|
أسرار تكشف لأول مرة حول حرب الخليج المسماة بعاصفة الصحراء وموقف -أبو عمار- منها
ميشيل حنا الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 5022 - 2015 / 12 / 23 - 22:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تنبيه ==== هذا ليس مقالا، بل هو جزء من فصل من كتابي القادم بعنوان "الشرق الأوسط الجديد - سياسات واستراتيجيات" الذي سيصدر في نهاية الشهر القادم. وهذا الجزء من الفصل، يكشف موقف الرئيس الراحل ياسر عرفات المعتقد بأن الحرب لن تقع، لكونها مخلة بتوازن القوى في المنطقة وضارة بالاستراتيجية الأميركية. فكان بيني وبينه رهان حول "هل تقع الحرب أو لا تقع" انتهى بوقوعها، وخسارة كل الأطراف بسببها. ف"أبو عمار" خسر رهانه معي، وجورج بوش الأب خسر رهانه على ما توقع انجازه لمصلحة الاستراتيجية الأميركية. ذلك أن الحرب قد اضطرته في النهاية لتجرع "كأس السم" الذي تجرعه "الخميني" من قبل، فوقع مضطرا مرسومين معا: أحدهما يأمر بوقف اطلاق النار قبل الوصول الى بغداد، والثاني تضمن صفقة الديبلوماسية السرية التي رعاها السفير السوفياتي "بوسفاليوك" وقضت بالتعهد الأميركي لعدم التعرض للعراق ولنظامه، اذا تمكن الرئيس الراحل "صدام حسين" من ابعاد الخطر الايراني عن العراق، في وقت كان فيه حرس الثورة الايرانية قد وصلوا الى مشارف بغداد. =====================
نظراً لأهمية الدور العراقي في المنطقة، فقد إستبعدت، كما ذكرت مراراً،ـ إمكانية وقوع الحرب، (حرب عاصفة الصحراء) لما تشكّله تلك الحرب من قفزة نحو الـمجهول. فحشد القوات الأميركية ربما كان ضرورياً للحصول على موطئ قدم في الخليج. والتلويح بالحرب، أي دفع الأزمة نحو حافة الهاوية، ربما كان ضرورياً لدفع العراق نحو القبول بالإنسحاب الكامل، أو القبول بالحدّ الأدنى من إستراتيجيته ـ كالإكتفاء بالجزيرتين وبحقل نفط الرميلة. أمّا الدخول في حرب فعلية شاملة، ففيه مغامرة لا يمكن توقّع نتائجها على الإستراتيجية الأميركية، مع غياب القدرة على فرض "توازن الضعف" الحقيقي بين العراق وايران، وإحلاله محلّ " توازن القوّة" الذي كان سائداً .
فالحرص على توازن القوى في المنطقة الذي تقتضيه الاستراتيجية الأميركية، هو الذي أملى على الرئيس بوش، بعد أن الحق ضررا كبيرا بالقوة العراقية ادت الى تدميرها تدميرا شبه تام، ومكن حرس الثورة الايرانية من التوغل داخل الأراضي العراقية في ظرف كانت القوات العراقية فيه عاجزة عن مواجهتهم، بل ومكنهم من الوصول الى مشارف بغداد كما اكتشفت الأقمار الصناعية وطائرات الأواكس في الثامن والعشرين من شباط 1991 ...هو الذي فرض على الرئيس بوش أن يتجرع كأس السم السابق ذكره، وأن يمسك بالقلم بيد رتعشة، ويوقع قرار وقف اطلاق النار، بل وعلى قرار السماح باطلاق الأسرى العراقيين فورا، والسماح للحكومة العراقية باستخدام طائرات الهليكوبتر في مناطق خاضعة للحظر الجوي، اضافة الى السماح للسوفيات بتعويض السلاح العراقي الذي دمرته الحرب، مع وعد بعدم التعرض للنظام العراقي (اسوة بوعدهم بعدم التعرض لكوبا)... وذلك ضمن صفقة الدبلوماسية السرية التي رعاها السفير "بوسفاليوك". فذلك كله كان ضرورة حتمية أملتها حرب عاصفة الصحراء، التي حررت الكويت من الغزو العراقي، لكنها أتاحت الفرصة لحصول الغزو الايراني للعراق، وهو ما شكل تناقضا واضحا مع مقتضيات الاستراتيجة الأميركية الساعية لتحقيق الشرق الوسط الجديد عبر عاصفة الصحراء، واذا بها الآن قد أتاحت لايران تحقيق شرق أوسط جديد، لكن للمصلحة الايرانية التي كادت تتسع رقعة نفوذها لتمتد من الحدود السوفياتية الى حدود دول الخليج، بل والى حدود سوريا (المتحالفة معها والواقعة على شواطىء البحر الأبيض المتوسط). فهل كان هناك قصر نظر في التخطيط الأميركي أسوأ من هذا التخطيط؟
*********************
ويبدو أنّ " ياسر عرفات" رئيس فلسطين، كانت له رؤية أدق من رؤية الرئيس بوش. اذ كان هو أيضا غير مقتنع بإحتمال نشوب حرب أميركية عراقية في الخليج، لما فيها من ضرر للاستراتيجية الأميركية، ومن خطر على النفط، والأهم من ذلك من اخلال بموازين القوى في المنطقة.
فقد أجريت معه لقاء تلفزيونياً في بغداد، في الثاني من كانون الثاني 1991، وكان كلامه لي واضحاً بأنّ حرباً كهذه لن تقع. وخرجت بإنطباع أنّ هذه القناعة، ربما تكون هي قناعة الرئيس صدام حسين، وكذلك قناعة الملك حسين، اللذين إلتقاهما "عرفات" طويلاً ومراراً أثناء إشتداد الأزمة.
فقد ردّ " ياسر عرفات" على إستفساري عما سيحدث في الخامس عشر من كانون الثاني، أي في موعد إنتهاء الإنذار الدولي، بقوله "أنّه ليس أكثر من موعد". وسألته "هل تعتقد بأنّه ستقع الحرب في الخامس عشر من الشهر"، فردّ قائلاً وبحزم: "لا بكل تأكيد. أنا واثق". وعندئذٍ صغت سؤالي بعبارة مختلفة قائلاً: "بما أنّنا نقترب من تاريخ الخامس عشر، وحرارة [ التوتّر ] آخذة في الإرتفاع فماذا...". وقاطعني "عرفات" قائلاً "من وجهة نظرك، وليس من وجهة نظري، لأنّ هذا التاريخ بالنسبة لي، ليس أكثر من تاريخ".
ومع أنّني كنت مقتنعاً بوجهة النظر تلك، إذ شكّلت خلاصة تحليلي للموقف المستند الى قناعتي بأنّ حرباً كهذه تشكل مغامرة كبرى، وقد تؤذي إستراتيجية أميركا أكثر مما تفيدها، إلاّ أنّني أخذت متعمدا موقف المعارضة في المناقشة مع "عرفات" على أمل إستدراجه ليقول المزيد .
وتشبّث "ياسر عرفات" بموقفه المستبعد تماماً لإحتمال نشوب الحرب. بل ذهب الى حدّ وعد فيه بأنّ يلقاني في ليلة الخامس عشر من كانون الثاني، لدى إنتهاء موعد إنذار الحلفاء، ليؤكّد لي، بل ولكي نتأكّد معاً كما قال، بأنّ الحرب لم تبدأ رغم أنّ الإنذار الدولي قد إنتهى .
وفي تلك الليلة أيضاً، وأثناء وجودي في مكتبه، أجرى "ياسر عرفات" بحضوري، لقاء تلفزيونياً مع القناة الفرنسية الأولى "تي أف وان" (TFI). وسألته المراسلة "إيزابيل بيانكور" :"ماذا سيحدث في الخامس عشر". فردّ قائلاً: " إنه يوم آخر. هل تعتقدين أنّ هناك زعيماً في هذا العالم يقبل بأن يبدأ حرباً". وكان "عرفات" قد قال أيضاً أثناء اللقاء: "فيتنام كانت حرباً في الأدغال... لكن هنا. إنّها في أكثر المناطق أهمية بالنفط. فالإحتياطي النفطي هو هنا في هذه المنطقة، وسوف تستخدم فيها [هذه الحرب] كافة أسلحة الدمار الشامل". وكان "عرفات" بذلك القول، يشير الى عامل الموقع كعامل رادع لمنع الحرب، وكذلك الى عامل نوعية السلاح الذي قد يستخدم.
ولم تكن تلك هي المرّة الأولى التي يؤكّد فيها "عرفات" إستبعاده للحرب. إذ كان قد أكّد ذلك أيضاً " لجون سمسون" - مراسل " بي بي سي"، في لقاء أجراه معه قبل إلتقائي "بعرفات" ببضعة أيام. فقد قال "عرفات" "لسمسون" يومئذٍ، أنّه "لن تكون هناك حرب. الأميركيون ليسوا أغبياء"، كما أورد سمسون في كتابه بعنوان "من ديار الحرب". وبعد إنتهاء اللقاء التلفزيوني، وأثناء وجبة الغداء التي شارك فيها "سيمسون"، عاد "ياسر عرفات" يؤكّد "لجون" أثناء "دردشة" معه: "لن تكون هناك حرب. بوش ليس مجنوناً. إنّه يعرف المخاطر. سوف يقومون [أعضاء مجلس الأمن ] بتحديد موعد آخر أبعد من 15 كانون الثاني".
ولكنّ مجلس الأمن لم يحدّد موعداً جديداً. فالموعد قد أنتهى، ومع أنّ إمكانية تمديد المهلة للعراق قد أخذت تبدو مستبعدة، فإنّ أمكانية وقوع الحرب، قد ظلّت مستبعدة أيضاً من وجهة نظري.
ومع أنّ "عرفات" كان يصرّ حتى اليوم الأخير على أنّ الحرب لن تقع، فإن ذلك لم يكن رأيه لدى بداية الأزمة. إذ يورد الكاتبان "جون وجانيت والاش" (JOHN & JANET WALLACH) في كتابهما "عرفات في عيون الناظر" (ARAFAT - IN THE EYES OF THE BEHOLDER)، لقاء أجرياه مع "عرفات" بعد أيام قليلة من الإجتياح العراقي للكويت. وقال "عرفات" في اللقاء الذي أجري في بغداد: "أنا أجري بسرعة. أنا أجري بسرعة كبيرة. صدّقوني. صدّقوني. خلال حصار بيروت، أنا لم أكن قلقاً كما أنا قلق الآن".
ومضى "عرفات" قائلاً:" تخيّلوا .. أنّ نواجه فجأة صاروخ كروز هنا... ثلاثتنا. من يدري" - كما ورد في الكتاب المذكور سابقا. وفي وقت لاحق، قال "عرفات": "لن يكون هناك منتصر في هذه الحرب القادمة .. المنطقة كلها، من إسرائيل الى السعودية الى الأردن ولبنان والعراق وربما كلّ الخليج، سوف تشتعل". وكان "عرفات" يشير بذلك مرّة أخرى الى عامل نوعية السلاح المدمّر، كعامل رادع لوقوع الحرب. ولكنه أيضا وبقوله أنه لن يكون هناك منتصر، كان "ابو عمار" على أرض الواقع وبدون أن يدري، قد تنبأ بالنتائج الفعلية لتلك الحرب التي انتهت فعلا بخسارة للطرفين، وبنصر أيضا للطرفين. فالولايات المتحدة قد بدت منتصرة بتحريرها للكويت، والرئيس صدام بدا منتصرا باعادة تسليح جيشه وبحصوله على تعهد بعدم التعرض لنظامه مستقبلا.
وبعد أربعة أيام من هذا اللقاء، دعا الرئيس عرفات الكاتبين "جون وجانيت والاش" ليرافقاه في رحلة الى عمّان. وعلى متن الطائرة، إستأنف الكاتبان حوارهما مع "عرفات" الذي بادر سائلاً: متى سيهاجم بوش العراق أو الكويت؟ ثم ردّ على سؤاله بنفسه متنبّئاً بأنّ الهجوم [ الأميركي] سوف يقع بعد إثني عشر يوماً أي في تشرين الثاني. وقصد "عرفات" أنّ الهجوم سيقع قبل إنتخابات الكونجرس الجزئية، أو بعد تلك الإنتخابات التي تجري في أوائل تشرين الثاني (أنظر كناب "عرفات في عيون الناظر")..
وقال "عرفات" أيضاً: "بعد اليوم الثالث [ من الحرب ]، سوف يدركون ما هو معنى الحرب. لن يكون هناك رابحون في هذه الحرب القادمة. هؤلاء الذين يصفّقون لطبول الحرب، سيكونون هم الضحايا. كلّنا [سنكون ضحايا] ". إذن لم يكن "عرفات" ذو نظرة تفاؤلية في الأيام الأولى لأزمة الكويت. فكلامه كان يختلف عمّا أخذ يقوله في وقت لاحق لي، للسيدة بيانكور، ولجون سمسون.. ويبدو أنّه قد إقتـنع فيما بعد بأنّ الحرب لن تقع، لأنّ تنبأه بأنّ الحرب ستقع قبل الإنتخابات الأميركية الجزئية تعزيزا لموقف الحزب الجمهوري (حزب الرئيس بوش) في الانتخابات، لم يتحقّق، فتفاءل ثم إقتنع بعدئذٍ أنّ الحرب قد لا تقع أبداً.
وقد يكون ذلك القول، مجرّد تبسيط للإحتمال الذي أدّى "بعرفات" الى تغيير موقفه. فربما أدرك الرئيس الفلسطيني، نتيجة تحليل موضوعي، بأنّ الحرب ستؤذي الإستراتيجية الأميركية أكثر مما ستؤذي العراق. ولهذا بات مقتنعاً بأنّ الحرب لن تقع أبداً، فراح ينفي إحتمال وقوعها قائلاً: "لا. بكل تأكيد. أنا واثق". وأخذ يقول للسيدة "بيانكور": "هل تعتقدين أنّ هناك زعيماً في هذا العالم يقبل بأن يبدأ الحرب". ويقول "لجون سمسون": "لن تكون هناك حرب. بوش ليس مجنوناً. إنّه يعرف المخاطر" .
ولقد أكّد الشيء ذاته في الثالث عشر من كانون الثاني، عندما زاره "فاروق شكري" - مراسل وكالة الأنباء الفرنسية وصحفيون آخرون، في مقرّ إقامته بحيّ الجاذ رية في بغداد. إذ قال لهم: "يوم الخامس عشر، سيكون مجرد يوم آخر"، عانياً بأنّ شيئاً ما لن يحدث لدى إنتهاء الإنذار. وكرّر القول نفسه في الرابع عشر من كانون الثاني، أثناء لقاء إجراه معه "بيرني شو"، أحد كبار مذيعي "السي أن أن" (CNN)، اذ قال "عرفات" يومئذٍ، أثناء اللقاء الصوتي الذي أجري في فندق الرشيد وبُثَّ حيّاً على الهواء، أنّه لايؤمن بأنّ حرباً ستقع. "سوف ترى". قال مبتسماً وهو يهزّ رأسه. "أنا سوف أكون هنا، في بغداد، في الخامس عشر من كانون الثاني". فهذا ما أورده "روبرت وينر" - كبير المنسقين في قناة "سي ان أن" ، في كتابه بعنوان "البث الحي من بغداد".
ولكنّ "عزام الأحمد"، سفير فلسطين في العراق منذ عام 1979، والذي كان على إتّصال دائم "بياسر عرفات" منذ بدء الأزمة، وشاركه في العديد من المباحثات التي أجراها مع الرئيس "صدام حسين"، قال لي فيما بعد (وبحضور فاروق شكري عندما التقيناه في فندق الرشيد)، أنّ "ياسر عرفات" قد أسيء فهمه. فهو قد توقّع وجزم ـمنذُ اليوم الأول للأزمة، بأنّ الحرب واقعة. وكانت رسائله العديدة عبر الفاكس، والمرسلة من تونس للسفارة الفلسطينية في بغداد، تؤكّد ذلك الإعتقاد. إذ كان يرسل "لعزام" رسائل شبه يومية تتضمّن معلومات [ يرجّح أنّ تكون إستخباراتية مصدرها الإتحاد السوفياتي وفرنسا]، ومفادها أنّ الحرب واقعة لا محالة. وكان "عرفات" يحذّر "عزام" في تلك الرسائل، وينبّهه الى ضرورة إتّخاذ الإحتياطات اللأزمة.
ويؤكّد "عزام الأحمد" أنّ "عرفات" لم يؤمن فقط بجدّية إحتمال وقوع الحرب، بل وحذّر بأنّها قد تكون حرباً نووية، كما قال لي "عزام" عندما التقيته بحضور فاروق شكري - مراسل وكالة الأنباء الفرنسية. وأضاف "عزام الأحمد" أنّ الرئيس الفلسطيني قد بعث له "بفاكس" في أوائل كانون أول، مفاده أنّ قنبلة نووية قد تلقى على بغداد. ولدى إستلام الفاكس، جلس "عزام" مع موظفي سفارته، وأخذوا جميعاً يبحثون في الكتب، ليستطيعوا تحديد مدى إنتشار أصغر قنبلة نووية متوفّرة، محاولين تحديد المكان الذي ينبغي اللجؤ اليه خارج بغداد، لتجنّب إشعاع قنبلة كهذه.
وهكذا بدا الأمر للوهلة الأولى وكأن "عرفات" يتّخذ موقفين متناقضين من الأزمة، أحدهما يعلنه للصحفيين ويستبعد فيه وقوع الحرب، وآخر يعلنه لرجاله ومستشاريه، يرجّح فيه وقوع الحرب. فهل كان "عرفات" عاجزاً عن تحديد موقف واضح من قضية الحرب، أم ترى كان يعمل بقول "الإمام علي": "إعمل ليومك كأنّك تعيش أبداً، وأعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً". ورجّحت الأمر الثاني. فهو يستبعد فعلاً إحتمال وقوع الحرب إستناداً لتحليل إستراتيجي واع، لكنّه في الوقت نفسه، يحثّ أعضاء سفارته على إتّخاذ الإحتياطات اللأزمة تحسّباً لكونه قد وقع في خطأ ما في التحليل أو الإستنتاج، فنشبت الحرب فعلاً. والواقع أنّ هذا هو الأسلوب الذي تعاملت فيه شخصياً مع الأزمة. فرغم إعتقادي الجازم بأنّ الحرب لن تقع، فقد خطّطت لما سأفعله إذا كنت مخطئاً، فوقعت الحرب.
وفي يوم السادس عشر من كانون الثاني، يوم إنتهاء الإنذار، جاءت الإشارة الأخيرة التي تؤكّد بأنّ "عرفات" كان يرجّح عدم وقوع الحرب رغم تحذيراته المتكرّرة لأعضاء سفارته. إذ إلتقيت يومئذٍ في فندق الرشيد "بسميح سمارة "، أحد المسؤولين في سفارة فلسطين ببغداد. وكانت معه زوجته وآخرون من السفارة. وكانت قضية إغتيال "ابو أياد" و" أبو الهول"، وهما من أهم مساعدي عرفات، قد وصلتنا في الصباح. وقالت لي زوجة "سميح سمارة" أنّ " أبو عمار" (أي عرفات)، كان يسأل عنك ليلة أمس، (اي في مساء الخامس عشر من الشهر موعد انتهاء الانذار الأميركي الدولي). فقد قال "لسميح" لدى صعوده الى طائرته الصغيرة: "إبحث لى عن ميشيل". وقد أكّد "سميح سمارة" ذلك القول. وأرجّح أنّ "عرفات" كان يقصد التذكير باللقاء الموعود بيننا، أي بعد موعد انتهاء الانذار الأميركي الدولي الذي كان موشكا على الانتهاء، للتأكّد معا بأنني قد خسرت رهاني معه، وبأنّ الحرب لم تقع. فهو لم ينسَ ما وعدني به في أوائل الشهر: "أن نلتقي بعد نهاية الإنذار، لنتأكّد معاً بأنّ شيئاً ما لم يحدث". فموعد الانذار كان سينتهي في مساء ذلك اليوم دون ظهور بوادر على وقوع الحرب.
وكان " أبو عمار" عندئذ يصعد إلى طائرته الخاصة في الخامس عشر من كانون الثاني، ذاهباً في رحلة قصيرة لقضاء مهمّة عاجلة، على أنّ يعود الى بغداد في ساعة متأخّرة أو في صباح اليوم التالي، أي في صباح السادس عشر من كانون الثاني. فكان يطلب من "سميح" أن يذكّرني بالموعد ليجري اللقاء المنتظر بيننا بمجرد عودته. "فعرفات" بعد أن وعدني "بلقاء التحدّي"، يوم إنتهاء الإنذار، لنتأكّد معاً أنّ الحرب لم تقع، وبعد أن وعد "بيرني شو" نجم "السي أن أن" أثناء اللقاء المذاع على الهواء في الرابع عشر من الشهر، بأنّني "سوف أكون هنا، في بغداد، في الخامس عشر من كانون الثاني" ... لم يكن يملك إلاّ العودة الى بغداد، وأن يكون فيها يوم إنتهاء الإنذار. ولكنّ أنباء إغتيال "أبو إياد وأبو الهول"، قد فاجأته لدى وصوله عائدا الى عمان من رحلته القصيرة، فغيّر خطته مضطرّاً كما يبدو، واضطر للعودة الى تونس.
إذن، كان إستبعاد وقوع الحرب، إستناداً الى تحليل منطقي ومـوضـوعي يعتمد على ما تبتغيه حقاً الإستراتيجية العليا للولايات المتحدة، لم يكن مجرّد وهم أو هاجس شخصي لديّ. فقد شارك فيه "ياسر عرفات" الى حدّ كبير. ومن كلامه الواثق من نفسه تماماً، بدا لي وكأنّ الرئيس صدام، وكذلك الملك حسين، ربما كانا أيضاً يفكّران بالطريقة ذاتها، ليصلا الى الإستنتاجات ذاتها، خصوصاً وأنّ لقاءات التشاور السياسي كانت تتكرّر بين الزعماء الثلاثة. كما أنّني قد توقّعت أن يكون منهج تحليل الزعماء، هو أيضاً "من القمة الى القاعدة، وليس العكس، أي التحليل انطلاقا مما تريده استراتيجية ما في نهاية مطافها. فلا أتوقّع أنّ يفكّر الزعماء بأسلوب مخالف.
ولعلّ ما ذكره "هيكل" في كتابه "أوهام القوّة والنصر"، فيه بعض الدليل على صحة هذا الإستنتاج القائل بأن الزعماء الثلاثة: الرئيس صدام، الملك حسين وعرفات، كانوا مجتمعين، مجمعين على أن الحرب لن تقع. فقد كتب "هيكل" قائلاً أنّه "في الخامس عشر من كانون الثاني، مرّ موعد الإنذار بدون حادثة ما. وفي تلك الليلة، عرض مضر بدران ، رئيس الوزراء الأردني، رهاناً قيمته مائة دولار، بأنّ قتالاً لن يحدث". ويرجّح أنّ رهان "مضر بدران"، كان يعكس رأي الحكومة الأردنية المتفائل، بل ورأي الملك حسين. وقد ذكرني "رهان" "مضر بدران"، برهاني أيضا مع "أبو عمار" وبلقاء التحدي، أو "رهان التحدّي" المقرّر معه، لنتأكّد معاً بأنّ الحرب لم تقع رغم إنتهاء موعد الإنذار.
ويقول "روبرت وينر" (ROBERT WEINER) في كتابه "البث الحي من بغداد" (LIVE FROM BAGHDAD)، أنّ "لطيف نصيف جاسم"، وزير الثقافة والإعلام العراقي، قد قال له "ولبرني شو"، أثناء إلتقائهما به في الرابع عشر من الشهر، أنّ "الخامس عشر من كانون الثاني، سيكون مجرّد يوم آخر في الإجندة"، مما عنى عدم توقّعه وقوع الحرب، وهو الأمر الذي قد يعكس موقف العراق أو موقف رئيسه. ولقد كرّر الوزير القول ذاته لشبكة "أن بي سي" التي أجرت لقاء معه في السادس عشر من الشهر، أي بعد إنقضاء مهلة الإنذار الدولي.
ويبدو أنّ "بيرني شو"، نجم "السي أن أن" قد تأثّر بأقوال "عرفات" ثم بأقوال "لطيف نصيف جاسم". فعندما حاوره "لاري كينج "، أحد كبار مذيعي "السي ان ان" في لقاء تلفزيوني اذاعي حّي على الهواء، أجري معه قبل ثلاث ساعات من موعد إنتهاء الإنذار الدولي بهدف تقييم إحتمالات وقوع الحرب، ردّ "بيرني" قائلاً: "لا أعتقد بأنّه ستقع هناك حرب". وأضاف "بيرني" متسائلاً في موضع لاحق من الحوار: "هل أنا متفائل ... نعم . أنا متفائل". "فلمَ تقع الحرب إذن". أخذت أفكّر. ولم تنطلق الطائرات من قواعدها في السعودية متّجهة نحو العراق، كما تقول الاعلامية "ليلى ديب" التي كانت تقرع باب غرفتي بالحاح، وتقول لي وهي تلهث تعبا من الدرج الذي صعدته نظرا لايقاف مصعد الفندق عن العمل:"اذهب الى الملجأ... الحرب بدأت".
هل أخذ الخلاف الشخصي بين الرئيس جورج بوش والرئيس صدام حسين بعداً شخصياً كبيراً، بلغ درجة قد تدفع "بوش" لأن ينسى ويهمل إستراتيجيته الأساسية والمحاذير التي تقيّدها، فأعماه غضبه عن كلِّ شيء ... حتى عن مصالح بلاده ؟
لم أستطع تصوّر ذلك. فإنّ رؤساء الدول الذين يفترض فيهم أن يكونوا قمّة في المسؤولية، لا يرتكبون أخطاء كهذه. فالرئيس بوش يعلم تماماً أنّ العراق القويّ ضمن المعطيات الدولية الحالية، ضروري لإستراتيجيته. فقد يوجّه الى العراق صفعة، قد يفرض عليه الحصار ليحاول إحتواءه أو تطويعه. قد يتحرّش به في مناوشات حدودية ضاغطة، أو ببضع غارات جوّية عابرة كوسيلة تخويف وتأكيد لجديّة الموقف الأميركي، لكنّه لن يصل به الجنون إلى حدّ شنّ حرب شاملة على العراق، محوّلاً "درع الصحراء"، كما أسميت عملية حشد القوات في السعودية وقطر، الى "عاصفة الصحراء".
وبسبب هذه العجالة من الأفكار التي مرّت في ذهني خلال دقائق معدودة، رحت أستبعد ما تقوله "ليلى ديب" بأنّ الطائرات قد تحرّكت، وبأنّ الحرب قد بدأت فعلا.
إلاّ أنّني كنت مخطئاً. فالحرب قد وقعت فعلاً رغم كلّ التحليلات المتأنية، ورغم إستبعادي لوقوعها، واستبعاد "أبو عمار" لوقوعها.
ولم يكن الشروع بالحرب فحسب، هو الذي فاجأني. فما فاجأني حقاً هو إهتزاز وربما سقوط منهج التحليل من القمّة الى القاعدة ... أي سقوط منهج التحليل من قمّة إلاستراتيجية في نهاية مطافها .
#ميشيل_حنا_الحاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شرق أوسط جديد أم اتحاد شرق أوسطي على غرار الاتحاد الأوروبي؟
-
غزو العراق عام 2003 ونتائجه الضارة على العراق والعالم.
-
لماذا تعلن السعودية التي شاركت بحرب ضد سوريا، ثم اليمن، حربا
...
-
مبررات السلطان أردوغان لاسقاط الطائرة الروسية، وخطوات القيصر
...
-
تركيا بين اسقاط الطائرة سوخوي لخرقها أجواءها أو حماية لجبهة
...
-
هل يشارك بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية القادمة، أم لا يش
...
-
الموقف السوفياتي المتذبذب بصدد عاصفة الصحراء
-
هل تؤثر تفجيرات باريس ايجابيا على مؤتمري فينا وقمة العشرين؟
-
اختفاء السفيرة جلاسبي، والتخبط في تبرير أسباب اختفائها
-
غموض في أقوال السفيرة -جلاسبي- لصدام، والتناقضات في تفسيرها
...
-
هل كانت عاصفة الصحراء لتحرير الكويت أم لأسباب أخرى؟
-
غموض وراء القرار الروسي بوقف رحلات طائراته المدنية الى مصر
-
الأخطاء الاستراتيجية الأميركية والكوارث التي تسببت بها
-
مدخل إلى مفهوم الاستراتيجية في نهاية مطافها 2 *
-
مدخل إلى مفهوم الاستراتيجية في نهاية مطافها - 1 *
-
هل تعطل الحرب بالوكالة على الأرض السورية، منجزات مؤتمر فيينا
...
-
متى يبق نتانياهو البحصة التي في فمه ويعلن عن مطالبه الحقيقية
...
-
هل تخلى صانع الحلم العربي عن الحلم العربي وتوجه نحو الحلم ال
...
-
تحذير للمسافرين بالطائرة عبر الأجواء الاسرائيلية: استخدموا ا
...
-
مفاجأة المشاركة الأردنية لروسيا في مكافحة الارهاب، قد لا تكو
...
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|