|
إدوارد سعيد ونقد -الاستشراق-
صالح سليمان عبدالعظيم
الحوار المتمدن-العدد: 1368 - 2005 / 11 / 4 - 12:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إدوارد سعيد ونقد "الاستشراق" ربما لايوجد حقل من الحقول الفكرية والثقافية والأكاديمية قد ارتبط بمثل هذه المعارك والإتهامات والمساجلات والنقاشات الطاحنة مثلما هو الحال فيما ارتبط ويرتبط بالدراسات الاستشراقية. فدائما وأبدا، لا يعدم المرء أن يجد هذه المجموعة من الاتهامات والألفاظ المختلفة، والجاهزة سلفا، والتي تتفاوت في حدتها بدءا من "ضحل"، "محدود"، "مخل"، "بسيط" و "ضعيف" ، و نهاية بـ "جاهل"، "عميل"، " انتهازي"، "صفيق"، و "وقح". وربما يرجع ذلك، إلى كون البدايات الأولى للاستشراق قد نشأت غير منفصلة عن الصعود والمد الاستعماريين الأوروبيين بشكل عام، والبريطاني الفرنسي بشكل خاص. فخطاب الاستشراق قد ظهر منذ بداياته الأولى وهو محمل بتفاوتات القوة والهيمنة بين كل من الغرب والشرق.
وبالتأكيد، لم يكن من الممكن، وبشكل خاص، بعد المواجهات الغربية الشرقية، وبعد استقلال معظم المستعمرات السابقة، أن يبقى الحال على ما هو عليه، من ناحية هيمنة بنية الاستشراق، وانفرادها بساحة الكتابة عن الآخرين، وتقرير مصائرهم وتمثيلهم، على حد قول إدوارد سعيد. من هنا، فقد ظهرت طرائق تفكير أخرى، وبشكل خاص، فيما بعد الحقبة الكولونيالية، تتحدى بنية الاستشراق، وتصطدم بها، وتقدم تمثيلات جديدة لواقع المجتمعات الشرقية، قائمة بالأساس على فضح البنيات التخيلية/الإصطناعية لبنية الاستشراق، وتقديم واقع تاريخي، يعتمد على الممارسات الإنسانية كما يحياها الشرقيون.
وفي هذا السياق، يمكن القول بأن كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" الصادر عام 1978، والمترجم إلى العديد من اللغات العالمية، يبرز بوصفه أحد المنتجات الفكرية العالمية بالغة الأهمية، و التي تصدت بالبحث والتحليل لشرح وتفسير المواقف المختلفة للغرب تجاه الشرق بعامة، والثقافة العربية والإسلامية بخاصة. ونحاول فيما يلي، وبمناسبة مرور ما يزيد على الخمس والعشرين عاما على صدور كتاب الاستشراق، وحلول الذكرى السنوية الثانية لوفاة إدوارد سعيد في الخامس والعشرين من سبتمبر، قراءة كتاب الاستشراق لمعرفة القضايا النظرية والمنهجية التي توقف عندها سعيد، وأكد عليها في كتابه.
"الاستشراق" خلفية تاريخية:
يعكس استشراق إدوارد سعيد، وهو أستاذ للأدب الإنجليزي المقارن، ذلك التلاقي والتلاحم بشكل كبير وواضح، بين تخصصات وحقول معرفية مختلفة ومتباينة، مما يجعل استشراقه في النهاية عصي على التنميط والتأطير، ويمنحه حدودا واسعة للتعامل معه كنص مفتوح ممتلئ ومتخم بأشكال سردية وتحليلية وتاريخية متعددة. ولعل هذا الإرتماء في أحضان تخصصات مختلفة متباينة أو متكاملة، يعكس من جانب ضعف الثقة فيما يرتكن إليه المثقفون من تخصصات ضيقة ومحدودة؛ فالثقة التي أولاها القرن العشرون للتخصصات الضيقة قد باتت الآن، وفقا لمقتضيات ما بعد الحداثة محل شك كبير. ومن جانب آخر، وتمشيا مع نفس المقتضيات ما بعد الحداثية، فقد تقلصت الثقة في إمكانية السيطرة على العالم التي تميزت بها معظم عقود القرن العشرين.
إن هذه التحولات العلمية والأكاديمية تأتي ضمن مجموعة أخرى من التحولات تنطوي في مجملها على رفض الافتراضات الطبيعية والعرقية والجنسية التي تؤكد بشكل عام على استعلاء جماعة اجتماعية على جماعة اجتماعية أخرى. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن أكبر وأقوى جماعة وحركة إجتماعية ظهرت في الغرب في العقود الثلاثة الماضية هي الحركة النسوية التي ارتبطت بتخصصات عديدة متنوعة ومتكاملة في آن. ناهيك عن العديد من الحركات الإجتماعية والفكرية الأخرى مثل الحركات المختلفة المرتبطة بالدفاع عن حقوق الأقليات، بالإضافة إلى ما ارتبط بالدفاعات الأكثر حداثة عن البيئة والتدهور العالمي المرتبط بها. إن اللافت للنظر هنا، والجامع المشترك بين جملة هذه الحركات الإجتماعية والتيارات الفكرية هو تشككها المطلق والدائم في الأسانيد الطبيعية المختلفة التي ساقها في الأغلب الأعم، أصحاب التيارات اليمينية، ومنها على سبيل المثال، سيادة الجنس الأبيض على الأسود، أو سيادة الرجل على المرأة، أو سيادة حضارة على أخرى. ولعل ذلك يرتبط، بشكل كبير بحقبة السبعينيات التي شهدت ظهور نظريات التبعية، والعديد من الكتابات التي تدعو إلى فض الإشتباك مع الغرب.
في هذا السياق، يمكن للمرء أن يموضع كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد ؛ فهو من البداية من نوعية تلك الكتابات التي تنطلق من تفكيك المتعارف عليه المهيمن والسائد. وحتى ولو اكتسب هذا المتعارف عليه من المشروعية والمؤسساتية ما يكفل له عدم إمكانية التفكير في الاختلاف معه وعليه، فإن جوهر المثقف الحقيقي الذي يتعالى ويترفع على شرعية المتعارف عليه والمقبول والسائد اجتماعيا، وحتى أكاديميا، هى التي تسمح له بأن يقترح ويفكك، بل حتى ويهدم هذا المتعارف عليه. ينتمي استشراق إدوارد سعيد إلى ما يعرف بكتابات ما بعد الحقبة الكولونيالية Post-Colonialism، وإن كان في نفس الوقت يؤسس لها، ويمنحها طاقات وآفاق جديد للكتابة، وهى الحقبة التي جاءت في أعقاب استقلال معظم الدول النامية ومحاولاتها المتواصلة والدؤوبة، وفي أحيان كثيرة المتشنجة، لفك الإرتباط مع الآخر الإستعماري، والإعلان عن الهويات القومية الوليدة الجديدة. حيث ارتبط ذلك أولا بالمحاولات المختلفة التي بدأت في السبعينيات وكانت تهدف إلى فك الإرتباط مع الإستعمار، حيث ركزت أكثر ما ركزت على الطبيعة الطبقية للدولة البازغة لمرحلة ما بعد الإستعمار. تلي ذلك الكتابات التي اهتمت بالجوانب المعرفية للغرب، ورفض الإدعاءات القائلة بعقلانية الفكر الغربي. ولقد عيب على هذا المحاولات بالأساس واحديتها، وإهمالها للجوانب العقلانية في الثقافات الغربية ذاتها؛ حيث تمثلت معضلة أدبيات مرحلة ما بعد الإستعمار في ارتمائها بالأساس في أحضان الماضي، على الرغم من ارتباطها بالكلمة ذائعة الصيت "ما بعد" Post، على عكس الحركات الفكرية الأخرى اللاحقة لها مثل ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، والتفكيكية، والتي جعلت من الحاضر، دائما وأبدا، مرحلة بعدية.
إن تحديد الخلفيات التاريخية لإستشراق إدوارد سعيد يستدعي أيضا مسألة على درجة كبيرة من الأهمية تتعلق بوضعية المثقف، والإمكانات الهائلة التي تنطوي عليها أفكاره وتوجهاته. ويختلف المثقفون فيما بينهم، على حد قول جرامشي، في الإمكانات الخاصة بهم، والتي تتيح لهم القيام بأدوارهم النقدية والحقيقية في المجتمعات الإنسانية. فليس من السهولة بمكان أن نكون جميعا مفكرون نتسم بالنقدية والتحدي والقدرة على المواجهة والتغيير. ويمكن التمييز هنا بين نوعين من المثقفين، أولهما فئة التكنوقراط، سندة الأنظمة السائدة، ليس فقط بالمعنى السياسي، ولكن أيضا، بالمعنى الإجتماعي والثقافي، وثانيهما المثقفون النقديون/المارقون؛ حيث نجد في معظم مؤسسات الحياة اليومية المعاصرة، مثل الجامعات، والمؤسسات الإعلامية، والثقافية، تجاور هاتين المجموعتين، وإن كان التاريخ يؤكد باستمرار سيادة السندة على حساب المارقين. فعلى سبيل المثال، فإن النجاحات الهائلة للمرحلة الفوردية، والإنتاج الضخم المصاحب لها، مع سيادة المبادئ الكينزية، والصعود الكبير للولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب العالمية الأولى وما تلاها، قد أمنا السيادة المطلقة لعصر التحديث، الذي كان قد بدأ مبكرا منذ القرن التاسع عشر ذاته، مما وفر غطاءا شرعيا للمثقفين التكنوقراط للظهور والتربع على عرش المؤسسات التعليمية ومؤسسات صنع القرار؛ لا يغيب عن الأذهان هنا دور والت روستو صاحب نظرية التحديث الإستعلائية، والإنتشار الواسع المدى لكتابات تالكوت بارسونز المحافظة.
لكن الأمر لم يكن له أن يستمر على هذا النحو، حيث هيمنة المثقفين التكنوقراط ومطارداتهم واحتوائهم للمثقفين النقديين؛ فمع نهاية الحرب الباردة، والمظاهرات الحاشدة المضادة للحرب ضد فيتنام، وتصاعد حركة المجتمع المدني بقيادة السود، مع المد المتسارع، المضطرب أحيانا، والواثق أحيان أخر، للحركة النسوية، وجد المثقفون النقديون جزرا متناثرة، قد تكون غير مترابطة في مظهرها، للتعبير عن أنفسهم ضد سيادة المؤسسات الجامدة من جانب، وهيمنة السندة التكنوقراط، محترفي كهنوت السلطة والمسبحين بحمدها ليل نهار، من جانب آخر. في ظل هذه الأجواء الانتقالية ظهر إدوارد سعيد، مثله مثل أى مثقف آخر ارتبط ظهوره بالفترات الإنتقالية القلقة، والمضطربة، والهلامية في آن. وفي هذا السياق يعتبر كتاب الاستشراق ضربا من هذه الكتابات، ضمن كتابات أخرى، تهدف، ضمن ما تهدف، إلى تعرية الإرتباطات بين المثقفين التكنوقراط وبين المؤسسات الرسمية الحكومية المهيمنة سياسيا وثقافيا وأمنيا واجتماعيا.
"الاستشراق" الأبعاد النظرية والمنهجية:
يعتبر إدوارد سعيد الاستشراق هو أسلوب التفكير المستند إلى التمييز الوجودي والمعرفي بين الشرق والغرب؛ أى أن الفكرة المحورية لكتاب "الاستشراق" تستند إلى فهم وتحليل وتفكيك هذه البنية الممثلة عن الشرق من قبل الغرب. وفي سبيل التمكن من هذه البنية، وتفكيكها، فإن إدوارد سعيد يتناول العديد من أصحاب التخصصات والأنشطة التي تدخل تحت مظلة هذا النشاط الواسع والعريض مثل الشعراء، والروائيين، والفلاسفة، والمنظرين السياسيين، والإقتصاديين، والإداريين الإستعماريين الذين يبنون أعمالهم وأنشطتهم على هذا التمييز المسبق بين ما هو شرقي وما هو غربي. ويرى سعيد بوجود ثلاثة معاني للاستشراق، المعنى الأكاديمي، والمعنى الخيالي، والمعني الخاص بهيمنة الغرب على الشرق، أى بالاستشراق بوصفه معرفة ملازمة للقوة الغربية وهيمنتها الإستعمارية. وفي هذا السياق يعتمد سعيد على كتابى فوكو، أركيولوجيا المعرفة، والنظام والعقاب، في تأسيس تحليل للخطاب الاستشراقي، وفهم أبعاده الإستعمارية المرتبطة بالقوة المادية وأشكالها الرمزية الإستعمارية. فالهدف الرئيسي عند سعيد هنا هو تحليل الاستشراق كخطاب، بحيث يمكن من خلال هذا التحليل معرفة الكيفية التي استطاعت من خلالها الثقافة الغربية أن تنتج وتستهلك وتؤبد وتقمع وتشكل وتمثل الشرق سياسيا، وسوسيولوجيا، وعسكريا، وأيديولوجيا، وعلميا، وتخيليا، في فترة ما بعد التنوير.
ويطرح خطاب الاستشراق في جوهره رغبة عارمة في إخصاء الآخر عقليا، وربما بيولوجيا، لكى يقر في النهاية بتبعيته للغرب، أو بشكل أكثر تحديدا لكى يتعامل مع استعلاء الغرب كجزء لا يتجزأ من طبيعية الحياة وقوانينها، فمثلما تدور الأرض حول الشمس بشكل تحدده القوانين المتعارف عليها لحركة الكواكب، يدور الآخر في فلك الغرب منضويا بقوة القوانين وطبيعية النواميس الحياتية؛ فخضوع الآخر للغرب ودونيته أمامه هى ، في التحليل الأخير، ووفقا لخطاب الاستشراق الإستعلائي، مسألة عادية من قوانين الحياة اليومية، يجب تقبلها، بل يجب عدم الشعور بها، والعماء عن ملاحظتها.
و يكشف سعيد عن عدد من المحددات والأسس التي ارتكز عليها في قراءته لبنية الاستشراق:
1- يركز إدوارد سعيد ليس على التوافق بين بنية الاستشراق والشرق ذاته، بقدر ما يركز على الإتساق والتماسك الداخلي للإستشراق وأفكاره عن الشرق، أوكما يقول ديزرائيللي الشرق كحقل معين من النشاط، الشرق كحرفة أو مهنة، بغض النظر، أو بعيدا عن أية توافقات مع الشرق الواقعي أو الفعلي. ولعل هذا الإتساق والتماسك الداخلي هو ما يؤكد وجود بنية مسبقة ومهيمنة عند المستشرقين لتناول الشرق ووصفه وصناعته، بغض النظر عن التحولات الفعلية والتاريخية التي يتعرض لها الشرق. وهنا فإن المستشرقين يتناولون الشرق كبنية جوهرية غير قابلة للتبدل والتغيير، إلا بما يضفيه ويحدده ويسمح به هؤلاء المستشرقون. أى أن سعيد لا يحاول عبر دراسته أن يبين التناقض بين ما يقوله المستشرقون من جانب، وبين حالة المجتمعات الشرقية التي يمثلونها من جانب آخر، بقدر ما يهتم بفهم وتحليل خطاب الاستشراق ذاته، كبنية منغلقة، مكتفية ومسلحة بعناصرالقوة الإمبريالية التي تستمد منها استمراريتها وبقاءها. وفي هذا الإطار، فإنه لابد من الإشارة إلى أن سعيد لم يكن يهدف من وراء كتابه إلى أن يقدم صورة جيدة عن الشرق بعامة، وعن العرب والمسلمين بخاصة، كما أنه لم ينصب نفسه مدافعا عن الإسلام، حيث لم يهدف إلى ذلك قط؛ كل ماكان يعنيه فقط هو تناول هذه البنية الاستشراقية المستمرة والمتواصلة والمراوغة بالفحص والتحليل.
2- العلاقة بين الشرق والغرب يجب أن تدرس بوصفها علاقة قوة وهيمنة. فالشرق تمت شرقنته Orientalized من قبل الغرب، حيث يذهب سعيد إلى أن الغرب هو الذي حدد وفصل ومايز بين بنيتين تم تعريفهما على أنهما شرق وغرب. ففي افتتاحية كتابه يقتطف سعيد مقولة دالة لكارل ماركس من كتابه "الثامن عشر من بروميرالخاص بلويس بونابرت"، حيث يقول ماركس عن الشرقيين " إنهم لا يستطيعون أن يمثلوا أنفسهم؛ إنهم يجب أن يُمثْلوا". وتمثل هذه الجملة حالة عامة عبر صفحات كتاب سعيد، حيث يعتمد على العديد من الكتابات الاستشراقية منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن، مثل كتابات اللورد كرومر، وبلفور، وموسوعة وصف مصر، وروايات فلوبير، وشاتوبريان، ولامارتين، وديلسبس، وكيسنجر، وإدوارد لين... إلخ من هذا الزخم الضخم الذي يستعين به إدوارد سعيد لكى يبرهن على علاقة القوة والهيمنة بخطاب الاستشراق منذ القرن الثامن عشر وحتى الآن، مطبقا ذلك بشكل رئيسي على الأعمال المرتبطة بالاستشراق البريطاني والفرنسي، والأمريكي المعاصر لاحقا. إن كتاب الاستشراق في جوهره هو بحث في العلاقة بين القوة والمعرفة، محاولة لرصد العلاقة القائمة بين الصعود الغربي الاستعماري، وارتباط ذلك بنشأة معارف وكتابات هدفها النهائي تأكيد سيادة الغرب الأوروبي على الآخر، كائنا ماكان موقعه وجغرافيته. المهم أن تتشكل المعرفة مصحوبة بالقوة العسكرية والسياسية، لتؤبد وتؤكد حالة الخصاء الوجودي للآخر، ليقبل باستعلاء واستعباد الغرب له.
3- اعتماداً على أفكار جرامشي الخاصة بهيمنة ثقافة على ثقافة أخرى، يؤسس سعيد الفكرة الخاصة باستعلاء الثقافة الأوروبية على غيرها من الثقافات الأخرى الغير أوروبية؛ حيث يتضمن ذلك أيضا، استعلاء الأوروبيين ذاتهم على ماعداهم من بشر. وفي هذا السياق يؤكد إدوارد سعيد على ظهور بنية اسشراقية، ترتكز على الهيمنة الغربية منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى الآن، تأخذ مظاهرها المتعددة في الحقول الأكاديمية المختلفة. ولعل هذا أيضا هو ما حاول سعيد أن يثبته وأن يؤكد عليه فيما بعد في كتابه "الثقافة والإمبريالية"؛ حيث يبين كيف أن الثقافة الغربية، وبشكل خاص الإمبريالية الغربية قد تم تأسيسها وتشييدها من خلال بناء الآخر أو الآخرين. ومن وجهة نظر سعيد، فإن كل ثقافة يتم بناءها وتشييدها والتأسيس لها من خلال مجاورتها، وخلق مواجهة بينها وبين غيرها من الثقافات الأخرى، تحت مظلة من العداء والرغبة في المغايرة. وهذا هو ما فعلته الثقافة الغربية، ثقافة المستعمرين، تجاه الثقافات الأخرى المغايرة لها، ثقافة البرابرة، الهمج، الشرقيين، من الأفارقة، والأسيويين، والسكان المحليين.
ويرى سعيد أن الاستشراق يمثل بنية سياسية وثقافية. فهو بنية سياسية من حيث أنه رغم اعتماده بالأساس على الجهود الفردية المتناثرة هنا وهناك، إلا أن هؤلاء الأفراد ذاتهم حينما يذهبون لدراسة المستعمرات الشرقية المختلفة المستعمرة والمحتلة من قبل بلدانهم، فإنهم في هذه الحالة لايذهبون بصفتهم الفردية، قدر ما يحملون معهم هوياتهم الخاصة بهم؛ فالمستشرق الأمريكي، لا يذهب بصفته فردا أو باحثا في شؤوون بلد ما، قدر ما يذهب وهو مستدمج لهويته الأمريكية، وبالمثل يمكن قول نفس الكلام عن باقي المستشرقين الأوروبيين. المعني المستبطن هنا هو أن حامل الهوية هذا، غير محايد. ففي ظروف عادية غير مشحونة بالإستعلاء الإستعماري، كان من الممكن أن يحمل الفرد هويته الأمريكية أو الأوروبية، أو غيرها من الهويات بدون أن يثير ذلك هذه الألغام المرتبطة ببنية الاستشراق، لكن في ظل الهيمنة الإستعمارية، منذ نهاية القرن الثامن عشر، وحتى الآن، الأوروبية أولا، ثم الأمريكية لاحقا، فإن هذه الهويات المحمولة، تذهب إلى الشرق بصفتها السياسية، الغير معلنة أحيانا، والمعلنة في أحيان أخر، وهى مرتدية أردية ثقافية مختلفة ومتعددة، لذلك، فإن سعيد يرى أن بنية الاستشراق هى حقيقة سياسية وثقافية في الوقت نفسه. من هنا، فإن سعيد يركز، في دراسته لبنية الاستشراق، على التبادل الدينامي بين المثقفين الأفراد والاهتمامات السياسية الأوسع التي تشكلت وفقا لمجال بحثه من خلال الإمبراطوريات الثلاث الكبيرة، البريطانية، والفرنسية، والأمريكية.
ويؤكد سعيد على توجهه ونزعته الإنسانية Humanistic عند دراسته لبنية الاستشراق، والتي يرى من خلالها ضرورة الجمع بين بنية الثقافة، وبنية السياسة، عند دراسة موضوع ما، وفي إطار ذلك يركز على ضرورة تناول هذا الربط في ضوء موضعته التاريخية، حيث يقول "فكرتي في "الاستشراق" كانت استعمال النقد المستمد من التوجه الإنساني لفتح مجالات جديدة للصراع وتقديم سياق متواصل من التفكير والتحليل، بدلا من ردود الفعل الآنية الغاضبة التي تقيد تفكيرنا. وقد أطلقت صفة "الانسانية" على هذا التوجه، وأواصل استعمالها بعناد بالرغم من استهجانها من قبل الناقدين الما بعد حداثيين. أقصد بـ"الإنسانية" في الدرجة الأولى كل محاولات فك ما وصفه الشاعر الانكليزي وليام بليك بـ "الاغلال التي يصنعها الذهن" للتمكن من استعمال العقل في شكل تاريخي عقلاني، وصولا إلى فهم تأملي. إضافة الى ذلك فإن النظرة الانسانية هذه تتغذى من حسها الجمعي المتمثل بارتباطها بالباحثين الآخرين والمجتمعات والمراحل التاريخية الأخرى - بحيث لا يمكن القول أن هناك باحثا انسانيا منعزلا."
ولعل سعيد يخلق هنا، من طرف خفي، تضفيرا بين طُعونه لبنية الاستشراق الإستعلائية الإطلاقية الجوهرية، وبين تأكيده على ضرورة الموضعة التاريخية، التي تخلق حالة من النسبية، وتشيع، في الوقت نفسه، ذلك القدر من قبول الآخر، الأمر الذي يتفق مع توجهاته التحليلية ذات النزعة الإنسانية، والتي بدت لي في أحيان كثيرة غائمة ومضببة. فمعنى التوجه الإنساني الذي يستقيه سعيد من بليك، لا يعني شيئا محددا وملموسا، قدر ما يقود إلى معاني غائمة وغير واضحة. وربما من جانب آخر، تتفق هذه النزعة الإنسانية، رغم عدم وضوحها، مع حالة إدوارد سعيد الذي عاش حياته كلها خارج المكان، فلا هو ذلك العربي الفلسطيني المشمول بتاريخ الشتات القاسي الذي يواجهه، ولا هو ذلك الأمريكي المتعالي المتغطرس؛ من هنا، فإن سعيد كلما أحس بأمريكيته تطبق عليه ليل نهار، شعر أكثر وأكثر أنه خارج المكان، خصوصا أنه حتى فقد الرغبة، أو لم يعد يهمه العودة إلى جذوره الأولى. وفي أحيان كثيرة، وفي إطار إحساس الشتات هذا، بدا لي كتاب "الاستشراق" دفاعا من أجل الذات، وحماية لسعيد ذاته من أن يتآكل، أو ينقرض، أو يتلاشى.
إن كتاب "الاستشراق" ينطوي، حتى من وجهة نظر سعيد، على بعد ذاتي، يختص بنشأة سعيد، الذي عاش حياته قبل الجامعية في كل من فلسطين ومصر، ثم أكمل حياته، منذ الخمسينيات وحتي مماته عام 2003، في الولايات المتحدة الأمريكية. يتحدث سعيد عن أن كل التعليم الذي تلقاه سواء في المستعمرتين الإنجليزيتين – فلسطين ومصر- أو في أمريكا كان تعليما غربيا. في نفس الوقت الذي يبين فيه معنى أن تكون عربيا بشكل عام، وفلسطينيا، بشكل خاص، في أمريكا الخمسينيات، حيث التنميط والإتهامات المتواصلة والحط الإنساني من كرامة العرب. من أجل ذلك، جاء كتاب "الاستشراق"، ليس دفاعا عن العرب والإسلام كما رأى الكثيرون من الكتاب والمعلقين العرب، لكنه جاء هجوما وفضحا لبنية الاستشراق اللاإنسانية، المهيمنة، وكشف لأسسها الإستعمارية، وشبكة المصالح المرتبطة بها، المؤبدة لبنية الشرق من وجهة النظر الغربية.
إن النزعة الإنسانية السعيدية بدت لي في أحيان كثيرة غائمة، وغير واضحة، كما بدت لي في أحيان أخر، تعكس نوعا من الرغبة في الإرتكان إلى منظور يتجاوز كل القضايا الساخنة التي يتناولها سعيد بالفحص والتحليل؛ فالمنظور الإنساني يعني أن سعيد، في النهاية، مثقف كوني، يقفز فوق كل الخلافات بحثا عن وهم الكبرياء والكرامة الإنسانيين. ربما كان سعيد أذكي أو أمهر مما نتخيل، وهو لكذلك؛ فالمنظور الإنساني هذا، رغم ضبابيته، يحفظ لهويته الضالعة في تشابكات ثقافية متعددة، وأماكن وحضارات ذات نكهات متباينة، نوعا ما من التماسك والصلابة في مواجهة الغربنة من جانب، رغم أنه إبن بار للثقافة الغربية بامتياز، ومواجهة أى إنزلاق عاطفي نحو الشرقنة من جانب آخر.
وبالنسبة لسعيد، ورتباطا مع تصوراته الإنسانية، تتحقق تاريخية الثقافة من خلال الدور الهام الذي يضطلع به المثقفون في فهم القضايا المجتمعية المختلفة، من أجل إرساء قيم تعلي من الماهية الإنسانية، وتكرس لها. وهذا الإندماج في الواقع الإجتماعي، بعيدا عن التجريدات التخيلية، والتنميطات الفجة، هو ما يتيح للمثقفين النقديين إمكانية هدم الخرافات الإطلاقية الجوهرية التي يستخدمها البعض ضد البعض الآخر. وبالنسبة لسعيد فإن المثقف النقدي يحمل في سماته تلك الكفاءة والإمكانية التي يستطيع من خلالها أن يندمج مع مجتمعه وقضاياه ومشكلاته المختلفة، لكنه في الوقت ذاته يمتلك ذلك القدر الذي يؤهله ويمنحه إمكانية أن يكون خارج المتعارف والمجتمع عليه؛ بمعنى أن يكون خارج الإجماع، وأن يرى ما لا يراه الآخرون، وأن يكون ماهرا وقديرا في صناعة الإشكاليات ضد الإتفاق والإجماع. من هنا فإنه يستطيع أن يهاجم القوى الإجتماعية في أشكالها المختلفة سواء أكانت قوى العادات والتقاليد، قوى الإتفاق والإجماع، أو حتى تلك القوى التي تدعي الحكمة وتسبح بحمدها.
ورغم تأكيد إدوارد سعيد الدائم على أهمية تاريخية الثقافة وموضعتها ضمن سياقات إجتماعية وإنسانية محددة، فإنه، وارتباطا مع نزعته الإنسانية، المضببة، لم يكن تاريخيا حقيقيا في تحليلاته، بقدر ما بدا لي بنيويا في تعاملاته مع النصوص الاستشراقية. فإدوارد سعيد الوافد على حقل الاستشراق، رغم رؤاه اللامعة، وتحليلاته المبهرة، استخدم التاريخ، في الغالب الأعم، بشكله الكرونولوجي، كمحطات وقوف تمنحنا بعض الفهم لقراءة وتحليل بنيوي نصي، أكثر منها تلك المحاولة التاريخية التي تضرب في عمق البنى الإجتماعية، بغية الوقوف على طبيعة القوى الإجتماعية المتصارعة، والقوى السياسية المهيمنة. لذلك جاء تحليله لبنية الاستشراق، مؤديا كما يقول صادق جلال العظم إلى الاستشراق معكوسا.
تنتج وجهة نظر إدوارد سعيد القائلة بلاتاريخية الدراسات الاستشراقية للشرق، فى ذاتها تناقضاتها، فهى، من ناحية، تتضمن ثبوتية الشرق ذاته، وعدم تغيره، منذ بداية تعامل المستشرقين معه وتناولهم له، كما أنها من ناحية أخرى، وكما بين آلان روسيون، تعني أن المستشرقين قد تعاملوا مع شرق وهمي غير مرتبط بأطر تاريخية ، وسياقات زمنية محددة، وغير قابل للتغيير والتطور. من هنا فإن سعيد ذاته، واعتمادا على هذه الدوجماطيقية التأويلية، والإطلاقية الإفتراضية، لا يمكنه أن يفسر النجاحات المتواصلة- رغم بعض أوجه الفشل- التي ارتبطت بالاستشراق، ومكنته من تطوير مناهجه العلمية لفهم البنى الشرقية في دينامياتها المختلفة، وليس في استاتيكياتها كما يركز سعيد في طروحاته.
كما أن سعيد قد اتسم في كتابه بقدر كبير من الانتقائية في تعامله مع نصوص الاستشراق التي اختارها. وإلى حد كبير، يعاب على إدوارد سعيد انتقائيته البالغة في إثبات فرضياته بخصوص الاستشراق؛ حيث أكد على النصوص التي تخدم أهدافه أكثر من أى نصوص أخرى. فإهماله للإستشراق الروسي والألماني وغيرهما من أشكال الاستشراق الأوروبي الأخرى، على سبيل المثال، بدا لي أمرا غير مستساغ، حتى عندما يبرر سعيد ذلك، بأن كلا من الاستشراق البريطاني والفرنسي والأمريكي يملك ذلك القدر المتجانس والمتسق والمتواصل من بنى الاستشراق، الأمر الذي يتيح دراسته كبنية مكتملة، فإن ذلك لايبرر عدم العودة للبدايات، خصوصاً أن سعيد نفسه قد خصص إحدى كتبه الهامة لمعالجة فكرة البدايات ذاتها.
إن سعيد يجعل تاريخيته تقف على رأسها، حينما يتجاوز الأيديولوجيا، والطبقة، والتاريخ الإقتصادي، ويرمي بهم في أحضان الجهود الفردية المنتجة للأعمال العظيمة، وكأن هذه الجهود منبتة الصلة بأي من العناصر السابقة التي يرفضها. من هنا، فإن سعيد برفضه لهذه الإرتباطات الجمعية مثل الأيديولوجيا، أو الطبقة، أو التواريخ الإقتصادية، لا يجد لتحليلاته متسعا في النهاية سوى التوجه الإنساني الفضفاض، والذي ربما رغم قيمته العليا، لا يبدو له من سند في حياتنا المعاصرة، حيث المعرفة في النهاية قوة وليست إنسانا.
أخيرا، وعلى الرغم من بعض هذ الأوجه النقدية لكتاب إدوارد سعيد الفذ، فإنه لا بد من التأكيد أنه بعد مرور ما يناهز الخمس والعشرين عام على صدور كتاب الاستشراق، فإن إحدى أبرز إيجابياته هى أنه يمنح القارئ ذهنا، لا أقول تآمريا، بقدر ما يمنحه ذهنا نقديا، كما يمنحه وعيا إيجابيا غير مستلبا، تجاه كل ما يقوله الغرب، وينتجه. بمعنى آخر، وربما، بقدر كبير من التدريب الأيديولوجي والسياسي، يمنحه ذلك القدر المطلوب والمتراكم والنامي، من ضرورات اكتساب سوء النية عند التعامل مع الغرب. سيظل كتاب إدوارد سعيد، مهما وجهنا إليه من عبارات المدح من جانب، والنقد من جانب آخر، شاهدا فذا على نوعية من المثقفين الغير مستلبين، الذين اختاروا، على الأقل، جبهة المستضعفين، حتى وهم لا يقصدون الدفاع المباشر عنهم. فقد اختار إدوارد سعيد أن يقف موقف الناقد من أعتى الدول المعاصرة، ذات المؤسسات التي تبتلع المثقفين وتحولهم إلى مجرد سدنة وتكنوقراط، وأبواق ذات حناجر رخيصة، ورغم هذا الإختيار الذي يبدو شاقا في مظهره، وانتحاريا في مسعاه، فإن إدوارد سعيد قد كسب على المستوى الشخصي ذلك المجد الذي يتمناه أى مثقف حقيقي وهو يدافع عن شرف الكلمة، ونزاهة الاختيار، وقيمة الحياة. رحم الله إدوارد سعيد في ذكراه السنوية الثانية وعوضنا عنه ما يكمل مسيرة نقد الاستشراق.
د. صالح سليمان عبدالعظيم: قسم الاجتماع، جامعة عين شمس
#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
-
ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات
...
-
إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار
...
-
قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
-
دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح
...
-
كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع
...
-
-كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة
...
-
مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل
...
-
القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت
...
-
الخارجية: روسيا لن تضع عراقيل أمام حذف -طالبان- من قائمة الت
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|