|
مكافحة البطالة والتنمية في عراقنا الجديد
عبد الزهرة العيفاري
الحوار المتمدن-العدد: 1366 - 2005 / 11 / 2 - 12:45
المحور:
الادارة و الاقتصاد
البطالة عموما واحدة من مؤشرات التخلف الاقتصادي . وهي في الوقت نفسه عامل من عوامل التراجع في الحياة الاقتصادية والاجتماعية بالنسبة لأي بلد كان . ومن هنا يتضح كم هو ضروري الإقلاع عن تكرار الكلمات العمومية الداعية إلى مكافحة البطالة من قبل الدوائر المسؤولة و بدلا من ذلك الانتقال إلى وضع السياسات العملية لإلغاء هذه الآفة من قائمـــة المشكلات المجهدة للبلاد. علما إن الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه المهمة بالذات واضحة تماما بالنسبة للاقتصاديين الاستراتيجيين . وهي متبعة بقدر او باخر ، في القسم المتطور من دول العالم اليوم. وتتميز البطالة عن غيرها من المشاكل إنها مفهومة تقريبا سواء للمواطنين أو للأجهزة الرسمية من حيث شرورها وعواقبها السلبية بالنسبة للمجتمع عموما . إلا أن الأمر مع ذلك يتطلب ــ كما نزعم ــ التذكير بمجموعة من الحقائق الملموسة، لما لها من دلائل منظورة في الحياة اليومية . فالأفراد المشمولون بالبطالة ، بغض النظر عن نوعها،هم ليس فقط لا ينتجون الخيرات والمواد الاستهلاكية في بلادهم ، بل ويستهلكون ما ينتجه غيرهم . ومن هذا يتضح أن كونهم بطالين في البلاد فانهم يتحولون ، أرادوا أم لم يريدوا،إلى كابح للتنمية ومصدر للاضطرابات الاجتماعية. على أن الاقتصاديين يفرقون بين البطالة الجارية والمقنعة، أو البطالة الموسمية كما في الزراعة مثلا ، وتلك المفروضة بقوة التقاليد السائدة كما هو الحال في العمل النسوي بالنسبة لبلدان الشرق. وإذا كانت هذه الأنواع من البطالة معروفة جيدا بسبب انتشارها في البلدان النامية فهناك انواع اضافية من البطالة تصيب عادة الدول الصناعية الكبرى زمن الأزمات الاقتصادية الدورية. حيث تغلق المعامل والمؤسسات الإنتاجية أبوابها بسبب فائض الإنتاج المتكدس لديها وترمي ملايين عمالها في الشوارع لتتلقفهم غائلة البطالة إلى حين مرور تلك الأزمات الدورية . وهنا يجب القول مباشرة أن البطالة في الدول الصناعية المتطورة بالرغم من أنها تحمل كالعادة نتائج سلبية إلا أنها لا تشكل معضلة مستعصية كما هو الحال في ظروف البلدان النامية. وتعزى هذه الحال إلى الفرق الهائل بالقدرات الاقتصادية للاحتكارات الكبرى وخزينة الدولة مقارنة بأسواق البلدان ضعيفة التطور. هذا فضلا عن إن البطالة في البلدان المتأخرة تتصف بميزتين أساسيتين وهما حجمها الكبير إذا ما قيست بنسبة التشغيل وكذلك بمقدار تأثيرها على الإنتاج المحلي الإجمالي ونسبتها الى عدد فرص العمل المتوفرة وكذلك لديمومتها على مدار السنة . ثم هناك فرق حتى بين النتائج الناجمة عن البطالة نفسها. وذلك يتضح عند النظر إلى الأرباح والخسائر في نهاية المطاف. فإذا كانت الخسائر فادحة بالنسبة لعموم فئات المجتمع في البلدان المتخلفة جراء وجود البطالة، بما فيها الفئة الرأسمالية الوطنية هناك ،فان الأمر في الدول الكبرى يختلف تماما. حيث الإفرازات السلبية للبطالة تثقل، بالأساس ، كاهل العمال و حتى الفئات المتوسطة في المجتمع . أما الشركات الكبرى فإنها على العموم غالبا ما تجد المخرج من المأزق . وذلك عن طريق رفع معدلات أسعار السلع بعد مرور الأزمة مباشرة وتأمين الحصول على الارباح العالية كالعادة. واكثر من هـذا ان المؤسسات الكبرى تستمر بعد انحسار الازمات الدورية بتوسيع خطوطها الانتاجية وخلق فرص عمل جديدة وبالتالي استيعاب اعداد غفيرة من البطالين والبدء بدورة اخرى من اعادة الانتاج الموسع كما تشير إلى ذلك دراسات التضخم والغلاء في الأسواق العالمية. البطالة : مشكلة اقتصاديةـــ اجتماعية
وهكذا فالبطالة من حيث هي مشكلة اقتصادية تبدو من خلال مجموعة كبيرة من النتائج . فهي تعني مشكلة اجتماعية ايضا .و قبل كل شيء ا ن جمهورا من المواطنين يعيش محروما من اي دخل كان.اي انه محروم من وسيلة العيش الاعتيادية في بلاده . والمواطن المشمول بالبطالة يصبح مقصرا عن إعالة نفسه وعن إعالة المتعلقين به من أفراد عائلته. أما إذا كان شابا في مقتبل العمر فهو يعجز بالتأكيد عن تكوين عائلة او حتى انه لا يستطيع بأي حال ان يحلم بتحسين ظروف حياته المؤلفة من المسكن والمشرب والملبس.... فكيف الحال إذن عند تفشي البطالة لفترات متلاحقة في المجتمع واذا ما شملت نسبا عالية من السكان كما نراها اليوم في بلادنا والبلدان النامية الأخرى. على أن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد. فالبطالة تقود لا محالة إلى انخفاض الطلب على السلع الاستهلاكية والمنزلية . ومن جراء ذلك يسود الكساد في الأسواق وتتباطأ حركة البيع والشراء بشكل ملحوظ وبالتالي ستقل مداخيل الكسبة بل والتجار أيضا ثم تسوء أوضاعهم المعيشية ويبدأون بالتقتير على عائلاتهم وأطفالهم . أي انهم سيساهمون أنفسهم أيضا بعملية تخفيض الطلب الفعال في أسواقهم ، الأمر الذي يؤدي بالنهاية إلى انهيار الحركة التجارية عموما في البلاد. ولهان الأمر نسبيا لو انه توقف عند هذا الحد . فانخفاض الطلب سينعكس مباشرة على العرض . أي على حركة ضخ البضائع إلى الأسواق. مما يعني شل عمل المعامل والمؤسسات الإنتاجية الأخرى . إذ لا فائدة من الإنتاج الكثير بدون حركة طلب فعالة من جانب المستهلكين . وحسب اللغة الاقتصادية هذا يعني أن رؤوس الأموال الصناعية والمصرفية والخدمية تكف عن النمو بسبب انكماش الدورات الإنتاجية وعدم حصول التراكم المالي لديها. مما يجعلها تتوقف جزئيا أو كليا عن تجديد رأسمالها الثابت اوتزويده بالتكنولوجيا الحديثة وتكف عن بناء البنى التحتية الضرورية لعموم الاقتصاد الوطني . هذا فضلا عن انخفاض الموارد الضريبية والرسوم الجمركية التي تذهب اعتياديا لخزينة الدولة . ومن هذا يتضح إن شرور البطالة لا تمس المواطنين وحياتهم الاقتصادية فقط بل تتعدى إلى شخصية الدولةايضا.اذ تجبر الحكومة على تحجيم حركتها الاعمارية والتوقف عن تنفيذ خططها الا نفاقية كما تخلق الصعوبات لها عند ادارة شؤونها الرسميـــة. أما النتائج الاجتماعية للبطالة فهي الاخرى كثيرة وغاية في الجدية . فبما ان البطالة ــ كما رأينا ــ من شأنها تأزيم حالة الأسواق فهي اذن تنتصب عاملا من عوامل انهاك الاقتصاد العام وتخفيض حجم الإنتاج المحلي الاجمالي وبالتالي تقزيم الدخل الوطني . كل هذا ، وكتحصيل حاصل يؤدي الى دفع اكثر المواطنين الى ساحة الفقر والفاقة واجبار الدولة على اتباع سياسة التقشف والتقتير وتعثر المشاريع والخطط الاجتماعية . وكما هو معروف أيضا، إن الحياة الاجتماعية لا تستطيع أن تبقى بمعزل عن الحالة الاقتصادية العامة في البلاد . وهذا من الناحية العملية انه لابد من بروز مشاكل اجتماعية تتعلق قبل كل شيء بسلوك الفرد والجماعات على حد سواء . أي بسلوك المواطنين الذين يمارسون حياتهم تحت وطأة البطالة او غيرها من الظروف الاقتصادية . فاضطراب الحالة الاقتصادية، وانعدام فرص العمل لقسم كبير من المواطنين وانتشار العوز لديهم من جراء ذلك ثم عدم قدرة البلاد على توفير الحاجات الضرورية للشعب والاختلافات الشاسعة بين مستوى الفئات الاجتماعية ، كل ذلك سيخلق تربة صالحة لا نتشار الفساد الإداري قبل كل شيء في قلب الدولة نفسها وانتعاش الجريمة والانخراط في الأعمال المحضورة قانونيا واخلاقيا طالما" تؤمن "للبطالين شيئا من وسائل العيش اليومي . ثم ان البلاد المبتلاة بالبطالة ــ أية بلاد كانت في عالمنا "النامي "ــ لابد إنها تبتلى أيضا بتخلف التعليم والخدمات الصحية والأمن وتردي الأخلاق العامة وحتى مناظر المدن ونضافة شوارعها ومستوى بناء البيوت فيها و... الخ ...الخ .
مكافحة البطالة اولا نعم.. لابد اذن من مكافحة هذه الافة اولا. على ان القارئ هنا يتوقع ـــ وهو على حق ـــ ان يتعرف هنا على الوجه الاخر من المشكلة . ونقصد بذلك مجموعة الاجراءات العملية التي تزيل البطالة من حياتنا اولا، ثم تجعل من ازالة البطالة طريقا غير مباشر ولكنه طريق حقيقي للتنمية في البلاد . وهذا هو وجه الجدلية التي تربط مكافحة البطالة بالتنمية. الامر وما فيه ، ان الحل الحاسم لهذه المعضلة ينبغي ان يقترن أولا واخيرا بالمراعات الصارمة لآلية السوق والقوانين الاقتصادية الموضوعية المتعلقة بالقوى المنتجة وعلاقات الانتاج . اضافة الى الاستخدام العـلمي لمبادئ التخطيط . ومن نافل القول هنا ان نؤكد على ضرورة الحرص على استخدام الامكانيات العلمية التي توفرت في بلادنا مما يسمح بوضع خطط شاملة تتفق مع التوجهات التقدمية الجارية فيها . ونزعم ان هذا الامر ــ كما نعتقد ــ يجب ان يكون من اولويات السياسة الاقتصادية بدون ادنى شك. ثم على الجهة التخطيطية بدورها ان تأخذ بنظر الاعتبار مجموعة من المبادئ الاقتصا ــ اجتماعية المعترف بها علميا في مثل الحالات النادرة التي نصطدم بها ، والتي تنبع اساسا من مميزات ظروفنا العراقية من جراء الازمات التي نمر بها اليوم . والمبادئ برأينا هي : اولا- ان حل مشكلة البطالة لا يجب ان يتم فقط عن طريق فتح أبواب التوظيف في الدوائر الحكومية . فلا يجوز السماح بتضخم جهاز الدولة إلى ما لا نهاية . ثانيا – الحل الجذري يجب أن يقترن بتوسيع القطاع الخاص لكي يستقطب الأكثرية الساحقة من البطالين عن طريق إيجاد فرص عمل للعمال الاجراء. او بتمكين ذلك القسم من البطالين الراغبين في تأسيس أعمال حرة مستقلة لهم ليمارسوا حقهم وامكانياتهم في الانتاج الاجتماعي وفي هذه الحالة ستزداد المصادر التي تصب في الانتاج المحلي الاجمالي . ثالثا – تقديم الدعم المصرفي والقانوني للقطاع الخاص عموما بما فيه الشركات الوطنية لفتح فروع انتاجية وخدمية جديدة وجديدة . وذلك لإشباع حاجات المستهلكين والاسواق بالسلع الضرورية ولاستيعاب الايادي العاملة المتزايدة باستمرار بفضل الزيادة المطردة للسكان . رابعا – مراعاة الخواص (الطبيعية والاجتماعية ) للقوى العاملة النسوية الراغبة في العمل لدى القطاع الخاص وعند التوظيف في اجهزة الدولة اوتأمين الدعم الحكومي ( المصرفي وغيره ) للنشاط الإنتاجي او الخدمي عند تأسيسه بإدارة النساء الراغبات في ذلك ، وخصوصا فيما يتعلق باللواتي فقدن معيلهن . عودة الى آلية السوق !
ولكن ما هي العلاقة بين مكافحة البطالة والتنمية من الناحية العملية ؟ . هذا هو السؤال الكبير!. الأمر وما فيه ،إن تشغيل الأيدي العاملة يعني ضخ مقادير كبيرة من الأموال للمواطنين على شكل اجور يومية أو شهرية أو على شكل تكوين أرباح و مداخيل في المصالح الخاصة. وهنا يكون السوق أمام وضع جديد تماما . فالجمهور الغفير الذي لم يكن بالأمس يملك شيئا في ذات اليد اخذ يتمتع بعد انحسار البطالة بامكانيات نقدية تدفعه مباشرة إلى اقتناء سلع كان محروما منها . أي أن هذه الحال ستخلق الشق الأول من آلية السوق ونعني بها الطلب الذي لابد وان يستدعي الشق الثاني وهو العرض الذي يعني بدوره دفع المنتجين من اصحاب المصالح الي انتاج المزيد من السلع لسد احتياجات السوق والمستهلين. و سيحدث في هذه الحال، ان ارتفاع القوى الشرائية للسكان ستكون المرجل الذي سيحرك الية السوق الداخلية والتي منها تحفيز كافة اصحاب الحرف لتوسيع نشاطاتهم الانتاجية بما فيهم أصحاب صناعات المواد الإنشائية وورشات إنتاج اثاث المساكن ومستلزمات الدوائر والبنايات والمدارس والمؤسسات الصحية والجامعية ....والخ ..الخ. ومن البديهة ، إن فتح بوابة الأعمال على مصراعيها أمام المواطنين سيخلق وضعا اجتماعيا جديدا و طبيعيا يدفعهم إلى بناء وتشغيل المؤسسات الخدمية الضرورية للحياة الاجتماع
ية الجديدة والتي تتطلب ممارسة نشاطات ترفيهيةللكبار والصغار، اي ارضاء حاجات الناس وسد الطلب المتزايد على الخدمات التي تتماشى وتنظيم حياة الاسرة على نحو حضاري . وهذا بدون شك سوف يخلق إمكانيات واسعة لإنشاء فرص عمل في طول البلاد وعرضها ، مما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من منطوق الموضوع لهذه المقالة وهو أن هدف مكافحة البطالة يمكن ان يصبح بدوره الطريق الفعال لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا. وبالتالي ان مكافحة البطالة ومهمة تحقيق التنمية يجب ان تضمهما خطة اقتصادية ــ اجتماعية واحدة . الحلقة المركزية
الحلقة المركزية بيد الدولة !. نعم ، الدولة . لانها هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن خلق الظروف الاقتصادية والقانونية والامنية الضرورية لحركة الأسواق ونشاط رأس المال الوطني . اي وضع الأساس الرسمي والاجتماعي للبناء التنموي . وفي الواقع،يجب التنويه هنا عن حقيقة غالبا ما تحصل . وهي تكمن في بعض الصعوبات العلمية والفنية التي تواجه علماء الاقتصاد دائما عند التنفيذ . إذ كيف يجب التعامل مع القوا نين الاقتصادية الموضوعية في المكان والزمان المعينين ؟ . ما هي الاولويات عند حل المشاكل الاقتصادية القائمـــة ؟ و ما هي حدود تدخل الدولة في العملية الاقتصادية عموما؟ ثم ماهي الكيفية الملائمة التي سيتم بها الغاء البطالة او الحد منها ؟ وهل انها تعني فقط خلق فرص للعمل المأجور ام فتح الباب لكافة الاعمال الانتاجية والخدميةايضا؟ وما هي السياسة العملية لدرء التضخم وغلاء الاسعار خلال وبعد مكافحة البطالة وزيادة الطلب على البضائع في الاسواق؟.... هذه وغيرها في الحقيقة إشكاليات جدية . وقد عانت وتعاني منها الى اليوم الكثير من الأجهزة التخطيطية الرسمية للبلدان النامية . خاصة عند قيامها بوضع وتنفيذ سياسة اقتصاد السوق الداخلية في بلادها . واستنادا الى الدروس العالمية نجد من الضرورة بمكان التاكيد على الانفتاح على المجتمع واشراكه في عملية البناء والاعمار . ولا ينبغي للدولة الانطواء على نفسها بل عليها اشراك المجتمع ورأس المال الوطني في عملية البناء هذه كلها . ذلك لان الامر يمس كافة افراد الشعب ، مهما كان حجمه وتاثيره . فالبطالة ، حتى اذا كانت محدودة الانتشار لابد ان تؤدي الى تضييق السوق الداخلية وانكماش الطلب على السلع الاستهلاكية و تخفيض الا نتاج والمبيعات وبالتالي إلى شحة الأرباح وانعدام التراكم الرأسمالي واخيرا انخفاض مستوى المعيشة حتى بالنسبة إلى الطبقات الميسورة . الامر الذي يجعل مكافحة البطالة مهمة مشتركة بين الدولة والمواطنين . ولتقريب الامر للصورة العراقية نقول بين وزارة التخطيط وراس المال الا نتاجي والخدمي بل والنقابي وحتى العنصر العلمي الجامعي . على ان المصاعب والاشكاليات التي تعترض السياسات التخطيطية لا تنفي بل تؤكد حقيقة ان الدولة بالذات هي الجهة القادرة على قيادة معركة مكافحة البطالة والتنمية. وعليها الاضطلاع بهذه المسؤولية لما لديها من امكانيات مالية وقانونية وتنظيمية وسياسية . والامرهذا بالذات له اهمية غير عادية بالنسبة للبلاد داخليا وعالميا ، خصوصا اذا ما تم بصورة ناجحة وبوقت سريع. ونحن اذ نضع ايدينا على هذه الملاحظة الآن ونؤكد على دور الدولة بهذه الشدة فالسبب يعود الى ان مفاهيم مغلوطة قد سربت عنوة في السنوات الاخيرة الى اروقة المراكز العلمية في اعقاب زوال الاقتصاد السوفيتي المخطط بقصد تسفيه النظريات المتعلقة بضرورة تنظيم الاقتصاد ومسؤولية الدولة في ذلك . وتحت تأثير الدعوات المكثفة لابعاد الدولة عن تنظيم الحياة الاقتصادية ــ كما لاحظنا في روسيا واوربا الشرقية بعد الانهيار ــ انتشرت حتى في البلدان النامية ما يقرب من تلك الافكار . ولكن اليوم يرى العالم نتائج المفاهيم التي انتقصت من مكانة الدولة ودورها في توجيه المسار الاقتصادي . و ظهر جليا للعيان المصير المأساوي لحالة الأسواق والناس هناك نتيجة لذلك و اتضحت لهم مغبة السياسات التي صورت في وقتها تدخل الدولة وكأنه امر يتعارض مع مصالح القطاع الخاص وحرية المواطنين في الميدان التجاري وغيره . واكمالا للتراجيديا دعوا الى اعتماد سياسة " ليبرالية الأسعار "بدلا من رقابة الدولة لصالح المستهلكين . بينما أدرك السكان في نهاية المطاف إن الامرليس كذلك . فالقطاع الخاص كما فهمه علماء الاقتصاد ، سيبقى ـــ او بالاحرى يجب ان يبقى ـــ الساحة الرحبة الرئيسية التي فيها تبدأ وتترعرع وتكتمل التنمية . وان الحرية التجارية ( والاقتصادية عموما ) يجب ان تكون مضمونة ابدا. كما انها ستبقى تتطلب تلقائيا العون والدعم من قبل الدولة . وهذه الأخيرة مطالبة بدون شك بتقديم الدعم لرأس المال الوطني الخاص مقرونا بالرقابة الوطنية طالما ان الهدف الرئيسي هو التنمية وإلغاء آفة البطالة في البلاد وتحقيق مصالح المستهلكين . الا ان نجاح هذه المهمة المزدوجة سيتوقف على نوعية وواقعية الإجراءات الحكومية أولا ، ثم على تفاعل كافة القطاعات مع تلك الإجراءات . ونعني بذلك إن القطاع الرأسمالي الأهلي هذا مدعو هو الآخر إلى الانخراط في العملية التنموية والمساهمة النشيطة في تكوين المؤسسات الإنتاجية والخدمية المشتركة والتعاونية . سيما وان البطالة ليس فقط تنهك الأسواق بل وهي بالتأكيد تشكل وضعا خطيراعلى مصير البلاد اجتماعيا وحتى على مكانتها الدولية. الأمر الذي يجب ان يحفز الجميع وبضمنهم أصحاب القطاع الخاص للتعاون مع الدولة لإزالة هذه الآفة الخطرة . وربما هذا المنحى الوطني يشكل شيئا جديدا على السوق العراقية ولكنه برأينا يتماشى والبناء الديمقراطي لعراقنا الجديد . ولعل الوقت قد حان بالنسبة لنا ان نمزج الإنجازات الاقتصادية بالشعور الوطني ونجعل من العراق مثالا للآخرين .وفي هذا تشريف اضافي للعراق. خصوصا وإن إلغاء البطالة في الظروف القائمة في بلادنا يمكن ان تكون الطريق ليس فقط الى التنمية بواسطة استخدام الإمكانيات المالية والعلمية والبيئية والمناخية والموارد البشرية المتوفرة لدينا بل و إلى تحقيق تضافر جهود كافة أطراف مجتمعنا بما في ذلك الحكومة الوطنية ، وهذه الميزة الاخيرة هي بالضبط ما تفتقر له الكثير من الدول وسيكون العراق سباقا لها .
برنامج التنميـــة !
قبل كل شيء إن هدفا يمثل إزالة البطالة من البلاد ضمن عملية التنمية الاقتصادية يعتبرهدفا معقدا في كل المقاييس . ولذا فهو يتطلب برنامجا كاملا تتعهده الحكومة وكافة القطاعات الاجتماعية بدون استثناء . واعتقد إننا سوف لن نجانب الواقع القائم في السوق العراقية إذا ما طالبنا كبداية للعمل بإجراءات تتعلق بتأمين العامل المالي الذي من شأنه تمويل الخطوات الاولى لبرنامج التنمية التي نحن بصددها . وترجمة ذلك ــ برأينا ــ أن تقوم الحكومة باستحداث بنوك قطاعية تخص ميادين الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات المختلفة . وذلك لتقديم القروض الميسرة لاصحاب المصالح المنتجة للسلع الاستهلاكية والمنزلية والمواد الإنشائية والمؤسسات الخدمية وكذلك لذوي الصناعات والورشات الإنتاجية أو للراغبين في استحداثها بغية مزاولة الأعمال الحرة اولأغراض التطوير السريع لها. على أن برنامج مكافحة البطالة يجب ان يشمل كذلك مساعدة الصناعيين في استيراد التكنولوجيا الحديثة كوسيلة لتوطيد مواقع الصناعة الوطنية في كافة المناطق والمدن .وتشجيع أصحاب الورش الصناعية ومحلات الحدادة والنجارة ومعامل الموبيليات والألبسة الجاهزة ثم مدهم بالقروض من البنوك الحكومية وتسهيل حصولهم على اجازات استيراد المواد الأولية لمؤسساتهم اسوة بالتجارالكبار او بالاشتراك معهم . اما بالنسبة للزراعة فلا بد من إعادتها إلى سابق عهدها لتستوعب الآلاف من الأيدي العاملة و العوائل الفلاحية التي شردت من القرى ابان الحكم الهمجي الصدامي . وبهذا الصدد نرى لزاما على الحكومة أن تسخر جل طاقاتها الدبلوماسية والسياسية وعلاقاتها الدوليةالطيبة مع هيئة الامم المتحدة والدول الكبرى والجارة العزيزة تركيا وذلك لتأمين الكميات الضرورية من المياه في دجلة والفرات للزراعة وللمحافظة على المستويات الاعتيادية للمسطحات المائية في البلاد. كما يجب مساعدة المزارعين على اختلاف فئاتهم ورعاية الشركات الزراعية الوطنية التي تعلن رغبتها في المساهمة في عملية انهاض الريف وإقامة المشاريع الكبيرة المتخصصة بإنتاج الحبوب والفواكه وتربية الثروة الحيوانية والدواجن .ولا ينبغي نسيان ان التنمية الزراعية تجر معها التوسع بالصناعات الغذائية و حفظ الاحتياط السنوي في البلاد وذلك لتامين الامن الغذائي اسوة بالبلدان المتقدمة. كماتفترض سياسة مكافحة البطالة قيام الدولة بمساعدة العنصر النسوي في إدارة المزارع العائلية وخاصة في حالة انعدام وجود معيل للعائلة. . ومن الطبيعي ان تضع الحكومة برنامجا يكون نصب عينيه الاهتمام بسكان المناطق الريفية واعمار القرى التي هدمها النظام البائد في شمال وجنوب البلاد وكذلك شمولها بالتطوير والرعاية الصحية ونشر المدارس والمراكز الثقافية الفلاحية.
وهكذا ... و بعد رسم المسار لمكافحة البطالة واقترانها بمشروع التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد لابد ان تنهض مجموعة من الأسئلة حول وسائل التنفيذ ! أي حول الاجهزة التي تتكفل وضع تفاصيل الخطة والتخصيصات المالية والعنصر البشري الذي يقوم بالبناء والاعماربما فيه العنصر العلمي المتخصص واخيرا الجهاز المسؤول عن التنفيذ . وبهذا الصدد وانطلاقا من التجارب العالمية و المحلية واعتمادا على الخاصية العراقية في ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري وظفر الشعب بالحريات السياسية والأجواء الديمقراطية لصالح الجماهير والمكونات السياسية التي تمثلها يتهيأ لنا ان مهمة الغاء البطالة بواسطة التنمية عموما يجب ان توضع على عاتق الهيئات القيادية المؤثرة في المجتمع جميعا بدون استثناء. فالخطط الحكومية "التنموية" والتخصيصات لها ــ كما هو معروف ــ كانت توضع في السابق تحت اسم المنهاج الاستثماري وبمعزل عن المكونات الاقتصادية والسياسية الأهلية . ولذا كانت بذات الوقت ناقصة ومبتورة ناهيك عن مشكلة تنفيذها الذي لم يحدث له ان تحقق في سنة من السنوات . في حين إننا اليوم نطمح أن تكون الخطط الاقتصادية واقعية من حيث محتواها وناجحة من حيث تنفيذها وهذا مما يدفعنا إلى الرجوع مرة اخرىالى الكيانات السياسية كطرف فعال في المجتمع . فالمتعارف عليه في كل تاريخ العراق الحديث إلى ما قبل سقوط الطاغية ان الأحزاب السياسية كانت تضع لنفسها برامج اقتصادية واجتماعية وهي منعزلة عن بعضها البعض ومنعزلة كلها عن الدولة. ولذا لم تكن تلك البرامج ذات فاعلية تذكر . وبما ان الفكر الاقتصادي لا يجب ان يبتعد عن السياسة نعتقد ان الواجب الوطني في الظروف العراقية القائمة يفترض صياغة برنامج اقتصادي موحد يجمع برامج الأحزاب والبرنامج الحكومي ( ونعني بهذا حصرا الاشتراك النشيط من قبل وزارة التخطيط والمالية اللتان من المفروض ان تحتفظا بالخطط الأولية لجميع الوزارات) . وبهذا سيقدم العراق مثالا فريدا ليس فقط في مجال مكافحة البطالة وفي تحقيق التنمية بل وكذلك نموذجا عراقيا للعمل الوطني الجماعي يتناسب ــ برأينا ــ والثروة العلمية المتوفرة لدينا باعتراف كافة دوائر الاختصاص في بلادنا . الدكتـور عبد الزهــرة العيفاري
#عبد_الزهرة_العيفاري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسودة مشروع برنامج اقتصادي لعراقنا الجديد
-
lمشروع برنامج اقنصادي
المزيد.....
-
-خفض التكاليف وتسريح العمال-.. أزمات اقتصادية تضرب شركات الس
...
-
أرامكو السعودية تتجه لزيادة الديون و توزيعات الأرباح
-
أسعار النفط عند أعلى مستوى في نحو 10 أيام
-
قطر تطلق مشروعا سياحيا بـ3 مليارات دولار
-
السودان يعقد أول مؤتمر اقتصادي لزيادة الإيرادات في زمن الحرب
...
-
نائبة رئيس وزراء بلجيكا تدعو الاتحاد الأوروبي إلى فرض عقوبات
...
-
اقتصادي: التعداد سيؤدي لزيادة حصة بعض المحافظات من تنمية الأ
...
-
تركيا تضخ ملايين إضافية في الاقتصاد المصري
-
للمرة الثانية في يوم واحد.. -البيتكوين- تواصل صعودها وتسجل م
...
-
مصر تخسر 70% من إيرادات قناة السويس بسبب توترات البحر الأحمر
...
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|