|
جورة حوا الحموية تعادل مئات البيانات الثورية في تحرر المرأة والمجتمع
شاهر أحمد نصر
الحوار المتمدن-العدد: 1369 - 2005 / 11 / 5 - 11:40
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
"حياةٌ، وحبٌّ، وكبتٌ، وخنوعٌ، وحريةٌ، وغربةٌ، وصراعٌ، ورؤى رجالٍ وفتيات مسلمات تتسامى في فضاء يتناوبُ بينَ حماه والسعودية، وفي مكنوناتِ النفسِ العربيةِ الإسلامية، لتتراءى من خلالها فضاءات المدن العربية الإسلامية وفضاءات التربية والأخلاق العربية الإسلامية، في زمن يتغلغل في تباشير الألفية الثالثة... كل ذلك نعيشه مع الأديبة الحرة منهل السراج التي تتابع مصير ثلاث فتيات مسلمات: (مي) الرسامة التي تريد الحياة، و(ريمة) الرسامة أيضاً التي تريد الدنيا، و(كوثر) المهندسة التي تبغي الآخرة؛ في روايتها الجديدة "جورة حوّا"، التي صدرت هذا العام عن دار المدى بدمشق، في 296 صفحة من القطع الكبير. تجري أحداث الرواية في زمن معطل، لا جديد (فيه)... تضطر الظروف أخا مي القريب من الجماعة إلى الهجرة إلى السعودية.. آه ، ما أجمل الحقائق. مي حقيقة برية وحشية... طلعتها تخجل أخاها بين الحموية... "ـ لا أحب الحجاب، فهو عندما يغطي جبيني ويحجب غرة شعري، يتعارض مع لون وجهي. إنّه يذهب بالجمال". ـ ...أتعرفين... إن وضعت المرأة عطراً وخرجت من بيتها، يعني إنها زنت. ص73 نثرت الرسامة مي ألوانها على الأيام... أخذت تحدق في ألوانها: "أريدك أن تحسي معي، لا التزام لا واقع لا قوانين.." لتطغى روحها الحرة بصفائها واقترابها من الحقيقة العارية على الرواية، ولتتبارى مع الشخصيات الأخريات التي أبدعتها الكاتبة.. تفكر كوثر بأن مي سوف تمشي يوماً في الطريق عارية، مستندة إلى قولها لها حين رأتها مرة ترتجف من البرد: "ـ اخلعي هذا المعطف السميك وستشعرين بالدفء..." لعل تربية كوثر في بيت فقد ربانه وأعمدته الثمانية، أخوتها، في أيام الحوادث، فضلاً عما تعاني من قصر القامة، ونصيب ضئيل من الجمال قد أثرّ على حياتها، وجعلها تعاني وهم "اللطخة على الجبين"، وتلوذ بالمعلمة (الشيخة) بحثاً عن الآخرة.. تبدع الكاتبة في رسم حياة وملبس الفتيات المسلمات... تتدخل المعلمة (الشيخة) في الحياة الشخصية لمريداتها، بل وتتدخل في عملهن، مما جعل كوثر ترسم القطط وتلونها بخلفية عاطفية مشوشة. ترسمها مقطوعة الرأس حسب إرشادات الشيخة معلمتها: "ـ إذا رسمت مخلوقاً كاملاً طالبك الله يوم القيامة بأن تضعي له روحاً، والعياذ بالله." كانت هذه الإرشادات تنأى بها عن حريتها الداخلية في العلاقة مع خطوط وألوان لوحتها. ص49 والكاتبة موفقة هنا في جعل القارئ يعي بنفسه الأثر السلبي الذي يتركه تدخل رجال الدين، على الإبداع، وعلى الحياة بشكل عام، دون أن تتدخل بشكل مباشر أو تنصب نفسها واعظة أو عالمة اجتماع... تحوك الكاتبة حياة ومعاناة شريحة أخرى من الفتيات المسلمات اللاتي ينشدن العمل، من خلال شخصية المهندسة ريمة، والتي لم تستطع مواجهة الواقع لأنّه أقوى من تطلعاتها : "ـ ريمة لمَ لا تشتغلين؟ ـ لا أحتاج للمال، كما أن المكتب مفتوح. كان شرط حيان قبل الزواج ... أن أتفرغ لتربية الأطفال." حاولت أن أعمل، لكن من طرقَ باب مكتبي؟ ... لن يثقوا بامرأة مهما بلغت مهارتها، حتى في النقابة، حاولت بعد التخرج أن أعمل بين المهندسين، وجدتهم أكثر تخلفاً من متعهدي الأبنية...ص42 تريد (ريمة) التفوق والنجاح في حياتها، في هذا الواقع. تفكر: "مي تريد أن تجرب، ربما تريد الحياة، لكن ما فائدة محاولات التجريب إن كان الأمهات والجدات قد جربن وتعلمن ونصحننا؟ ما نفع الأحلام؟ ننجح حين نطيع الواقع حتى يطيعنا.. إن مارست العمل المكتبي فسوف أضطر إلى الاختلاء في مكتب خاص مع مهندسين رجال، هذا يجلب سوء الظن. وهكذا أكون قد أضعت جميع الفرص، فرصة أن أكون زوجة لرجل ناجح، وأم، وفرصة أن أكون مهندسة فاعلة"...ص43 * * * تقارب منهل السراج في "جورة حوا" قضايا لا يجرؤ كثيرون من الكتاب على مقاربتها، ولعل سرّ نجاحها في معالجة هذه القضايا هو أنّها كاتبة حرة، تمتاز بنظرة متحررة، وحبّ الحرية في أوسع آفاقها... من هذه القضايا معضلة الجنس، والعلاقة بين الجنسين... وتقدم الكاتبة مادة غنية للمهتم بسيكولوجيا الإنسان الشرقي ونظرته لهذه القضية، وكيفية معالجته لها... فها هي كوثر المتدينة التي ظلت سنين طويلة تمتع نفسها بنفسها، تصعد باص البلدية، وتختار مقعداً في الوسط.. داهمتها همهمة من شاب يجلس بجانبها... ارتبكت وراحت تداري اضطرابها بتعديل غطاء رأسها... استمرأ الشاب اضطراب الفتاة وضآلة جسدها... تشاغلت بمراقبة أرصفة الطريق وأشجاره وأبواب بيوته ومحلاته... اقترب أكثر. ارتجفت... شدّت حجابها قليلاً إلى الأمام... أمسكت حقيبتها ثم أدارت جسدها قدر ما تستطيع إلى النافذة... أحست بأنفاسه تلفح رأسها المحجب. لامس فخذه فخذها. غصّت بالخوف والتوجس. آلمها أسفل بطنها، وتصاعدت في أعماقها لذة غامضة.. عارمة وسريعة...ص64 أما مي التي تعشق الحياة والحرية، فإنّ هذا العشق يجعلها ترى وتقارب الحياة بأسلوبها وطقوسها الخاصة التي تختلف كلياً عن أسلوب كوثر.. أدارت المفتاح في باب بيت الفنانين الثقيل ودخلت، (لا أحد)... عجنت ألوانها، رتبت ريشاتها. موجات ظلام (الكسوف) الهادئة تندفع رويداً رويداً تغطي الشمس الصغيرة الرهيبة.ص96 تهطل السيول في لوحتها، وتوشوش المخلوقات بكلمات غير مفهومة... صارت اللوحة حية وجريئة... تحولت السيول البرتقالية في لوحتها إلى قوارب حريرية نهضت بها إلى أعلى، تموجت فازداد رسوخها. صارت ناراً.ص98 تقودها روحها الحرة ولاوعيها الصافي إلى طقس خاص: أدارت موسيقا لياني، خلعت بلوزتها وراحت تغني وهي تطيّر أشياءها.. أخذت ترقص. ألف حاسة اخترقتها، أمواج موسيقا مخلوقاتها، وشوشاتهم، طاعتهم.. جلست شبه عارية تنتظر جفاف لوحتها. عندما اطمأن الناس إلى عودة شمس السماء إلى موضعها... دفعوا ستائرهم وفتحوا أبوابهم ونوافذهم. "ـ ماذا تفعلين يا قليلة التربية؟ ترقصين بالشلحة كي يشاهدك الرجال؟ وتنامين وسط الساحة تحت سماء الله؟ ألست مسلمة؟" "حساب الله أصعب أم حساب أهل المدينة؟" تعري الكاتبة الازدواجية الملفقة والكاذبة التي يعيشها المجتمع المغلق... ونتيجة الانغلاق والتعصب، وضيق الأفق، وعبودية التقاليد، غير معروفة المصدر، يجري تشويه الجمال والحط من سموه، فالعيون الخضر الجميلة، يشبهها عبيد الخوف بالشحاطة، والوجه الملائكي بالبلاطة، والزنود الهفهافة بالقرع... وتنتشر الإشاعات الباطلة والتلفيق: "قالوا إنّها رقصت بثيابها الضيقة، ثم نادت الرسامين واحداً واحداً، كي يرقص معها ويخلع عنها قطعة من ثيابها.ص101 أما أبوها فيعرف كيف يغلق بعض أهل المدينة أبواب بيوتهم ليلاً.. ويهرعون إلى الريف القريب الذي يتيح لهم الكأس والمتعة.ص100 وفي مقابل رقصة مي الحرة، في حضرة قدسية الجمال والفن والموسيقى، ترينا الكاتبة كيف يقود الحرمان الإنسان إلى ممارسة طقوس، يصعب على الكثيرين من الكتاب الخوض فيها، إلاّ أنّها تبدو طيعة لدى منهل، فترينا بأم أعيننا كيف تتعرى كوثر المتدينة أمام القط، ولهوها مع العصفور: "أحست برغبة غامضة تنمل بدنها، تذكرت لذة حادثة الباص فاقتربت بصدرها من القط، انتفض ألم أسفل بطنها. سجدت على ركبتيها وكفيها ثم فتحت أزرار معطفها وأزرار قميصها، ظهر ثديها، اشتعلت، استحثت القط أن يراقبها... تمشت عارية أمامه... ثوان وانتفضت... أجهشت كعادتها في البكاء من عزلتها..."ص108 وكأنّ الكاتبة تدعونا أن نقارن بين الطقسين... طقس الحرية، وطقس الكبت والحرمان... وهي لا تغفل أنّ الحرية لا تعني الفلتان، ويستطيع القارئ النبيه، دون أن تتدخل الكاتبة، أن يستشف محاذر تلك الحرية التي لا تحترم الضرورة... * * * "الحياة شجرة دائمة الخضرة".. وكما يجري النسغ الحي في عروق شجرة الحياة باستمرار، دونما استئذان.. يواجه كلاً من مي وريمة وكوثر مصيرٌ يرتبط بطريقة وأسلوب حياتهن المختلفة، دونما استئذان.. مي: سافرت مي منهزمة، مغيبة وضائعة... "ـ أنتِ الآن في السعودية. أحكمي غطاء رأسك وأغلقي العباءة." تزوجت من عبد الرزاق الذي يعمل مستخدماً في شركة أخيها.. وجدت شقة عبد الرزاق صغيرة، ومثل كل بيوت السعودية كانت دون شرفات أو نوافذ عريضة. لم يفهم زوجها سبب اختيارها حديقة الحيوان، كي يكون غداءهما هناك. انصرفت عنه تماماً. انشغلت بالحيوانات التي تجول في أقفاصها..ص142 كان أحد القرود جالساً يتناول طعامه. حين رآها ترك ما بيده وأمسك بقضيبه مرحاً. ما لبث القرد أن استدعى إحدى الإناث، واندمج معها في استعراض جنسي علني فاضح. قالت مي: ـ أ هذه هي السعودية التي تمنع كل شيء؟ص143
من غير منهل السراج من الكتاب يصور لنا الحب والغرام في حضرة الحرم؟؟!!... أحرمت (مي) مع زوجها عند الميقات ناوية العمرة، ثم طافت حول الكعبة سبعة أشواط... هاجمتها نوبة من الضحك وهي تركض مراقبة الناس اللاهثين بين الجدارين... في الشوط السابع رأته... أرسلت عينيها في عيني الرجل، ووجهه، وعنقه، ونصف صدره العاري، ويديه المسترخيتين، وصلت إلى قدميه الثابتتين الحافيتين، لتمعن في دعوتها. عطشت. ترك زوجها يدها، وذهب يحضر العصير... فتشت بعينيها عن الرجل، فامتدت يد من خلفها بورقة وقلم... دونت على الفور اسمها ورقم هاتفها دون أن تنظر في وجه الرجل.ص165 أخيراً جاء صوته: ـ ... سأراك غداً في هذا الوقت أمام مجمع العجمي. ... سمعا صوت أقدام تقترب، سارع: ـ يجب أن نفترق. (قال ربيع) خطف قبلة من عباءتها، وتركها مذهولة مأخوذة: "أنا أحب".ص167 يلتقيان في المجمع وقت الصلاة، يتطلعان إلى بعضهما نظرة أو اثنتين لا أكثر، ثم يمضيان بعد أن يدس بين أصابعها ورقة فيها بضع كلمات غرام مكتوبة بخط رديء.. ـ غطي وجهك... عيونك يا حرمة... البسي جوارب.(يقول المطاوع)ص173 ـ لماذا لا تنامين مبكرة وتصحين مع الفجر. تصلين ورائي وتفطرين معي، ثم تقومين لأعمالك المنزلية؟ (قال عبد الرزاق). اهتاجت بشدة. نظرت حولها غير مدركة لما ستفعله. لا يوجد من يصفق لها إن صرّحت أنّها ترغب بتلوين هواء السعودية وشوارعها وجلابيات الرجال البيضاء وعباءات النساء السوداء...ص176 ـ ستأتين إلى شقتي. ـ قال ربيع بثبات. اتفقا على الوقت والعنوان.ص209 خرجت إلى حديقة البيت الصغيرة.. وجدت وردة حمراء متفتحة على آخرها... شدت تويجاتها فتهالكت. سقطت في راحتها. بحثت حتى وجدت قلماً جيداً، ثم جلست تكتب على كل تويج مخملي كلمة: اسمها، اسمهما، اسمه، أحبك... جفلت حين قال زوجها مبتسماً: ـ لماذا تمزقين الورد هكذا؟ تناول إحدى البتلات، فوجد: أحبك، تناول الثانية، وجد: ربيع أحبك، تناول الثالثة فرأى: ربيع مي. ـ من ربيع هذا؟ ـ هو الرجل الذي أحب. في الصباح الباكر وجدت نفسها أمام البولمان الذي سيقلها إلى حماه مع حقائب حاجاتها التي لملمها زوجها بسرعة قائلاً وهو يبكي: أنت طالق. ص217 هل يوجد في بلاد المشرق من يقدر توق المرأة إلى الحب والحرية؟.. حتى من تضحي في سبيلهم، وفي سبيل حبّها لهم، يرجمونها!!! هكذا تصرف ربيع... تخيلت سرب غربان أسود يحجب الفضاء.. عبر امتدادات الرمل تذكرت أنّها ستظل خائنة في نظر الجميع. أليس من البؤس أن تدفع الأنثى لتقول: ـ وما شأني بنظر الجميع؟ كلهم لا يفقهون لون الحياة من لون الموت.ص243 نعود ثانية لنبين أنّ الكاتبة قد تكون أرادت من القارئ أن يعي بنفسه مخاطر التهور في عدم معرفة تخوم الحرية في كل مجتمع... مع تهليلها للحرية... كان بالإمكان إنهاء الرواية هنا... إلاّ أنّ الكاتبة أرادت أن تبين ثقتها باخضرار شجرة الحياة، ومن أراد مواجهة صعاب الحياة فعليه بالعمل... كان ذلك هو سلاح مي للخروج من أزمتها، فعملت مندوبة مبيعات أدوية لشركة طبية... ريمة انكمشت ريمة عن مي في موجة دينية أخذتها مع من أخذت من نساء الصالونات..ص252 زوج ريمة يتزوج عليها... تعود إلى بيت أهلها.. تمارس المهندسة أعمالاً منزلية كانت ترفض ممارستها قبل الزواج... ـ أنا... ويتزوج سكرتيرة؟ ضرة ومن الضيعة.. ما الذي دهاه؟ كنا بخير. ـ لم تكونا بخير... طوال زواجك وأنت مشغولة بالثياب وبالطلعة.ص262 كوثر جيل غريب وعجيب، أما كوثر فسوف تهستر من كتر الصلاة. نتعرف من خلال حياة كوثر على مأساة المومس في البلدان الشرقية، وتسلط الرواية الضوء على ظاهرة خطيرة تنتشر في بلدان حالة الطوارئ والأحكام العرفية، التي تمنع أي نشاط تثقيفي تنويري مدني مستقل، مما يدفع شبيبة المجتمع إلى الدروس الدينية السرية، ولمّا كانت سرية فهي لا تعرف ولا تقبل النقد، بل تعزز الرؤية الجامدة التي تدعي حيازتها على الحقيقة وحدها: "ـ يبدأ الجهاد الأكبر بمجاهدة النفس ـ قالت الشيخة الجديدة.. إبليس يتلبس... عليك بالصلاة. تظلين شهرين صائمة... ـ أنا أصوم منذ أكثر من ثلاثة أشهر.. ـ إذن عليك بالصلاة، عشرة أيام تقضينها في غرفة بدون أثاث، تتربعين على حصير، لا تكلمي أحداً، لا تأكلي إلاّ فتات الخبز، ولا تشربي إلا من قربة. عشرة أيام تقضينها في عزلتك، ترددين الله الله الله الاسم المفرد، حتى تشبعي من ذكره، حتى تسكري... مدت كوثر يدها ورددت دعاء البيعة، بيعة الرضوان، أملت الشيخة شروطها الثلاثة: ـ أنت لا تعرفين بأحوال العلماء. عليك ألاّ تتدخلي بالسياسة وبأمور الدولة.. وألا تكثري من قراءة الكتب. إذا كان الحبر يسوّد بياض الورقة، فكيف يفعل ببياض القلوب.."؟ص184 عزمتها المعلمة إلى حفلة جماعية تقهر فيها جسدها بالقفز متعالية عن الشهوات. بطاعة عمياء أمسكت كوثر كف فتاة بجانبها، ومضت معها في تصاعد وتهابط أمام صف آخر من الرجال الذين يقهرون الجسد... جنسان يبتهلان، برجاء الخلاص من اشتهاء الجنس الآخر. ضدان متفقان في الرغبة وكل يقاوم الآخر ضد نفسه.ص206 ولمّا لم تؤت كل هذه الدروس والطقوس التي توصف بالدينية، وهي ليست من الديانة بشيء... انطلقت كوثر في القراءة تحت تأثير خالد، وبدأت تسأل: "ـ ها أنت يا كوثر تسألين. بدأت الطريق.." إنّ ما سعت (الشيخة) إليه هو قتل الحياة فيكِ، وقتل الدنيا. حتى صرت ملبدة داكنة ومؤنبة لنفسك، وللجميع أيضاً.ص224 ونسجل مجدداً نجاح الكاتبة في رسم الطريق السليم والصحيح لخروج كوثر من عزلتها، وشفائها من علتها، دون أن تدعي أنّها عالمة اجتماع، ودون رفع شعارات أو إقحام أية محاضرات أيديولوجية في الرواية... * * * تسعى الكاتبة لأن تنسج من ناشدات الحياة، والدنيا، والآخرة تقاسيم وخيوط ملحمة، تتنامى في فضاء البيئة الشرقية... المتداخلة والمترابطة.. وتجهد كي تكون لوحتها شاملة لمختلف شرائح المجتمع المتنوعة والمختلفة، فتصور طموحات المخصيين للوصول إلى غاياتهم بأقصر السبل الانتهازية، مستفيدين من حالة الفساد السياسي التي فرضت على المجتمع: "كان (التاجر زوج ريمة) يفكر بالدرجة الأولى بتوسيع معارفه.. يفكر بالانتساب إلى حزب من أحزاب الجبهة التقدمية، لأنّ فرصة الوزارة أو النيابة في هذه الحال أكبر..ص202 وتصور الفساد الاقتصادي الذي يتستر أحياناً بحجاب التدين:" ... وهناك شركة الزيوت... أحد أكبر مساهميها أخو المعلمة... يقولون إنّه يجمع المولدات الكهربائية في ورشته... ثم يأتي بشهادة مزورة (من الشركات التي يتعامل معها عبر الفاكس) ويدعي أنّها تجميع هولندي أو إنكليزي، أو ألماني، أو إيطالي... يقدم عرضه للمناقصات التي تجريها مؤسسات الدولة لشراء المولدات، ليفوز عرضه المالي وعرضه الفني بلا منازع... لكن المعلمة كذبت هذه الأقاويل: ـ ليس لأنّه أخي... لكنني متأكدة أنّه يعرف ربه، فاتح بيوت كثير من الأرامل، ولا يقطع وقت صلاة، بالإضافة إلى مراعاته اللامحدودة لملجأ الأيتام الإسلامي.ص107... ولا تنسى الكاتبة ذلك الوجه القبيح الذي يعكس ازدواجية وتصنع بعض المتدينين والمتدينات: "شمرت عن ساعدها الأبيض بحجة تجريب السوار رافعة يدها آخذة معها عيني الصائغ... تدللت بصوت ذي رنين مصطنع... فاجأتها مواهب زوجة أخيها التي انتقلت إلى السعودية بنت خمسة عشر عاماً.ص76 وتعرفنا على حياة التبذير والإسراف التي يعيشها بعض المبعدين لأسباب سياسية، متناسين القضية التي أبعدوا من أجلها: "...لقد أحضر لي كلّ شيء من سان لوران.. قلت وأنا أعبث بأذنه: ألا أستحق ماساً من البرنت بدلاً من الزيركون؟ أجابني: تستحقين اللؤلؤ وكل جواهر العالم... وفي الصباح أيقظني مبكراً لنذهب إلى السجل العقاري كي يتنازل لي عن المزرعة".ص117 ولا يسع القارئ إلاّ أن يتعاطف تلقائياً مع المنفيين والمبعدين السياسيين، عندما يلمس شوق المغترب، الذي يفوق الوصف إلى وطنه: "توضأ أخو مي وهو يتمتم بالتعاويذ المناسبة. اقترب عبد الرزاق منه قائلاً: ـ من زمزم.. فقاطعه آسفاً ومصححاً: ـ بل قل من العاصي.."ص177 تختصر الكاتبة، في لوحة فنية معبرة عن مدينة حماه، واقع وحقيقة جميع المدن العربية والشرقية التي عرفت جميع الحضارات، والتي تمتاز بتمازج وبتعايش العديد من الحضارات، ويرتبط مصيرها بتعايش هذه الحضارات بسلام ووئام: "لو نظرت بتمل كل غروب إلى أحجار القناطر، لاكتشفت وجود حجر محفور عليه آية قرآنية، على يمينه رأس للنفرتيتي، وعلى يساره نحت للصليب، فسوف تحتار برب صانعها.ص223 * * * تأتي أهمية رواية "جورة حوّا" من المواضيع التي تعالجها، ومن كون هذه المعالجة تتم من قبل أديبة ولدت وترعرعت في مدينة حماه، لا يستطيع أديب آخر من خارج هذه البيئة أن يصفها ويعالجها بمثل هذه الحميمية والدراية والعمق، فضلاً عن أنّها تعكس نضجاً في هذه البيئة متمثلاً في جرأة وحصافة وحب منهل السراج لمدينتها وأهلها وشعبها الأصيل... ورغبتها في رقي وتحضر وتقدم شعبنا بكل مكوناته، وهي تحاول أن تحفر بأدواتها الخاصة في هذه التربة والبيئة الحميمة والقريبة إلى القلب، لتحررها من قيود كثيرة فرضت عليها بحجج مختلفة من القداسة والخوف، فتقدم رواية تعادل مئات البيانات الثورية في تحرر المرأة والمجتمع... فهلاّ أخذت تلك البنى والهيئات والمؤسسات، التي تدعو إلى التحرر والتقدم، ومن بينها اتحاد الكتاب العرب، بيد منهل السراج لتفيض بما لديها من أدب وفن وجمال ومحبة لوطننا الحبيب... فالطرفان يتكاملان، وأتوقع ـ إن أتيحت الفرصة لمنهل ـ أن تقدم أدباً سامياً يعلي منارة تزين وتنير سماء الوطن... لعل من قرأ رواية منهل الأولى "كما ينبغي لنهر" يفاجئ ويتساءل عن السبب الذي حرمها من أن تسمو في أسلوبها على المستوى الفني الرفيع الذي عرفته في روايتها الأولى، وعن استخدامها العادي والباهت (أحياناً) لتقنيات الرواية الحديثة، واعتمادها في هذه الرواية أسلوب السرد العادي البسيط، الذي يفتقر أحياناً إلى شيء من الحماس والواقعية، (عند تصوير أجواء جدال مي مع أهلها، على سبيل المثال)... ووجود بعض العبارات التي تعكس تدخل الكاتبة بشكل غير ضروري أحياناً في النص: (وهكذا ظلت ريمة تحصد كل يوم نتائج ما زرعت).ص264 فضلاً عن اللغة العادية البسيطة في أغلب الفصول، مع ورود بعض الأخطاء والأخطاء الشائعة التي قد يكون سبب بعضها مطبعياً (كون أبيهم مبعداً سياسياًص71، تتكلم على ابنتي ص74، ليلتها وهبته نفسها ص123، لم تضيع له مالاً ص123، لم تمض سوى أسبوع واحد ص136، لم يستطيعوا فهم أحد هذه الفتاة ص147، قالت الجارت ص194، بدتا لها لزجتان ص195، مما يقوي مواقفها وآرائها ص252..) وللإنصاف نسجل للكاتبة لغتها الشاعرية في كثير من فصول الرواية: "هذا الحرير الأسود ليل صيفي، وهذا الفضي المتلألئ نجم، وهذا الأبيض ضحى يوم الربيع، نعلاي غيمتان..." مع تزيينها بمفردات محلية تعرف بالمكان وعادات ومأكل وملبس أبناء حماه وتحبب القارئ بهم.. وبالأغاني الفلكلورية المحلية: "دار القمر دورة، على سطوح الحورة، إمي بتربيني والساقية بتسقيني والناعورة بتبرم وبتطعميني".ص212 حبّذا لو اكتنزت الرواية بتلك اللغة الشاعرية... ومما يدعو للأسف، من وجهة نظرنا، أنّ نهاية الرواية ليست بمستوى بدايتها، ولا بمستوى المتن والموضوع... ولعل قراءتنا هذه وتوقفنا عند معالجة زوايا وقضايا محددة وليست شاملة، لم تفِ الرواية حقها، آملين أن تجد نقاداً يولون بنيتها وجوانبها الأخرى الاهتمام الكافي، وهي تستحق ذلك... لو أردنا تكثيف انطباعنا الأولي عن هذه الرواية لقلنا: لقد أفلحت منهل في خلق شخصيات روائية لا تنسى... وحدها مي عرفت الحب... الكاتبة موفقة في أن تستفز في القارئ أسئلة كثيرة، حول الحقيقة والواقع، ومنها إن كان الحب يستعصي على من لا يعرف الحرية؟... هل يتطلب الحب كل هذه التضحيات... ألا يمكننا معرفة الحب دون تضحيات؟... في بيئة لا تعترف بالحرية الأمل، والحب محاصران محظوران... ومن لا يعترف بحدود الحرية سيدفع ثمناً باهظاً لتمتعه بها... سيقول الكثيرون لمي: على حريتك ألاّ تنتهك مقدسات الآخرين، وربما تجيبهم إنني أحترم الآخرين ومقدساتهم، وهذا جلي من علاقتي بكوثر، إنما أريد أيضاً من الآخرين ومقدساتهم ألاّ تنتهك حريتي... أسئلة كثيرة مفتوحة وفقت الكاتبة في جذب القارئ للتمعن بها بأسلوب فني جميل.. تجسد منهل السراج في "جورة حوا": الحرية، والصفاء، والجمال، والحب... منهل تصبو أن تكللها شمس الحقيقة... بل هي شعاع من نور الحقيقة.
#شاهر_أحمد_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ملاحظات حول مشروع أهداف جمعية مكافحة الفساد
-
القمع والخوف يحصنان الفساد
-
الديموقراطية وسيلة ضرورية للإصلاح السياسي في العالم العربي
-
الإصلاح الاقتصادي السليم يتطلب إصلاحاً سياسياً ديموقراطياً
-
بيان الحزب الشيوعي مرشد المستغََلين لاستعادة حقوقهم
-
خطوط عريضة لمشروع قانون الأحزاب السياسية -الفصل الثامن
-
خطوط عريضة لمشروع قانون الأحزاب السياسية 3/4
-
خطوط عريضة لمشروع قانون الأحزاب السياسية 2 -4
-
خطوط عريضة لمشروع قانون الأحزاب السياسية
-
عماد شيحة يدشن عمله الأدبي المطبوع ب -موت مشتهى-
-
عبد المعين الملوحي يتوج عطاءه الأدبي بترجمة شاعر فيتنام تو ه
...
-
قانون الأحزاب ضرورة موضوعية في الدولة العصرية
-
أهمية الأسلوب وتلافي الأخطاء الشائعة في الترجمة
-
المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية (3/3) مع رد
...
-
المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية ـ رواية -كم
...
-
المآسي والسجون السياسية والحب في الرواية العربية ـ رواية كما
...
-
قراءة أولية في مشروع الوثيقة التأسيسية لتحالف الوطنيين الأحر
...
-
أعيدوا الاعتبار إلى الفكر الاشتراكي الحضاري الديموقراطي المت
...
-
نشطاء ومثقفون في طرطوس يناقشون مسائل الدولة ـ الديموقراطية و
...
-
في مفهوم السلطة وبؤس التفكير الطائفي
المزيد.....
-
شاهد لحظة قصف مقاتلات إسرائيلية ضاحية بيروت.. وحزب الله يضرب
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
وساطة مهدّدة ومعركة ملتهبة..هوكستين يُلوّح بالانسحاب ومصير ا
...
-
جامعة قازان الروسية تفتتح فرعا لها في الإمارات العربية
-
زالوجني يقضي على حلم زيلينسكي
-
كيف ستكون سياسة ترامب شرق الأوسطية في ولايته الثانية؟
-
مراسلتنا: تواصل الاشتباكات في جنوب لبنان
-
ابتكار عدسة فريدة لأكثر أنواع الصرع انتشارا
-
مقتل مرتزق فنلندي سادس في صفوف قوات كييف (صورة)
-
جنرال أمريكي: -الصينيون هنا. الحرب العالمية الثالثة بدأت-!
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|