نجيب جورج عوض
الحوار المتمدن-العدد: 5005 - 2015 / 12 / 5 - 19:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مجتمعات مدنية معلمنة
أهو ممكن أم حلم عصي على التحقق
حتى بضعة أسابيع قليلة سبقت شهر كانون الثاني من عام 2011، حين اندلعت شرارة الانتفاضات في العالم العربي، كان يمكن للمرء أن يلاحظ أنَّ النظرة الطاغية عند جميع الباحثين والمهتمين بالسياق السياسي والمجتمعي في العالم العربي تنطلق من فهم هذا السياق المذكور من خلال وضعه على تضاد حاد مع المكونات المجتمعية والسياسية والثقافية والمدنية الموجودة في البلاد الغربية.
لقد سيطرت منهجية القراءة التضادية والتعاكسية، ذات الجذور الكولونيالية والاستشراقية تاريخياً، على آليات وسياسات تحليل وتفسير المجتمعات والثقافة العربيتين في أوساط البحث العلمي المحلي والعالمي. إذ لطالما درج الباحثون الأوروبيون والأميركيون حتى العقد الأخير من القرن العشرين على استخدام كل المناهج العلمية والجدالات العقلانية التي يعرفونها ويعتبرونها علمياً ومنهجياً في عملية اختزال، مقصود أو غير مقصود، للعرب إلى “قومٍ كسالى أو متهاونين، مهوسين بالجنس، عنفيين وعاجزين عن إدارة أنفسهم بأنفسهم” [2].
أضف إلى هذا، لطالما شكَّك العديد من أنصار نظرية “غرب-ضد-شرق” بشكل جدّي بإمكانية تبدُّل العرب جذرياً أو بإمكانية أن يشهد العالم يوماً ما في العالم العربي ميلاد ساحات حراك عامة (public-squares) مدنية وعلمانية وديمقراطية وليبرالية يمكن للمرء أن يلمح فيها مكونات وعناصر مشابهة في طبيعتها ونوعيتها لما يراه في سياقات المجتمعات المدنية في البلدان الغربية.
وحتى حين يجد، أحياناً قليلة، الإيمان بإمكانية ولادة مثل تلك الديمقراطيات المدنية والدول التعددية الحديثة في العالم العربي طريقه إلى المشهد الثقافي العام ودوائر صنع النظريات والقراءات العلمية، فإنه من الصعب جداً على مثل هذا الإيمان أن يحظى بالشعبية وأن ينال القبول والاهتمام المطلوبين في الأوساط الثقافية والسياسية بصورة عامة.
حتى فترة ليست بالبعيدة، كانت القناعة الشعبية والأكاديمية والثقافية العامة في الغرب، بل وحتى في الشرق، تفيد بأنَّ مفاهيم مثل “حرّ” و”حريّة” بمعناهما السياسي والمدني لن تجدا طريقهما أبداً إلى منظومة القيم والثقافة الناظمة للحياة العامة في الشرق العربي، حتى ولو كانت أدبيات النخب المثقفة والمفكرة التي تصدر في العالم العربي تزخر بتلك المصطلحات وتكرر تردادها بلا انقطاع[3].
يرى المخيال الغربي التقليدي، إذن، أنَّ فكرة مجتمع مدني عربي تكاد تكون حلم ليلة صيف لأنَّ العرب أبعد ما يكون بطبيعتهم عن الليبرالية كفكرة أو كممارسة وأقرب ما يكون للفكر المحافظ وللتمسك بالتقليد والعُرف في قيمهم ونظرتهم للوجود.
ولطالما اعتقد هذا المخيال الغربي أنَّ المجتمعات العربية “لطالما تأسست على مبدأ الحقوق الجمعية، لا الحقوق الفردية، والذي ينتج عنه حماية ضئيلة جداً لقيمة الفرد في ذاته، إذ لطالما تم إدراج حقوق الفرد تحت خانة قوة القبيلة أو العشيرة أو العائلة التي ينتمي إليها” [4]. لذلك، وعوضاً عن توفر بنيان مدني يدحض أيّ تهديد لديمقراطية المجتمع ولحريّة الأفراد من قبل أيّ مصدرٍ حاكم أو قوة مهيمنة، نجد أنَّ المجتمعات في العالم العربي تلعب دور أدواتٍ في قبضة السلطات الحاكمة (والتي تحكم بجريرة علاقاتها القبلية أو العشائرية أو العائلية أو الطائفية) لخدمة غرَض فرض سيطرة جمعية على الناس وضمان ديمومة حكمها ونجاتها من الزوال حين تتعرض لأيّ احتمال معارضة أو تمرُّد. زد على ذلك، وحتى لو تمكنت مثل تلك المعارضات المذكورة من النهوض ضد السلطات المهيمنة وانتصرت عليها بنجاح، فإن الاعتقاد السائد هو أنَّ تلك المعارضات لن تقدم بدائل دولتية ومدنية وليبرالية وتعددية وديمقراطية عامة في الواقع، بل ستعيد بدورها إنتاج أنماط سلطة مماثلة لما انتصرت عليه وستسير على نفس المسار الجمعي المحافظ الذي سار عليه أسلافها. لا بل ولسوف تعمل تلك المعارضات، كما يعتقد الطرح التقليدي المذكور، على تسويق “دافع تحديثٍ باعثٍ بالاستعانة برمزيات وتعاليم دينية الطبيعة”[5]، الأمر الذي يعني في المحصلة أنَّ البديل الطاغي الجديد سيكون إسلاموياً بطبيعته، كما يؤكد أصحاب هذا الرأي، ولسوف يقترح بشكل رئيسي نفس الإجراءات الشرائكية الماضوية، وإن على أسس ورؤى ايديولوجية مختلفة[6].
إنَّ العرب الذين ملأوا الشوارع في المظاهرات العارمة الأخيرة على امتداد العالم العربي يثبتون بالدليل القاطع أنَّ العرب أبطلوا كل الشكوك الغربية التقليدية حول استعدادهم للديمقراطية والحرية‘
ملامح مشهد وقراءة بديلتان
لا يسع الباحث إلا أن يعترف بأنَّ قسما معتبَرا من الطرح المذكور في الأعلى ليس بالبعيد أو الغريب عن حالة العالم العربي. واحدة من الأمور التي تدعم النظرة التشاؤمية آنفة الذكر حول مستقبل العالم العربي والممكنات المدنية والديمقراطية فيه هو حقيقة أنه حتى كانون الثاني من عام 2011 كان مشهد العالم العربي يوحي بالسكينة والركود والهدوء المريب الذي يشبه حالة المستنقع.
كانت كافة الأنظمة السلطوية العربية قادرة بصورة مدهشة على الإيحاء للمراقب الخارجي بسود الاستقرار وبمتانة ديمومتها بشكل بدا للعالم قابلاً للتصديق، بالرغم من معرفة القاصي والداني اليقينية بأداء تلك الأنظمة الفاسدة لدرجة كارثية وأساليب حكمها غير الشعبية بشكل واضح.
وكما يقول ليث كبّة ببلاغة “أثارت استمرارية واستقرار ولامرونة تلك الأنظمة المتعجرفة أسئلة تشكيكية كثيرة حول آفاق الديمقراطية المحتملة في العالم العربي،” إلا أنَّ المشهد العربي العام الذي بدا راكداً وغير قابل للتبدل دفع المراقب الخارجي لتطوير أجوبة سلبية وتشاؤمية لأسئلة مثل “هل الديمقراطية قابلة للتحقُّق حقاً في البلاد العربية؟ وهل هي منسجمة مع الثقافة السياسية العربية؟ وهل من الممكن أنَّ العرب يفضلون في الحقيقة الاستبداد والحكم المطلق؟ [7].
بالرغم ممّا تم عرضه في السطور السابقة، أستطيع القول بارتياح إنَّ النظرة للعالم العربي والقناعات التشاؤمية حيال نشوء الديمقراطية والمدنية في بلدانه قد بدأت تنحسر وباتت تتنازل تدريجياً عن موقعها لرؤى جديدة نشأت بعد كانون الثاني من عام 2011.
منذ تلك اللحظة التاريخية بدأ الاعتقاد التفاؤلي المؤمن بنشوء ساحات عامة ديمقراطية ومدنية حقيقية في المنطقة (والذي برغم هامشيته الماضية ما انفك يحاول أن يقول للعالم إنَّ تلك الإمكانية موجودة أكثر مما يعتقد الجميع دون أن يصغي له أحد وقتها[8]) بالفوز بموقع قدم أكبر وصار يحظى بالانتباه والاهتمام أكثر بكثير من الماضي.
بدأ المراقبون حول العالم، وبشيءٍ من الدهشة والرغبة بتصحيح الذات، بقلب موازين أسئلتهم ومعادلاتها السابقة. فراحوا هذه المرة يتساءلون، كما يبين نيكولاس كريستوف في مقالته “غير مؤهلين للديمقراطية حقاً؟”: “هل العالم العربي غير جاهز فعلاً للديمقراطية؟” هل صحيح القول بأنه حين يمسك الشعب في العالم العربي بزمام السلطة فإنَّ النتيجة الحتمية الوحيدة لهذا ستكون “فوضى على الطريقة الصومالية، أو حربا أهلية على الطريقة العراقية، أو اضطهادا على الطريقة الإيرانية؟”، “هل هذا ما سيكون عليه فعلاً مستقبل الشرق الأوسط حين تحكمه الساحة العامة؟”، “هل العرب فعلاً مراهقون سياسيون غير قادرين على التعامل مع الديمقراطية أو على صنع تغيير سلمي ومدني حقيقيين في بلدانهم؟”[9].
يناقش نيكولاس كريستوف قائلاً إنَّ العرب الذين ملأوا الشوارع في المظاهرات العارمة الأخيرة على امتداد العالم العربي يثبتون بالدليل القاطع أنَّ العرب أبطلوا كل الشكوك الغربية التقليدية حول استعدادهم للديمقراطية والحرية [10]. يدعم بنيامين دورر بدوره في مقاله “وداعاً لعالم أبيض-أسود” كريستوف، مجادلاً بأنَّ عقلية “أبيض-ضد-أسود” [والتي ازدهرت بعد الحادي عشر من أيلول وشطرت العالم إلى "نحن" و"هم"، الغرب والمسلمين، ديمقراطية وحرية (غرب) وجهاد وقمع (إسلام) ] قد تم تعطيلها وإسكاتها نهائياً بالثورات الأخيرة في قلب العالم الإسلامي والمشرق العربي [11].
يمضي دورر في تحليله إلى درجة الادعاء بأنَّ على المرء ألاّ يعكس المفهوم التقليدي البالي عن العداء والتضاد بين الإسلام والغرب، بأن يتحدث عن “غرب-ضد-إسلام” بعد أن كان الحديث في الماضي عن “إسلام-ضد-غرب”.
ما يجب أن يفعله المراقبون اليوم هو الاعتراف بأن المسألة اليوم هي أنَّ “المسلمين ينهضون للحرية والديمقراطية والأوتوقراطيون المدعومون من الغرب يحاولون منعهم عن ذلك”. يستنتج دورر من هذا قائلاً “يبدو أنَّ المسلمين يصبحون ديمقراطيين والأوروبيين يدعمون الاستبداد. على منتقدي الإسلام أن يجدوا جواباً لم يقدموه بعد لتلك المعضلة” [12].
تقف الثورات العربية الأخيرة وقفة المنتصر في وجه كل الرؤى مسبقة الصنع والتوقعات المعلّبة عن فرص الديمقراطية والمجتمع المدني، لا بل والعلمنة، في العالم العربي. فالناظر لسياق وطبيعة ثورات الشباب العربي الأخيرة يمكنه أن يتلمس ملامح هامة عن البدائل السياسية والمنظومات المدنية التي يصبو الشباب العربي الجديد إليها ويعمل على دعم تحققها كي تحلّ محل الأنظمة العربية القديمة المعروفة.
البديل المدني والمجتمعي المرجو الذي يطلبه الشباب العربي المعاصر يقول لنا بأنَّ لا أحد من تلك الجموع الشابة الثائرة يدعو في الواقع إلى تأسيس نظام حكم ديني‘
علينا هنا أن نعترف، بطبيعة الحال، أنَّ ساحة الثورات العربية تحتضن في داخلها، وعلى التوازي، أصوات ثائرة أخرى تذكّرنا بخطابات معارضات قديمة تقليدية مازالت تحاول بكل الوسائل تسويق أفكارها الأيديولوجية وأجنداتها (الإسلاموية واليسارية واليمينية) الكلاسيكية، لا بل وفرضها على المشهد واختزال الساحة بها.
لا يجب على الباحث المتمحّص إنكار هذا الواقع أو التقليل من إرهاصات حضوره. ولكن، علينا أيضاً أن نلاحظ أن تلك الأصوات التقليدية (ومهما كانت ناجحة لحظياً في جعلنا نعتقد إعلامياً بأنها تمثل صوت الشارع) لا تصرخ في الحقيقة بشكل جمعي اشتمالي أو مهيمن باسم الشباب الثائر، وهي لم تلعب في الواقع أيّ دور ملموس فعلي في تأجيج ثورة الجيل الجديد ولا اختيار توقيتها [13].
لهذا، وبمعزلٍ عن تلك الأصوات المعارضة الأيديولوجية القديمة، ما يجب أن نصغي إليه ونقرأه عن البديل المدني والمجتمعي المرجو الذي يطلبه الشباب العربي المعاصر يقول لنا بأنَّ لا أحد من تلك الجموع الشابة الثائرة يدعو في الواقع إلى تأسيس نظام حكم ديني (كبديل إسلاموي أصولي، مثلاً، الأمر الذي عبّر العالم عن تخوفه منه) كي يحلّ محلّ الأنظمة المنهارة. بل يمكن للمراقب أن يمضي أبعد من ذلك ليستخلص من مطالب وأصوات الشباب بأنهم يحملون تصورات لبدائل دولتية ومجتمعية تحمل كافة مواصفات ومكونات الأنظمة المدنية العلمانية، مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والتعددية واللاطائفية والمواطنة والحداثة.
أيّ مدنية وعلمانية؟
يبقى السؤال المحوري هنا: أيّ علمانية تتناغم وتتناسب مع السياق الثقافي والسوسيولوجي في العالم العربي؟ يدعونا هذا السؤال كي نتأمل لبرهة في مفهوم “العلمنة” وأنماطها المتعددة كما يمكن للباحث أن يلحظها في السياقات المجتمعية الناظمة لحياة الشعوب الأخرى حول العالم.
واحد من الباحثين الجادين في ظاهرة العلمنة والمراقبين المتابعين لتطورها وأنماطها المختلفة في السياقات المجتمعية في العالم الغربي، الفيلسوف الكندي تشارلس تايلر. في كتابه الضخم والثمين، عصر معلمَن، يسرد تايلر تحليلياً تاريخ علاقة الدين بالعلمنة [14]. وبدلاً من الركون إلى التفسير الشعبي الشائع والقائل بوجود هوة سحيقة غير قابلة للجَسر بين الدين (المسيحية في حالة الغرب) والحضارة الحديثة العلمانية في أوروبا، يناقش تايلر بأنَّ القراءة الدقيقة والمتمحّصة لتاريخ الغرب خلال القرون الثلاثة الماضية تفيد بأنَّه، وخلال عدة محطات من عصر الحداثة، “تم تجسير الهوة وغاب التوتر [بين الدين والعلمنة] عن النظر” [15].
لا بل ويلحظ تايلر أنَّ هذا التقريب لطرفي النزاع بلغ بعض الأوقات درجة من النجاح أمكن معها القول إنَّ الغرب شهد في تاريخه “ميلاً طويل الأمد للانزياح نحو المماهاة بين الاعتقاد الديني والنظام الحضاري”[16]. بدلاً عن اختزال العلمنة في الغرب المعاصر إلى مجرد اختبار لحالة غياب المقدس، يعمل تايلر على الإشارة إلى اختبارات إنسانية غربية مديدة موجودة في المجتمعات الغربية العلمانية المعاصرة والتي تبين لنا “مواطنو أمة [أوروبية] يعرفُّون هويتهم السياسية بدلالات دينية أو طوائفية.. أو آخرون تقترن قدرتهم على تمثُّل مبادئ وقيم الحياة المعاصرة بتجدُّدٍ وتحوُّلٍ (conversion) ديني بحيث باتت الأخلاقيات السائدة مقترنة وملتصقة بعروة وثقى بإيمان ديني معيّن” [17]. في ضوء هذا، يقترح تايلر أن نستعيض عن الحديث عن العلمنة كتعبير عن “نهاية الدين” [18] بحديث آخر أكثر دقة وبعداً عن أيّ قراءة أحادية الجانب لتاريخ الحداثة الغربية، الأمر الذي سيجعلنا، كما يقول تايلر، نرى في العلمنة تعبيرا عن رحلة الغرب للتخلّص من الأوهام والسحر (disenchantment) وليس للتخلي عن الدّين، ومحاولته إعادة الدين إلى طبيعته وموقعه الحقيقيين كعامل واحد من بين عوامل عديدة أخرى معادلة له في القيمة والأهمية (بدلاً عن جعله المرجع العلوي المنزَّه لها جميعاً) وكلها إلى جانب الدّين مهمة وفاعلة في شؤون الساحة العامة وتخليص الإنسان من الأوهام والسحر[19]. بدلاً، إذن، من منطق “إما نزع الدين- أو فرض الدين” على حياة الناس، يجب أن نقرأ تاريخ العلمنة على أنه يدور حول منطق القيام بسيرورة تغيير وتطور وانعتاق من الوهم والسحر يتم في قلب الحياة الدينية عينها [20].
يقدم تايلر في كتابه عرضاً تفصيلياً لثلاثة أنماط من العلمنة في علاقتها بدور الدين في المجتمع [21]. أود في السطور القادمة أن أشير إلى تلك الأنماط الثلاثة. أول نمط علمنة يشير إليه تايلر يتحدث عن علمنة ذات طبيعة سياسية. تتبدّى تلك العلمنة في المجتمعات المدنية التي ترفض فيها الأنظمة الحاكمة أيّ اتكال على مرجعية دينية لتشرعن وجودها وسلطتها. وفي أفضل الأحوال، يمكن لهذه الأنظمة أن تعود أحياناً للدين لتستعين به في نواحٍ طفيفة تخدم عملية تطوير دساتيرها ونظمها. إلا أنَّ هذه الاستعانة بالدين غالباً ما تكون نادرة وعند الضرورة القصوى. مثل هذه العلمنة تزدهر في المجتمعات التي تنحّي الدين عن فضاءات السياسة والدولة تحديداً، انطلاقاً من اعتقاد قاعدي بالفصل التام بين الشؤون الدينية والشؤون المدنية العامة، والتي تفضل ألاّ تستعين بأيّ استقاء حرفي أو نصوصي من مبادئ وتشاريع دينية، بل أن تعتمد على التشاريع والقوانين الوضعية الأخلاقية المدنية. في هذا السياق العلماني، لا يتمّ فقط تطبيق مبدأ عدم تدخل الدين في شؤون الدولة والسلطة، ولكن لا يحق للسلطة أو الدولة بدورها أن تتدخل في الشؤون الداخلية لأيّ جماعة دينية في المجتمع. هذا يعني أن تاريخ تبادل المصالح والدعم المتبادل القديم بين المؤسسة الدينية والدولة، والذي شهدته السياقات الثيوقراطية، لا مكان له أبداً ولا مشروعية هنا. واحدة من إيجابيات مثل تلك العلمانية السياسية هو تعزيزها لناحية التعدد ولقيمة التنوّع الديني، بحيث تتمتع كل الأديان في المجتمع بشرعية متكافئة ولا يهيمن أحدها على الأديان الأخرى أو يتمتع بميزات تفتقدها الأديان الأخرى [22].
يجب القول إنه من الصعب العثور على وصفة علمنة واحدة وحيدة جامعة كي تستجيب لجميع احتياجات وظروف وتضاعيف السياقات المجتمعية المتشعبة والمتعددة والمعقدة في البلاد العربية. كل دولة عربية هي كيان متعدد الأوجه في ذاته‘
النمط الثاني من أنماط العلمانية الذي يطرحه تايلر هو ذاك الذي يتصف بماهية سوسيولوجية. تمثل العلمنة هنا فضاء مجتمعياً (وليس سياسياً بالضرورة) وهَنَ فيه دور الدين لا على المستوى السياسي فقط، بل على مستوى تفاصيل الحياة العامة اليومية والاجتماعية لأفراد المجتمع. في تلك المجتمعات، لا يلجأ المواطن دوماً أو شرطياً لآليات التفكير والرؤى التديّنية ولا يبدي التزاماً متزمتاً ومتشدداً بالواجبات والأوامر الدينية في سلوكه المعاش ولا تراه يستشهد بالكتب المقدّسة ويعتبرها نصوصا مرشدة حرفية تستوجب الطاعة في ما يتعلق بقيم وسلوكيات العيش. عندنا هنا سياق مجتمعي فقد فيه الناس الاهتمام الضيّق بالتدين ولم يعد الالتزام الديني يحتل موقع المركز والرأس بين الناس، بل وتضاءل عدد الملتزمين دينياً بشكل واضح بشكل يترافق أحياناً إمّا مع ضعف الإيمان الديني الشخصي، أو نبذ التدين عموماً [23]. أما أولئك الذين مازالوا يعتبرون أنفسهم أفراداً ملتزمين في جماعات دينية أو طوائف محددة، فهم أيضاً لا يبدون أيّ رغبة بممارسة نشاطهم الديني في العلن وفرضه على الآخرين، أو أن يعلنوا أو يعمموا فهماً للمواطنة أو للعضوية في المجتمع من زاوية معتقدهم الديني، وإن كانوا هم شخصياً يلتزمون بهذه الزاوية. يمكن لهذا العلمنة أن تسمى أيضاً “علمنة شخصية” كونها تعبّر عن قرار شخصي وفردي بوضع الدين جانباً بعيداً عن الصلة المباشرة والقسرية مع السياقات الأخلاقية والعملانية للحياة العامة، وبمعزل عن الرغبة بالتأثير على تلك السياقات بقوة القناعات الدينية الشخصية الخاصة. لا يجب أن يُفسَّر هذا الموقف، كما يؤكد تايلر، على أنه ركون مباشر إلى الإلحاد أو على أنه خيار عداء مبين مع الدين. بالعكس، يجب أن نفهم هذا الموقف على أنه “موقف لامبالاة عام يرى أنَّ الدين لا يمكنه أن يتواصل بشكل عصري وذي معنى وجدوى مع حاجات الناس المباشرة والآنية. الناس اللامبالون لا يناقشون الدين ولا يجادلون ضده، ولكنهم ينحّونه جانباً.
كما أنَّ العديد من المنخرطين في الشأن الديني يقررون فردياً أن ينتقوا العقائد والتعاليم السلوكية التي يريدون أن يتبنوها وأيها يريدون أن ينحّوها جانباً” [24].
أما نمط العلمنة الثالث الذي يعرضه تايلر فيدعى “العلمنة الثقافية”. تتبدى تلك العلمنة في المجتمعات التي انتقل أفرادها ثقافياً وأخلاقياً من حالة اعتبار الدين والإيمان بالله مبدءاً بديهياً مطلقاً ومرجعياً فوقياً معصوما عن النقد والتساؤل إلى اعتبار الدين والتدين خيارا من بين خيارات شخصية وفردية وخاصة عديدة مماثلة لا تقل حضوراً وتأثيراً وقيمة عن خيار التدين. تعبر تلك العلمانية عن “غياب الدور المرجعي للدين عن فضاء المحاكمة العقلانية العامة” [25]، دون أن يعني هذا غياب الدين نفسه كخيار عن الساحة العامة. في مثل هذه العلمانية الثقافية، تقف كافة المعتقدات والأديان والاعتقادات والقيم جنباً إلى جنب، ويُنظَرُ لها على أنها خيارات وجودية وإبستمولوجية متعادلة ومتكافئة، تتواجد معاً بشكل متزامن في فضاء العيش المجتمعي وتخضع جميعها دون استثناء لمشروطات الحرية والرأي والقناعات الخاصة بالفرد؛ تلك الأمور التي يضمنها لجميع الناس ويكفلها القانون وحقوق الإنسان الأساسية.
تحتضن العلمنة الثقافية بين طياتها كل أطياف التدين واللاتدين والإلحاد واللاأدرية واللامبالاة وسواها. وهي تحتضن كل تلك الأهواء جنباً إلى جنب ولا تكفل لأحدها في ذاته أيّ دور فوقي أو مرجعي أو سلطوي في حياة الدولة المدنية، بل إنها تُخضِع كل تلك الأهواء إلى النقد والتحقق والتقييم والمحاسبة في إطار معرفي علمي، لدرجة يمكن معها للمرء أن يصف هذه العلمانية الثقافية بالعلمنة العقلانية.
المدنية والعلمانية والإسلام السياسي في العالم العربي
لنعد الآن إلى الثورات العربية وبدائل الأنظمة المتهاوية في العالم العربي ونسأل: أيّ نوعٍ من أنواع العلمانية يتخيل الشباب العربي وأيها سيختار إذا ما أعطي السلطة ليختار مستقبله؟ وأيضاً، أيّ علمانية تتناسب مع المجتمعات العربية الجديدة (سياسية، سوسيولوجية أم ثقافية) وتنطبق عليها؟
أعتقد جازماً أنَّ الإجابة على هذين التساؤلين هي من أصعب المهمات وأكثرها تحدّياً أمام الجيل الثائر الجديد. لست متأكداً أنَّ الشباب العربي عنده أجوبة جاهزة للسؤال الأول، فهم قد أطلقوا ثورتهم انطلاقاً من اهتمامات عملانية براغماتية صرفة بعيدة عن التنظير والتحليل العقلي والمعرفي. بالإضافة إلى هذا، لا يحمل صوت الشباب أجندة مسبقة الصنع بل هو صرخة رفض ضد النظام الحاكم المهيمن الحالي ونتائجه الكارثية على أوضاع العالم العربي. هم لم يقولوا في صرختهم ما الذي يريدونه بالتحديد كبديل في المستقبل، بل أعلنوا فقط الشيء الذي يقفون ضده والذين لا يمكن أن يحتملوا استمراره في الحاضر. لا تعيدنا صرخة الشباب العربي بلهجتها النافية (appophetic) إلى بديل واضح المعطيات والتفاصيل، ولكنها تطرح أمامنا أمنيات وقيم مبادئية لم تتبلور بعد ولم تتم برمجتها وتحويلها إلى طرح متكامل.
لوحة: رندا مداح
أما بالنسبة إلى السؤال الثاني، فيجب القول إنه من الصعب العثور على وصفة علمنة واحدة وحيدة جامعة كي تستجيب لجميع احتياجات وظروف وتضاعيف السياقات المجتمعية المتشعبة والمتعددة والمعقدة في البلاد العربية. كل دولة عربية هي كيان متعدد الأوجه في ذاته، إن لم يكن على المستوى الديني والطائفي أو العرقي، فهو حتماً كذلك على المستوى الأنثروبولوجي والتثاقفي والديمغرافي. لطالما تعرّضت كل تلك المكونات المتعددة للطمس والكبت على يد الأنظمة الاستبدادية والمهيمنة التقليدية في العالم العربي؛ والتي لطالما استهانت بتأثيرها أو حاولت توظيف هذا التأثير في خدمة أجندات الهيمنة والتحكم والسلطة التي فرضتها على الجميع. بالرغم من إقراري لما سبق، ومع تهاوي الأنظمة الأحادية الاستبدادية، يعود سؤال “أيّ علمانية ومدنية؟” محمولاً على أكتاف الجماهير العربية بكل تشعباتها وأطيافها وتحدّي تنوعها. وإلى أن يتمكن كل بلد عربي من تطوير فهمه الشعبي وممارسته العامة الخاصة للعلمانية والمدنية، يمكن للمرء أن يتأمل على الأقل بأن تبقى أنماط العلمانية الثلاثة آنفة الذكر ماثلة في أذهان الناس.
السؤال الآن هو: كيف يمكن لعملية تطوير جواب لمسألة المدنية والعلمانية في العالم العربي أن تنجح؟ أحد شروط نجاح هذه العملية، برأيي، يتطلب حتماً تحليلاً صارماً ودقيقاً لتأثير ولدور الإسلام السياسي في ساحات البلاد العربية ما بعد الثورة. يمكن للباحث في إرهاصات الثورات العربية الأخيرة أن يسجّل شكوك ومخاوف وهواجس حقيقية من مثل هذا الدور الإسلاموي بين ظهرانية الشارع العربي، المسيحي والمسلم واللاديني، المدني والعلماني على حد سواء. حتى أنه يمكن القول إنَّ هذه الهواجس هي علامات تتبدّى في الشارع المسلم قبل المسيحي، في الساحة المعتدلة قبل الساحة الليبرالية، في المعسكر اليميني قبل اليساري. من جهة أخرى، واحدة من الدلائل المبدئية التي تستحق التوقف عندها على التوازي مع المخاوف المذكورة هو قبول الشارع العربي العام بمجمله باحترام إمكانية وصول الإسلام السياسي إلى السلطة إذا ما كان هذا الوصول سيتم عبر اللعبة الديمقراطية الانتخابية وصناديق الاقتراع. لا بل إنَّ الغالبية العامة العربية تشجّع الإسلام السياسي على حصر طموحه بالوصول إلى السلطة عبر هذا المسار الديمقراطي الانتخابي دون سواه، لأنَّ هذا الأمر كفيل بأن يقول بأنَّ الديمقراطية قد وجدت طريقها إلى حياة العالم العربي السياسية وأنَّ الربيع العربي قد بدأ بتحقيق مهمته. بالمقابل، وبالرّغم من هذا الموقف الإيجابي المبدئي تجاه جعل اللعبة الديمقراطية تقرّر مصير الدولة السياسي، يمكن للمرء أن يكشف تخوفا وتشكيكا عاما من نتائج فوز الإسلامويين بالسلطة على البنيان المجتمعي والمدني والسوسيولوجي والثقافي في العالم العربي. والسؤال هنا هو ما الذي يمكن أن يكون السبب الجوهري للقلق والتشكيك بأن الإسلام السياسي قد يكون عائقا ضد المدنية والعلمنة في المجتمع العربي؟
يدعونا أحد التعاريف المبدئية للإسلام السياسي للمضي أبعد من اختزال تلك الظاهرة إلى مجرد تسمية لمجموعة من السياسيين المنتمين حصرياً للدين الإسلامي، أو مجرد تسمية لحزب سياسي يتألف من شخصيات متدينة ورجال دين مسلمين ويدار من قبلهم.
تتأرجح النظرة الشعبية في العالم العربي للإسلام السياسي بين أحد هذين الطرحين الشائعين. إلا أنَّ المضي أبعد من ذينك الطرحين التبسيطيين يدعونا لنأخذ بعين الاعتبار تعريفا مثيرا للاهتمام وأكثر أهمية للإسلام السياسي يقترحه بروفسور القانون السوداني في جامعة إيموري، أتلانتا، عبدالله النعيم. يقول النعيم إنَّ مصطلح “إسلام سياسي” يعبر عن محاولة لتجييش الهوية الإسلامية في عملية تحقيق أهداف محددة تتعلق بالسياسة المدنية الشعبية، سواء في سياق العلاقات الداخلية بين مكوّنات المجتمع المختلفة أوفي سياق العلاقات الخارجية لذلك المجتمع مع المجتمعات الأخرى حول العالم. لا تدل “الهوية الإسلامية” هنا على الانتماء الديني فقط، بل تشير بشكل أوسع إلى هوية سوسيولوجية محددة تعبر عن حوامل ثقافية وسلوكية ودينية وعقائدية معينة [26].
بكلام آخر، ليس الإسلام السياسي بالدرجة الأولى، أو في الجوهر، حركة دينية تسعى لمشروع سياسي هدفه التحكم المهيمن بالشأن العام بواسطة عقيدة دينية. على الأقل، “إسلام سياسي” لا تعني أتوماتيكياً هذا ولا تخلقه بشكل بديهي. تشير “إسلام سياسي” إلى فريق من الأشخاص يسعى للتعاطي بالشأن العام والتعامل معه، موظفاً هذا التعاطي بالدرجة الأولى في عملية إعادة تأسيس وتشكيل المحيط المدني وفق افتراضات مسبقة لطبيعة الوجود البشري الجماعي الذي يُفترَض فيه، بحسب أفراد هذا الفريق، أن يعكس ويصوّر في خواصه البنيان السوسيولوجي الناظم لهذا الفريق الإسلاموي. يعني هذا أنَّ الإسلاموية السياسية ليست مجرد ظاهرة سياسية أو قوة دوغمائية تتفاعل بإيجابية أو سلبية مع قوى سياسية أخرى في إطار سباق وتنافس قانوني ديمقراطي للفوز بامتيازات صنع القرار. في معناها الأساسي، “إسلام سياسي” تدلّ على مشروع سوسيولوجي؛ تعبر عن فكر مدني-ثقافي، وليس مجرد شكل من أشكال الحكم وطموح تحكم بالدولة. يقول أوليفييه روي عن الإسلام السياسي محقاً بأنَّ الامتثال لرموزٍ ودلالات اجتماعية وأخلاقية وجماعية معينة، وليس بالضرورة انتسابا لإيمان معين، هو ما يشكل قاعدة وجود المجتمع، برأي أتباع الإسلام السياسي[27].
السؤال هنا هو: ما هو الأمر المثير للشكوك والقلق في مثل هذا النوع من الفكر الإسلاموي ولماذا يسبب الريبة والخوف في أوساط العرب المعاصرين الداعمين للعلمنة والمدنية والذين لا يؤيدون طروحات الإسلاموية السياسية؟ يعيدني هذا التساؤل إلى دعوة كل من عبدالله النعيم وأوليفييه روي المشروعة لمقاربة محاولات وطموحات الإسلام السياسي من زاوية كونه ظاهرة جمعية سوسيولوجية قائمة بذاتها تسعى لإعادة إنتاج نفسها في الآخر المختلف ولجعل نفسها الراعي والحامي لقيم المجتمع وفضائله [28]. من طبيعة تلك الحركات السوسيولوجية أن تنتظر من أعضائها أن يقاربوا سياق حياتهم وحالات عيشهم المعاصرة من زاوية جمعية ونقطة مراقبة مرجعية علوية. لهذا فإن أفراد تلك الجماعات المسماة بالإسلاموية السياسية ينظرون للجمهور العام على أنه كيان واحد أحادي اللون والبنيان في هويته الجمعية المجتمعية، وهم يتبعون توجهاً شمولياً تجاه السلوك والقيم المجتمعية. لا يُنظَر للمجتمع على أنه اجتماع أفراد متمايزين ومختلفين، بل على أنه كتلة بشرية واحدة صلدة (بنيان مرصوص) يتم اعتبارها تجسيداً حياً للشعار البطولي “الواحد للكل والكل للواحد”.
كما أنَّ أفراد جماعات الإسلام السياسي يعتبرون أنَّ أيّ تحدٍ تتعرض له جماعتهم هو تهديد نوعي ضد كل عضو ينتمي لهذه الجماعة دون استثناء ومصدر خطر على وجود كل فردٍ منهم بشكل مؤثر ومتساوٍ، والذي يجسد بدوره الشعار القائل “إما نغرق معاً أو ننجو معاً”. أضف إلى هذا، وباسم الحفاظ على الطهارة الجماعية للمجتمع، يعامل أتباع مثل تلك الجمعية السوسيولوجية أي طرفٍ خارجي (ذاك الذي لا ينتسب للفريق) بنفس الموقف التمييزي والإقصائي، معتبرين إياه، بشكل مسبق بعيد عن الموضوعية، عدواً للفريق برمته. مثل تلك الحراكات السوسيولوجية الجمعية، أخيراً، تعتمد على استراتيجية تجييش “المتعدد” بجريرة هدف اسمى أحادي شمولي، جاعلة من هذا الهدف بوتقة تذوب فيها تمايزات وفرادات الأعضاء واختلافاتهم وتتحول فيه وحدة المجموعة ورقة الدفاع الأولى عن الفريق في وجه الفروقات الناجمة عن اهتمامات الأعضاء الشخصية ومعتقداتهم وأولوياتهم.
دعونا الآن نتخيل مثل هذا النظام السوسيولوجي الجمعي البديل يستولي على عصا القيادة من يد الدكتاتوريات المنهارة في العالم العربي، ما الذي سينتج عن هذا في الساحات العامة ما بعد الثورة؟ بالنسبة إلى أولئك المشككين بالإسلام السياسي والمتخوفين منه، سيكون هذا عملية تبديل دكتاتورية سياسية جمعية بدكتاتورية أخرى لا تقل عنها جمعية وهيمنة وإن كانت سوسيولوجية هذه المرة.
يؤمن أصحاب الصوت التشكيكي بأنَّ مثل تلك الإمكانية تبرر الشكوك والقلق الشديد، حتى ولو أقرّ المرء حق الإسلام السياسي الكامل بالمشاركة في صنع القرار والمشاركة في لعبة الفوز بالسلطة الديمقراطية. في إطار محاولة الإسلام السياسي تشكيل المجتمع على صورة منظومتهم القيمية الجوهرية، لا يعود هناك مكان للاعتراف بأن المكونات اللاإسلاموية الموجودة في المجتمع، والمختلفة عن أولويات الإسلام السياسي وما يمثّله، هي أيضاً جزء لا يتجزأ من طبيعة الحياة المجتمعية. وعوضاً عن اعتبار تلك القيم المختلفة جزءا من عملية بناء المجتمع، يعمل الإسلام السياسي على اعتبار تلك العناصر مصدر تهديد ويخضعها لمحاولات تقييد، بل وكبت منظم [29]. وفي حالة العالم العربي اليوم، سيعني هذا أنَّ جميع اللاإسلامويين من علمانيين وليبراليين ولادينيين ويساريين، الخ، سيتحولون إلى مناهضين ومارقين وليس إلى مصادر غنى أو شركاء أصلاء في المجتمع. وعوضاً عن جعل التنوع والآخرية مصادر إسهام وإغناء وتأسيس للمواطنة، تصبح وطنية المواطنين وانتماؤهم للمجتمع مرهونين ومقاسين بدرجة استعدادهم للرضوخ إلى قواعد الامتثال ولإطاعة متطلبات حماس قهري معيّن لتشكيل هوية إسلاموية محضة ومقاومة هدفها التصدي لبدائل محتملة لاإسلامية وعلمانوية وثقافية مجتمعية قد تنشأ في الساحة.
أفراد الجماعات المسماة بالإسلاموية السياسية ينظرون للجمهور العام على أنه كيان واحد أحادي اللون والبنيان في هويته الجمعية المجتمعية، وهم يتبعون توجهاً شمولياً تجاه السلوك والقيم المجتمعية‘
من جهة أخرى، يعتقد المشككون بالإسلام السياسي في العالم العربي أنَّ العقلية السوسيولوجية الجمعية آنفة الذكر ستمنع الإسلامويين من قبول أيّ فلسفات وضعية علمانية أو السماح لها في المشاركة في عملية التشريع المدني وصياغة الدساتير. سيترتب عن ذلك أنَّ شرائع مبادئية علمية مثل شرعة حقوق الإنسان لن يتم العودة إليها أو أخذها بعين الاعتبار من قبل الإسلامويين كمصدر من المصادر المفيدة لإصلاح وتأليف الدستور المدني للدولة، حتى وإن كانت تلك الشرعة تدافع عن قيم أساسية يدعو لها الإسلام، مثل الحرية والحق والعدالة والمساواة والرحمة. يعتبر الإسلامويون تلك الشرعة الوضعية لا مجرد نقيض للمبادئ الإسلاموية الأيديولوجية التي يبنون عليها وجودهم، بل ومناهض لمكونات وجودهم ككيان سوسيولوجي في ذاته، خاصة المكونات الإسلاموية الجمعية التي تكرّس قيم “الامتثال للميل العام للجماعة”، “إظهار الولاء لقيم المجموع" و”الرضوخ للمبدأ الأيديولوجي الذي يعزز تجذر المجتمع في التمظهرات الثقافية لدين واحد بعينه (الإسلام)”. لا يستطيع الإسلامويون تبنّي شرعة حقوق الإنسان دون تحفظات، فهم لا يثقون في الدرجة الأولى، بالادعاء القائل أنَّ “العلمنة لا تفترض بالضرورة صراعا مع الدين أو حتى قطيعة معه”، ولا هم يستطيعون أن يستوعبوا كيف يمكن “لمجتمع معلمن أن يبقى على تماس مع الثقافة والقيم الدينية” [30]. يتخوف الإسلامويون بشكل غير واقعي ومزيف من أنَّ يقطع تطبيق شرعة حقوق الإنسان في المجتمع، والاعتماد على بنودها في التشريع، بينهم وبين فهمهم للمجتمع “الإسلامي” ويمنعهم، كأتباع نظرة للوجود تنبع من دين محدد، من التماهي مع الثقافة المحيطة بهم.
حين يدرك المشككون بالإسلام السياسي ما أشرت إليه في الأعلى، يتصور لهم أنَّ أي نظام إسلاموي بديل في المجتمعات العربية ما بعد الثورات سيفرض السياسة التالية بالقوة على مواطنيه “لكم كل الحق بأن تتمتعوا كمواطنين بكل حقوق البشر”. مع ذلك، وبغية مراعاة “الخير العام” والمصلحة العليا للمجتمع بأكمله (والذي ستتقرر هويته وحدوده وماهيته في هذه الحالة وفق مشروطات ومفاهيم الأغلبية السوسيولوجية الحاكمة)، ينبغي عليكم الرضوخ لضرورة إذابة تنويعاتكم الثقافية والمعرفية والثقافية (ليس بالضرورة الدينية) في بوتقة الوحدة الجماعية والوحدانية المتراصة وأن يمتثل تفسيركم المتعدد للحرية والرحمة والعدل والمساواة والحق لكل ما يخدم الموقع السوسيولوجي الطاغي للأغلبية العددية الثقافية أو السلطوية أو الدينية أو الأيديولوجية أو الاقتصادية في المجتمع.
في ضوء مثل هذا الاحتمال المفترَض، يجد العديد من المواطنين العرب اللاإسلامويين أنفسهم مدفوعين نحو الشك والريبة والحذر الجاد من مثل تلك الحركة السوسيولوجية الجمعية كحركة الإسلاموية السياسية. وهم لا يجدون أنفسهم في وضع أفضل وأكثر أماناً للتعامل معها لمجرد أنَّ الإسلام السياسي يعلّي من شأن قيم الحرية والحق والعدالة والمساواة والرحمة ويعد بتطبيقها في عهد حكمه.
خاتمة
عودٌ على بدء. يتطلب اكتناه طبيعة طموح المدنية والعلمنة الذي قد يصارع ويكافح الشباب العربي الثائر، الذي ملأ الساحات العامة في “الربيع العربي”، كي يطبقه في المجتمعات العربية ما بعد الثورات، ملاحظة ومراقبة جادة للقلق آنف الذكر المتنامي في الساحات العامة العربية من نجاحات الإسلام السياسي في ملء فراغ السلطة في المراحل الانتقالية الحالية في العالم العربي. سيظهر لنا المستقبل القريب في العالم العربي أنَّ هناك تنافسا طاحنا بين طموح المدنية والعلمنة وطموح الأسلمة السياسية في العالم العربي. واحد من أهم مهمات الفريق المؤيد للمدنية والعلمنة هو أن يتمعن في الطبيعة السوسيولوجية والأداء الجمعي للإسلام السياسي. عليه أن يأخذ على محمل الجد الشديد الطبيعة المحورية السوسيولوجية للإسلاموية السياسية وليس مجرد أداءها السياسي والسلطوي. حين يستوعب المرء أنَّ الإسلام السياسي هو حركة جمعية شمولية وليس مجرد خطاب سياسي قائم على مبادئ دينية، يمكن للمرء عندها أن يفهم بشكل صحيح جذور شكوك مؤيدي المدنية والعلمانية حول وصول الإسلامويين للسلطة وخوفهم منه. لا ينبع هذا الخوف من أجندة الإسلام السياسي السياسية فقط أو خلفيته الدينية بالدرجة الأولى، بل ينبع أولاً وقبل كل شيء من تأثيراته وتداعياته المجتمعية والثقافية والأنثروبولوجية.
قد يفاجئ المستقبل البعيد كل الفرق المؤيدة للمدنية والعلمانية في الجمهور العربي بإسلام سياسي منفتح جداً ومستعد للمضي أبعد من حدوده التقليدية والتي اعتاد الحفاظ عليها بصرامة. قد نشهد إسلاماً سياسياً عصرياً وتقدمياً وإصلاحياً حقيقيا يمسك بالسلطة عبر تنافس انتخابي ديمقراطي قانوني شفاف ونزيه ومن ثمة يرحب بكافة الأحزاب والحراكات السياسية الأخرى المختلفة معه ويدعوها للمشاركة الفعلية في عملية صنع القرار ويكشف عن استعداد جاد وملموس لتغيير رؤيته الجمعية الشمولية وماهيته السوسيولوجية.
أما حالياً وفي المستقبل القريب فلا أحد يستطيع أن يقدم وعداً مؤكداً أو دلائل ملموسة لباقي العرب غير الإسلامويين والمدنيين بأن مثل هذا الإسلام السياسي المستقبلي سيظهر يوماً ما. لا أحد يملك اليوم أيّ معطى فعلي يعوَّل عليه كي يقول بأنَّ الإسلام السياسي على استعداد للإقرار بأنَّ الفوز بثقة العلمانيين واللاإسلامويين من الشعب العربي يتطلب جعل التعددية والفرادة والتمايز وفكرة “الآخر” مؤسسات بنيوية وقواعد ناظمة للوجود والهوية وليس مجرد أدوات براغماتية يتم استخدامها في خدمة تسهيل إجراءات صنع القرار والسيطرة على الحكم وابتلاع الدولة والأمة على حد سواء.
إشارات
(1) هذه الدراسة هي تلخيص باللغة العربية للتحليل المستفيض الذي قدمته في أحد فصول كتابي الذي صدر باللغة الانكليزية في شهر تشرين الأول من عام 2011:
Najib George Awad, And Freedom Became a Public-Square: Political, Sociological and Religious Overviews on the Arab Christians and the Arabic Spring, (Münster & London: LIT Verlag, 2012), pp. 19-39.
(2) على حد تعبير إدوارد سعيد في دراسته الكلاسيكية المثيرة للجدل:
Edward Said, Orientalism, (London: penguin Books, 1978).
ترد نفس الصفات في كل من:
Rana Qabbāni, Europe’s Myths of Orient, (Bloomington: Indiana University Press, 1986), p. 6; and Nicola Pratt, Democracy and Authoritarianism in the Arab World, (Boulder & London: Lynne Rienner Publishers, 2007), p. 34.
(3) Bernard Lewis, What Went Wrong? the Clash between Islam and Modernity in the Middle East, (New York: Perrenial/Harper Collins Books, 2003), p. 55.
(4) Francesco Cavatorta and Vincent Durac, Civil Society and Democratization in the Arab World: the Dynamics of Activism, (London & New York: Routledge/Taylor & Francis Group, 2011), p. 21.
(5) المصدر السابق نفسه، ص. 22.. انظر كذلك:
9. Pratt, Democracy and Authoritarianism in the Arab World, 189.
(6) Cavatorta and Durac, Civil Society and Democratization in the Arab World, p. 22
أنظر أيضاً
3. Woltering, “The Roots of Islamist Popularity,” inThird World Quarterly, 23, 2002, 1133-1143.
(7) Laith Kubba, “The Awakening of Civil Society,” in Islam and Democracy in the Middle East, Larry Diamond; Marc F. Plattner and Daniel Brumberg (eds.), (Baltimore and London: The Johns Hopkins University Press, 2003), pp. 28-34, p. 28.
للاطلاع على وجهتي نظر متشائمتين حيال إمكانية الديمقراطية في العالم العربي، انظر في نفس الكتاب المذكور النقاش في
Mohammad Talbi, “A Record of Failure,” pp. 3-12 and Emmanuel Sivan, “Illusions of Change,” pp. 13-27.
(8) هذا ما يدافع عنه ليث كبّة مثلاً:
4. Kubba, “The Awakening of Civil Society,” pp. 29, 33-34.
(9) Nicholas D. Kristof, “Unfit for Democracy?” in http://www.nytimes.com, 26, February, 2011.
(10) المصدر السابق نفسه.
(11) Benjamin Dürr, “Farewell to A World of Black and White,” in http://www.theeuropean-magazine.com , 1. March. 2011.
(12) المصدر السابق نفسه.
(13) حول الشباب الثائر الذي نزل الساحات في العالم العربي واختلافه عن جيل المعارضات التقليدية القديم، أنظر
8. Awad, And Freedom Became a Public Square, 1-18.
(14) Charles Taylor, A Secular Age, (Cambridge, Mass: Harvard University Press, 2007).
(15) نفس المصدر السابق، ص. 737.
(16) نفسه، ص. 743.
(17) نفسه، ص. 552-553.
(18) هكذا يتحدث عن العلمنة، مثلاً،
A.N. Wilson, God’s Funeral: A Biography of Faith and Doubts in Western Civilization, (New York: Ballantine Books, 1999); and Eaman Duffy, The Stripping of the Altars: Traditional Religion in England, C. 1400-C. 1580, (New Haven and London: Yale University Press, 1992), pp. 277-503.
(19) يعتبر تايلر مصيباً المماهاة بين الدين وبين السحر والأوهام مجرد "زيف وخداع" يقود إلى اعتبار عملية التخلص من الوهم والسحر وكأنها محاولة للتخلص من الدين، الأمر غير الصحيح على الإطلاق: المصدر نفسه، ص. 553.
(20) نفسه، ص. 554.
(21) أعتمد في عرضي لأنماط العلمنة الثلاث التي يقدمها تايلر على العرض المتبصر لها في
Philip L. Wickeri, “The End of Missio Dei- Secularization, Religions and the Theology of Mission,” in Mission Revisited: between Mission Theology and Intercultural Theology, Volker Küster (ed.), (Berlin: LIT Verlag, 2010), pp. 27-44, pp. 31-34.
(22) Alister McGrath (ed.), The Balckwell Encyclopedia of Modern Christian Thought, (Oxford: Blackwell Publishers, 1995), “Secularization”, pp. 593-598, p. 594.
(23) المصدر السابق نفسه، ص. 594.
(24) نفسه، ص. 595.
(25) نفسه، ص. 594.
(26) Abdullah A. an-Na’im, “Political Islam in National Politics and International Relations,” in The Desecularization of the World: Resurgent Religions and World Politics, Peter L. Berger, et. al. (ed.), (Washington, DC: Ethics and Public Policy/ Grand Rapids, Mich: W.B. Eerdmans Publishing Company, 1999), pp. 103-121.
(27) Olivier Roy, Holy Ignorance: When Religion and Culture Part Ways, Ros Schwartz (trans.), (London: Hurst & Company, 2010), p. 109.
يناقش روي في مكان آخر بأنَّ هذه المحاولة لإعطاء الأيديولوجية الدينية طبيعة سوسيولوجية هي في الواقع أحد أسباب فشل الإسلام في تحويل نفسه من إيمان ديني لجماعة إلى مجتمع حقيقي. أنظر
4. Roy, The Failure of Political Islam, Carol Volk (trans.), (London & New York: I.B. Tauris, 2007), pp. 48-74.
(28) An-Na’im, “Political Islam in National Politics and International Relations,” pp. 106-111; and Roy, Holy Ignorance, p. 110.
(29) Roy, Holy Ignorance, pp. 110-111.
[30] المصدر السابق نفسه، ص. 113.
#نجيب_جورج_عوض (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟