إذا أردنا تعريف
الديمقراطية بأبسط الكلمات وأدقها فيمكن القول : أن الديمقراطية هي نظام حكم هدفه
الدفاع عن حقوق الأقلية ، لأن الأكثرية ليست بحاجة الى من يحميها . وفي البلدان
الديمقراطية الحقيقية ، في أوربا مثلاً ، فأن للأحزاب الصغيرة وحتى الصغيرة جداً
دور كبير وأحياناً كبير جداً لهما تأثيرات أساسية في عمليتي تشكيل الحكومة أو
سقوطها . كثير من الشواهد في الصراعات البرلمانية الأوربية أشارت الى سقوط حكومات
نتيجة أنضمام صوت أو صوتين يمثلان حزباً ضئيل القوى والحجم .
في المعارضة العراقية ، لا توجد بعد ، ملامح
مشرقة وواضحة في تعامل الأحزاب الكبيرة مع الاحزاب الصغيرة . فالتعامل ، في الواقع
العملي ، منذ أكثر من عقد من الزمان يقوم على قاعدة : السمكة الكبيرة تأكل السمكة
الصغيرة . بمعنى أن الاحزاب القوية ، أو المستقوية بالغير ، تأكل حقوق الاحزاب التي
لا دولة وراءها كظهير .
في ساحة
القوى المعارضة ، الحالية ، توجد مجاميع كبيرة من الأحزاب والتجمعات والمنظمات
السياسية ، وليس في ذلك عيباً ، كما يشير بعض الكتاب أحياناً فيصفون الأحزاب
الصغيرة وصفاً سوقياً لا يتناسب مع متطلبات الدراسة الموضوعية . فالأحزاب وتنظيمها
وأعلانها والانتماء اليها ، هو حق من حقوق كل مواطن ، كما أنها تكبر أو تصغر ،
تبعاً لمواقفها ولسياساتها وللجماهير التي تقف خلفها .
مثلاً كانت ( حركة التضامن ) البولندية عام
1980 هي أصغر من الحزب الشيوعي البولوني ومن جميع الأحزاب وأضعفها تنظيمياً ،
بل أن هذه الحركة لم يكن لها أي شكل تنظيمي ، لكن حين اعتقلت الشرطة البولندية
قائدها ليخ فاليسا قال لهم بالحرف الواحد : أن الكلبجة التي وضعتموها على معصمي
ستقضي على نظامكم ..!
بعد عشر
سنوات سقطت جمهورية بولونيا الأشتراكية التي قدمت للجماهير اعظم وأكبر المنجزات
الاقتصادية والاجتماعية لكنها لم تقدم الديمقراطية لشعبها ، فسقط معها أكبر حزب في
البلاد ، بينما صار عامل الموانيء في كدانسك ( ليخ فاليسا ) بالانتخاب
الديمقراطي الحر رئيساً للجمهورية .
كثير من الاحزاب العراقية المعارضة تعتبر الحزب الشيوعي
العراقي حزباً من " الحجم الصغير " بينما تعتبر نفسها من " الأحزاب الكبيرة "
في الوقت الذي لا توجد لا دراسة موضوعية ولا يوجد بحث أكاديمي ولا وقائع ميدانية
ولا إحصاءات حيادية ولا غير ذلك تشير الى أحجام الاحزاب العراقية في ظل ظروف النضال
السري الشديدة التعقيد .
وكثير
من الأحزاب ينظر الى الحزب الشيوعي العراقي كحزب لا يمثل غير " أقلية ضئيلة " ولا
تنظر الى نفسها إلاّ بكونها " أكثرية عظمى " مما يخلق وضعاً ليس دقيقاً في العلاقات
الوطنية ، وقد تجلى هذا الموقف خلال مؤتمر لندن ومواقف اللجنة التحضيرية السلبية من
عدم مشاركة الحزب في المؤتمر ، بل أن وضع الكلبجة في يديه لربما يؤشر ، بأسف
، الى سقوط الممارسة الديمقراطية بحسب استنتاج تجربة ليخ فاليسا التي
تقول ان أية كلبجة لا تؤدي لغير سقوط واضعها في معاصم الآخرين
.
وفي الوقت الذي تقبلت فيه "
الأقلية الشيوعية " حق وجود " الأغلبية " واحترام وحدتها في
النضال من اجل التغيير الديمقراطي ، كانت هذه " الأغلبية " و ما زالت لا تتقبل
وجود " الأقلية
الشيوعية " ولا تحترمها ، مما أوجد ثغرة كبرى في المساواة الحقوقية الديمقراطية
داخل صفوف المعارضة العراقية .
نتج عن ذلك ، أيضا، حالة معقدة ومركبة في علاقة " الأغلبية " مع " الأقلية "
وهي الحالة القائمة على الاستعلاء ، تقبلها الحزب الشيوعي بأخلاص وطني
تام بحيث لم تؤثر على مواقفه الأيجابية تجاه " الآخر " . لكن المفترض ، هنا ،
ان تدافع الديمقراطية عن نفسها ، وأن تكون متسامحة أزاء النضال الديمقراطي وغير
العنيف الذي تخوضه " الأقلية الشيوعية " المعارضة للنظام الدكتاتوري ، وهي من
الأقلية التي لا تقف وراءها لا قوة دولية ولا أقليمية ولا يمولها غير أعضائها
من العراقيين " الفقراء " ..!!
من الواضح للجميع أن أية قوة وطنية عراقية غير قادرة على قلب النظام أو
تغييره مهما كانت هذه القوة أو تلك كبيرة أو صغيرة ، تقف وراءها دولة أو قوة
اقليمية أو لا يقف أحد . أي أن جميع الاحزاب والقوى والتجمعات متساوية في " القدرة
" رغم اختلاف " الحجم " وليس لبعضها ميزة خاصة على غيرها . وبهذا أيضاً
تتساوى " الأقلية الشيوعية " مع " الأكثرية الكردية " أو مع " الأكثرية
الشيعية " أو أية أكثرية أخرى مزعومة .
من هذا الواقع يتضح أن " الألغاء السياسي " لدور أي حزب مهما كان صغيراً من
قبل أي حزب مهما زعم أنه كبير، لا يدل إلاّ على خطأ سياسي فاحش وجاهل يمكن أن يؤدي
الى غليان العلاقات الوطنية بين الاحزاب وربما الى تدهور خطير يشوبها او يشوب
بعضها .
لا أدري لماذا لم
يعر أحد أهتماماً صادقاً وواعياً لموقف مقاطعة مؤتمر لندن ، من قبل الحزب الشيوعي
العراقي وهو من أقدم الاحزاب العراقية وأوسعها نفوذاً سياسياً وفكرياً ، كما اثبت
ماضي التاريخ العراقي وربما سيثبت ذلك في المستقبل المضيء أيضاً . كذلك لم يعر احد
اهتماماً لموقف حزب الدعوة الاسلامي وهو من احزاب الكفاح الواسع والقديم في العراق
.
لا شك ان السبب الواقف في ظهر
هذا الاهمال هو وجود دوافع حزبية ضيقة ، خاصة من يمين المعارضة ، تقف وراء
هدف ومساعي " البعض " الى الغاء دور الحزب الشيوعي بل الى الغاء وجوده ، خاصة من
قبل الذين ما زالوا يحملون الميكروب المسمى " أنتي كومنيست " المورث من الثقافة
المكارثية الاستعمارية ومن بعض ثقافات الناصرية والدينية والبعثية والقومية
اليمينية التي ينقصها سعة الافق في الرؤية الوطنية الشاملة .
من أخطر مواجهات الديمقراطية هي ممارسة سياسة "
ما يحق لي لا يحق لغيري " فمثل ممارسات كهذه لا تعني غير ردع الحليف ونشر
مشاعر الحساسية والخوف من المكانة الوطنية للحزب الشيوعي العراقي الذي احتفظ حتى
هذه اللحظة بحق الصمت والمرونة القصوى الى الحد الذي لم يقدره الجهاز "
القائد " في لجنة التنسيق والمتابعة التي قد يكفر بشرعية ممثلي المعارضة مثلما "
كفرت " اللجنة التحضيرية بقيم الديمقراطية في مؤتمر لندن مما أدى و
يؤدي الى ظهور إحباطات باتت مكررة وكريهة على نفوس العراقيين .. وتجربة العراق في
مختلف العهود في التاريخ العراقي الحديث أكدت حقيقة : أن من يبدأ محاربة
الشيوعية ، سراً أو علناً ، ينتهي بمحاربة الوطنيين جميعاً .. وتلك هي تجربة قادة
وطنيين سابقين عظام أمثال الدكتور محمد مصدق ، وعبد الناصر ، وسوكارنو ، وعبد
الكريم قاسم ، وغيرهم ..
لا يوجد أختبار حقيقي لديمقراطية الوطنيين غير موقفهم من الحزب الشيوعي مهما
كان حجمه ومهما كان رأيهم به أو بسياسته ..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 11/1/2003
******************
الطريق