|
الشارع لنا... يا مسز نظيفة!
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 5004 - 2015 / 12 / 4 - 16:53
المحور:
المجتمع المدني
أثناء خروجي من مبنى المحكمة بميدان العباسية بعد تقديم أوراق ترشحي للبرلمان، استوقفني مشهدٌ طريفٌ للغاية. سيدةٌ ثلاثينية العمر من الطبقة المتوسطة تجلس على حجر أمام كشك لبيع المرطبات. تحمل في يدها قنينة مياة غازية تسقي منها طفلها ذي السنوات الأربع. وفجأةً، أشاح الطفلُ بيده، فوقعت الزجاجة من يدها وأغرقت الأرض جوار قدميها. توقفتُ لأراقب ردَّ فعل السيدة. فكان أول ما فعلتِ المرأةُ هو رفع القنينة إلى الوضع الرأسي من جديد، لتوقف سريان السائل على الأرض، ثم التفتت إلى ملابس طفلها تنظفها بمنديل ورقي، ثم إلى ملابسها الخاصة تنظفها. الخطوات الثلاث السابقة منطقيةُ التسلسل وطبيعية، ولا غبار عليها. لكن الخطوة الرابعة التالية التي انتظرتُها لم تحدث أبدًا! بعد ذلك، ألقت السيدةُ منديلها الورقي الملوث على الأرض ثم التقطت قنينة المياه الغازية من على الأرض، وأكملت سُقيا طفلها على نحو تلقائي وكأن شيئًا لم يحدث. المدهشُ في الأمر هو أن السيدة لم تلق نظرة واحدة على البِركة الصغيرة التي تفور بالصودا والفقاعات والسكر واللون الأسود، تلك التي تكونت على بقعة الأرض بفعل إهراق مشروبها. لمحةٌ سريعة خاطفة على موقع الحادثة الصغيرة، لم تطرف قطُّ من عين المرأة!! فضلا عن أن تفعل ما انتظرتُ أن تفعله، ولو كنتُ مكانها لفعلتُه، وهو أن تقوم بتنظيف أرض الرصيف ولو بقطعة مناديل ورقية مثلا! لم يحدث أن أعارتِ المرأة أي انتباه للشارع الأبكم! وكأن أرضَ الشارع موجودة هناك لتقبّل قاذوراتنا ونفاياتنا وإفرازاتنا وأعقاب سجائرنا، ومخلفات مناديلنا الورقية، وربما ما يفوق ذلك بشاعةً، دون حتى أن ننظر إليها ونقول: "شكرًا أيتها الأرض الطيبة التي تتحمّل سخافاتنا!” وكأن الشارع لا يخص كل المصريين يدفعون الضرائب، لكي يُرصَف ويُعبّد حتى نسير عليه ويحملنا من مكان إلى مكان. معظم المصريين يعتبرون الشارع مطفأةَ سجائر هائلة المساحة، أو صندوق قمامة مجاني لا نُحاسب جامعَ القمامة على تنظيفه. وربما صادفتَ سيدة تحكي لك عن جارتها النظيفة جدًّا التي تنظّف بيتها كلّ يوم "وتخليه بيبرق". وحين تسأل "وتتطقّس" وتبحث وراء تلك السيدة النظيفة جدًّا، تجدها تُلقي مخلفات بيتها من الشرفة إلى الشارع. ولا تدري أبدًا مسز نظيفة أن النظافة لا تتجزأ، ولا أن النظافة هي حفاظنا على البيئة بكاملها نظيفة، وليس بيوتنا وحسب. كنتُ يومها عائدة من أمريكا قبل يومين. فسرح خيالي إلى حيث هناك وراء المحيطات التي تبعد آلاف الأميال عنّا، ورحت أفكر لو أن مشهدًا مشابهًا قد حدث بأمريكا أو أوروبا أو اليابان مثلا. لا شكّ عندي في أن المرء حامل قنينة المياه الغازية كان سوف يقوم بتنظيف الشارع الذي لوّثه بعد الانتهاء فورًا من تنظيف ملابسه وملابس ابنه. وبكل تأكيد لن يرمي بالمنديل الورقي على الأرض. لأنه يعتبر الشارعَ كما بيته. نظافةُ الشارع مرهونةٌ بنظافة بيته ونظافته الشخصية. أما لو حدث الأمر في اليابان فأغلب الظن أن ذلك الشخص كان سوف يقوم بتنظيف الشارع أولا، ثم يلتفت إلى ملابسه ينظفها. لأن الياباني مواطنٌ "مؤدبٌ" خلوق متحضّر، مفطورٌ على اللياقة والذوق. يراعي حق الآخر قبل حقه الشخصي، كما تُحتّم الأدبيات اليابانية الصعبة، في كوكب اليابان المحترم. مشهدٌ مألوف تشاهده في المدن الأوروبية والأمريكية: سيدةٌ أنيقة ترتدي ملابس فاخرة وكعبا عاليُا، وتمسك بمقود كلب صغير. فإن أخرج الكلبُ مخلفاته، سارعت السيدة بإخراج كيس مخصوص لنفايات الحيوانات من حقيبتها وحاصرت مخلفات كلبها وحملتها في يدها حتى تجد صندوق قمامة في الطريق. ثقافة إلقاء القمامة في الطريق، غير مفهومة ولا مبررة وغير مقبولة في المجتمعات المتحضرة. فإن سوّلت نفسُ امرئٍ غير متحضر أن يرتكب هذا الفعل الفاضح في الطريق العام، سيجد حوله مَن يذود عن الشارع المسكين وينطق نيابةً عنه ويرفض تلويثه. ولن يكون من حق ذلك المجرم (الذي ألقى ورقة في الطريق) أن يقول لمن ينتقده: “وأنت مالك؟ هو كان شارع أبوك؟!” لأنه بالفعل شارع أبيه وشارع ابنه وشارعه هو ذاته. هو جزءٌ من ممتلكاته، ولا يحق لأحمق أن يلوث ما يملك. تلك هي الثقافة العامة والوعي المجتمعي الراقي المتكون لدى المواطن في الدول المحترمة. المواطن هناك، ومنذ طفولته، يعرف حقوقه وواجباته. ويراعيهما كليهما. بينما في مجتمعاتنا السعيدة، فلا حق للمواطن ولا وواجب عليه. إنما يعيش حياة البداءة الفوضوية الهمجية التي لا تعرفُ أخلاق الطريق ولا حقوق الآخرين ولا تحترم الجمال والنظافة والذوق العام، بكل أسف. يا ست نظيفة، يا مَن نظفتِ ملابسك وملابس طفلك المحروس، انتبهي، فإن الشارع لنا.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خيط رفيع بين الضحية والإرهابي
-
سقطة الكردوسي
-
صوتُ الرئيس ونفيرُ البارجة
-
طفلٌ أصمّ في الجوار
-
هَدْرُه علَّمَ الجشَع
-
أصل الحدوته
-
مصر زعلانة منك
-
شاهدْ الهرم... ثم مُتْ
-
مَن كان منكم بلا إرهاب، فليضربنا بحجر
-
محاضرة من القرون الوسطى
-
تعليم خفيف الظل
-
أيوا مصر بتحبك
-
السيسي وحده لا يكفي!
-
رحلة جمال الغيطاني الأخيرة
-
لماذا تسمونها: معركة انتخابية؟
-
المُغنّي والزعيم... وشعبٌ مثقف
-
عسل أسود
-
المال مقابل الكرسي
-
جمال الغيطاني... خذلتني
-
قانون مكافحة التجهيل العمدي
المزيد.....
-
الرئيس الإسرائيلي: إصدار الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق
...
-
فلسطين تعلق على إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال
...
-
أول تعليق من جالانت على قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار
...
-
فلسطين ترحب بقرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقا
...
-
الرئيس الكولومبي: قرار الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو منطق
...
-
الأمم المتحدة تعلق على مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة ا
...
-
نشرة خاصة.. أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت من الجنائية الد
...
-
ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ
...
-
أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|