة قد لقيت اهتماماً من أحمد داود أوغلو ورجب طيب أردوغان منذ فوز حزب العدالة والتنمية في العام 2002، خصوصاً في الولاية الأولى للحكم، الذي اعتمد على السعي لتصفير المشكلات مع دول الجوار، بالاستناد إلى الدبلوماسية المتعدّدة الأبعاد والمتناغمة على تنمية داخلية، تقوم على معادلة الحرية والأمن، ثم النأي بالنفس عن ولوج الحرائق المشتعلة في المنطقة، بما فيها الامتناع عن دخول التحالف الدولي لاحتلال العراق العام 2003 وعدم تسهيل مهمته عبر الأراضي التركية. لكن مثل تلك التوجّهات لم تستمر، بل انقلبت على الضد منها إثر اندلاع موجة الربيع العربي، حيث وضعت تركيا تلك المبادئ على الرف، وتحرّكت مدفوعة بغريزة داخلية مكبوتة، بإسقاط رغباتها على الواقع، والسعي للعب دور لا يقل عن دور القوى العظمى في المنطقة باعتبارها أحد أذرع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وشعرت بأن نفوذها يمكن أن يمتد إلى تونس، وبعد ذلك إلى مصر بدعم التيار الإخواني، وصولاً إلى ليبيا، لكن دورها في سوريا، كان هو الأكبر والأخطر بحكم الجوار والحدود المشتركة والعلاقات التاريخية. والأمر ليس بعيداً عن العراق، والأحلام التركية القديمة التي سرعان ما تتحفز لأي مؤثر، أو مناسبة، حتى يسيل لعابها سريعاً. والعراق كما تعتقد تركيا مجالاً حيوياً لها، ولهذا تريد بسط نفوذها عليه، تارة بزعم وجود حزب العمال الكردستاني PKK، وأخرى لمواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي، خصوصاً بعد احتلاله للموصل في 10 يونيو/حزيران العام 2014 وهما يهدّدان أمنها، وثالثة لإحداث نوع من التوازن الإقليمي مع النفوذ الإيراني، ورابعة الزعم بحماية تركمان العراق، لكن ذلك ليس بمعزل عن أطماع قديمة - جديدة بشأن ولاية الموصل التاريخية، التي تتنشّط الذاكرة التركية بشأنها كلما كان العراق ضعيفاً ومفككاً، علماً بأن مسألة ولاية الموصل، حُسِمَ أمرها عبر مجلس عصبة الأمم، العام 1925، إلاّ أن تركيا التي اقتطعت لواء الإسكندرونة السوري لا تريد إغلاق ملف الموصل الذي ظلّ مفتوحاً، وما إرسال قواتها إلى منطقة بعشيقة 30 كيلومتراً شمالي الموصل، سوى التلويح بحضورها إزاء أي تطور قد يحصل، وهي بذلك تريد إرسال أكثر من رسالة إلى الأطراف المختلفة في العراق وخارجه. الرسالة الأولى أن ذراع تركيا طويلة، وهي تصل إلى أبعد مما نتصوّر، فها هي تسقط طائرة روسية على الحدود السورية - التركية، بل وتحذّر روسيا من ردود فعلها، وفي الوقت نفسه تجتاح الأراضي العراقية من دون حسيب أو رقيب، بل وتصرّ على عدم الانسحاب، وحتى عندما تثار ضجة عراقية حول الموضوع، وإن كانت محدودة نسبياً، بسبب غياب الوحدة الوطنية، فإنها تتذرّع بوجود اتفاقية أمنية وعسكرية تسمح لها بذلك، بل وتناور أكثر حين تقوم بإعادة انتشار قواتها، متناسية أن ذلك يتم بمعزل عن الحكومة العراقية ومن دون تنسيق أو تعاون معها، بل إن هذه الأخيرة طالبتها بالانسحاب وتقدّمت بشكوى إلى مجلس الأمن للضغط عليها لسحب قواتها من الأراضي العراقية. الرسالة الثانية موجّهة للأطراف العراقية المختلفة، فهي تريد أن تقول لها إن أحفاد الإمبراطورية العثمانية التي حكمت العراق والعالم العربي طوال أربعة قرون ونيّف، ما زالوا يستطيعون أن يكونوا لاعبين في الساحة العراقية، وهم ضد التمدّد الفارسي والنفوذ الإيراني، وبالتالي فتركيا يمكنها خلق نوع من التوازن بحيث لا يقع العراق تحت النفوذ الإيراني بالكامل. ليس هذا فحسب، بل إن الرسالة التركية للداخل العراقي والموجهة إلى جميع الفرقاء تلفت النظر إلى حساب موقف تركيا على خلفية التعامل مع تركمان العراق، إضافة إلى موضوع كركوك ومصيرها الذي لا يزال معلقاً حسب المادة 140 من الدستور العراقي، فلم تتم إعادة من تم تهجيرهم أو تعويضهم أو إجراء إحصاء سكاني ليعقبه استفتاء شعبي. الرسالة الثالثة تخص احتمالات إجراء تغييرات جيوبوليتيكية واستراتيجية، خصوصاً بعد تحرير الموصل، وهو موضوع ظل مؤجلاً بسبب الاختلافات، والأمر يتعلّق بخطة ما بعد "داعش" ومستقبل الدولة العراقية، علماً بأن واشنطن تدعم بعض الأطراف العراقية لإقامة إقليم سنّي، والأمر يصب في صلب اهتمام تركيا وتنسيقها مع أطراف عراقية. الرسالة الرابعة، هي أن وجود قوات تركية سيكون عنصر تحذير لقوات الحشد الشعبي، ولاسيّما في المناطق الشمالية، أي الموصل تحديداً، وهي منطقة لا تزال الخرائط التركية، التي نشرت من قبل في جريدة «حرييت» قبل سنوات وأعيد نشرها في أكثر من وسيلة إعلام، تعتبرها ضمن حدودها، على الرغم من مرور أكثر من 90 عاماً على حسم هذا الموضوع الذي هو بالأساس كان مفتعلاً وضعته بريطانيا على بساط البحث لإجبار العراقيين على التوقيع على اتفاقيات ومعاهدات مذلّة، سواء بالقبول بالانتداب وفيما بعد بتوقيع اتفاقية العام 1922 بخصوص النفط أو غير ذلك. وتزعم تركيا إن توغّل قواتها داخل الأراضي العراقية (نحو ألف جندي و25 دبابة) ووصولها إلى منطقة بعشيقة شمال العراق (التابعة لمحافظة الموصل) هو ضمن اتفاقية أمنية للبلدين تقضي بتدريب قوات عراقية كردية تابعة لإقليم كردستان (البيشمركة)، وعلى افتراض وجود اتفاقية أمنية للتعاون والتنسيق بين أنقرة وبغداد، فإنه لا يحقّ لها دخول الأراضي العراقية بقرار منفرد ومن دون علم وتنسيق مع الحكومة العراقية، والأمر يتعلق بمبادئ القانون الدولي التي تقضي باحترام حرمة الحدود ووحدة الأراضي وعدم التجاوز عليهما، تحت أي ذريعة أو مبرّر حتى وإن كانت مكافحة «الإرهاب الدولي»، وإذا كانت تركيا جادة بالفعل، فعليها الالتزام بقرارات مجلس الأمن الدولي بخصوص مكافحة الإرهاب الدولي، ومنع إمرار النفط عبر أراضيها لحساب تنظيم "داعش"، مثلما عليها التنسيق مع الحكومة العراقية المتضرّر الأكبر ومعها سوريا من الإرهاب الدولي، خصوصاً إن "داعش" يحتل مناطق واسعة من البلدين. ما الذي دفع تركيا لاجتياز الأراضي العراقية؟ وهل فكّرت في العواقب القانونية والسياسية والاقتصادية التي ستنجم عن ذلك الاجتياح؟ وهل يكفي القول إن تنظيم "داعش" وحزب العمال الكردستاني يهدّدان أمن تركيا لكي تسمح لنفسها باختراق دولة أخرى؟ أعتقد إن الرئيس أردوغان بدأ بالتخبّط في سياساته منذ مطلع العام 2011 وحتى الآن، ولاسيّما في علاقات تركيا الدولية، وإلاّ كيف يمكن لتركيا أن تغامر بكل رصيدها الذي حاولت أن تتباهى به، باعتبارها تقدم نموذجاً عصرياً للإسلام متسامحاً ومنفتحاً؟ ثم كيف لها أن تفسّر رغبتها في تعزيز العلاقة مع بغداد، وفي الوقت نفسه تقوم وعلى نحو مفاجئ باجتياح الأراضي العراقية ؟ يكفي القول إن هناك أكثر من 3200 شركة تركية تعمل في العراق، وإن نحو 1200 منها ضمن إقليم كردستان، ولاسيّما في إربيل ودهوك، وفي مجالات مختلفة، أما حجم التبادل التجاري فإنه يتجاوز 20 مليار دولار سنوياً، إضافة إلى أن صادرات النفط العراقية عبر الخط العراقي - التركي الذي أنشئ في العام 1977 وبطول 1048 كم ليصل إلى ميناء جيهان التركي يستوعب حالياً نسبة 20% من صادرات العراق النفطية. كيف جاز لتركيا أن تجازف بكل ذلك وأن تستعدي بلداً جاراً، خصوصاً وهي تقول إن نفوذ خصمها التقليدي" ونعني به إيران كبير فيه، فهل فكّرت إنها بتصرفها هذا تدفع أوساطاً أخرى للتقارب مع إيران وتضرّ أيّما ضرر بالمستقبل العراقي؟ فضلاً عن أن سلوكها هذا يخالف قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فلم يعد في عالم اليوم مقبولاً مثل هذا السلوك في ظل توازنات كبرى، لا بدّ من أخذها في الاعتبار. وبعد كل ذلك فتركيا ترتبط مع العراق بروابط مشتركة، مثل الدين والتاريخ وهي دولة جوار، ومن مصلحتها إقامة علاقات متكافئة أساسها الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وإلاّ فإنها ستخسر لا العراق وحده، بل العرب أيضاً، ولن تلقى حليفاً لها في المنطقة، خصوصاً إذا ما استمرّ نهج الغرور واللاّمبالاة.
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل المجتمع المدني ضد الدولة؟
-
فلسطين ومفارقات حقوق الإنسان
-
الفيدرالية والأقاليم: معنًى ومبنًى
-
آرا خاجادور وزيارة التاريخ!!
-
هل سيبقى العراق موحداً؟
-
العراق.. من الدولة الفاشلة إلى الكيان الهش
-
ماذا يريد البرلمان العراقي.. وماذا يريد العبادي؟
-
وماذا عن التجارة غير المشروعة ؟
-
دستور وعقول وأقلام
-
محمود البياتي: سنّارة الحلم والذاكرة التي تأكلنا!
-
الأزمة العراقية والسيناريوهات المحتملة
-
من سيحسم معارك الأنبار وصلاح الدين : واشنطن أم موسكو؟
-
جائزة نوبل والمجتمع المدني
-
«الجنائية الدولية».. تغوّل السياسة على القضاء أم ماذا؟
-
العراق و شعار الدولة المدنية
-
الأب سهيل قاشا : الرافديني المسكون بهاجس الحضارة *
-
تقسيم كردستان خطيئة أما الاقتتال فهو جريمة!
-
إنعام رعد : يقينيات السياسي وتأمّلات المفكّر
-
هوان العراق
-
سرديات الحداثة الدينية في فكر السيد فضل الله
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|