سامي سعد عزيز
الحوار المتمدن-العدد: 1366 - 2005 / 11 / 2 - 13:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عندما يتحول الفكر الديني إلى وسيلة لتكريس التبعية والطاعة السلبية لمن يملكون السلطة باعتبارهم أولي الأمر ,عندما تكون السلطة الأبوية هي السلطة العليا لا سلطة المنطق , عندما ينتفي عن الإنسان صفة
العقلانية لصالحة صفة الانصياع , عندما تتسع ثقافة الاستقصاء والاستبعاد ورفض الآخر ,عندما يتحول الدين إلى وسيلة للتجنس , عندما تتحول علاقة الإنسان بربه إلى علاقة قائمة على الترهيب والتخويف ,عندما يتحول الحكم على الأشياء إلى منطق الحلال والحرام ........ عندما يحدث ها كله فإننا حقا بصدد لحظة انكسار تستلزم من جميع القوى الفاعلة بالمجتمع الوقوف لمواجهتها . بالطبع لن تكون المواجه سلسة, ولكن لن تكون مستحيلة . وأول خطوة على طريق هذه المواجهة تتم عن طريق توجيه الفكر الديني لينطلق لا من منطق الهيمنة والسيطرة ,و لكن من منطق خدمة الإنسان وتنميته والمساهمة في خلق الإرادة الإنسانية الحرة المستقلة الساعية إلى خدمة المجتمع ككل . و هكذا يمكن أن يتحول جوهر الفكر الدين إلى التركيز على خدمة الإنسان والمجتمع .
الإشكالية التي الذي تطرح نفسها بشدة هنا تتمحور في ماهية العلاقة بين الإنسان وتنمية مجتمعة من جهة والفكر الديني وتوجهاته من جهة أخرى وهو ما سنحاول إيجازه من وجهة نظر مسيحية.
الإنسان هو نواة المجتمع, وهو هدف ووسيلة عملية التنمية وإذا لم تتوفر لدية ما يعرف بإرادة التنمية التي يطلق عليها الدكتور عمر محي الدين في كتابه" التخلف والتنمية الاقتصادية" مصطلح “Will to development” فانه من الصعب أن تأتي محاولات التنمية بأي ثمار ايجابية وهذه الإرادة وفقا للدكتورة منى الطحاوي أستاذ الاقتصاد, لها ثلاث أركان
الركن الأول: الوعي بقضية التخلف وأبعادها المختلفة
الركن الثاني:الوعي بضرورة القضاء على التخلف والقيام بالتنمية
الركن الثالث: الوعي بالمتطلبات الضرورية والوسائل المستلزمة لتحقيق التنمية
الأركان الثلاثة السابقة تؤكد محورية الإنسان في عملية التنمية فهو من يدررك أهميتها ويصر على تحقيقها ويسخر إمكاناته وطاقات المجتمع في سبيل ذلك ليستفيد من نتائج تحقيقها في معيشته , وهو أيضا ما وصل إليه عالم الاجتماع الدكتور محمد الجوهري في كتابه "علم الاجتماع وقضايا التنمية في العالم الثالث" حين عرف التنمية بأنها " هي عملية تغير دينامية- متصلة وواعية- موجهة تتم في إطار معين وترتبط بازدياد أعداد المشاركين من أبناء الجماعة في دفع هذا التغيير وتوجيه وكذلك في الانتفاع بنتائجه وثمراته وتنطوي على توسيع مجالات القدرة الإنسانية والنشاط الإنساني وتوظيف جهود الكل من اجل صالح الكل خاصة تلك القطاعات والفئات الاجتماعية التي حرمت في السابق من فرص التقدم والنمو"
فعملية التنمية تغيرات جذرية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية تساندها.وهنا يأتي دور المنظومة الفكرية الثقافية في تحقيق التنمية وخلق مناخ عام مهيئا لدفعها إلى الأمام. وبالحديث عن الدور التنموي للمنظومة الفكرية الثقافية فانه يجب التركيز على الفكر الديني كأحد أهم عناصر الثقافة الاجتماعية المهيمنة – الثقافة الدينية- والذي يهتم جانبا منه بالتنظير والتفكير في السلوك البشري في إطار التعاليم الدينية والمعتقدات السائدة والتي تمثل حدود الفكر باعتبارها جزءا من أبعاد النظام الاجتماعي ككل.
:
• الدور التنموي البنيان المؤسسي المسيحي
يقصد بالبنيان المؤسسي المسيحي بالأساس البنيان الكنسي وما يتبعه من جمعيات تنموية وهى جميعا تمثل احد أشكال المجتمع المدني إذا أخذنا في الاعتبار أن المجتمع المدني وكما يعرفه الدكتور مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بأنه" هو كل ما يوجد في دولة معينة خارج مؤسساتها أي كل ما ليس جزءا من التنظيم الحكومي سواء على المستوى المركزي أو المحلي,أي انه يضم النقابات المهنية والعمالية,وتنظيمات المنتجين سواء كانوا من أصحاب المشروعات الصغيرة أو الكبيرة, في الزراعة أو الصناعة أو الخدمات, كما يضم التكوينات شبه التقليدية والتي تشمل المؤسسات الدينية ( المسجد والمعبد والكنيسة) والمؤسسات العشائرية والقبلية "
وقد أصبح يعقد العديد من رجال الفكر وقادة المجتمعات أمالا كبيرة على أن يلعب هذا المجتمع المدني دورا أساسيا في إحداث التنمية بعد ثبوت فشل الدولة بأجهزتها المختلفة في تحقيق الإصلاح والتنمية بمفردها بعيدا عن القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني
يكتسب البنيان المؤسسي المسيحي أهمية كبرى، في ظل ثقافة اجتماعية تتجه نحو الدين, والاحترام لكافة أنواع التمظهر الديني-. أيا كانت تقديرنا لذلك- وهذه هو سر من أسرار فاعليته هذا البنيان في الوسط الجماهيري. إنه يندمج في النسج الاجتماعي، محتفظاً بتميزه الذي يأخذ طابع الهوية القدسية بناء على رسالته الأساسية( التعاليم والشعائر الدينية)، والتي تشكل بدورها عامل جذب لا يستهان بها ,لذلك بدأت الدولة تعتمد عليه إلى حد كبير في الساحة ذات البعد الإنمائي.
تطبق الكنيسة منهجية تنبع من التعاليم الكتابية التي تفتح الباب للتفكير في خدمة المجتمع وتعميق إرادة التنمية وهذا يتضح من خلال الأتي :
التوجه الكنسي الكتابي نحو العالم المادي
كثيرا يتردد مقولة " مملكتي ليست من هذا العالم " لتجعل الناس طبقا لتفسيراتهم أو طبقا لتفسيرات وجدت من قبل بعض من يريد تحجيم دور الكنيسة وحجبها عن التفاعل مع المجتمع عبر إبراز الكنيسة كمؤسسة منعزلة عن العالم المادي المحيط تنتحي جانبا روحيا خالصا وتعيش بمعزل عن المجتمع. وبالتالي فهي تتقوقع ولا تتوافق مع احتياجات المجتمع ولا تتفاعل مع مشكلاته ومن ثم يتحول جميع المسيحيين المندرجين تحت لواء هذه المؤسسة إلى أشخاص لا يتوافق دورهم في حياتهم اليومية مع المجتمع أو يعانون من انفصام, فهم في الكنيسة شيء وفي المجتمع شيء أخر .
هذا التصور هو احد الأفكار المغلوطة التي تشيع عن التواصل المجتمعي للبنيان الكنسي, ففي الواقع الموقف الكنسي من الواقع المادي المحيط واضح جدا ويمكن بلورته في عدة نقاط :
• العالم المادي بكل ما فيه خلقه الله وان كل ما يصنعه الله حسن جدا فلم يخلق الله إلا ما هو صالح
• الخليقة ليست مستقلة عن الله, لكنها تعتمد عليه و والله يهتم بها , فهي تحكي بروعة الخالق العظيم
• الفكر الديني المسيحي يساند الطموح المادي للإنسان متى كان ضمن خطة الله أي يتم تحقيقه بأسلوب شريف ولا يسمح بطغيان الطمع أو بسيادة المال لتحل محل مكانة الله في حياته
• مشكلة القداسة ليست في التقوقع عن العالم حيث يمكن للإنسان أن ينعزل عن العالم بمكان ما, لكن رؤى وتجارب الشر تتابعه حيث يكون
• أن المواطن ينتمي إلى وطنين غير منفصلين هم وطن سماوي ووطن ارضي.وان الارتباط بالوطن الأرضي إرادة إلهية مقدسة
• أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي خلقه الله على صورته فهو رب الخليقة وضامن استمرارية عمل الخلق و متابعته وإدارته وتحويل هذه الخليقة إلى طاقة إنتاجية وذلك عبر إقامة علاقات مختلفة مع الله و مع الناس و مع الإطار البيئي المحيط
و من هنا وعلى الرغم من الفصل بين ملكوت الله وملكوت العالم إلا انه خضوع الدولة للسلطة الإلهية يجعل للشعب مسئولية مزدوجة تجاه الدولتين
التواصل المجتمعي والفئات المستهدفة
الفكر الديني المسيحي في تواصله مع المجتمع من خلال مؤسساته المختلفة يتبع رؤية تقوم على أسس عقيدة الخلق للكون وعقيد ة الفداء والتي ترى أن كل البشر أخوة فالكنيسة تنتهج منهجية تؤكد على ضرورة ترسيخ مفاهيم المسئولية الاجتماعية والدعوة لتحقيق العدالة الاجتماعية وهو ما يمكن إيضاحه في عدة نقاط :
- الناس متساوين أمام الله في مسئوليتهم ,فلم يميز الله بين الناس في قيمتهم البشرية فخلقهم على صورته
- الكل أبناء الله وموضع اهتمامه رجال نساء ببيض سود كبار صغار مسلم يهودي أو مسيحي أو بوذي أو ملحد إلى غير ذلك
- قصد الله وجود اختلاف بين الواحد والأخر في إمكاناته وصفاته وخصاله ونمط حياته ليكمل كل منهم دور الأخر في خليقة الله
- قيمة الإنسان هي في أن يضيف ويأخذ دوره من خلال العمل من اجل الجميع وللمصلحة لعامة فالله يساعد من يساعدون أنفسهم وانه كلما تقدم العلم كان دور الإنسان مصنفا حسب مهارته وقوته وكفاءاته
- عهود الله مع الجماعة وليس مع افرد فكل العهود كانت مع قادة الجماعات لتطبيق ما هو صالح للجماعة وأفرادها
- عهود الله هي عهود تسعى إلى تنظيم الشعب ليكون متماسك ومترابط سياسيا واجتماعيا واقتصاديا تحكمه وصايا تركز على نمط العلاقات الاجتماعية والقيم السلوكية التي يجب أن تحكم هذا الشعب
- ملكوت الله تضمن نظام اجتماعي وسياسي فيه الشعوب مواطنون لا رعايا
و من هنا فان الشعب التي ترصده البنيان المؤسسي المسيحي سعيا لخدمته يتسع ليشمل كافة الخليقة بالتعاون مع أبناء الرب الذين يمكن تعريفهم بأنهم" هم المسئولون عن التنمية الذاتية لأفراد المجتمع ليكونوا على مستوى المسئولية لخدمة البيئة في كافة مجالات حاجتها وهم مسئولون أيضا عن الانطلاق لخدمة البيئة بحسب حاجاتها وذلك لخدمة الإنسان وتحرير الإرادة الإنسانية, وهو ما يجسد الأركان المختلفة لعملية التنمية الشاملة والتي تشمل مساعدة المرضى وكبار السن و ذوي الاحتياجات الخاصة والفقراء والمهمشين, تطوير نظم العمال, الوعي بالمشكلة السكانية والاهتمام بقضايا المرآة والاتجاه إلى التمكين بالوقوف إلى جانب الإنسان حتى يصبح قادر على مساعدة نفسه بنفسه
أهم المعوقات:
• ترديد بعض المقولات التي تقلل من حجم الدور الاجتماعي للكنيسة في المجتمع دون البحث في صحتها
• محاولة إثارة بعض الهرطاقات والقضايا الهامشية المتعلقة بالجانب المسيحي وقادته بغية تحويل اهتمامها من جانب الاهتمام بقضايا المجتمع وخدمته إلى الانشغال بقضايا أخرى
• محاولة الإساءة إلى الأدوار التنموية التي تقوم بها الكنيسة أو الهيئات المسيحية من جانب بعض وسائل الإعلام والتشكيك الدائم في نوياها الأمر الذي يمس في كثير من الأحيان الانتماء والولاء الوطني وصحة العقيدة الدينية وهو الأمر الذي يعوق عملها التنموي الذي يستهدف فئات بسيطة يسهل خداعه بمثل هذه الأمور الكاذبة
• التحولات المفاجئة والسلبية في أفكار الرواد المناصرين للدور الكنسي في المجتمع ولمفهوم المواطنة بعيد عن أي منطق عقلاني الأمر الذي جعلهم يبدو كمجموعة مرتزقة
• الإستاتيكية والجمود الذي يقترب في كثير من الأحيان إلى السلبية في مواقف المؤيدين للدور التنموي للبنيان الكنسي والهيئات الدينية
#سامي_سعد_عزيز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟