|
ملاحظات ما قبل المؤتمر: حول مصائر اليسار الجذري
مجدي الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1364 - 2005 / 10 / 31 - 10:58
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
استطاع الحزب الشيوعي السوداني، عبر تاريخه قصير العلنية وفائض السرية، أن يعقد أربعة مؤتمرات عامة مثّل كل واحد منها قفزة نوعية في حياة الحزب الداخلية وفي حلزون تقدم رؤاه النظرية وممارسته السياسية. على هذا الدرب خاض الحزب صراعات داخلية مريرة لكنها ايجابية إذ مكنت وفق شروط التاريخ الخاص بكل منها من تجذير وتطوير تصور الحزب لنفسه ولدوره الاجتماعي كتيار سياسي منافح عن مصالح غمار السودانيين يأخذ بالماركسية منهجاً للعمل. ولقد لخص الأستاذ عبد الخالق محجوب رؤية الحزب الكلية للصراع داخله بتقريره أن الصراع الداخلي لا يمكن النظر إليه بمعزل عما يدور في اوساط المجتمع من صراع طبقي وأن كل تيار داخل الحزب إنما يعكس فكر طبقة خاصة أو دائرة اجتماعية معينة، ثم بتأكيده أن الصراع الداخلي يجب ألا يصرف الحزب عن مهامه الشعبية وأن الخط السياسي السليم يُمتحن بين الجماهير وليس في المناقشات وحدها (عبد الخالق محجوب، لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، ط3، دار الوسيلة، الخرطوم، 1987، ص 74 و122).
لعل في قول محجوب ما يسعف المشفقين على الحزب من التصدع جراء الإقدام على عقد مؤتمره الخامس بعد مرور ما يقارب الأربعين عام من مؤتمر 1967 . خلال هذه الأعوام عبرت البلاد من شمولية إلى شمولية تفصلهما قنطرة قصيرة من ديمقراطية الطوائف وفي الإثنين كان الحزب الشيوعي والتنظيمات الديمقراطية عموماً هدفاً للقمع والإقصاء. ليس القصد الدفاع عن الحزب ومواقفه في كل حين ومرة فهو مؤسسة اجتماعية كغيره تنطبق عليه كافة شروط الحال السوداني ولا يشذ عن ظروف وإملاءات التربة التي فيها تنغرس جذوره إلا بطاقة الوعي والارادة؛ وهذه لا تسقط من سماء القدر بل تتولد من رحم الواقع الاجتماعي الحي. صدرت عدة تصريحات من قيادة الحزب عن التحضيرات الجارية لعقد المؤتمر الخامس، ومعلوم أن تحقيق مهمة كهذه لا يتطلب فقط الرغبة بل لابد في المقام الأول من توفير التمويل الكافي وبطبيعة الحال تنشيط القواعد الحزبية وقنوات الصلة بين مركز القيادة وأطراف الحزب وتصعيد العضوية المشاركة في المؤتمر حسبما تحدد ذلك الاجراءات الديمقراطية الداخلية. هذا إذا كان المطلوب عقد مؤتمر عام فعلي وليس مهرجان سياسي تشهده القيادات! إذن ليس من داع لتوبيخ الشيوعيين السودانيين على تأخير موعد انعقاد المؤتمر ما دام الهدف إتمام التحضير الجيد وإكمال الهياكل التنظيمية المفضية إلى المؤتمر العام، والتي دونها يصبح الحزب الشيوعي طائفة أخرى تستطيع بإشارة شيخها أن تجمع مناديب من كل صوب دون تفويض مؤسسي ليعقدوا اجتماعاً كبيراً يعمدونه مؤتمراً عاماً.
مما لا شك فيه أن قهر الشمولية المتجددة فرض على الحزب الشيوعي ركوداً تنظيمياً شديد الأثر باعد بينه وبين القيام بكم مهول من الواجبات المنزلية (homework) التي تراكمت عبر السنين وقد ابتدر الحزب مواجهة هذه القضايا بعيد انتفاضة ابريل 1985 بالعمل على إنجاز تقييم انقلاب 19 يوليو 1971 الذي أصدرته سكرتارية اللجنة المركزية في يناير 1996 رغم عنت السرية والملاحقة. من جهة أخرى دشن الحزب تحت نفس الشروط مناقشة عامة ثرة أول محاورها أزمة الماركسية بما هي المنهج النظري الذي استندت عليه التجارب الاشتراكية على الطراز السوفييتي. القضية ذات أهمية محورية لا جدال لكن ليس فقط لدوافع النقد الذاتي والمراجعة النظرية لمواقف وقناعات الماضي، والتي كادت تصبح تطهرية فجة عند البعض الذين بدلوا يقين حتمياتهم الاشتراكية بيقين الخلاص الرأسمالي ونهاية التاريخ. على العكس من ذلك يأخذ الهم الاشتراكي قيمته من أزمة الرأسمالية ذاتها وضرورة منازلتها مجدداً. في هذا الإطار سجل الأستاذ محمد إبراهيم نقد مجموعة من الملاحظات النقدية عدد فيها ملامح وسمات للفقه الماركسي دحضها فشل التجربة السوفييتية: دخول الرأسمالية المرحلة الثالثة لأزمتها العالمية؛ تناقضات الرأسمالية تقود حتماً إلى النظام الاشتراكي؛ على هدى الماركسية اللينينية استطاعت الشعوب أن تنهض بمهامها وأن تبني النظام الاشتراكي ثابتاً لا مكان لعوامل الرجوع فيه؛ تضع الاشتراكية السلطة بين أيدي الجماهير الكادحة بقيادة الطبقة العاملة؛ لم يقم نظام اشتراكي بلا حزب ماركسي؛ عناصر الديمقراطيين الثوريين تقود المجتمع إلى بناء قواعد التحول الاشتراكي لكن لا بد لها أن تقترب من الفكر الماركسي (محمد إبراهيم نقد، مبادئ وموجهات لتجديد البرنامج، ط1، دار عزة، الخرطوم، 2001، ص 54).
ما سبق يشرح جانباً من عجين الجمود في الماركسية، والحقيقة ليس صراع الماركسيين مع تيارات الجمود ونوازعه في الفكر والممارسة بجديد بل يكاد يوازي تاريخ الماركسية ذاتها. كتبت روزا لوكسمبورغ القائدة الشيوعية الألمانية (1871 – 1919) في العام 1903 تشكو من كسل الماركسيين الفكري وقصورهم عن تطوير وتنمية كسبهم النظري تحت عنوان "الركود والتقدم في الماركسية" محاولةً استبانة الجذور الاجتماعية لهذا العجز، فقررت أولاً أنه ليس من مساهمة مهمة تستحق الذكر يمكن إضافتها إلى جانب الجزء الأخير المنشور من "رأس المال" لماركس، وأن كل ما كُتب لا يتعدى الشرح والتوضيح، ثم طرحت السؤال عن أثر الهيكل النظري الحاكم للماركسية على النمو الحر للنظرية ما بعد ماركس لتؤكد أن محاولات البعض الملتزمة للبقاء في حدود الماركسية وعدم تجاوزها كان لها نفس النتائج الكارثية على تماسك عملية التفكير كمحاولات آخرين لإثبات خطل وجهة النظر الماركسية وتأكيد استقلالهم الفكري بغض النظر عن مخاطر ذلك. مضت لوكسمبورغ لتشرح القاعدة الطبقية للمشكلة بقولها: "عبر تواريخ الصراعات الطبقية الماضية ابتدرت الطبقات الاجتماعية الساعية للهيمنة السياسية صراعاتها بتأسيس هيمنتها الفكرية وهي ما زالت في حال القهر، أما البروليتاريا فوضعها مختلف. البروليتاريا، كطبقة غير مالكة، ليس بوسعها في أتون صراعها أن تخلق ثقافة عقلية مستقلة تخصها ما دامت باقية في إطار المجتمع البرجوازي. داخل هذا المجتمع، وما دامت قواعده الاقتصادية موجودة، لا يمكن وجود ثقافة أخرى غير الثقافة البرجوازية." في آخر مقالتها استثنت لوكسمبورغ علوم الاجتماع من هذا التعميم حتى تتيح للعقيدة الماركسية مساحة حرة خارج النفوذ البرجوازي مؤكدة أن الماركسية تفوق في غنى موردها حوجات الصراع اليومي للبروليتاريا، لتختم بقولها أن أوضاع الوجود الاجتماعي للبروليتاريا في المجتمع الحالي لتنتقم من الماركسية بسبب توضيحها لهذه الشروط عبر القَدَر الذي تفرضه على النظرية الماركسية نفسها. حاولت لوكسمبورغ أن تجد أرضية موضوعية لما أسمته الركود في الماركسية لكنها انتهت إلى دائرة شبه مغلقة للسيطرة البرجوازية جعلت لها استثناءاً وحيداً هو عبقرية ماركس في تجاوز هذا الحصار وإخراج النظرية الثورية إلى الوجود الفعلي أداةً عصيةً في يد الطبقة العاملة. الشاهد أن الماركسية كونها استحالت إلى شعار قتالي في الصراع الطبقي قد تجاوزت هدفها الأولي أي نقد الاقتصاد السياسي للرأسمالية، وتجاوزت بذلك طبيعة مقولاتها الأساسية كمنهج لتقصي الواقع الاجتماعي في كلياته التاريخية فكان انغماسها في "أدب الممارسة" سبباً لتورمها الآيديولوجي. ولعل السيرة اللاحقة للماركسية بعد انتصار ثورة اكتوبر 1917 وتدجين تياراتها بصورة مدرسية تماثل الفرق الفقهية (الماركسية اللينينية، الستالينية..) تعطي دليلاً بيناً على إغراق المنهج في بحر الآيديولوجيا. المهم في هذا الباب أن ليس من نظرية أو ممارسة تتعالى على التاريخ وما التكلس الذي أصاب الماركسية باستثناء رغم تبجيل التفوق الذي دثر النظر الماركسي في أول بزوغه. من ثم ليس من طريق آخر للبحث عن مكامن فشل التجربة الاشتراكية خارج الإطار التاريخي لذلك؛ أي الشروط الموضوعية للثورة الروسية، تخلف روسيا الصناعي، الحرب الأهلية الروسية، حصار القوى الدولية للتجربة الوليدة، تقاليد القهر القيصرية، مصالح روسيا الامبريالية وفي مرحلة لاحقة إملاءات الحرب الباردة وتراتبية النظام الاقتصادي الدولي إلى آخر الوقائع والعوامل التي ساهمت في ضمور النزع الديمقراطي في الماركسية وتعاظم صمدية القيادة الشمولية واستئسادها على الشعوب المراد "تحريرها". قد يتجادل الناس حول فشل التطبيق وصحة النظرية لكن ذلك مما يعارض المبادئ الأكثر رسوخاً في الماركسية، فهي لا تعترف بنظر فكري منقطع عن الواقع والحال الاجتماعي الاقتصادي بصراعاته وتداخل عوامله. ولعل ذلك وجه الميزة في الماركسية ووجه المصيبة كذلك فتشابك الممارسة والنظرية الذي يسم سعي الماركسيين المتفائل لادراك وتعقل مجمل الحراك الاجتماعي الانساني وفق منهج متماسك وثوري تحقيقاً لمقولة ماركس الخالدة "فَسّر الفلاسفة العالم بطرق مختلفة، لكن ما يهم هو تغييره!!" يتيح بالضرورة امكانات هائلة للتضخم الآيديولوجي حسبما تقضي بذلك شروط الصراع السياسي على حساب النظر الناقد للممارسة الذاتية والواقع التاريخي. السؤال هل من مخرج من هذا التداخل بين المنهج والآيديولوجيا؟
فيما يخص غضب المثقفين على الحزب الشيوعي السوداني جراء تأخره عن إنجاز مهمة تجديد نظريته الثورية يمكن القول أنه لا يمكن محاسبة الثوريين السودانيين على مصائب الاشتراكية جميعها من روسيا والصين إلى كوبا وكوريا الشمالية! وبنفس القدر لا يمكن تحميلهم منفردين وزر القصور النظري لجهد بذلته الانسانية وما زالت على درب تحرير الإنسان، فهم على حد وصف الأستاذ محمد إبراهيم نقد في معرض رده على سؤال في هذا الشأن ليسوا عباقرة بل أناس متوسطي الذكاء والمعرفة ويعملون عملهم اليومي للتحضير لمؤتمرهم (حوار مع جريدة الأضواء، 25 اكتوبر 2005). المحاسبة الواجبة للشيوعيين السودانيين تختص بالأحري بتصورهم النظري للثورة السودانية وممارستهم العملية في هذا الإطار كسباً وخسارة، وليس على أية حال مصائر الثورة الكونية. هذا لا ينتقص بالضرورة من "أممية" الشيوعيين السودانيين ومساهمتهم ضمن حركات التحرر الوطني الإفريقية والعربية لكنه تقرير واجب لحجم نفوذهم الحقيقي، فالسودان بكلياته هامش ضمن هامش أكبر ويشغل موقعاً طرفاً وتراتباً أدنى في نظام عالمي غاشم وقادر، ما بالك بفصيل سياسي واعي وتقدمي نعم لكنه ليس بمنأى عن سيل الحوادث والمتغيرات التي تعصف بكيان البلاد جميعها؛ تعرض مع آخرين وما زال يتعرض للإقصاء والإرهاب والقمع وأعدم قادته المؤسسون في "الضحى الأعلى".
#مجدي_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المؤتمر الوطني حزب وطبقة
-
ما بعد التجمع
-
نموذج المركز ضد الهامش و الصراع الطبقي في السودان
-
ماهية فوضى الغوغاء
-
حفظ السلام
-
بصدد خصخصة السياسة
-
بصدد خصخصة الدولة
-
في ضرورة الماركسية و المهام العالقة
-
سلم تسلم
-
بصدد الدين -الوطني- و السلطة -الإستعمارية-
-
النخبة و الطبقة في الصراع السياسي السوداني
-
صناعة الحرب و السلام
-
في الإستعمار و الدولة الوطنية: تعليق على بعض من تراث عبد الخ
...
المزيد.....
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|