|
مصر زعلانة منك
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 4992 - 2015 / 11 / 21 - 12:41
المحور:
المجتمع المدني
هذا رجل يدّعي، كذبًا، أن مُضطهدٌ في بلاده اضطهادًا دينيًّا أو فكريًّا أو سياسيًّا أو عِرقيًّا أو اجتماعيًّا ليحصل على ڤ-;-يزا لجوء ديني أو سياسي إلى دولة أوروبية، ويسافر بتذكرة ذهاب بغير عودة، وهو فرحٌ مسرورٌ حتى ولو عمل هناك عاملا بسيطًا في محطة بنزين، بعدما كان محاميًّا هنا، أو كاشير في محل هبمرجر، بعدما كان طبيبًا هنا، أو حتى عامل نظافة في المراحيض العامة، بعدما كان هنا يتعالى على عمال النظافة وينظر إليهم من “طرطوفة مناخيره”. يكمل العامين دون أن يجرؤ على مجرد التفكير في زيارة أهله وعشيرته وأصدقائه وحبيبته ربما، في مصر، إلى أن يكرمه اللهُ، والسلطاتُ الأوروبية فيحصل على الأوراق التي تمكّنه من الاستمتاع بمزايا الغرب من تأمين صحي ومعاش وحقوق آدمية وغيرها، ويا سلام لو التزم شويتين وحصل على الجنسية، إذن سيضمن أن يكمل حياته في الغربة هانئًا قرير العين ويتزوج وينجب صبيان وبنات يكبرون ولا يعرفون بلد أبيهم ولا لسان أبيهم ولا تاريخ أبيهم. ومع الوقت ينسى هو ذاته تاريخ التعس وطنه المتعوس وأيام وطنه الهباب ولسان حاله يقول كلما مرّت بخاطره: "الله لا يرجعها أيام!" وهذا رجلٌ آخر يحصل على ڤ-;-يزا شنجن سياحة ثلاثة أشهر، يقضيها في أوروبا، منبهرًا مشدوهًا أول الأمر، ثم مسرورًا مستمتعًا، ثم فقيرًا مستدينًا، ثم بائسًا متسوّلا في نهاية المطاف، لكنه أبدًا لا يفكر في العودة لبلده، بل يكسر الڤ-;-يزا، ويكمل شهره الرابع ثم الخامس، متخفيًّا من سيارات الشرطة ومن عيون رقابة أحوال المغتربين، حتي يتمكن من تسوية أموره بشكل أو بآخر. وحين تسأله عن وطنه الأم يقول لك: “يا عم افتكرلنا سيرة عدلة!” تتعدد الأسباب التي ينجح بها مصريون في "الفرار" من بلادهم إلى بلاد أجمل وأرقى وأنظف وأسعد حظًّا، حتى ولو كان السبيل أن يُلقي المرءُ بنفسه في مياه البحر سعيًا في هجرة غير شرعية حتى تتلقفه شواطئ الغربة ركضًا وراء حلم الفرار من الجحيم إلى الفردوس. جميع تلك الحالات تقول: “أنا زعلان من مصر، ونفسي أهرب منها النهارده قبل بكرا.” تعال نسأله: “طيب ليه زعلان من مصر يا عم الحج؟" تأتيك الإجابة كرصاص من مدفع رشاش لا يتوقف: “ظلم وفساد وفقر وبطالة وفهلوة وعدم احترام قانون ومرور خربان وجبال قمامة وطرق مهشمة وأرصفة أكلتها الإشغالات ودواء فاسد وهواء ملوث ومياه شرب ومزروعات مسرطنة بالمبيدات وسحب سوداء وكوارث وضحايا بشرية بسبب شوية مطر وعدم احترام للطفل ولا لكبار السن ولا للمعوقين ولا للمرأة وتحرش بالإناث واضطهاد للأقليات الدينية والعرقية وفن هابط وركاكة سمعية وبصرية أينما ولّيت شطرك وتزوير في الانتخابات وشراء ذمم ورشاوى في كل درج مكتب وفقر فاضح في مقابل ثراء فاضح وبلطجة في الطريق وأطفال شوارع يتناسلون تحت الكباري فيُنتجون أطفال شوارع جددًا وفتيات يقتتن من بيع أجسادهن وتسرّب من التعليم، وانهيار في منظومة التعليم التي يُتسَّرب منها، وانحطاط في المحليات والمجالس المدنية والعيشة واللي عايشينها...... زعلان قوي من مصر. ولكنه ينسى دائمًا أن يحدد لنا إن كان زعله من الحكّام، أم الحكومات، أم المحافظين، أم رؤساء الأحياء، أم المواطنين العشوائيين، أم الشوارع المهشمة أم الجو الحر والممطر والهواء الملوث بعوادم السيارات والمصانع والماء المليء بالشوائب، أم العنصرية والتطرف أم أصحاب الذمم الخربة أم أم أم …. ثم أنه ينسى أيضًا أنه هو من أتى بهذا الحاكم أو ذاك، وأنه يشبه هذا المحافظ أو ذاك، وأن رئيس الحي المرتشي من نفس طينته وقد يفعل مثله لو واتته الفرصة، وأنه هو وآباؤه وأولاده من هشّموا الشوارع وخربوا الأبنية ولوثوا الهواء بعوادم مصانعهم وسياراتهم، وأنه هو وأقرباؤه من وفوضوا المرور ولم يحترموا القانون وتحرشوا بالبنات ومارسوا العنصرية والتطرف مع جيرانهم وزملاء عملهم وووو. أين "مصر" من كل ما سبق؟ مصر تراقبنا وتصبر علينا صبر الأم على ابنها العاق الجاحد. مصرُ ليست هي الحاكم المستبد، ولا الحكومات المترهلة الكسول، ولا هي المحافظين الفاسدين ورؤساء المحليات المرتشين. مصر لم تدمّر تعليمها وتتدنى بفنونها ولم تلوّث ماءها وتسمم هواءها وتسرطن أرضها، ولم تتحرش ببناتها ولم ترتكب إثم العنصرية ضد أحد من أبنائها. الحقُّ أن مصر هي التي يجب أن تزعل منا لأننا فعلنا بها الأفاعيل تلك دون أن يطرف لنا جفنُ ندم أو تختلج فينا خلجةُ حياء. نحن الفاسدون المرتشون الغوغائيون الأميون الفوضويون، لا مصر. نحن أكثر شعوب الأرض غناءً لوطننا، وأقل شعوب الأرض حبًّا لهذا الوطن. لم أسمع عن أغنية وطنية ألمانية غنّاها الألمانُ لألمانيا، لكنهم يحبون وطنهم. ولم أسجل عن اليابانيين أغنية تشيد بأمجاد اليابان، لكنهم يحبون بلادهم. نحن الذين استلمنا مصرَ متحضرة راقية من أجدادنا، فلم نقدر، وربما لم نُرد، أن نحافظ عليها كما تسلّمناها، بل مرمطنا رأسها في التراب حتى علقت بذيل قائمة العالم في التحضر والجمال والنظافة واحترام الآخر. نحن الذين لن ينسى لنا التاريخُ ما فعلناه بهذه الأرض الطيبة. والتاريخ، لمن لا يعرف، عادلٌ وقاس، لا يعرف الرحمة، ولا يعترف بثقافة درجات الرأفة. مصر زعلانة منك ومني ومن تلك القطفة المعطوبة من شعبها منذ الثمانينات الماضية وحتى أجل لا يعلمه إلا الله. فليتحسسْ كلٌّ منّا رأسه.
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شاهدْ الهرم... ثم مُتْ
-
مَن كان منكم بلا إرهاب، فليضربنا بحجر
-
محاضرة من القرون الوسطى
-
تعليم خفيف الظل
-
أيوا مصر بتحبك
-
السيسي وحده لا يكفي!
-
رحلة جمال الغيطاني الأخيرة
-
لماذا تسمونها: معركة انتخابية؟
-
المُغنّي والزعيم... وشعبٌ مثقف
-
عسل أسود
-
المال مقابل الكرسي
-
جمال الغيطاني... خذلتني
-
قانون مكافحة التجهيل العمدي
-
هكذا الحُسنُ قد أمر
-
ما العلمانية؟
-
سجينة طهران
-
السلطان قابوس والاستنارة
-
حزب النور سنة 1919
-
السيف والرمح والقرطاس والقلم
-
المراجعات على نهج ناجح إبراهيم
المزيد.....
-
الأمن الروسي يعلن اعتقال منفذ عملية اغتيال كيريلوف
-
دراسة: إعادة اللاجئين السوريين قد تضر باقتصاد ألمانيا
-
إطلاق سراح سجين كيني من معتقل غوانتانامو الأميركي
-
إعلام الاحتلال: اشتباكات واعتقالات مستمرة في الخليل ونابلس و
...
-
قوات الاحتلال تشن حملة اعتقالات خلال اقتحامها بلدة قفين شمال
...
-
مجزرة في بيت لاهيا وشهداء من النازحين بدير البلح وخان يونس
-
تصويت تاريخي: 172 دولة تدعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير
-
الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قرارا روسيا بشأن مكافحة ت
...
-
أثار غضبا في مصر.. أكاديمية تابعة للجامعة العربية تعلق على ر
...
-
السويد تعد مشروعا يشدد القيود على طالبي اللجوء
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|