قبل أن أرد على أطروحات الاخ عويديدي المتعلقة
بمواقف اليسار التونسي من الاسلاميين، سوف أحاول "شرح الصدور" بسرد هذه الحادثة
التي عشتها في الماضي القريب والتي قد تكون مضحكة للبعض ومحزنة للبعض الاخر.
كان واحد من أصدقائي عابرا من
باريس في سفره الى الولايات المتحدة وطلب مني الالتقاء به في مقهى من المقاهي
الباريسية. وأثناء "رحلتي" في اتجاه المقهى أعلمني بالهاتف بأنه، نظرا لضيق وقته،
سوف يلتقي في نفس الوقت بمجموعة من قيادي حركة النهضة وسألني اذا ما كان ذلك
يحرجني. فقلت طبعا لا. وما يحرجني في الالتقاء باي من أبناء وطني، مهما كانت
اختلافاتي السياسية معه؟
وحصل
الالتقاء. وحال جلوسنا وتبادل السلام جاء الجرسون وسأل كل منا عن مشروبه. فسألته عن
أنواع البيرة المتوفرة في المحل. ولا أخفي أن سؤالي كان فيه نوع من "الاستفزاز
البريء" اذ اني لا أشرب البيرة اطلاقا وأردت فقط "سبر" مدى تسامج الاخوان.
فلاحظت مدى تذمر الجالسين وتململهم الى أن نطق واحد منهم راجيا أن لا أطلب
المحرمات. فأجبته بمزح : "هذا قبل أن تصلوا الى الحكم فكيف يكون الحال عندما تصلون
الى الحكم؟ هل تقطعوا رأسي؟" فأجات أصغرهم سنا : "نحن قادرين على قطع الرأس حتى قبل
أن نصل الى الحكم". فلمست عنقي برأفــة وقررت البقاء احتراما لصديقي الذي لم أره
منذ الشهور. وهو صديق مازال حيا يرزق وما زال يمازحني بهذه الحادثة.
اذا اعتبر بعضكم ان تمهيدي خارجا عن الموضوع
فانا اعتذر مسبقا، وللننتقل الى أطروحات الاخ العويديدي.
من هم الاستئصاليون في تونس؟
ان أول ما يستحق الرد في مقال السيد العويديدي
هو اعتباره ان اليسار التونسي يضم استئصاليين. وهنا يجدر التساؤل عن معنى
الاستئصال، ذلك ان تعريف هذا المفهوم انزلق بحسب الظرف الى درجة انه أصبح يستعمل
للتضليل. فالاستئصالي هو الذي ينكر على أنصارالمشروع الاسلامي، مهما كان، حق
التنظم والتعبير والمشاركة في الحياة السياسية وبالتالي المشاركة في ادارة الشؤون
العامة. كما أن الاستئصالي هو الذي يرفض أي جدل عقائدي وسياسي مع هؤلاء و يستعمل في
سبيل هذا الاقصاء جميع الوسائل السياسية والأمنية والعسكرية. وبهذا المفهوم فان
النظام التونسي هو الوحيد في تونس الذي يجوز اعتباره من دعاة وممارسي الاستئصال.
أما اليسار التونسي بكل تياراته فهو :
· يؤمن ايمانا راسخا بحق أنصار
المشروع الاسلامي في التنظم والتعبير والمشاركة في الحياة السياسية وحتى في استلام
السلطة اذا كان ذلك نابعا عن ارادة شعبية حرة ولكن مع مراعاة بعض الضوابط التي تمنع
هذا التيار من "سد الباب أمام الاخرين" فور دخولهم البيت ومن التفويت في المكتسبات
الحضارية لمجتمعنا مثل حقوق المرأة وحرية المعتقد والأسس الاقتصادية العصرية ومصدر
التشريع الخ...
· يدين بكل قواه القمع المسلط
على أنصار هذا المشروع في تونس ويطالب برفع المظالم المسلطة في حقهم باطلاق سراح
المعتقلين وسن قانون عفو تشريعي عام.
ولكن غالبية اليسار تعتبر أيضا أن المشروع الاسلامي مشروعا رجعيا من شأنه أن
يعيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلد ولذلك يجب شرح مراميه ومخاطره
للرأي العام لكي لا يغـتر بنقاوته المزعومة ويسانده، حتى وان كان ذلك من باب
التعبير عن رفض النظام القائم. هذا هو جوهر موقف اليسار التونسي من دعاة المشروع
الاسلامي. وهو أيضا موقف محمد الشرفي الذي سبق وأن عبر عنه بوضوح في العديد من
المناسبات وأهمها حواره التلفزيوني في قناة المستقلة في مايو 2001 . كما أنه يعتبر
أن أي تحالف سياسي مع أنصار المشروع الاسلامي من شأنه أن يزرع الالتباس في الرأي
العام الوطني حول تشابك المشاريع المختلفة في حين أن المطلوب اليوم هو الوضوح التام
للتمكين من الاختيار الحر والواعي.
فهل يجوز في هذه الحال اعتبار اليسارالتونسي استئصاليا؟ طبعا
لا. ولكن على غرار غوبلس الذي كان يعتبر أن "الشيوعي الجيد هو الشيوعي الميت" فان
دعاة المشروع الاسلامي يعتبرون أن "اليساري الجيد هو اليساري الذي أصبح اسلاميا".
وبالعكس فان اليسار التونسي لا يعتبر أن الاسلامي الجيد هو الاسلامي الذي أصبح
يساريا بل الاسلامي الذي ينطلق أولا من مصالح وطنه وشعبه ويبحث عن نقاط التلاقي مع
الاخرين لتحقيقها، وان كان يستلهم صميم أفكاره ومواقفه من اجتهاده في فهم دينه،
ولكن دون محاولة فرض هذا الفهم على الاخرين وتكفيرهم في حالة الرفض.
أي مشروع اسلامي؟
ثم يأتي ما يدعو الى التساؤل عن معنى المشروع الاسلامي اذ أن
أهم مٱخذ الكاتب على اليسار هو ما يسميه " تعويق المشروع الاسلامي ا...".
وسبب ذلك هو أن المشروع الاسلامي، بألف ولام التعريف، غير موجود اذ أن الواقع هو
أنه يوجد العديد من المشاريع الاسلامية. فالى اي مشروع اسلامي بالتحديد يدعو الاخ
العويديدي؟ فاذا كان مشروعه هو مشروع الاتراك فنحن نعده باننا لن نعمل اطلاقا على
تعويقه بل بالعكس فانه سوف يجد فينا حلفاء أوفياء للعمل معه من أجل دحر
الديكتارورية وارساء الديمقراطية. فما يمنع ذلك طالما أن الحركة الاسلامية التركية
تعلن للملأ انها ليست أصولية وأنها تعمل في ظل دولة علمنانية وتلتزم باحترام نظمها
كما أنها تؤمن بالتناوب السلمي على السلطة؟ أما اذا كان مشروعه هو مشروع جبهة
الانقاذ الجزائرية وما لف لفها من ارهابيين وأنصاف أيمة، ممن بدأ ينادي "تسقط
الديمقراطية" و "الديمقراطية حرام" حال فوزهم في الدورة الاولى من الانتخابات،
فاننا فعلا سوف نعمل على تعويقه لأن بذلك يرتهن مستقبل بلادنا وأطفالنا. وللأسف فان
كل ما صدر عن حركة النهضة الى اليوم، يدل على أنها انحازت الى المشروع
الجزائري وليس الى المشروع التركي.
هذا لتركيزالجدل حول مفهوم محدد للمشروع الاسلامي وحصر ردي عليه دون غيره،
مع كوني ما زلت أتساءل عن معنى "المشروع الاسلامي" في بلد مسلمين. فهل كنا وثنيين
او مسيحيين قبل ظهور ما يسمى بالحركات الاسلامية؟ وهل حدث فجأة ما يهدد الاسلام في
بلدنا حتى ظهرت الحركات الاسلامية لتدافع عليه؟ ولماذا لم تظهر الحركات الاسلامية
أيام الاستعمار الاجنبي لتحتل الصدارة في مقاومة المحتل بل كان أغلب روادها ورموزها
يتعامل مع المستعمر باصدار مختلف الفتاوي لصالح التجنيس وغيرها من القضايا
الاستعمارية؟ ولا أشك في أن الاخ العويديدي له أجوبه مقنعة على هذه التساؤلات.
كلمة حق أريد بها باطل : مقاومة
الاستبداد والهيمنة الخارجية
لا
أحد يجهل اليوم ملابسات ظهور الحركات الاصولية الاسلامية وظروف نشأتها والمصالح
التي ظهرت لتعبرعنها والارتباطات الدولية التي ساعدت على نشأتها وتطويرها.
وللاختصار أذكره بان كل الباحثين والمؤرخين وحتى المسؤولين السابقين في مختلف
الأنظمة العربية، بما فيها تونس، يسندون ظهور الحركات الاصولية الاسلامية الى
الارادة الأمريكية في التصدي الى الفكر اليساري التقدمي والشيوعي ومحاربته في
البلدان الاسلامية بشكل عام والعربية بشكل خاص. ففي تونس مثلا، هل نسي التسهيلات
التي تمتعت بها حركة الاتجاه الاسلامي في بدايتها، من فسح المجال للعمل في المساجد
وتأشيرات المجلات وتسامح النظام التونسي بل تشجيعه على ضرب المناضلين اليساريين في
الجامعات؟ وهل نسي أن أسامة بن لدن نفسه وتنظيماته العسكرية هي كلها من صنع أمريكي
خالص؟ وهل يحاول الاخ العويديدي التمويه على أن كل تمويلات حركته والحركات المشابهة
لها تأتي كلها من أتعـس الانظمة الاسلامية والعربية مثل السعودية والكويت والامارات
والسودان وغيرها؟
مقاومة الشرفي
كشخص والتحرج من طرح جوهر الخلاف معه
لا يكتب الاصوليون التونسيون سطرا واحدا لنقد اليسار دون مهاجمة الشرفي كشخص
متهمينه بجميع التهم الخرقاء ولكنهم يتجنبون دائما التعرض الى أي من أفكاره. فها هو
الشرفي "جاء مع من معه ليعرضوا خدماتهم ويقدموا أنفسهم...". فهل نسي الاخ عويديدي
بانه قبل ان يجيء الشرفي بكثير كان الشيخ راشد يعلن للملأ "ثقتي في
الله وفي بن علي". والغريب في ذلك هو أن بن على يأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد
الله ولم يكن الشعب ولا الأمة في تلك المرتبة. فمن ذا الذي "وقف مع الدولة ضد
الأمة"؟
أما جوهر الخلاف
مع الشرفي، وما يتحاشى الاسلاميون عرضه للرأي العام، هو أنكم كانوا يطالبون بابقاء
المناهج التعليمية تعلم النشآ بان الاسلام يأمر بضرب المرأة وبتفوق الرجل على
المرأة ويأمر بقتل غير المسلم بدعوى الجهاد وبقطع يد السارق ورجم الزانية وتحريم
الاسس العصرية للاقتصاد وغيرها من الخرافات الناتجة عن تأويل ظلامي لديننا. فلقد
كانوا يقاومون هذا المنهج بشعارات غوغائية تنحصر في اتهام الشرفي بالكفر وبتجفيف
المنابع الخ... وكان الأجدر أن يعرضوا بديلهم للراي العام لكي يحكم عليه او له، دون
الشعارات التي تطمس العقل وتثير المشاعر.
وفي الختام أود أن أؤكد للاخ العويديدي باني غير يائس اطلاقا
من تطور غالبية الاسلاميين التونسيين، باعتبار محيطهم الثقافي والجغرافي والمكتسبات
الحضارية لشعبنا ووطننا وتسارع الاحداث في العالم الذي نعيشه اليوم، نحو التخلى عن
نزعاتهم الاصولية ونحو الالتقاء، مع الاحتفاظ بخصوصياتهم، مع مختلف التيارات
الديمقراطية الوطنية. وعندما يحصل هذا الالتقاء المنـشود فانه سوف يكون بين
ديمقراطيين ينطلقون من قيم التراث الانساني بما فيه الدين الاسلامي
وديمقراطيين ينطلقون في مواقفهم من معتقداتهم الدينية الخاصة ولكن دون اعتبارها هي
الدين. وكل ما أرجو هو أن يعتبر هذا الرد وغيره اسهام في بلورة
هذا المسار وليس تهجما على أي كان.
(نُـشـر هذا المقال في موقع آفاق تونسية يوم 16 جانفي
2003 على الساعة 16 و28 دقيقة)