|
الأوهام وزارعيها
ماجد ع محمد
الحوار المتمدن-العدد: 5009 - 2015 / 12 / 10 - 14:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
"أحياناً لا يرغب الناس في سماع الحقيقة لأنهم لا يريدون أن تتحطم أوهامهم " فريدريك نيتشة حسب علم النفس فإن الوهم هو شكٌ ووسواسٌ، واعتقاد خاطئ يؤمن به المرء بقوّة، بالرَّغم من عدم وجود أدلَّة عليه، وهو أي الوهم يشوه الحواس والحقيقة معاً، بل ويؤكد العلماء على أن الوهم مرض عقليّ، إلا أن الكثير من مواطني بلادنا تعوّدوا ومنذ عقودٍ على أن يبنوا جدران طموحاتهم الفردية والقومية والوطنية على منصات الأوهام، بدلاً من بنائها على أرض الواقع المنظور، مَن يعلم؟ ولربما يدرك الواهمُ بأنه إذا ما تم تجريده من التخيلات فلن يبقى منه شيء جدير باحترام الذات، لذا تراه يتمسك بأذيال الأوهام أينما حل وارتحل حتى يحافظ واحدهم على الاخدود الدائم بين تخوم الوعي ومضارب اللاوعي لديه، وحتى لا تجبره الحياة على أن يلتقي في يومٍ من الأيامِ وفي زقاقٍ من الأزقة مع حقيقته وجهاً لوجه. فلا شك إذن بأن الحقيقة مزعجة للواهم أينما كان مقيماً، وأينما أقامت الحقيقة حسب ما يقوله نيتشة، لذا ففي بلادنا المبتلاة بأنظمة شمولية مستبدة فاسدة، دأب الكثير من المعارضين والنشطاء على تقديم صورة الثورات والثوار للناس بطريقة حضارية ورومانسية كما تُقدم في الأفلام، وحسب وجهة نظر مخرجي تلك الأفلام، بل والمبالغة الممجوجة في رسم مثاليتها، ففي سوريا وبعيداً عن الاسهاب في وصف نظامٍ مجرم بكل المقاييس، إلا أن الكثير من أتباع المعارضة اتبعوا في الميادين نفس المنهج المتبع للذي يعترضون على جوره، ولم يكونوا ليقبلوا بأن يتحدث أحد عن التجاوزات اليومية لأقرانهم، وباعتباري شبه مجنون بالواقعية، وبخلاف الرومانسيين مع كل ما يتعلق بحياة الناس، كنتُ دائماً ما أنتقد تصرفات ثوارنا الميامين على مقابحهم، حتى أن بعضهم قال بأنك تتناول الثوار أكثر من جلاوزة النظام، فكنت أقول بأن الثائر الذي يتمرد على الظالم، أي ظالمٍ كان، ويقوم بتقليد ممارسات أو أفعال حاشية الطاغية وزبانيته فما الفائدة من تمرده؟ وهل كل متمرد في الكونِ يستحق الشكر والتقدير؟ أليس اللص أيضاً متمرداً على الأعراف والاجتماعية والقوانين؟ وأليس القاتل المأجور أيضا متمرداً على شرائع السلم والأمان؟ وأليس الفاسد أيضا متمرداً على طينة الصلاح والاصلاح؟ إذ أن ما يجب أن يميز الثائر أو المتمردَ على الظلم هو فقط سلوكه، وتعامله مع الناس من حوله وليس فقط اسمه، وانصافاً للحقيقة نقول بأن على الكائن المشبع بالقيم الانسانية وحقوق الانسان أينما كان، أن يكون موضوعياً في نقل كل ما يراهُ أمامه من انتهاكات وسلوكيات نتنة يقوم بها أتباع الأنظمة الحاكمة في البلاد أو مِن قبل مَن يسمون بالثوار فيه، وليس المساهمة في تشويه وعي الناس والاستمرار بوظيفة رسم وزرع شجيرات الأوهام التي بدت متنقلة من مكانٍ الى آخر، والدليل أن معظم من لجأ الى إخفاء الحقائق أثناء الترويج للثقافة الثورية وأوان اندلاعها ومداومة الكذب معها، أصر على عدم إخبار الناس عن حقيقة الثورات في العالم ككل والدول الغربية بوجهٍ خاص، أي ماذا حدث قبل ثورات الشعوب وخلالها؟ وليس فقط الاكتفاء بإخبار العامة عن نتائجها، وإخفاء كل سيَر الخراب والدمار عن الناس، بينما في المقابل نرى بأن عبدالرحمن الكواكبي وقبل مئة عام وبصورة صادقة ومعبرة تحدّث عن وسائل وظروف اقتلاع الطغاة أكثر من كل كتُاب ومفكري المعارضات الحالية في هذه البلاد، وفي عصر الانترنت، حيث شبّه الكواكبي نظام الطاغية او الاستبداد بشجرة كبيرة تمتد بشروشها الى كامل قطعة الأرض، وأن أية محاولة لخلعها أو إزالتها تتطلب تخريب وتدمير كل التربة من حولها، وليس فقط الاكتفاء ببتر الرأس كما تصوّر المعارضون المتحمسون للإطاحة برؤوس الحكام في المنطقة، هكذا بكل وضوح تكلم الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد عن شجرة المستبد وشروشها وتبعات خلعها، فلم يكذب، ولم يوهم الناس بسهولة الاطاحة بالحكام وخلعهم، ولم يقم بتصوير الحاكم وكأنه كراكوز هش، والثورة كأنها كرنفال جماهيري بهيج، ومن ثم انتقالٌ جميل للسلطة، كما تم وصفها للناس من قِبل مثقفي المنطقة ومعارضيها الذين سبقوا العامة في الفرار العظيم، فهذا الزيف والكذب لا شك يتحمله كل من اشتغل على عواطف المواطنين مِن الساسة والكتاب والمثقفين بوجهٍ عام. إلا أن الغريب في الأمرِ هو أن زارعي الأوهام استمروا في تغريرهم حتى بعدما تركوا بلادهم وصاروا ضيوف المغتربات، واستمروا على مداومة رسم صورة الواقع كما يحلو لهم، وظلت الحقيقة تزعج خاطر أكثرهم، خاصة يوم صار هنالك حديث عن عيوب الأم الجديدة للسوريين أي الجارة الطويلة والكبيرة(تركيا)، أو عن عيبٍ من عيوب الفردوس الأوروبي الجديد. وباعتبار أن الواهم لا يود أن يستيقظ من أوهامه ليرى الحقيقة كما هي لا كما يتصورها، لذا ظل الكلام عن سلبيات الوضع في تركيا أو أوروبا، يزعج نفس الذين كانوا يتعاملون مع الثورة برومانسية مبالغ بها، ولأن الحقيقة مزعجة أينما وجدت، لذا لا يزال اخواننا مستمرون بأوهامهم التي رسموها قبل أمس عن الثورة السورية والربيع العربي ككل، والبارحة عن تركيا واليوم عن الفردوس الأوروبي كمحطة أخيرة لمسيرتهم الثورية. حيث من جملة ما تم رسمه في المخيلة من بيادر الأوهام، هي تلك المشاعر المتضاربة، والغصة التي انتابت أحد الواصلين الى شواطئ كاب داغد بفرنسا، حيث يقول المهاجر لمهاجرٍ مثله، إن أكثر ما يؤلمك في الغربة بعد حين، هو أن تكتشف بأنك انخدعت من أقرب الناس إليك، خاصة ذلك الذي جمّل الدنيا بالأوهام أمامك، ومن غير أن ينتبه قطُ بأنه من خلال الكذب المتواصل عليك، كان قد قضى على ما ظننته حلمك، حلمك الذي بنيته خلال الأيام والشهور وغامرت لأجله، أما هو فكل همه فيما يخصك ويتعلق بك، هو أن تكون معه هناك مجرد ونيس الأيام أو ذلك الشبيه بالمازيات الحاضرة على طاولة شارب المدام. وبما أننا في حقل المتوهمين فهنالك أشخاصٌ كثر يعيشون في وهم العلاقات مع الغير، حيث أن وسائل التواصل الاجتماعي جاءت على طبق من ذهب لتعزيز الوهم لدى الكثير من الناس الذين من فرط التوهم ينتقلون ربما الى حالة الانفصام بفضل تلك الوسائل، لأنه وفق تصوره سيستطيع من خلالها أن يعيش الوهم ويصدقه، ومن فرط الاندماج مع أوهامه قد يظهر بأكثر من وجهٍ وقناع في اليوم الواحد، وقد ينشئ له عدة صفحات، كل واحدة منها بخلاف الأخرى، وذلك حتى يعيش كل أوهامه وتناقضاته الداخلية متى ما أجبرته على ذلك ذاته المنفصمة، طالما كان يعاني الازدواجية والاضطراب ولا يقدر على أن يكون شخصاً واحداً في السر والعلن. لذا فإرضاءً للذاتِ وهروباً من ملاقاة الحقيقة، سيبقى لسان حال كل من جعل الوهم سيده سياسياَ كان أم مثقفاً، جاهلاً كان أم متعلماً يقول: فلأستمر بالتوهم والكذب على نفسي وعلى غيري، ولو لم يصدق ذلك سواي ممن يعرفون تفاصيل زحفي على أرصفة الحياة، وذلك حتى لا أظهر أمام نفسي، وأمام أولئك الجاهلين بوضعيَّ بأني مع كامل أناقتي قد هُزمت. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ملاحظة: فالوهم الذي نحن بصدده هو متعلق ببعض أهل الدنيا، وليس محوره أتباع الآخرة الذين أُلفت الكتب والمجلدات عن أحلامهم وكل أوهامهم المتعلقة بالفراديس ومشتهياتها، فهنا العلماني، الدنيوي، اللاديني لا يقل وهماً عن ذلك المتدين المشدود بكلهِ نحو ما يُحضّر له في الغياب حسب قناعاته.
#ماجد_ع_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دونك أو دونه
-
ما بين الخنوع والإباحية
-
أكثر ما يؤلم الحمار
-
من السهروردي الى أشرف فياض
-
ليلى زانا والقَسمُ الكردي من جديد
-
أطفال سوريا في يوم الطفل العالمي
-
المتضرر الحقيقي من الحرب لا يمتلك ثمن الوصول الى أوروبا
-
جاذبية متن الدواعش
-
عندما يستهدفك اخوانك
-
ماذا لو تغيرت قاعدة التضحية؟
-
أسرع الناس اندماجاً
-
كن مثلكْ
-
الاقتداء ببائعة الجسد أم بالمثقف؟
-
سوريا تحتاج الى سنين لكي تكون مكان آمن للعيش فيها
-
عندما يصبح المديحُ ثقافة
-
هزتين
-
الدعوة الى البهيمية
-
الكردي وشوق المحاكاة
-
بين معاداة الكلابِ ومحاباة أصحابها
-
الغرب بين الحرية والادماج القسري
المزيد.....
-
صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع
...
-
الدفاع الروسية تعلن إسقاط 8 صواريخ باليستية أطلقتها القوات ا
...
-
-غنّوا-، ذا روك يقول لمشاهدي فيلمه الجديد
-
بوليفيا: انهيار أرضي يدمّر 40 منزلاً في لاباز بعد أشهر من ال
...
-
في استذكار الراحل العزيز خيون التميمي (أبو أحمد)
-
5 صعوبات أمام ترامب في طريقه لعقد صفقات حول البؤر الساخنة
-
قتيل وجريحان بهجوم مسيّرتين إسرائيليتين على صور في جنوب لبنا
...
-
خبير أوكراني: زيلينسكي وحلفاؤه -نجحوا- في جعل أوكرانيا ورقة
...
-
اختبار قاذف شبكة مضادة للدرونات في منطقة العملية العسكرية ال
...
-
اكتشاف إشارة غريبة حدثت قبل دقائق من أحد أقوى الانفجارات الب
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|