|
العقدة العراقية – تاريخ البدائل
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1367 - 2005 / 11 / 3 - 11:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن العقدة التي تواجهها الأمم هي النتيجة المتراكمة من كيفية حلها لإشكاليات وجودها الكبرى. وعلى كيفية حلها تتوقف إمكانية تكاملها العقلاني الثقافي أو انحلالها السياسي. وفيما بين هذه الاتجاهين تتوقف دراما المأساة والأمل، أو ما تطلق عليه لغة الشعر والوجدان عبارة المصير والقدر. بمعنى ما تصير إليه وما هو قدرها بموازين التاريخ والبدائل. وهي الحالة التي يقف أمامها العراق في ظروفه الحالية من اجل تقرير آفاق المصير فيه، أي البدائل المحتملة. وهي بدائل لا تخرج في نهاية المطاف عما فيه. فحياة الأمم في نهاية المطاف هي عملية غير متناهية من التراكم، تتوقف كيفية ارتقاءها أو انحطاطها على نوعيته. فالارتقاء يؤدي بالضرورة إلى تكامل الأمة والانحطاط إلى خرابها الذاتي. وذلك لان الارتقاء هو تاريخ ووعي ذاتي، بينما الانحطاط هو زمن وتكرار للخطيئة والأخطاء. وهي الحالة التي ميزت تاريخ العراق الحديث. بمعنى الوقوف عند حد في مجرى ارتقائه الحديث ليتحول إلى مجرد اجترار للزمن. وهو الحد الفاصل الذي صنعته ذهنية الانقلاب والمغامرة السياسية بدء من الرابع عشر من تموز 1958. بحيث جعلت من تاريخ العراق زمنا الانقلاب الدائم وانعدام الاستقرار ومن ثم فقدان التراكم. وبالتالي لم يعد تاريخه أكثر من زمن الدوران في إنتاج وإعادة إنتاج الخلل الداخلي ومن ثم توتير وتوسيع مدى عقده الداخلية. مما أدى في نهاية المطاف إلى فقدانه لتاريخ البدائل، بوصفها القوة الضرورية لفكرة الاحتمال والتجريب الاجتماعي، أي القوة الوحيدة القادرة على إرساء أسس وقواعد العقلانية السياسية. من هنا يبدو تاريخ العراق الحديث على خلفية ما جرى في عقوده الأربعة الأخيرة، وما يجري حاليا بعد سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية كما لو انه استعادة فجة لزمن السلطة وليس لتاريخ البدائل. إننا نجد أنفسنا أمام حالة يبدو فيها العراق والعراقيون واقفون أمام جلجامش الروح والعقل والجسد القابع في أعماقهم، أي أمام إشكالية التحرر من الزمن السيئ والفارغ عبر بناء تراكم عقلاني حر يذلل إشكالية المأساة والأمل الدائمين فيهما. وليس المقصود من وراء ذلك ضرورة القضاء على هذه الثنائية الخالدة في الوجود الإنساني بقدر ما هو تذليل طابعها المتكرر بوصفها أسلوبا لاجترار الزمن الميت. بعبارة أخرى، إن المهمة الكبرى التي يقف أمامها العراق حاليا تقوم في كيفية حل إشكالية المأساة والأمل في تاريخه بالشكل الذي يجعل من مأساة الأمل طريقا لبلوغ حالة الإفناء العقلاني لزمن الضياع والضباع، والجهل والتجهيل، والأغراء والإغواء، والتشريد والقتل، والمطاردة والمعاقبة، والفساد والإفساد. بمعنى البحث عن أسلوب يهدف إلى استعادة الحياة الأبدية بوصفها حياة العقل والروح والجسد المتناغمة بمعايير الحق والشرعية لكي لا تسرقها من جديد أفعى القوى السياسية المتخلفة. إن العراق والعراقيون لم يحصلوا بعد على إكسير الحياة الأبدية، أي لم يرتقوا بعد إلى مصاف إدراك قيم الروح والعقل والجسد المتناغمة بمعايير الحق والشرعية. وهو أمر جلي في عدم تكامل الدولة والمجتمع بمعايير الشرعية والثقافة العقلانية وقواعد المجتمع المدني، وعدم تكامل النخبة السياسية بمعايير الرؤية الاجتماعية والوطنية. وهو عجز متراكم في مجرى انتهاك مقومات الشرعية والعقلانية والفكرة الليبرالية، الذي وجد شكله التام في سيادة وسيطرة واستحكام "منظومة" التوتاليتارية والاستبداد. وهي الحالة التي جعلت وسوف تجعل لفترة ليست قصيرة بحث العراق عن مخرج من مأزق وجوده التاريخي المعاصر مسيرة متشنجة في عاصفة رملية. لكنها في الواقع ليست غير عاصفة البحث المتشنجة في أعماق العراق والعراقيين عن بديل قادرة على نفي زمن الماضي بتاريخ المعاصرة والمستقبل. وهو الأمر الذي جعل ويجعل من هذا البحث عن البدائل عاصفة فكرية وسياسية واجتماعية ووطنية وقومية لا تهدأ ما لم يحسم العراق والعراقيون عقدة جلجامش القابعة في أعمق أعماقهم. إن عقدة جلجامش العراقية لا تقوم في طرح الأسئلة والإجابة عليها والبقاء عند هذا الحد، بل في تضييعهم للإجابات الكبرى القائمة في قدر وأقدار تضحياتهم الهائلة. فكما ترك جلجامش إكسير الحياة لتلتهمه أفعى تجدد قوتها القادرة على بث سمومها القاتلة، كذلك تكمن عقدة جلجامش العراقية الحالية في إمكانية تضييعهم لإكسير الحياة الديمقراطية والشرعية. وهو تضييع لم يحدث للمرة الأولى. فقد كانت أفعى الدكتاتورية الصدامية الصيغة البائدة لهذه الدعة والتراخي اللذين استتبعا جهود العراق المضنية التي قام بها بدء من عشرينيات القرن العشرين وانتهاء بانقلاب الرابع عشر من تموز. فقد شكل انقلاب الرابع عشر من تموز عاد 1958 البداية الأولى لزمن الضياع التاريخي للدولة، لأنه وضع "أسس" الانتهاك الفوضوي لفكرة الشرعية وتقاليد النشاط السياسي الشرعي وفكرة الحرية. وما ترتب عليه من تخريب هائل لفكرة الدولة والمجتمع المدني والثقافة الحرة. وشكل بهذا المعنى الضياع التاريخي الأول، وما بعده كان استمرارا أوسع وأعمق واشمل لزمن الضياع. وفي هذا الضياع كانت وما تزال تكمن ما يمكن دعوته بالعقدة العراقية، أو ما ادعوه مجازا بجلجامش المأساة والأمل. وهي عقدة لها تاريخ العريق والخاص، أما خصوصيتها الحالية فتقوم في كونها جزء من زمن الضياع وليس من تاريخ الدولة وتأسيس ديناميكيتها العقلانية في النمو المستديم والتكامل الاجتماعي والوطني والقومي. فمن المعلوم، إن إحدى الصفات المميزة للأمم الكبرى تقوم في كمون مرجعياتها المتسامية في العقل والوجدان. وهو كمون عادة ما يواجه التحديات الكبرى مع كل انعطاف هائل في حياتها من خلال استثارة الوحدة الحية للذاكرة والخيال. وهي استثارة عادة ما تتبلور في صور ونماذج متنوعة تخدم في نهاية المطاف تأصيل إرادتها في التحدي وموجهة الصعاب. لكنها ستدرك لاحقا بأنها لا تواجه في الواقع غير ذاتها. وهي الحالة التي يواجهها العراق في ظروف الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، بوصفها الصيغة الجديدة لتاريخ المأساة والأمل. فهي مأساة من وجهة نظر المواجهة والتحدي، وذلك لأنها إشارة إلى انه في بداية تحرره وبناء وجوده المدني، مع انه واضع أسس البداية المدنية للبشرية. كما أن المستقبل يبدو بالنسبة له مجرد رجوع لماضيه. وهي مفارقة لا يذللها سوى تأصيل قيم الحرية في نظام شرعي ديمقراطي اجتماعي من اجل ألا تتحول معاناة العراق المأساوية إلى مجرد لعبة أطفال مبدأها اللهو وغايتها الهدم. وإذا كانت هذه العملية ضرورية للأطفال من اجل النمو بمعايير الذاكرة والخيال، فإن قيمتها تقوم في كونها لحظة عابرة في النمو. أما بالنسبة للعراق فان تحرره الفعلي يفترض أن تكون مأساته الحديثة لحظة عابرة في نموه المعاصر، من اجل ألا يكون تكرارها دليلا على طفولته الأبدية. ولكي لا يكرر في ذاته عقدة جلجامش الأبدية، أي عقدة الذنب والاستعداد للتضحية. إن العراق بحاجة إلى جلجامش بوصفه فكرة الخيال والإرادة، لكنه ليس بحاجة إلى عقدة جلجامش الأبدية. انه بحاجة إلى أن يكون بحثه عن حياة أبدية واقعا معقولا ومقبولا بمعايير المعاصرة. لكي يكون قادرا على تحويل زمن المأساة إلى تاريخ الأمل. انه ليس بحاجة إلى أن يظل محكوما بعقدة الذنب والاستعداد للتضحية والبكاء والرثاء، كما فعل مع الحسين فيما مضى وكما يمكن أن يفعل اليوم بتسليم المستقبل، أي الحياة الأبدية، لأفعى القوى الهمجية من طائفية وعرقية وسلفية ومتملقة، أي لكل هؤلاء المؤقتين الجدد، الذين لا همّ يشغلهم غير هموم البطن والفرج والشهرة والجاه والموت البطيء! العراق والعراقيون ليسوا بحاجة لان يسلموا تاريخ تضحياتهم المدونة لقوى تسرقها وتعيد صياغتها على قدر ما في حجمها من طائفية وعرقية وسلفية كما فعل العابرون القدماء عندما دونوا مآثر جلجامش في "كتاب مقدس" لأنبيائهم؟ ولمَ ينبغي أن يكون دم العراقيين حبرا يدوّن به الغرباء مآثرهم الكاذبة؟ والى متى ينبغي أن تكون ضحايا العراق المؤلمة أضحية الأفراح الوقحة للعابرين الجدد؟ وهي الأسئلة التي لا يعطي لها معنى الأبدية سوى الجهل والمراوحة في المكان والتاريخ والعجز عن تجاوز نقاط الخلل الجوهرية، وهي في العراق جلية للغاية يمكن حصرها في كل من الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي والمجتمع المدني وثقافته العقلانية الحرة. ففيها فقط تكمن أساليب وقدرة حل العقدة العراقية وتحويل زمن الضياع إلى جزء من تاريخ البدائل العقلانية والإنسانية.
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العقدة العراقية – خرافة الانحطاط وأسطورة العظمة
-
الشخصية العلوية – وحدة المتناقضات المغرية
-
العراق وهوية المستقبل
-
الاستفتاء والمحاكمة – الابتذال الديمقراطي لفكرة الحق
-
العد العكسي لزواج المتعة بين القيادات الإسلامية الشيعية والق
...
-
المأساة والأمل في العراق
-
هادي العلوي: المثقف القطباني 11 من 11
-
هادي العلوي: وحدة اللقاحية والمشاعية الشرقية 10 من 11
-
هادي العلوي: المثقفية والابعاد الروحية والحضارية 9 من 11
-
هادي العلوي - المثقفية والابعاد الاجتماعية والسياسية -8 من 1
...
-
هادي العلوي: المثقفية او القيمة الابدية للمثقف 7 من 11
-
هادي العلوي - الثقافة الحقيقية هي الثقافة المعارضة 6 من 11
-
هادي العلوي - الثقافة والسلطة كالعقل والطبع 5 من 11
-
هادي العلوي - التاريخ المقدس هو تاريخ الحق 4 من 11
-
هادي العلوي: الابداع الحر - معارضة أبدية -3 من 11
-
هادي العلوي- من الأيديولوجيا إلى الروح 2 من 11
-
هادي العلوي المثقف المتمرد 1 من 11
-
الديني والدنيوي في مسودة الدستور - تدين مفتعل وعلمانية كاذبة
-
الدستور الثابت والنخبة المؤقتة
-
أورليان الجديدة وأور القديمة – جذر في الأصوات وقطيعة في الأن
...
المزيد.....
-
مزارع يجد نفسه بمواجهة نمر سيبيري عدائي.. شاهد مصيره وما فعل
...
-
متأثرا وحابسا دموعه.. السيسي يرد على نصيحة -هون على نفسك- بح
...
-
الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف على أطراف م
...
-
السيسي يطلب نصيحة من متحدث الجيش المصري
-
مذكرات الجنائية الدولية: -حضيض أخلاقي لإسرائيل- – هآرتس
-
فرض طوق أمني حول السفارة الأمريكية في لندن والشرطة تنفذ تفجي
...
-
الكرملين: رسالة بوتين للغرب الليلة الماضية مفادها أن أي قرار
...
-
لندن وباريس تتعهدان بمواصلة دعم أوكرانيا رغم ضربة -أوريشنيك-
...
-
-الذعر- يخيم على الصفحات الأولى للصحف الغربية
-
بيان تضامني: من أجل إطلاق سراح الناشط إسماعيل الغزاوي
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|