|
كان عندنا وطن لم يدنسه توحيدهم
محمد سرتي
الحوار المتمدن-العدد: 4996 - 2015 / 11 / 25 - 16:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كان عندنا وطن لم يدنسه توحيدهم لم نكن نبحث عن تاريخه كثيراً في الكتب، فقد كانت أحجاره تحدثنا بلغة أفصح. كانت كل شجرة عتيقة كتاب. كل خربة، منزل نصف مهدم، زقاق، سوق شعبي، حائط مهتريء يستظل تحته الفقراء، كلها شواهد حية تنطق بلغات ولهجات ماتت وانقرضت منذ قرون، ولكنها بالنسبة لنا كانت لا تزال مفهومة. هنا كان يسير أبو سفيان، وهناك كان يجلس أبو لهب. أما هنا في هذا البيت... هنا ولد النبي... هنا خرج جسده الشريف إلى هذه الدنيا. هنا تزوج بالعظيمة أم العظيمة. هنا عاشا اقدس قصة حب. هنا ولدت له أقدس امرأة في التاريخ؛ فاطمة الزهراء. الإمامة فاطمة. نعم، الإمامة، وإن كان هذا اللقب يستفز المصابين برهاب النباح البدوي، المصاب بدوره برهاب قيادة المرأة لأي شيء، ولكن إن لم تكن إمامة هي أم الأئمة فماذا تكون إذاً؟ هنا دار الأرقم حيث كان يجتمع بأتباعه بعيداً عن أعين المباحث. هنا مشت قدماه الشريفتان، ربما تكون حبة الرمل هذه حفيدة تلك التي لامست قدميه. هنا ضربوه، هنا شجوا رأسه، هنا شتموه، كذبوه، لعنوه، بصقوا في وجهه، قذفوه بالأحذية، استهزءوا به، أهانوه، طردوه، حاصروه حتى كاد يموت جوعاً. هنا دلقوا على رأسه قاذوراتهم وهو ساجد في صحن الكعبة. وهنا كان غلمانهم يرجمونه بالحجارة حتى نزفت قدماه. أما هنا، قرب هذه الصخرة، كان يبكي متضرعاً إلى ربه "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" ويقول لصاحبه "لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً" هنا فهمنا فكرة التوحيد التي بشرنا بها. لم تكن عقيدة، بل نبوءة تحققت بعد وفاته. كنا نراها تتحقق كل يوم أمام تلك الشواهد الصامتة. حين كانوا يأتون من كل مكان ليطوفوا بها ثم يقفون أمامها صامتين، لا يتحدث أحدهم مع الآخر، لا يفهم أحدهم صاحبه، فكل يتحدث بلغة مختلفة، ولكن وحدها تلك الأحجار كانت تتحدث بلغاتهم جميعاً، وتحدثهم جميعاً بلغة واحدة يفهمونها. كل حجر كان يحدثهم عن تجربته الشخصية مع ذلك الرجل العظيم الذي كتب لغاتهم جميعاً بأبجدية واحدة، أبجدية توحيدهم تحت مظلة واحدة، قبلة واحدة، أمة واحدة. كان ينتظرهم دوماً تحت قبته الخضراء التي لم يقفل يوماً في وجههم بابها، لم يضع يوماً بينه وبينهم حرس حول سياجها، فكانت فتحات السياج بواباتنا نحو الوطن الحي، نحو الإنسان الخالد. تبدأ الرحلة حين تلتصق اجسادنا بالسياج التصاقة عشيقين. تتشابك أصابعنا بأصابعه، لتتقمص العين شكل الفتحة المحيطة بها. عندها يبدأ ضريح النور في الظهور من وسط الظلمات، فلا يلبث يختفي الضريح ليظهر مكانه الإنسان. ابن الإنسان. ابن الله. ينظر إلينا جميعاً نظرة واحدة فيظنها كل منا موجهة إلى شخصه. كل منا جاءه محملاً بأثقال دنياه لنضعها بين يديه، أو ربما على عاتقه، فإذا به يطل علينا بثيابه المهترئة، المرقعة، وحجر الجوع مربوط على بطنه. لونه شاحب من أثر سم الأفعى. آثار الجراح في قدميه لازالت ظاهرة، وكذلك هو الشج في جبينه، والشق في وجنته، فنستحي من أحمالنا الضئيلة ونحجم عن إلقائها، فيبتسم لنا برباعيته المكسورة "لا عليكم، فوظيفتي هي الشفاعة/الفداء" وعلى مرمى حجر يرقد بقية أبطال المسلسل في بقيعهم. مسلسل بطول التاريخ. مئات الألوف من الحلقات المقسمة إلى مئات الأجزاء. لكل جزء بطله وشخوصه وقصته التي تبدو مختلفة، ولكنها في الحقيقة تحكي مع زميلاتها نفس الرواية، نفس المكان، نفس الوطن الحي. فعندما تغمض عينيك امام أحد تلك الأضرحة تفاجأ بأنهما لاتزالا مفتوحتان. فهذه نفس الشجرة، والحائط ذاته، حتى العصافير، وهذه الحمامة، والقطة التي تركض خلف أختها، وبطل الضريح إنسان مثلك، يشبهك إلى حد كبير، ولكنه إلى حد أكبر يشبه صاحب القبة الخضراء. المدينة نفسها ولكنها قديمة: البيوت قصيرة قليلاً، هنالك شارع لم يولد بعد، المواصلات لازالت بيولوجية، الإنارة تحتاج إلى شيء من التقوية. اما الشارع الرئيسي فيحتاج إلى رصيف، وسفلتة، والبعض من الكماليات. ولكن الإنسان لازال كما هو؛ المخلوق الوحيد الذي يحاول تقمص دور الخالق! هل ثمة من أقنعه بقدرته على ذلك؟ ألم تقنعه كل هذه الأضرحة باستحالة الخلود؟ لماذا لا يسلك سلوك الحمامة، يعيش ليأكل ويأكل ليعيش؟ ما الذي يريده من العبث بمسيرة التاريخ؟ لماذا يقاتل لصناعة مستقبل لن يعيش ليراه؟ ماذا استفاد صاحب هذا الضريح من جهاده، نضاله، ألمه، معاناته، ودمائه التي سالت فوق البعض من هذه الأحجار؟ افتح عينيك لتعرف ماذا استفدت أنت من صاحب الضريح، ولتعرف أيضاً ما الذي عليك فعله ليبقى الإنسان الخالق حياً، خالداً، لا يموت إلا إذا مات الوطن. كان عندنا وطن... يوم كان عندنا ضريح.
#محمد_سرتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
معجزة التشهد الأخير
-
أم المؤمنين امرأة نوح وامرأة لوط وامرأة محمد
-
أنطولوجيا الحسين وميثولوجيا الخلاص
-
أصل العائلة وإرادة الخلود2
-
أصل العائلة وإرادة الخلود1
-
للخروج من مأزق الرافعة... الإلحاد هو الحل
-
تحطيم الحدود...دعاية داعش الكبرى
-
هرطقات صوفية: هل القرآن كلام الله أم الشيطان؟
-
من قال إن الله لا يحب الملحدين؟!
-
قوم لوط
-
الشعب السعودي
-
التاريخ الإسلامي وصناعة الكذب
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|