عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5021 - 2015 / 12 / 22 - 21:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
السيد القمني ومفهوم اليقين الغرائزي واليقين النقدي
قرأت في تأملات السيد القمني الفلسفية التي ينشرها عادة على موقع الحوار المتمدن وتحديدا ما جاء بالعدد 4744 - 2015 / 3 / 10 - 14:08 تحت عنوان التأملات الثانية في الفلسفة الأولى 10, الموضوع الذي تم طرحه ومناقشته هو موضوع اليقينيات لدى الكائنات الحية وتبدلاتها وتحولاتها مبتدأ بجملة غريبة ((قبل ظهور الإنسان كان الوجود كله يعمل وفق يقينيات غريزية بحت ، فالزهرة تتفتح في موعد معين ، .... وهذا اليقين الغريزي هو ما يحفظ الحياة واستمرار النوع ، وهو يقين تسلُطي إكراهي ، ....... إنما تنضبط وفق ضرورات ذهابها وعودتها بدقة ، وكلها أسبق في الوجود على البشر)) فهو يرى في النظام الشمولي الغريزي الطبيعي التكويني والتكييفي مجرد يقينيات بدائية وقهرية ,أقتحمت حياة الكائن الحي وحتى الكائنات اللا حيه دون أن يكون لهذا الوجود يد قدر أو خيار في تغيير هذه اليقينيات .
يستمر السيد القمني يعلل من جهة أخرى أن هذه اليقينيات تغيرت وتبدلت نتيجة وجود البشر المرتبط بوجود الملكة العقلية النقدية , فلولا الملكة النقدية العقلية ودورها في الفحص وإسقاط اليقين الذي لا يعد مقبولا ولا مبررا واللجوء إلى يقين أخر في سلسلة متوالية من الفعل العقلي هو السبب الأساس في تبدل وتطور حياة البشر فيقول في تسلسل مقالته ((الشك والنقد هو بداية إنضاج العقل وارتقائه عن يقينه الغريزي بمواجهة غرائزه وتوجيهه لها بدلا عن توجيهها له ، فنظمها ووضع لها القواعد وسيطر عليها بأنظمة للعلاقات الاجتماعية والقواعد الحقوقية ونُظم الحُكم )) إذا الشك الذي يقود البشر وليس كل البشر كما يزعم هو الذي يقود إلى مرحلة النقد الذي بموجبها يقهر بيقينياته الفطرية القهرية ويتجاوزها بنظامه العقلي المفعل , ولولا هذه الفاعلية لأنقرض البشر كما أنقرضت أصناف منه قديما وحديثا من إنسان جاوه وصولا للهنود الحمر لأنهم لا يملكون القدرة على النقد العقلي المبني على الشك .
ويقارن السيد القمني بطريقة فجة موضوع اليقينية بين الإنسان العاقل والحيوان اللا عاقل على منطق أمتلاك الأول ميزة النقد بينما يفقدها الثاني لعدم قدرته الطبيعية والذاتية على الشك وبالتالي فمن لا يشك لا يمكن أن يكون ناقدا ومن لم يكن ناقدا لا يمكنه البقاء والاستمرار في الوجود وعليه مواجهة عوامل الإنقراض والتلاشي فيقول ((ولأن العقل يعلم أن الإفراط في الحرية قد يضُر فإن الرقيب الداخلي يقوم بالنقد والفحص والمراجعة للجديد ومدى نفعه أو ضرره ، للوصول إلى يقين جديد يلغي القديم ويحل محله ، ومثل هذا اليقين لن تجده في مملكة الحيوان لعدم امتلاكها آلية النقد والفحص والمراجعة النشطة والمُراكمة للخبرات )) هذه النتيجة والمقدمة التي أنشأ عليها الكاتب فكرته ودارت التفاصيل لتثبت جملة من الحقائق نوردها هنا لنعيد بالأخر ونذكر الأختلالات المنطقية على الفكرة والغائية التي يريد أن يصل لها الكاتب في مقالته هذه وسلسلة كتاباته الليبرالية في محاولة للبرهنة على أن لا حقيقة في الوجود مهما أدعينا سموها وقدرتها على الحضور في الإشكالية الوجودية , هنا نورد النتائج من هذا الكلام :.
• من أخطر ما يريد أن يفرضه الكاتب من خلال مفهوم اليقين الفطري القهري واليقين النقدي أن البشر بوجوده وحضوره المنفرد والمنعزل هو الفاعل الأساسي في كل التطورات الكونية ,وما نتج عنه من معرفة وعلم وفنون وآداب إنما هي محض آلية عقلية تبدأ بالشك في المرحلة الأولى لتنتهي بالإبداع الذي هو سيد المعرفة , ولا علاقة لأي قوة أو فكرة أو حضور خارج عقل الإنسان على هذا التطور , هذه اليقينية من السيد القمني يخفي خلفها حقيقتين هما إنكار الخالق العالم , وثانيها لإنكار الطبيعي تبعا لذلك لدور المعرفة الدينية بكل أنواعها وأصنافها وأثرها على الإنسان .
• أستخدام مفهوم اليقينية الغريزية كعامل مشترك بين الإنسان والحيوان والجماد هي مقدمة لنظرية ((وحد ة طبيعة الوجود)) الذي تنص في مضمونها أن الوجود الحالي كله هو نسيج واحد من عنصر مركب واحد خضع في مراحل زمنية لتطورات بيئية محددة صنفت وساعدت على بروز أشكال وأصناف من الكائنات تبعا للظروف المستحكمة في لحظتها وهي في تطورها اللاحق خضعت لأحكام نظرية النشوء والأرتقاء الداروينية , فالنبات والحيوان ومنه الإنسان هم بالحقيقة جزء من عالمنا الأرضي أو بأبعد الأحوال جزء من منظومتنا الشمسية وليس إلا , أما حكاية الخلق والتكليف والإبداع الوجودي المرتبط بفكرة الله فليس لها واقعا أي أصل لأنها يقين مستهلك أطاح به يقين علمي مبرهن عليه حسيا وهو الأرقى في ترتيب دلائل اليقين عند العلماء والفلاسفة .
• أخيرا يثبت السيد الكاتب وجود قواعد نظامية داخل العقل البشري وهنا لا يؤشر الفرق بينها وبين قواعد العمل العقلي النقدي هي المسئولة عن المراقبة المؤدية للشك والنقد , وهي التي تتحكم في تقنين القيم وقوننة السلوكيات الإنسانية وحمايتها من الحرية المفرطة فيقول ((وهو لا يكتفي بهذا بل يشك في نفسه وينقد قراراته فيخلق جهازاً رقابياً ذاتياً يراقب قرارات العقل كما يراقب الغرائز)) ,السؤال الذي نواجه به السيد الكاتب هل العقل هو من ينقد العقل أو هناك جهاز مختص في عمليات النقد , ولو كان العقل هو ناقد الذات فلا بد له من مقدمات حقيقية تمتلك القدرة على دفعه للممارسة النقدية وهذه الدوافع بالضرورة يجب ان تكون خارجية عنه , ولو شاء القول أن هذا الجهاز خارج مدار وسيطرة وحكم العقا فهذا يقودنا للقول أن وجود عقل أعقل من العقل يستوجب أيضا وجود عقل أكبر منه وهكذا نصل إلى سلسلة من الأقوال تؤكد أن هناك قوة خفية أعلى من كل القيم العقلية هي التي تراقب العقل والغرائز وأنها خارج سيطرة العقل الإنساني بأعتباره سلطان الإدراك والفهم لدى البشر عموما وأصحاب العقل خاصة , وهذا ما لا يريد السيد الكاتب أن يعترف به وهو فطرية الإيمان بوجود قوة مراقبة وتدقيق وحساب خارجية عن الإنسان بل وعن وجوده .
إن نظرية تعدد اليقينيات وتطورها بالشكل الذي يطرحه الكاتب يثير الكثير من الإشكالات المنطقية والعقلية والعلمية وحتى أبسط البديهيات التي يعرفها أقل المشتغلين بالفلسفة , اليقين هو عملية أنتقال فكرة الإنسان من حالة الاهتزاز إلى حالة الاستقرار والإيمان بفكرة من خلال سلسلة من العمليات العقلية تبدأ من التوهم فالخيال فالتأمل والأفتراض والتدقيق ثم البرهنة وصولا للنتيجة المرجوة , هذه السلسة من الفاعليات لا يمكن أن تولد من فراغ ولا تنشأ في وسط خالي من عملية التعقل الطبيعية التي تستلزم وجود كائن حي قادر على التحكم بحواسه أولا ومن ثم قادر على تشغيلها وصولا لكسب النتيجة .
ما يسمى باليقينيات الغريزية هي في الحقيقة قوانين طبيعية مفترضة تكييفا وتكوينا وهي خارج حاجة الكائن للعقل كي يصل معه للنتائج , الفرق بين أن تخضع لميكانيكيا القانون المطلق بدون إحساس أو تدخل ذاتي وبين اليقين الذي يخضع للعوامل الذاتية لأنه بالأخر هو شكل من أشكال المعرفة العقلية , هنا أسس السيد القمني على مخالفة عقلية ليبني نظرية تؤدي إلى منحيين فكرين يؤديان إلى نتائج لا إنسانية وعنصرية وتسفيهه لعقل الإنسان , أفتراض أن البشر مختلفون بدرجات ذكائهم (الشك والنقد) وبالتالي من الضروري أن يكون البقاء لمن يمتلك العنصرين وهم في الغالب كما ورد في أمثلته العنصر الأوربي القادر على الشك وبرر أستئصال وأختفاء وغياب الهنود الحمر لأنهم لا يملكون نفس القدرة .
تأسيسا على ذلك يسير بنا السيد القمني إلى أن المتشبثين باليقين الذاتي المبني على الإيمان بالعقائد العقلية اللا حسية ويقصد بهم المؤمنون بالأديان وبوجود الله هؤلاء الذين يسميهم متحجرين لا يمكن أن يسمح لهم بالبقاء في الوجود لأن قوانين نظريته تؤكد على وجوب إنقراض هؤلاء لصالح المجموعة البشرية التي تؤمن باليقين المتحرك المتحرر الذي لا يستبعد أي أحتمال عقلي مبني على الشك ((ولو سلمنا بيقين الدين بوجود إله خالق وموجود مخلوق فإنهما كي يتواصلا لا بد أن يحكمهما منطق واحد يسري على كليهما ، فأفهمه ويفهمني ، فإذا كان الله لا يفهمني وأنا لا أفهمه تمتنع الصلة بينهما وتنبت فيكون كمن يتكلم الصينية مع من يتكلم العربية )) لقد أفترض وأمن يقينا أن الله لا يفهم البشر وأن البشر لا يفهمن الله وبالتالي فاليقين الذي يتمتع به المؤمنون يقين متحجر لأنه غير قابل عندهم للنقد وللشك به .
إن النتيجة النهائية التي يريد أن يصل لها بهذا الحشو والبناء اللا منطقي المبني على أفتراضات تخالف أبسط مقدمات المنطق قالها في نهاية بحثه حين أشار إلى ما يسميه حقيقة المجتمع الإسلامي الديني الذي وصفه بالمجتمع المتوقف عن النقد والشك ليس لأنه لا يملك الأدوات ولا لأن طريقة البناء الخاطئة التي نشأ عليها نتيجة الاعتباطية البشرية في فهم الدين وعلاقته بالإنسان ولا لأن اليقينيات الحرة المنفلتة التي يقدسها السيد القمني قادت في بعض تجاربها إلى هذه النتائج وليس الدين هو من يقود أصلا وبالضرورة لها , فيقول ((أما من استخدم النقد والخيال النشط والفرز والمراجعة فقد استمر قُدُماً ، لأن تشغيل آلية النقد تراجع الإبداع وتراقبه حتى لا ينتج منتجا ضاراً أو فاسداً ، وهي الالية الغائبة عن مجتمعاتنا لأن ثقافتنا وعقائدنا أمرتنا بالتوقف عن تشغيل هذه الآلية والعيش ضمن قطيع السمع والطاعة ، ولا يعود قادراً على الإبداع والابتكار ويوقف حريته بإرادته ومع توقفها لا يعود ثمة داع للرقابة فيتعطل الضمير ويسلك الكل حسب غرائزه وتتعطل سلطة القانون ويفعل كل شائن بمبررات دينية ، ويعطيه عقله الغرائزي إحساساً بالاكتمال )) , السيد القمني يقول أن الدين وليس غيره هو المسئول عن توقف العقل وهو المدان بكل ما تلاقي البشرية من كوارث بما فيها أستخدام القنبلة الذرية أو الحروب الإمبريالية ضد الشعوب وأنتشار المجاعة في العالم والتفاوت الطبقي بين الأمم وبين الشمال والجنوب ,سببها تعطيل العقل النقدي عند المسلمين , إنه يرى المساوئ كلها في وجوده ولا يرى في وجود الأخر الناقد الشكاك الذي قتل في الحرب العالميتين الأولى والثانية ملايين البشر لا لشيء إلا لأجل أن يثبت أن نظرية الشك والنقد يجب أن تكون هي السائدة في عالم يعتمد الأحادية الطبيعية وينكر ثنائية الكون الواقعية .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟