محمد بودهان
الحوار المتمدن-العدد: 4986 - 2015 / 11 / 15 - 13:44
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
(2/3)
كيف تصبح اللغة موحّدة؟
هذه الوحدة في التفاهم قد تُكتسب:
1 ـ عن طريق المدرسة ـ أو ما يقوم مقامها ـ حيث يتعلم التلاميذ المفردات والتعابير المختلفة التي يستعملها، وبأشكال مختلفة وغير موحّدة، مستعملو تلك اللغة المعنية. وهذا ما يصدق مثلا على اللغة العربية التي يوحّدها تعلّمها المدرسي، حيث يتعلّم تلاميذ العربية كيف يفهمون ويستعملون مختلف مفرداتها وتعابيرها التي تستعمل في الأصل بصيغ غير موحّدة، بل تختلف باختلاف الاستعمالات الفردية لها. فتعلّمي العربية في المدرسة هو الذي جعلني أفهم ما يكتبه أو يقوله (في حالة كلامه بالفصحى) مواطن سعودي، رغم أنه لا يستعمل، للتعبير عن موضوع معين، نفس المفردات والصيغ التي أستعملها أنا عندما أعبّر عن نفس الموضوع بالعربية. ونفس الشيء بالنسبة له عندما يفهم كلامي (في حالة كلامي بالفصحى) وكتاباتي رغم أنني لا أستعمل نفس ما يستعمله هو من مفردات وصيغ للتعبير عن نفس الموضوعات.
2 ـ و ـ أو ـ عن طريق التواصل الشفوي بين مختلف مستعملي تلك اللغة، رغم أنهم لا يتحدثونها بشكل واحد وموحّد، من حيث المفردات والصيغ التعبيرية التي يستعملها كل واحد في التواصل مع الآخرين. لكن كل واحد، مع ذلك، يفهم كلام الآخر، وهو ما يعطي لهذه اللغة الوحدة التي تستمدها من وحدة التفاهم، وليس من وحدة الألفاظ والتعابير المستعملة في الأصل بطرق مختلفة وليست موحّدة، كما سبقت الإشارة. فلأن التواصل بنفس اللغة لا ينقطع بين أعضاء المجموعة التي تستعمل هذه اللغة، ينتج عن ذلك أن كل واحد من هؤلاء "يتعلّم" ويفهم "لغة" الآخر. وهو ما يجعل متحدثي هذه اللغة يتفاهمون في ما بينهم، رغم أن كل واحد منهم يستعمل "لغته" الخاصة به، المتمثلة في المفردات والتعابير التي يختارها ويستعملها في التواصل مع الآخرين.
وكمثال حي على أن وحدة اللغة تكمن في القدرة على التفاهم بين مستعمليها، وليس في استعمالها بطريقة متجانسة ومتطابقة من طرف هؤلاء المستعملين، والذي هو شيء غير ممكن بصفة مطلقة كما سبقت الإشارة، (كمثال على ذلك) الدارجة المغربية التي أصبحت لغة موحّدة، ليس لأن جميع المغاربة يتحدثونها بطريقة متجانسة ومتطابقة، وإنما لأن كل واحد منهم يستطيع أن يفهم ما يقوله الآخر. فرغم أن الدارجة الجبْلية ليست هي الدارجة المراكشية، ولا هذه هي دارجة الجهة الشرقية، إلا أن الشاوني والمراكشي والوجدي إذا التقوا، فإنهم يتواصلون في ما بينهم ويتفاهمون دون أدنى صعوبة، رغم أن لكل واحد دارجته التي تختلف عن دارجة الآخر. وعندما يفهم المراكشي كلام الوجدي والشاوني، فهذا لا يعني أنه يتنازل عن دارجته المراكشية ويستعمل الدارجة الوجدية أو الشاونية، بل كل ما هنالك أنه يفهم كلام الوجدي والشاوني لكن يردّ عليهما بكلامه المراكشي، الذي يفهمه الوجدي والشاوني بدورهما. هذا الفهم المشترك للدارجات المغربية، التي هي مختلفة في الأصل، يجد مصدره ـ فضلا عن دور التلفزيون والمدرسة والإدارة... في توحيد الدارجة ـ في التواصل بهذه الدارجات بين المغاربة من مختلف المناطق التي لها دارجتها الخاصة، وهو ما جعلهم ـ بل فرض عليهم ذلك ـ "يتعلّمون" دارجات بعضهم البعض، فكانت النتيجة أن كل واحد يفهم كلام الآخر، رغم أنهم لا يتكلمون نفس اللهجات بنفس الألفاظ ونفس التعابير.
وماذا عن الأمازيغية؟
الغاية من كل هذه التوضيحات، حول مفهوم اللغة الموحّدة، هي أن نفهم، أولا، لماذا ليست الأمازيغية لغة موحّدة، ونفهم، ثانيا، الحل الأنسب لتوحيدها المدرسي ودون ـ وهذا هو بيت القصيد ـ أن يُبعدها ذلك التوحيد عن لغة التخاطب الشفوي.
هي غير موحّدة، ليس لأن المتحدثين بها لا يستعملون نفس الألفاظ ونفس التعابير للدلالة على نفس الوضعيات والأحداث والموضوعات، فذلك يخص كل اللغات كما رأينا، وإنما هي ليست موحّدة لانعدام التفاهم بين متحدثيْن بالأمازيغية ينتميان إلى منطقتين متباعدتين، مثل متحدثيْن أحدهما من الناظور والآخر من أكادير مثلا. فعندما يسأل الناظوريُّ الأكاديريَّ: مامش تلّيد؟ ـ Mamc tllid? ـ (كيف أنت؟ كيف حالك؟)، لن يفهم هذا الأخير ماذا يعني الأول. وعندما يوجه الأكاديريُّ نفس السؤال لمخاطبه الناظوري: مانزا ك ين؟ ـ Manza k in? ـ (كيف أنت، كيف حالك؟)، لن يفهم الناظوري شيئا رغم أنهما يتحدثان لغة أمازيغية. هذا الغياب للتفاهم بينهما هو الذي يجعل أمازيغيتهما لغة غير موحّدة.
لكن هذا الاختلاف في التعبير عن السؤال الخاص بحالة الشخص (كيف أنت؟ كيف حالك؟)، حاضر في أمازيغية الريف أيضا، حيث نجد سكان منطقة الحسيمة يقولون: "موخ تكّيد؟" (Mux tggid?)، في الوقت الذي يقول فيه سكان منطقة الناظور: "مامش تلّيد؟" (Mamc tllid?) لأداء نفس المعنى، كما رأينا. و"موخ تكّيد" الحسيمية مختلفة جذريا، مثل "مانزا ك ين" الأكاديرية، عن "مامش تلّيد" الناظورية، كأننا أمام لغتين مستقلتين إحداهما عن الأخرى. ذلك أن عبارة "موخ تكيّد؟"، لا علاقة لها بمقابلها الناظوري "مامش تلّيد"، إذ التعبيران مختلفان كليا، لفظا ومعنى ومبنى. فـ"موخ تكّيد؟" تستعمل فعل "كَـ" (فعل، أنجز، عمل) ـGgـ بمعنى لا يوجد في أمازيغية الناظور إلا في حالات قليلة جدا، والذي يدلّ على الحالة والوضع؛ ومصدره "تاماكيت" الذي باتت الحركة الأمازيغية تستعمله للتعبير عن الهوية، لأن هذه هي أيضا تعني الحال والوضع الذي يوجد عليه الشخص (هوية الشخص) أو شعب ما (هوية الشعب). والغريب أن هذا المعنى، الذي هو نادر في أمازيغية الناظور كما قلت، معروف ومستعمل بشكل يومي في أمازيغية الأطلس وسوس. ولهذا فالتعبير الحسيمي (موخ تكّيد؟) أفصح من التعبير الناظوري (مامش تلّيد؟)، بدليل أنه مترجم حرفيا إلى الدارجة في عبارة "كيف راك داير؟ كيف درتي؟" (كيف حالك؟ كيف أنت؟).
يضاف إلى هذا الاختلاف الأساسي اختلاف في أداة الاستفهام، التي هي (موخ) في أمازيغية الحسيمة، وهي لفظ غريب لا وجود له في أمازيغية الناظور. والعبارة الحسيمية تعني حرفيا: "كيف هو حالك؟، كيف هو وضعك؟". أما العبارة الناظورية، "مامش تلّيد"، فتستعمل فعل الكينونة "إلي" (Ili)، فضلا عن أداة استفهام (مامش) مغايرة للتي تستعمل في التعبير الحسيمي. وهي تعني (العبارة) حرفيا "كيف أنت كائن؟، كيف أنت موجود؟"، مما يبرز الاختلاف الكلي بين التعبيرين كأنهما ينتميان إلى لغتين مختلفتين ومستقلتين إحداهما عن الأخرى.
لكن رغم هذا الاختلاف الكبير، فأمازيغية الناظور والحسيمة واحدة وموحّدة، عكس أمازيغية الناظور وأكادير. لماذا؟
لأن التواصل بالأمازيغية منقطع ومنعدم بين سكان منطقة الناظور وسكان منطقة أكادير، وهو ما لم يسمح للأولين بفهم و"تعلّم" الألفاظ والتعابير الأمازيغية التي يستعملها سكان أكادير مثل "مانزا ك ين؟"، كما لم يسمح لهؤلاء بفهم و"تعلّم" الألفاظ والتعابير التي يستعملها سكان منطقة الناظور مثل "مامش تلّيد؟". في حين أن التواصل بالأمازيغية، بين هؤلاء وسكان منطقة الحسيمة، قائم بشكل دائم لا ينقطع، مما سمح للمجموعتين من السكان بفهم و"تعلّم" كل منهما الألفاظَ والتعابيرَ التي تستعملها المجموعة الأخرى، مثل "موخ تكّيد؟" الحسيمية، و"مامش تلّيد؟" الناظورية. وهو ما جعل أمازيغية الريف موحّدة ومشتركة، ليس لأن الريفيين يستعملونها بصيغ وألفاظ وتعابير متجانسة ومتطابقة، بل لأنهم يفهمون هذه الصيغ والألفاظ والتعابير الخاصة بهذه المنطقة أو تلك من مناطق الريف. وهو ما نتجت عنه لغة أمازيغية موحّدة ومشتركة بهذه المناطق، ودون أن يتخلى الريفيون، المستعملون لهذه اللغة الموحّدة، عن أمازيغيتهم الأصلية، التي هي اللغة الأم الخاصة بمنطقتهم. ذلك أن أمازيغية الناظور والحسيمة، إذا كانت موحّدة ومشتركة، فهذا لا يعني أن الناظوري قد تخلى عن عبارة "مامش تلّيد؟" وأصبح يستعمل عوضا عنها العبارة الحسيمية "موخ تكّيد؟"، أو أن الحسيمي فعل نفس الشيء في ما يخص نفس العبارة "موخ تكّيد؟"، وإنما يعني فقط أن كل واحد منهما يفهم العبارة التي يستعملها الآخر، وهو ما يجعل التفاهم بينهما قائما، الشيء الذي يجعل أمازيغيتهما لغة موحّدة ومشتركة.
فعندما يلتقيان قد يجري، مثلا، بينهما الحوار التالي:
الحسيمي: موخ تكّيد؟ (Mux tggid?)
الناظوري: لّيغ مليح، إي شك، مامش تلّيد؟ (Lligh mlih, i ck, mamc tllid?)
الحسيمي: كّيغ مليح (Ggigh mlih).
إذن نلاحظ أن كل واحد منهما يتواصل بـ"لغة" منطقته، أي بلغته الأم، ويفهم في نفس الوقت اللغة الأم لمحاورِه. فتكون النتيجة أن الأمازيغية، التي يستعملانها، هي لغة موحّدة ومشتركة بينهما، ودون أن تكون غريبة ومختلفة عن اللغة الأم لكل منهما.
الحل الثالث للتوحيد المدرسي للأمازيغية:
هناك إذن اختلافات بين الفروع اللهجية الثلاثة لأمازيغية المغرب، والتي تحول دون تحقيق تفاهم بين المتحدثين بتلك الفروع الثلاثة. ماذا سنفعل بهذه الاختلافات؟ كيف سنتعامل معها؟ ما الذي سنحتفظ به وما الذي سنحذفه منها، إذا أردنا أن ندرّس هذه اللهجات كلغة واحدة ومشتركة بين كل الأمازيغيين وكل المغاربة بالمغرب؟
إذا أردنا أن نجعل من هذه اللهجات الأمازيغية، رغم الاختلافات التي تفرّق بينها، لغة مدرسية موحّدة ومشتركة، ودون أن تكون ذات قطيعة مع اللغة الأم التي هي اللهجة الأمازيغية المتداولة في كل منطقة، فيكفي أن نطبّق ونعمّم الحالة اللغوية التي وقفنا عليها في ما يخص جهة الريف، عندما شرحنا ذلك بتبيان أن اللهجة الأمازيغية لمنطقة الحسيمة ليست هي نفسها اللهجة الأمازيغية لمنطقة الناظور، كما أوضحنا ذلك من خلال مثالي "موخ تكّيد؟" و"مامش تلّيد؟"، مبرزين أنه بالرغم مما يفرّق بين أمازيغية الحسيمة وأمازيغية الناظور من اختلافات، إلا أن سكان المنطقتين يتواصلون ويتفاهمون فيما بينهم، لأن كل واحد منهم "تعلّم" أمازيغية المنطقة الأخرى التي أصبح يفهمها، ودون أن يتخلى عن اللغة الأم الخاصة بمنطقته. فكانت النتيجة ـ وهذا ما يهمّنا ـ أن أمازيغية الريف، بجزئيه الشرقي والغربي، أي من بركان حتى أصيلة، موحّدة ومشتركة، ودون أن تحدث هذه اللغة، الموحّدة والمشتركة، هوة بينها وبين اللغة الأم للسكان المتحدثين بالأمازيغية.
إذا كان التواصل المباشر بالأمازيغية هو سبب التمكّن من هذه اللغة الموحّدة والمشتركة، فإن المدرسة يمكن أن تقوم بدور هذا التواصل بين الفروع اللهجية الثلاثة لأمازيغية المغرب، حيث يتعلّم التلميذ ويفهم الفوارق والاختلافات بين هذه الفروع وفق برنامج دراسي مهيأ، وبشكل متدرّج، لتحقيق هذا الهدف. وهكذا سيتعلم تلميذ أكادير، ضمن رصيده اللغوي الأمازيغي المدرسي، أن "مانزا ك ين" (Manza k in?) (كيف أنت، كيف حالك؟) السوسية، يُعبّر عنها أيضا بـ:
ـ "مامش تلّيد؟" (Mamc tllid?)
ـ "موخ تكّيد؟" (Mux tggid?)
ـ "ماي تعنيد؟"{May tonid? ـ ع = o }
ـ "مانوا ش؟" (Manw ac?)
وهذه الاختلافات لا تقتصر على مجرد المترادفات المعجمية، في شكلها البسيط الذي يخص الكلمات، كما يردد الذين لم يدركوا طبيعة الفوارق بين فروع الأمازيغية، عندما يستشهدون بمثال "الأسد"، الذي يسمى في أمازيغية الريف "أيراد" (Ayrad) و"إيزم" (Izm) في أمازيغية الأطلس مثلا. بل تشمل، بالإضافة إلى الكلمات (المعجم)، حروف المعاني، وأدوات الربط ـ وهي التي تحول، قبل غيرها، دون التفاهم بين متحدثيْن بلهجتين أمازيغيتين مختلفتين ـ، وأشكال الصيغ التعبيرية، وطريقة النطق، وحتى تصريف الأفعال في بعض الحالات. تتمثّل إذن المقاربة الجديدة لتوحيد الأمازيغية عن طريق المدرسة، ليس في إهمال ـ أو إلغاء ـ الاختلافات والفوارق بين فروع الأمازيغية والاحتفاظ فقط بالمشترك بينها، الذي يُلقّن للتلميذ بهدف "صنع" أمازيغية معيارية وموحّدة، لكن ضعيفة الصلة بلغة الأم، كما رأينا في ما يخص أطروحة الأمازيغية "الفصحى" المعيارية، وإنما تتمثل هذه المقاربة في الإبقاء على الاختلافات والفوارق بين هذه الفروع، وتلقينها وتعليمها، ضمن مادة اللغة الأمازيغية، لجميع التلاميذ من جميع المناطق، بقصد أن يصبح كل تلميذ قادرا على فهم أمازيغية المنطقة التي تتميز عن أمازيغية منطقته بتلك الاختلافات والفوارق، ودون أن يكون هو مضطرا لاستعمالها كبديل عن أمازيغيته التي اكتسبها كلغته الأم. فبمجرد ما يصبح هذا التلميذ، بعد مرحلة معينة من مساره الدراسي، ضابطا لهذه الفوارق بين اللهجات الأمازيغية الثلاث، عارفا بها فاهما لها ولاستعمالاتها، يصبح في نفس الوقت قادرا على التواصل والتفاهم مع أي متحدث بأية لهجة أمازيغية بالمغرب، وقارئا وفاهما لأي نص أمازيغي مهما كانت اللهجة التي كتب بها. وبذلك يكتسب هؤلاء التلاميذ، ودون أن يُحدث ذلك قطيعة مع لغتهم الأم، لغةً أمازيغية موحّدة ومشتركة، لأن أساس اللغة الموحّدة والمشتركة، من الناحية العملية والتواصلية، وكما سبق شرح ذلك، هو التفاهم المشترك Intercompréhension بين المتحدثين بهذه اللغة. وهذا ما نحقّقه ونصل إليه بتعليم الاختلافات والفوارق بين اللهجات الأمازيغية للتلميذ، على اعتبار أن سبب غياب التفاهم بين المتحدثين بمختلف اللهجات الأمازيغية يرجع، كما سبق أن رأينا، إلى وجود اختلافات وفوارق بين هذه اللهجات لا يعرف استعمالاتها ودلالاتها ووظائفها من يتحدث باللهجة الخاصة بمنطقته. النتيجة، إذن، إذا ضبطنا هذه الاختلافات والفوارق وتعلمناها عن طريق المدرسة، وأصبحنا نعرف استعمالاتها ودلالاتها ووظائفها، فسنصبح قادرين على فهم كل اللهجات الأمازيغية، وبالتالي نحقّق التفاهم بين كل المتحدثين بمختلف هذه اللهجات، أي نصل إلى لغة أمازيغية موحّدة ومشتركة، ودون أن تكون لغة مصطنعة أو غريبة أو مختلفة عن اللغة الأم، التي يتكلمها كل مستعمل للأمازيغية.
فمضمون هذه المقاربة "اللهجاتية"، أو هذا الحل الثالث لتعليم وتدريس أمازيغية موحّدة ومشتركة، يتلخص في ما يلي: بدل أن نعلّم وندرّس أمازيغية "فصحى" مصطنعة ومقطوعة الصلة باللغة الأم، أو ندرّس كل لهجة من اللهجات الثلاث كلغة مستقلة، نقوم بتعليم كل اللهجات الثلاث لكل التلاميذ بكل المدارس وبكل المناطق. ولا يتطلّب تعلّم كل اللهجات من طرف من يجيد إحداها، إلا ـ كما سبق أن شرحنا ـ استيعاب الاختلافات والفوارق التي تحول دون تحقيق التفاهم المشترك بين المتحدثين بهذه اللهجات.
وتعليم هذه الاختلافات والفوارق لن يكون أكثر من عملية توسيع وإغناء للرصيد اللغوي للتلميذ. فالمعروف أن هذا الأخير يلتحق بالمدرسة وهو يجيد اللغة الأم التي اكتسبها داخل الأسرة. وهي بطبيعتها لغة محدودة في معجمها وتعابيرها ومستوى تجريدها. وهنا تتدخل المدرسة لتطوير هذه اللغة وتنمية معجمها، وتوسيع مجالات استعمالها لتشمل تدريجيا الموضوعات المجردة. وبذلك يتعلّم هذا التلميذ، عن طريق المدرسة، ألفاظا وتراكيب وتعابير ومفاهيم جديدة، لكن دون أن يشعر بأنه يتعلم لغة جديدة، لأن كل ذلك الجديد اللغوي (ألفاظ، تعابير، تراكيب، مفاهيم...)، الذي يتعلّمه في المدرسة، يتم داخل نفس النسق اللغوي للغة الأم التي يعرفها، والتي تعمل المدرسة على تطويرها وإغنائها وتنمية وظائفها وتوسيع مجالات استعمالها، كما سبقت الإشارة. في إطار هذا التطوير والإغناء والتنمية والتوسيع، يندرج تعليم وتدريس الاختلافات بين فروع الأمازيغية، التي لا يتعلّم التلميذ من خلالها لغة جديدة، وإنما يتعلم ألفاظا وتعابير ووظائف واستعمالات جديدة لنفس اللغة الأم التي يجيدها.
هذا هو المبدأ العام، لكن من الناحية العملية والإجرائية والبيداغوجية، كيف يمكن تطبيق هذا المبدأ لتدريس امازيغية موحّدة ومشتركة؟
تصنيف وتبويب الاختلافات بين الفروع اللهجية الثلاثة:
لقد سبق أن رأينا كيف أوضح المستمزغ الفرنسي "أندري باسّي" «أن من يتقن جيدا لهجة أمازيغية واحدة، يستطيع في أسابيع قليلة إتقان أية لهجة أخرى أمازيغية كيفما كانت»، مبرزا بذلك التقارب الكبير جدا بين هذه اللهجات. وهو ما يؤكد أن الاختلافات، بين الفروع اللهجية الثلاثة لأمازيغية المغرب، ليست بالحاجز الذي لا يمكن تذليله والتغلّب عليه لتوحيد هذه الفروع. فإذا كانت هذه الاختلافات اللهجية الجهوية هي التي تحول دون تحقيق التفاهم بين متحدّثيْن بلهجتين أمازيغيتين مختلفتين، فإنه يكفي، كما سبق شرح ذلك، ضبط هذه الاختلافات وفهمها واستيعابها، ليتحقق هذا التفاهم بين متخاطبيْن يستعملان لهجتين مختلفتين من اللهجات الثلاث.
وكي تُضبط هذا الاختلافات بهدف فهمها واستيعابها، ينبغي حصرها وتحديدها، ثم تصنيفها وتبويبها حسب المجال الذي تنتمي إليه (معجم، نطق، حروف المعاني، ضمائر، أدوات الاستثناء، أدوات الاستفهام، ظروف الزمان والمكان...إلخ)، حتى يمكن تلقينها كدروس ضمن دروس اللغة والنحو. وبالمقارنة بين الفروع الأمازيغية الثلاثة، سنلاحظ أن الاختلافات بينها تنقسم إلى صنفين: الاختلافات الثانوية والاختلافات الأساسية.
أولاـ الاختلافات الثانوية: وتشمل الاختلافات المعجمية، والصوتية التي تخص النطق.
1 ـ الاختلافات المعجمية:
هذه الاختلافات المعجمية لا تطرح مشكلا كبيرا أو لا تطرح مشكلا على الإطلاق. ذلك أن الألفاظ المختلفة من لهجة إلى أخرى، هي مترادفات سيتعرّف عليها التلميذ ويكتشف دلالاتها، ويصبح قادرا على استعمالها وتوظيفها مع تقدمه في تعلم ودراسة الأمازيغية. فالمترادفات ظاهرة معروفة وموجودة في كل لغة. ولا يمكن لأحد معرفة كل المترادفات التي تتضمنها لغة ما، إذا اكتفى فقط بالمعجم الذي اكتسبه من لغته الأم ودون تعليم مدرسي.
من جهة أخرى، يشكّل المعجم المشترك لكل فروع الأمازيغية بالمغرب نسبة تفوق 75 في المائة. وحتى ضمن الكلمات التي لا تستعملها اللهجات بشكل مشترك، قد نجد اشتقاقات أخرى، لنفس الكلمة، مستعملة في المنطقة التي لا تُستعمل فيها تلك الكلمة نفسها، كما تبيّن الأمثلة التالية:
ـ فعل "أمز" (Amezv) ، المستعمل بمناطق الأطلس وسوس بمعنى "أمسك، اقبض باليد"، غير معروف بالريف. لكن نجد مصدره، غير المتداول خارج جهة الريف، مستعملا وهو "تومزت" (Tumezvt)، الذي يعني مقدار يما يمكن إمساكه بقبضة اليد.
ـ كلمة "أضو"(Advu) ، التي تعني "الريح"، والمتداولة بمناطق الأطلس وسوس، غير شائعة بالريف. إلا أن الفعل المشتق من جذر هذه الكلمة، وهو "ضو" (Dvu) الذي يعني "طار"، أي "مشى" في الجو كما تفعل الريح، مستعمل يوميا بالريف.
ـ كلمة "إيقاريضن" (Iqaridvn)، التي تعني بسوس "النقود، المال"، غير معروفة في أمازيغية الريف. لكن الفعل المشتق من نفس الجذر، وهو "قارض" (Qardv)، الذي يعني "أنفق النقود، صرف المال"، مستعمل في أمازيغية الريف، في الوقت الذي هو مجهول في أمازيغية سوس.
ـ الفعل (أو الصفة) "ييزيل" (Yizvil) المتداول بوسط وجنوب المغرب، والذي يعني "جمُل، حسن" أو "جميل، حسن"، غير معروف بالريف، لكن مصدره معروف ومتداول وهو "أزر(ل)ي" (Azvr(l)i) أي الحسن والجمال، والذي لا يوجد في أمازيغية الجهتين الوسطى والجنوبية.
ـ كلمة "أسيف" (Asif) غير مستعملة بالريف، والتي تعني "النهر" بالمناطق الأمازيغية الأخرى. لكن الفعل المشتق منها متداول ومستخدم بالريف، وهو "سفي" (Sfey) الذي يعني: "فاض الماء".
ـ كلمة "ألّن" (Allen) المستعملة بوسط المغرب، والتي تعني "العيون" (للإبصار)، غير معروفة بالريف. لكن الفعل المشتق منها معروف ومتداول وهو "وار(ل)ا" (War(l)a) الذي يعني "نظر، أبصر"، أي استخدام "العيون" التي هي Allen. وهو فعل لا وجود له في أمازيغية الجهات الأخرى من غير الريف.
ـ إلخ...
2 ـ الاختلافات الصوتية:
أ ـ نجدها في اختلاف النطق ببعض الحروف من لهجة جهوية إلى أخرى، مثل، تحوّل الكاف إلى شين {"نش" = "نك" (Nc =Nk ـ أنا ـ }، واللام إلى راء {"أول = أور Ul = Ur ـ القلب ـ} (خصوصية محلية ما بين الناظور والحسيمة فقط ولا تشمل كل أمازيغية الريف)، والگاف إلى ياء {أگراو = أيراو Agraw = Ayraw (اجتماع)}، والگاف إلى جيم {أجنّا = أگنّا Ajnna = Agnna (السماء)}، وتحول اللام مشددة (لّ) إلى "دج" {ألّون = أدجون، Allun = Adjun ـ بندير ـ (خصوصية محلية ما بين الناظور والحسيمة فقط ولا تشمل كل أمازيغية الريف)، وتحول الخاء إلى غين {نّيغ = نّيخ، Nnigh = Nnix (قلت)}....
ب ـ ونجدها في اختلافات صوتية تخص الصوائت في تصريف بعض الأفعال حسب بعض الأزمنة وبعض الضمائر، مثل:
ـ "يورا" Yura (كتب) في أمازيغية الريف تنطق في أمازيغية الأطلس "يارو" Yaru،
ـ "أرزو" Arzu (ابحث) في امازيغية الريف تنطق "رزو" Rzu في امازيغية الجهات الأخرى
ـ "ضفار" Dvfar (اتبع) في أمازيغية الريف تنطق في أمازيغية الأطلس "ضفور" Dvfur،
ـ "سّارسغ" Ssarsgh (وضعت) في أمازيغية الريف تنطق في أمازيغية الأطلس "سّرسغ" Ssrsgh.
إذا كانت هذه الاختلافات الصوتية الأخيرة تتصل بتصريف الأفعال، فلا يعني ذلك بتاتا اختلافا في النظام الصرفي الذي يبقى واحدا وموحّدا بين الفروع الثلاثة للأمازيغية، وإنما يعني فقط تغييرات طفيفة في بعض الصوائت عندما يتعلق الأمر ببعض الضمائر التي تصرف إليها تلك الأفعال.
سمينا هذه الاختلافات بالثانوية لأنها ـ ورغم أنها قد تكون سببا في بعض الحالات لعدم تحقيق التواصل والتفاهم المشترك بين أمازيغيي كل المناطق بالمغرب ـ ليست السبب الرئيسي لانعدام هذا التفاهم المشترك بين مختلف اللهجات الأمازيغية بالمغرب. لنشرح ذلك:
إذا قارنا بين نصوص مكتوبة ومسموعة (الإذاعة والتلفزيون اللذان يبثان بالأمازيغية) من مختلف اللهجات الأمازيغية المغربية، سنلاحظ منذ البداية أن هذا النوع من الاختلافات، التي ذكرناها، يسهل ضبطها مع التعوّد على الاستماع وقراءة مثل تلك النصوص، بحيث لن تعود أبدا عائقا لا يمكن التغلب عليه لتحقيق تواصل مشترك بين مستعملي هذه اللهجات. لكن في نفس الوقت سنكتشف أن هناك صنفا آخر من الاختلافات، تشكل السبب الرئيسي والمباشر لانعدام التفاهم بين شخصين يتحدثان لهجتين أمازيغيتين مختلفتين. فما هي هذه الاختلافات؟
ثانيا ـ الاختلافات الرئيسية: وتتمثّل في حروف المعاني وأدوات الربط، وكل ما يندرج ضمن ما يعرف بالفرنسية بـ: Mots-outils التي تكوّن Les adverbes, les prépositions, les déterminants, les pronoms, les conjonctions... ، والتي تشمل، ضمن ما تشمله:
ـ صيغ "هل" الاستفهامية مثل: ما، إيس... Ma, Is، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "لماذا" التي تفيد الاستفهام السببي مثل: مايمّي، ماغار، ماخف، ماخ... Maymmi, Magahr, Maxf, Max، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "كم" (المقدار والعدد)، مثل: مشحال، مشتا، منّاو، منشك... Mchal, Mcta, Mnnaw, Mnck، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ الصيغ الدالة على الكثرة، مثل: أطّاس، باهرا، شيكان، بزّاف.... Attvas, Bahra, Cigan, Bzzaf، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ الصيغ الدالة على القلة، مثل: إيميك، دروس... Imik, Drus، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "إذا" و"لو"، مثل: مر، مش، إيمالا، إيك، إيغ... Mr, Mc, Imala, Ig, Igh، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "متى" الزمانية، مثل: ملمي، مانتور، ماناك Mlmi, Mantur, Manag.....، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "أين" المكانية، مثل: ماني، مانزا Mani, Manza.....، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ الظرف "عند"، مثل: غور، دار... Ghur, Dar، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "عندما"، مثل: أسمي، خمينّي، أدّاي، ألّيك... Asmi, Xminni, Adday, Allig، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "الآن"، مثل: رختو، روخ، دغي، غيلاد... Rxtu, Rux, Dghi, Ghilad، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ التقابل، مثل: واخّا، مقّار... Waxxa, Mqqar، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "البارحة"، مثل: أسنّاط، إيضنّاط، إيضغام... Assnnatv, Idvnnatv, Idvgham، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ اسم الإشارة للمفرد، مثل: أ، أد، أو (أركاز ا، اركاز اد، أركاز و = هذا الرجل) A, Ad, U (Argaz a, Argaz ad, Argaz u = Cet homme)، وهي صيغ تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ الاستثناء، مثل: غاس، مغار... Ghas, mghar، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "لأن" العِلّية، مثل: أشكو، إيدّغ، مينزي... Acku, Iddgh, Minzi، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ "حتى" الغائية (من أجل)، مثل: حما، أكا، فاد، باش... Hma, Aka, Fad, Bac، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ صيغ الاسم الموصول: نّا، ونّا، لّي، إيك... Nna, wnna, lli, Ig، والتي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات.
ـ وغير ذلك من الأدوات النحوية الأخرى التي تختلف استعمالاتها حسب المناطق والجهات، والتي تشكّل العائق الحقيقي لانعدام التفاهم بين مستعملي الأمازيغية المنتمين لمناطق وجهات مختلفة.
إلا أن ما يجب الوقوف عنده والتشديد عليه، هو أن كل هذه الاختلافات، بنوعيها الثانوي والأساسي، لا تتجاوز مائتي (250) اختلاف بين كل اللهجات الأمازيغية بالمغرب، حسب المقارنة التي أجريتها بين الفروع الثلاثة لأمازيغية المغرب. وواضح أن اختلافات لغوية، بهذا المقدار وهذا العدد، بين ثلاث لهجات، لا يمكن أن تكون سببا كافيا لانفصال كل لهجة عن الأخرى، لتصبح ثلاثَ لغات قائمة بذاتها ومستقلة إحداها عن الأخرى. فمثل هذه الاختلافات قد نصادفها حتى داخل اللهجة الواحدة، عندما ننتقل من قبيلة إلى أخرى، أو من بلدة إلى أخرى، لكن دون أن ينتج عن ذلك أي مشكل في التفاهم بين مستعملي اللهجة المعنية، وذلك لكثافة التواصل بين سكان المنطقة التي تنتشر بها تلك اللهجة، كما سبق شرح ذلك. وإذا كانت هناك صعوبة أو انعدام كلي للتفاهم بين أمازيغيي الشمال والوسط والجنوب، فلا يرجع ذلك بالضرورة إلى الاختلافات التي عرضنا نماذج منها بين اللهجات الثلاث، بل يرجع، كما شرحنا سابقا، إلى انقطاع التواصل اللغوي بين سكان المناطق الثلاث لمدة طويلة.
كيف سنتعامل مع هذه الاختلافات والفوارق؟
(يتبع)
#محمد_بودهان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟