|
اﻷثر القومي في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري، سياسة تعميم التعريب أنموذجا
عبدالرحيم رجراحي
الحوار المتمدن-العدد: 5007 - 2015 / 12 / 8 - 00:53
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
"إن التعريب كما نفهمه، وكما يجب أن يكون، هو بعث وتغيير وتجديد، بعث للغة القومية، وتغيير للذهنية، وتجديد لأساليب العمل والتفكير" محمد عابد الجابري
نهدف من خلال هذا المقال إبراز جانب من الأثر القومي في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري. إعتمدنا لتحقيق هذا الغرض، حتى لا نلقي بالكلام على عواهنه، على العدد الثالث عشر من سلسلة مواقف التي يشرف عليها محمد عابد الجابري والصادر في طبعته الأولى سنة 2003. يذكرنا فيه الرجل بملف من ملفاته الثقافية، الأمر يتعلق تحديدا بمؤلفه "أضواء على مشكلة التعليم في المغرب"، الصادر في طبعته الأولى سنة 1973. يعتبر المؤلف ذاته هذا الكتاب واحدا من أهم ملفاته الثقافية، بل هو حصيلة واضحة للتداخل بين اهتماماته التربوية والسياسية والثقافية في مساره الفكري.
سنحاول قدر الإمكان، نظرا لكون موضوعنا موضوعا جلل، تحري الحياد والتبصر؛ بحيث نعرض مقتضياته كما هي، لا كما نريد أن تكون، بالموازاة مع دعمها بما يناسب من الشواهد، دون المسارعة إلى إصدار الأحكام أو الاستسلام لما دأب عليه العوام. لا بد أولا، قبل أن نبرز الأثر القومي في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري، أن نبرز موضوع الكتاب مدار الحديث. نكتفي، في هذا المقام، بالإشارة إلى أن كتاب "أضواء على مشكلة التعليم في المغرب" يَنْظُرُ من خلاله محمد عابد الجابري في أزمة التعليم في المغرب وهو ما يصرح به في مقدمة الكتاب قائلا: "ثمة إذا مشكل مزمن في المغرب، هو بلا نزاع مشكل التعليم"1. يتسم طرح محمد عابد الجابري لهذا المشكل بكونه طرحا إيديولوجيا؛ ذلك أنه طرح يؤمن بالحل الوحيد ويبعد كل الحلول الممكنة. تشهد على ذلك خاتمة الكتاب الموسومة بعنوان "الحل الوحيد الممكن"2. يتجلى هذا الطرح الإديولوجي، أول ما يتجلى، في إقرار محمد عابد الجابري أن الطريق الوحيد لاستكمال التحرير، باعتباره ضرورة لا محيد عنها، بعد حصول المغرب على الاستقلال الرسمي، هو الطريق الاشتراكي. يقول في هذا الصدد: "ليس من طريق، إذا، من أجل التحرير والتنمية غير الطريق الاشتراكي". إنه الطريق الأنسب، في نظره، للتحرر من "مخلفات الاستعمار ورواسبه وشبكاته وأحابيله"3. أما الخيار الآخر الذي يمكن أن يطرح لاستكمال التحرير فهو "طريق الرأسمالية"، غير أنه، في نظر محمد عابد الجابري، ليس طريقا ممكنا بالقطع. يبرر ذلك بكون "الرأسمالية أضحت إمبريالية استعمارية"، ثم أن "طريق الرأسمالية اليوم، بالنسبة لمجتمع متخلف [كالمغرب]، لا يمكن أن يكون غير طريق التبعية، طريق السير في ركاب الاستعمار"4 وأخيرا هو طريق "يتنافى كلية مع المهمة الأساسية التي تنتظرنا [أي] مهمة استكمال التحرير"5. يرى محمد عابد الجابري أن من جملة الميادين المطلوب تحريرها وبناؤها بناء اشتراكيا "ميدان الثقافة والتعليم". يقترح لتحقيق هذا الهدف مطلبين لا ثالث لهما: "تعميم التعريب" و"دمقرطة التعليم"6. ننبه إلى أن هذين المطلبين يشد بعضهما بعضا ويحدد كل منهما الآخر؛ ذلك أن "تعميم التعريب" وجعله يشمل مختلف مناحي الحياة العامة، أي الحياة الفكرية والثقافية والاجتماعية على السواء، لن يتحقق إلا بدمقرطة التعليم والعكس بالعكس. لما كان المطلب الأول هو الذي يعنينا في هذا المقال، فإننا سنستثني النظر في المطلب الثاني. ما المقصود إذا بتعريب التعيلم؟ ما أبعاده القومية والإديولوجية؟ يعتبر محمد عابد الجابري أن "تحقيق التعريب الشامل [...] شرط ضروري لإثبات هويتنا وتأكيد أصالتنا"، وعيا منه أن " العروبة" "ليست شيئا آخر غير اللغة والثقافة"7. أما المجالات التي ينبغي أن تشملها عملية التعريب، في نظره، هي، بالحصر، كالآتي: "التعليم بمختلف مراحله وشُعَبِه"؛ "لغة الحديث والخطاب في المنزل والشارع والمدرسة"؛ "الفكر وقوالبه والثقافة وأطرها"8. تجدر الإشارة إلى أن هذه المجالات متداخلة ومترابطة "ولا يمكن الفصل بينها ولا تقديم جانب منها على الجوانب الأخرى"9، كما يؤكد محمد عابد الجابري. يعتقد محمد عابد الجابري أن تعريب التعليم "لا يمكن أن يتحقق بسلوك "الطريق الصاعد" وحده [أي] الابتدائي ثم الثانوي ثم العالي، بل لا بد أن تشمل عملية التعريب، في آن واحد، هذه المراحل مجتمعة، لأن كلاَّ منها يتوقف على الآخر فيمده إما بالمعلمين والأساتذة وإما بالتلاميذ والطلبة"10. يضع محمد عابد الجابري، بناء على ذلك، بدل "الطريق الصاعد" أو "التدرج العمودي"، "التدرج الأفقي"، بما هو تدرج يقوم على "إنشاء أقسام معربة موازية في كل مدرسة وفي مختلف أسلاك التعليم وشعبه ومعاهده، أقسام يخطط لها، بحيث تظل تتسع إلى أن "تبتلع" الأقسام المفرنسة نهائيا ويتحقق التعريب الشامل"11. يشير محمد عابد الجابري، في هذا السياق، أن تعريب التعليم يترتب عنه تعريب الإدارة، كما أن تعريب الإدارة، بدورها، يستلزم تعريب التعليم. غير أن التعريب الشامل والعميق الذي يراهن عليه محمد عابد الجابري لا يقتصر على تعريب التعليم والإدارة، بل يتعدى ذلك إلى قلب الأوضاع "الاجتماعية والثقافية رأسا على عقب [...] [بحيث] يمتد بقوة وفعالية إلى مختلف مرافق الحياة العامة، إلى البيت والشارع، إلى القرية والمدينة، إلى الإذاعة والتلفزة والسينما وكل وسائل التواصل ومجالات الإعلام والتخاطب"؛ إنه تعريب لا يستهدف، فقط، اللغة الفرنسية، كلغة مهيمنة، بل يستهدف، كذلك، "إماتة اللهجات البربرية منها و"العربية""11. يقترح محمد عابد الجابري لتحقيق هذا الرهان "تركيز التعليم وتعميمه إلى أقصى حد في المناطق الجبلية والقروية وتحريم استعمال أية لغة أو لهجة في المدرسة والإذاعة والتلفزة غير اللغة العربية الفصحى". إن عملية من هذا القبيل هي الكفيلة بالقضاء "على مخلفات "السياسة البربرية" التي لجأ إليها المستعمر لضرب كياننا وطمس معالم هويتنا"12 على حد تعبير محمد عابد الجابري. أما لتعريب الفكر وقوالبه، والثقافة وقوالبها فيقترح محمد عابد الجابري"إعطاء مادة التثقيف التي ستكون معربة لسانا ولغة، مضمونا عربيا قوميا مستمدا من العناصر الأصيلة [...] في تراثنا، ونابعا من قلب مشاكلنا ومشاغلنا واختياراتنا مغتنيا إلى أقصى حد بثقافة العصر ومنطقه وعلومه"13 لا بد، بعد عرضنا للمجالات التي ينبغي أن تشملها سياسة التعريب، من الإشارة إلى توضيح في غاية الأهمية، لتفادي سوء الفهم الذي يمكن أن ينتج عن موضوع مقالنا؛ ينبهنا محمد عابد الجابري، في هذا الصدد، أن مشروع أو سياسة تعميم التعريب "لا علاقة له بالجدل القائم الآن حول الأمازيغية؛ وبالتالي فمن التعسف نقله من الإطار الذي طرح فيه إلى إطار آخر مختلف تماما. هذا فضلا عن أن هذا الطرح يشمل اللهجة العربية الدارجة ويركز عليها لأنها أكثر تجسيدا للناحية اللغوية والثقافية من الازدواجية موضوع الكلام (العربية والفرنسية)"14. ينبه محمد عابد الجابري، فضلا عن ذلك، أن اللغة العربية الدارجة هي المعنية بالأمر أكثر من غيرها، لكونها "تتزاحم فيها الألفاظ العربية المشوهة والكلمات الأجنبية المُكَسَّرَةُ والتراكيب المزجية بشكل جعل منها لهجة غير قادرة تماما لأن تكون "لغة شعبية" تعكس أحاسيس الشعب وتطلعاته"، بل إن ما يجعل من اللغة العربية الدارجة هي المعنية بالأمر أكثر من غيرها هو أنها "عبارة عن خليط يضم بحق "أكثر من سبعين رقعة"، خليط لا يستوعب إنتاجا ولا ينتج شيئا"15.
نستخلص وبجلاء، بناء على ما سبق، حضور البعد القومي في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري، خاصة عندما نستحضر أن هذا المشروع هو حصيلة لاهتماماته التربوية والسياسية والثقافية على حد سواء؛ الأمر الذي تعكسه رغبته الواضحة والملحة في تعميم التعريب ودفاعه عن هذا المشروع القومي بامتياز، بحيث يشمل مختلف مناحي الحياة، بل استعداده لخوض معركة من أجل التعريب، تضاهي معركة الاستقلال السياسي. إن سياسة التعريب إذا كما يفهمها محمد عابد الجابري ويراهن عليها هي، بالتحديد، "بعث وتغيير وتجديد، بعث للغة القومية، وتغيير للذهنية وتجديد لأساليب العمل والتفكير". ننهي مقالنا بالتذكير أن دفاع محمد عابد الجابري عن مشروع تعميم التعريب أو بالأحرى عن النهج الذي يقترحه لتنفيذه، باعتباره مشروعا قوميا، لا يعني إقصاؤه لقومية من القوميات، بل ينبغي أن نفهم هذا المشروع في سياق الظروف التي أنتجته وتحديدا في ضوء الهدف الذي يوجهه والذي يكمن في استكمال التحرير وبناء عالم الغد بناء اشتراكيا يستجيب لطموحات الشعب المغربي كافة.
الإحالات
1 محمد عابد الجابري، سلسلة مواقف، العدد الثالث عشر، قضية التعليم في مسار متعدد الأوجه، دار النشر المغربية، الدارالبيضاء_المغرب، الطبعة الأولى، 2003، الصفحة 17.
2 المرجع نفسه، ص 20.
3 المرجع نفسه، ص 85.
4 المرجع نفسه، ص 84-85.
5 المرجع نفسه، ًص 85
6 المرجع نفسه، ص 86.
7 المرجع نفسه، ص 87.
8 المرجع نفسه والصفحة.
9 المرجع نفسه والصفحة.
10 المرجع نفسه، ص 88.
11 المرجع نفسه، ص 89.
12 المرجع نفسه، ص 90.
13 المرجع نفسه، ص 93.
14 المرجع نفسه، ص 89.
15 المرجع نفسه، ص 90.
#عبدالرحيم_رجراحي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخصائص النفسية للمراهقين، المراهقين المفاربة أنموذجا
-
الدولة والحق في الفضاء العمومي
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|