|
هل مازال للمفاوضات الاجتماعية من معنى ؟
حزب العمال التونسي
الحوار المتمدن-العدد: 1367 - 2005 / 11 / 3 - 11:33
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
دخلت المفاوضات الاجتماعية بين الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة والحكومة والأعراف من جهة ثانية منعرجا حاسما منذ أن أعلن عن توصل الطرفين إلى اتفاق إثر لقاء الأمين العام للاتحاد برئيس الدولة. وقد أمضى وزير المالية وعضو المكتب التنفيذي للاتحاد المكلف بالوظيفة العمومية يوم الجمعة 28 أكتوبر الجاري على محضر اتفاق تضمن تفاصيل الزيادة في أجور أعوان الوظيفة العمومية وأسلاكها الخاصة ومقادير المنح الخصوصية لبعض الأصناف في بعض القطاعات.
وينتظر أن تدخل المفاوضات الاجتماعية في المؤسسات العمومية وفي القطاع الخاص حول الجوانب الترتيبية والأجور في نسق أسرع بما أن ملامح الزيادات قد باتت واضحة ذلك أن الجميع يعرف أن الزيادة في الوظيفة العمومية عامة ما كانت هي المرجع والمثال الذي ينسج على منواله في بقية القطاعات.
والملاحظ أن الزيادة المتفق عليها يوم 18 أكتوبر الماضي تضاهي في مقاديرها ويبدأ مفعولها تماما على غرار الزيادة الثلاثية الماضية 2002 - 2004.
ظاهريا تبدو هذه الزيادات في صالح العمال والموظفين من حيث كونها ستخفف من تدهور المقدرة الشرائية وستمكنهم من مواجهة غلو الأسعار في جميع مواد الاستهلاك ولكنها في الواقع – إذا دققنا النظر في قيمتها وفي الطريقة التي حصلت بها - نلاحظ عديد المفارقات من حيث الدعاية المفتعلة لتثمينها ومن حيث انعكاساتها الحقيقية والمسرحيات المنسوجة بصددها.
فمن حيث الشكل أصبحت المفاوضات الاجتماعية في تونس مسرحية أشبه بالكذبة الكبرى اتفقت البرقراطية النقابية والسلطة على حبك فصولها.
فالبرقراطية عامة ما تثير حولها ضجة إعلامية على امتداد أشهر تؤثث بها المشهد النقابي لتبث وهما كبيرا حول دينامية الحياة النقابية. من علامات ذلك سلسلة الندوات النقابية التي تنظمها أقسام الدراسات والتشريع والقطاع الخاص والتكوين النقابي وغيرها من الاتحادات الجهوية وبعض الجامعات في إعداد المفاوضات الاجتماعية. ولأن الندوات أصبحت هي الشكل الوحيد تقريبا للإعداد فقد تفننت البرقاطية في تنويعها، ندوات مركزية للأقسام المذكورة وأخرى إقليمية (الجنوب، الوسط والشمال) وأخرى قطاعية للقطاع الخاص والوظيفة العمومية والمؤسسات العمومية. ومعروف أنه باستثناء تجمع الوظيفة العمومية الذي دعا مجمع الوظيفة العمومية ولم تدخر البرقراطية جهدا من أجل إفشاله، لم ينعقد أي تجمع عمالي في أي جهة أو قطاع آخر وهو ما يؤكد الطابع الفوقي والكواليسي لهذه المفاوضات وغياب القواعد عنه.
ومن جهة أخرى فإن نتائج الجلسات التفاوضية، بما يحصل خلالها من اتفاقيات أو نقاط خلاف، سواء في الوظيفة العمومية أو في القطاعين العمومي والخاص، لا يقع عرضها لا على القواعد المعنية ولا حتى على الهياكل المسيرة من هيئات إدارية ومجالس قطاعية أو جهوية فضلا عن أن المجلس الوطني للاتحاد الذي يفترض أن ينعقد حول هذه القضية باعتبارها أهم ملف في الحياة النقابية لم تقع دعوته للانعقاد.
ظاهرة أخرى مهمة وخطيرة في ذات الوقت تأكدت مرة أخرى بمناسبة المفاوضات هذه السنة وتتمثل هذه الظاهرة في أن كل الجلسات التفاوضية وما يفتعل حولها من دعاية وحملات إعلامية هي في النهاية مجرد منابر للثرثرة ومسرحية الغاية منها إثارة الرأي العام لينشغل بوهم عام وهو تحسين الأجور وانتظار لحظة الإعلان عن الزيادات فيما تمرر الحكومة دفعات الزيادة في الأسعار دون أدنى ردة فعل من جانب الاتحاد.
والأدهى والأمر أن كل هذه الجلسات ليست سيدة نفسها وتفتقد للدور التقريري الذي يعطي المصداقية للحوار الاجتماعي الجدي كما أن الأطراف التي تباشر المفاوضات، من جانب الاتحاد ومن جانب الحكومة، لا تتمتع بأدنى سلطة بما أنه لا بد في كل مرة من عقد جلسة تفاوض مع رئيس الدولة الذي يملك وحده سلطة القرار. ويتذكر كل متتبعي المفاوضات الأخيرة تصريح الوزير الأول للأمين العام للاتحاد بكونه لا يملك أية صلاحية للترفيع في النسبة التي عرضها عليه بمعية المكتب التنفيذي يوم 18 أكتوبر الماضي (2،5 %) وأنه لم يبق له سوى أن يرى جلية الأمر مع رئيس الدولة. ويبقى التساؤل قائما بماذا يُفسَّر هذا التناقض بين تمسك الوزير الأول بتلك النسبة على أساس صعوبات الوضع الاقتصادي وعجز الحكومة عن الزيادة بأكثر منها وبين قبول رئيس الدولة بالترفيع فيها إلى حوالي 3،5 % هكذا دفعة واحدة.
النقابيون وحتى عموم العمال حفظوا مطلع وخاتمة الأغنية المعهودة التي رددها الأمين العام المساعد الهادي الغضباني على مسامع تجمع الوظيفة العمومية يوم 22 أكتوبر حين أكد على النتائج الإيجابية التي توصل إليها الأمين العام مع رئيس الدولة "الذي يعلم القاصي والداني مدى حرصه على تحسين ظروف العمال وعلى صيانة الوضع الاجتماعي".
فالواضح أن النموذج التونسي في مجال التفاوض والحوار الاجتماعي الذي "تفاخر به تونس" ليس سوى مظهر من المظاهر الشاهدة على غياب المؤسسات وكذب الدعاية حول الحوار الاجتماعي وطغيان سلطة الحكم الفردي لرئيس الدولة الذي سطا على صلاحيات كل المؤسسات السياسية والاجتماعية.
وهذه الدورة من المفاوضات ليست سوى عينة من عينات تواطئ البرقراطية مع السلطة وعجزها عن فرض نموذج واضح للحوار الاجتماعي يعطي للأطراف الاجتماعية المكانة والمجال لممارسة صلاحيتها كهيئات وأطراف ممثلة ومسؤولة ومستقلة.
أما على مستوى قيمة الزيادة المعلن عنها فإن السؤال المطروح هو إلى أي مدى تستجيب لحاجة عموم الشغالين في تحسين مقدرتهم الشرائية؟ وهل وافقت القيادة النقابية على هذه المقادير على أساس دراسات علمية ومعرفة حقيقية بنسبة تدهور المقدرة الشرائية ؟ وما هي التنازلات التي قدمتها من أجل إبرام هذا الاتفاق؟ أم هل أن الحكومة هي التي حددت هذه الزيادات بناء على معطياتها الخاصة في التخطيط الاقتصادي والتسيير المالي للدولة؟
وليس من التجني في شيء على القيادة النقابية القول بأن الزيادة المتفق فيها لا تمت بصلة لدراسات الاتحاد لأن نسبة 3،4 % لا تغطي في شيء التدهور الحاصل في المقدرة الشرائية أي بلغة المعطيات الاقتصادية لا تغطي نسبة التضخم المالي الحاصل على امتداد الثلاث سنوات الماضية من جهة ولن تغطي نسبة التضخم المقدرة للثلاث سنوات القادمة من جهة أخرى. ومقارنة بزيادات 2002 فإن الزيادات الحالية تمثل حوالي 90 % على أحسن تقدير من قيمة سالفتها بما أنه تم تقديرها بالدينار الجاري أي لم يعق لا احتساب نسبة التضخم ولا اعتبار انزلاق قيمة العملة نحو التخفيض.
وعلى صعيد آخر فإن الزيادات الحالية ما هي إلا مقدمة ومبرر لحملات من الزيادة في الأسعار التي ستقدم عليها الدولة خلال السنوات الثلاث القادمة في إطار إجراءات التعديل المبرمجة. وبلغة أخرى فإن الزيادات الحالية ليست سوى إجراء اقتصادي تتحكم فيه الدولة ويتفق مع مقتضيات التحكم في الموازنات المالية العامة (تشجيع الاستهلاك، التحكم في التضخم، تشجيع الادخار، إلخ.) ولكنه في ذات الوقت مادة ثمينة للدعاية للاستقرار الاجتماعي ولاستجلاب الاستثمار الأجنبي وبطبيعة الحال للتذكير بحرص سيادته على خدمة مصلحة العمال...كما لم يغب أبدا على ذاكرة السيد الهادي الغضباني.
ورغم هذه الحقائق التي قد نعود لها لتدقيقها من الناحية الاقتصادية والمالية، فإن قيادة الاتحاد لا تتورع عن إثارة الضجيج حول سياستها الحكيمة – حكمة سيادته – في تحقيق المكاسب (في الكواليس يقولون لي ذراع الحكومة) لفائدة العمال وفي ترسيخ نموذج نقابي لم يعرف العالم له مثيلا.
لكن يحق لهم جميعا، دولة وأعراف وبرقراطية، أن يفاخروا ويموهوا ويقلبوا الحقائق ويمرروا المسرحيات ما دامت الهياكل القطاعية والجهوية لم تتحمل مسؤولياتها في وضع حد لهذا النموذج من التفاوض الذي كم نادت هيئات إدارية بالتخلي عنه وإتباع أسلوب جديد أفضل منه.
#حزب_العمال_التونسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لنكن جميعا في خدمة أهداف الإضراب
-
ماذا جرى بين الاتحاد والحكومة؟
-
نحو أزمة اجتماعية حادة
-
قانون جديد لتكريس الحكم الفردي المطلق بتونس
-
بن علي يخضع جميع الموظفين لشبه مراقبة إدارية
-
المنتديات الاجتماعية، إجابة العصر المنقوصة
-
الوضع الاجتماعي في تونس الانفجار آت لا ريب فيه
-
دفاعا عن الرابطة وعن استقلالية العمل الجمعياتي وحريّته
-
النضال هو الوسيلة الوحيدة لمجابهة الدكتاتورية وإرغامها على ا
...
-
أزمة النسيج تشتد ونضالات العمال تتصاعد
-
لا مستقبل لشباب تونس في ظل الدكتاتورية
-
رائحة أزمة نقابية!
-
كلمة الرفيق حمه الهمامي في ندوة بروكسيل حول -الشراكة الأوروم
...
-
بيان مشترك حول تفجيرات لندن
-
مرة أخرى:لا خلاص للعمال إلا بالوحدة والنضال
-
في اليوم الوطني لمقاومة التعذيب والذكرى 18 لاستشهاد نبيل الب
...
-
طبقة عاملة، منزوعة السلاح، مهدورة الحقوق !
-
بمناسبة الانتخابات البلدية: حزب العمال يدعو إلى مقاطعة المهز
...
-
من المستفيد من المفاوضات الاجتماعية؟
-
حزب العمال يدعو إلى مقاطعة المهزلة الجديدة
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|