|
!!الرقص .. على حافة البئر
ياسر العدل
الحوار المتمدن-العدد: 1367 - 2005 / 11 / 3 - 11:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لم يذكر التاريخ المعاصر أية بطولات خاضها جدى الأكبر، وتصر كل الحكايات المعلنة على أن أحدا من عائلتنا لم يكن وزيراً أو جابياً أو أميراً، فأصبح من المنطقى أن تلحس جموع البشر ذاكرتها عن بطولات تشعل حمية الأبناء، ورأيتنى فى الأزمات أنبش ذاكرة قريتنا بين أحضان الأهل والصحاب وبعض الحاسدين، أتشمم رائحة جدى الأكبر، ذلك العظيم!!. كان جدى الأكبر شيخا مرددا للشعائر وموزعا للبركات ومطربا عند الضرورة، يهفو على الأجران عند كل حصاد، يسقط على المآتم عند انتهاء كل أجل، يشارك فى الأفراح والموالد، يحترف تفصيل الأحجية وصَرّ الدّعاء وفتح المندل وربط الأزواج فلا ينجبون، وتسهيل الولادة فيستكثرون. ذاع صيت جدى الأكبر وانتشرت أسفاره يجوب القرى والكفور، يمتطى حماراّ وبطانة من المساعدين، ابن العم وكيلا وحاملا عصا خيزران يهمز بها الحمار، والابن الوحيد متدرباً ووارثا شرعيا للمهنة، وابن الخال حافظا للأسرار وهاربا من فلاحة الأراضى. حلت بالشيخ وبطانته أسابيع قحط وبطالة، اصفرت فيها كثير من الوجوه وبرك فيها ابن العم على الحصير مجهدا هفتان الملامح، مقتنعا بأن استرداد العافية قرين بتناول اكبر قدر من اللحم والدهن، وظل ابن العم قابعا مع الجميع ينتظرون الفرج. فى ضحى يوم حار، طوّفَ بالقرية خبر عاجل بأن عظيما مات فى قرية مجاورة، يومها تعلّق الفرج على براعة ابن العم فى إدارة محادثات التفاوض، فتواثب من هزاله يهرول فى شمس القيلولة عابرا القنوات والحقول قاصدا القرى المجاورة، يقدم لورثة الميّت والتابعين عروضا مغرية، كثير من الأدعية بالغفران والشهرة مقابل قليل من النقود مع طعام كثير اللحم والدهن يقدمان فى دار الميت لأيام معدودة، يوم المأتم وكل أيام الخميس والجمع التالية إلى يوم الأربعين، كان قحط البطانة وطموح الورثة كفيلين بنجاح المفاوضات وبإبرام التعاقد0 مع حلول وقت العصر، ساعدت البطانة جدى الأكبر على امتطاء حماره، وانطلق الموكب يثير غبارا وأصواتا عابرا القنوات والحقول قاصدين الفرج فى جوانب قرية الميت العظيم0 فى دار الميّت، أنتبذ جدى الشيخ وبطانته مكانا قصيّا ينتظرون طعاما يميتون به ساعات قحطهم الأخيرة، وحين اخترقت روائح اللحم خياشيم ابن العم، هاجت مصارينه وسال لعابه، وطل القلق على سحنته شارعا فى تنفيذ خطة محددة يسترد بها عافيته0 انفرد ابن العم بأهل الميت ليخبرهم بأن جدى الشيخ أصابه توعك مفاجئ، وبأن جدى العظيم لا يأكل مع التوعك لحما ولا يشرب بجواره مرقا، ويطلب على انفراد خبزا مفتوتا فى اللبن مع السكر، على أن يقدم للبطانة نصيب الشيخ من اللحم والدهن تحسبا لتغير الظروف، كانت الأصول المرعية كافية لأن يستجيب ورثة الميت لمطلب شيخ جليل فى يوم عصيب. نجح ابن العم فى تهريب اللحم والدهن بعيدا عن فم الشيخ، وحين امتلأت البطون وكفّت الأفواه عن البلع، وتناثر اللبن على الذقن، انحشر رأس جدى الأكبر بتفاصيل خطة مناسبة لاغتيال ابن العم. مع دخول الليل افتتح جدى الأكبر مراسم حفل المأتم، يقرأ ما تيسر من نصوص خالدة ونحنحات مرصوصة، وحين هاجمت رائحة اللحم خياشيمه قرر أن يترك ابنه الوحيد ليستكمل دوره فى المأتم، وأفل راجعا إلى داره مصطحبا الحمار وابن العم وابن الخال وخطة الاغتيال. على طريق العودة قصد جدى الأكبر أن يستريح بجوار ساقية مهجورة، وحين تأكد الجد أن النجوم زاهية ترسل ضوئها الخافت بما يكفل له تنفيذ فعل ما دون أن تكشف لأحد تمام ذلك الفعل، أمسك بخناق ابن العم واعتصر الرقبة بكلتا يديه، يسأله أيان نصيبه من اللحم والدهن؟ حاول ابن العم أن يناور فى الإجابة وحاول الجد أن يدفع جسد ابن العم إلى بئر الساقية، فانزعج ابن الخال لاشتراكه فى معركة خاسرة، ونهق الحمار فاصلا بين أصوات الجميع وشارعا البدء فى رقصة ماجنة، وانفلتت الرقبة من أصابع الشيخ، وعادت لابن العم قدرته على الجرى فابتعد يغمغم مضمرا خططا حاسمة للانتقام0 مرت سنوات، وابن العم يقنع أهل القرى بأن جدّى الشيخ يملك صوتا جميلا يصلح لإقامة الأفراح دون إحياء المآتم، ولما كانت أحزاننا كثيرة وأفراحنا قليلة، انقسمت ذريتنا إلى شطرين، شطر من ظهر ابن العم يحيى المآتم وحفلات الزّار ويمارس طرد الشياطين من بيوت الأمراء والشحاذين، يصيب سعة فى العيش ورغدا كثيرا، وأحترف شطر عائلتنا من ظهر جدى الاكبر الصنف الأخر من الحياة، نحيى الأفراح والليالى الملاح، نصيب أرزاقاُ ضعيفة وتضرب العنة رجالنا ويسرى بين نساؤنا العقم0 هكذا انهارت أنسابنا ولم يبق من عائلتنا غير أربعة شخوص، ولدى الوحيد وريث حرفتى، وابن عمى وكيل أعمالى، وابن خالتى حافظ أسرارى، وأنا الذى أعانى من جهل الآخرين بتاريخ جدى العظيم.
#ياسر_العدل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
!!ويغتالون بحر النيل.. يا كبدى
-
البيات الحضارى
-
!!صناعة دماغ.. ثقيلة
-
!!.. للشهامة ضوء أحمر
-
موت إبن الملك
-
موت ابن الملك
-
!!صاحب الهوى.. الديمقراطى
-
!!دراساتنا العليا.. بلا وكسة
-
!! .. موائد اللئام
-
!!التلوث .. بالصمت والأمونيا
-
!! فسادنا .. ثقافة فقر
-
!!.. عملية إختيار مدير عام
-
!! التسعة جنيهات.. ياخرابى
-
!! .. حرب المعيز
-
!! .. شحّاتين الّطرب
-
مطرب .. بالصدفة!!
-
!!.. ورم تلفزبونى خفبف
-
الموت .. فى عبوات مزركشه
-
حظك00 يا برج الحمار
المزيد.....
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|