|
لاند خود
عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4977 - 2015 / 11 / 6 - 12:38
المحور:
المجتمع المدني
((لاند خود))
القصور الفارهة والمبهرة المنتشرة في عموم قارة أوربا أصبحت شاهداً على التقدم والتطور فيها وهي اليوم قبلة للسياح لما تمثله من فترات في تاريخ أوربا، قصور بناها الأمراء والأقطاعيين والأغنياء على مدى قرون. اليوم، لم يعُد يرغب الناس ببناءها وتشييدها لعدة أسباب، منها إنحسار فرص الحصول على أراضٍ واسعة وكلف البناء الباهضة والصيانة والإدامة والخدمة التي تحتاجها من جهة، وعدم الرغبة (بالبهرجة) في حياة حديثة ايقاعها سريع... ربما لا تزال (بيفرلي هيلز) تلك التلال الجميلة قرب لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا الأمريكية هي الوحيدة التي لا يزال يتهافت على شراء أراضيها مشاهير العالم، أبطال الفورمولا وكرة القدم ونجوم شاشات السينما الهوليودية والبوليودية ومنتجو أفلامها... ومادمنا نتكلم عن قلاع وقصور فخمة وأبنية معمارية ذات خصوصية، فالكلام يطول عن قصور كـ (مونت سانت وفرساي) بفرنسا و(بلينهايم) بأنجلترا وقائمة طويلة تشمل قصور القياصرة بروسيا وقلاع تحوطها المياه في النمسا والمانيا وأخرى بتركيا (دولما باشا) و(بيلسي) برومانيا و(الكازار) بأسبانيا... وغيرها. بهذا البحث البسيط، نريد التحدث عن قصور أصغر حجماً وأقل أهمية، كان يشغلها بعض الأثرياء ليعيشوا حياة (البرستيج) الفارهة التي تحلّوا بها وأرادوا أن يتركون للأجيال اللاحقة شواخص تتحدث عنهم، وهذه القصور ربما تجدها خارج المدن والقرى بأوربا، خصوصاً بين المزارع حيث الأراضي تسمح بتمدد رياض تلك القصورالساحرة بسواقيها وقناطرها وبواباتها الجميلة... اليوم أصبحت هذه القصور (ثقلة) على ورثتها لأنها بحاجة للإدامة مع تقادم عمرها، كما تحتاج حدائقها الفسيحة لمتابعة وعناية ليست يسيرة، وهكذا توجه الورثة للأستفادة منها بتأجيرها كلها أو أجنحة منها بكافة محتوياتها للناس، فيقوم الزائر (المستأجر) والذي يدفع مبالغ كبيرة من أجل السكن والعيش كحياة النبلاء والميسورين لعدة أيام، حيث يجد نفس الإيقاع والطقوس والخدمة، مفارش وأسرة ومطابخ وحمامات خيالية يتمتع بها الإنسان العادي لعدة أيام سوف لن تُمحَ من ذاكرته... في هولندا، تسمى تلك القصور الفارهة بـ (لاند خود) ويمكن البحث بصفحات الأنترنيت عنها بسهولة، قريبة منك أو بعيدة عنك، على سفح تل أو في أنحدار وادٍ، على ضفة نهر أو بواجهة البحر... أي كما تشاء، وبالتالي يمكنك أستأجارها كلها لـ (كروب سياحي) أو غرفة منها لقضاء أو تجديد شهر عسل من عدة أيام لشخصين، فتتمتع بالفطور في ظل حدائق غناء وأمام اقفاص طيور نادرة تشدو لك الألحان، ويفترش غدائك المنوع منضدة طعام تمتد لعدة أمتار تحت نجفة من الكرستال تُنيرها الشموع بروائحها الزكية... كل فرد أصبح يتمنى أن تسمح له (جيبه) بأن يعيش أيام من العمر سوف لن تُنسَ ولا تُمحً من الذاكرة... × × × يوجد في هولندا 1100 عقار مصنف كـ (لاند خود) أي قصر له مساحة أكثر من 10 هكتار نصفها مساحات خضراء، ويسمح القانون الهولندي منذ حوالي مائة عام بأن يُشغَل هذا العقار لأغراض ليست خاصة، مما يتيح للمالك أن يُغطي نفقات صيانته وإدامته كتراث خاص للبلد يجب المحافظة عليه... ربع هذه العقارات تؤجرها منظمات مجتمعية تحافظ عليه وتستثمره كمرفق سياحي، مطعم أو فندق ودار إقامة مؤقتة أو متحف ومعرض دائم، والبقية لا تزال تدار بيد أصحابها... من بين تلك العقارات الذي لها طابع خاص أن تعيش حياتك فيها لعدة أيام بعيداً عن ضجيج المدينة، أن تتدفأ بمواقد خشبية من أخشاب أشجار الموقع، ويكون فطورك (فريش) من أبقار ترعى في الموقع ومربيات من الفواكه وفطائر من دقيق الحبوب وأن غداءك (بيولوجي) مائة بالمائة وحتى (الواين) معتق من كرومه... هذا الموقع والذي كان من بين عشرات المواقع، كان قد قدم لنا برنامج تلفزيوني نبذه عن تاريخه وخصائصه، بدت كالدعاية التجارية والتي غالباً ما تكون مدفوعة الأجر، كان أسمه (مودر فايفر) أي بركة الطين... هذا البرنامج يقدم في كل حلقة نبذه مختصرة عن أحد الـ (لاند خود) بهولندا ومن ثم يتطرق لحياة أحد شخصيات المواطنين الهولنديين معظمهم من كبيري السن بعد أن يرصد من بعيد كل ما يتعلق بهم، أهتماماتهم وما يحبوه وما يحنوا إليه... وهكذا، يمول الحلقة أدارة تلك العقارات التي تستخدمه كمطعم أو موتيل أو معرض أو متحف... كان صيدهم في أحد حلقاته المتميزة، سيدة عجوز تسكن مع رجل يقارب سنها تقريباً في بيتهم في المدينة... أستضاف المقدم، أو بالأحرى أستضافت العجوز ببيتها المتواضع فريق عمل التلفزيون، وبدأ الحديث معها عن حياتها الخاصة، فقد قامت هذه السيدة بتربية بنتي أبنتها التي توفيت وهي شابة نتيجة حادث، فحافظت عليهنّ وخرّجتهنّ من الجامعة، ثم حرصت من خلال علاقاتها أن تجد لهنّ عمل، ومع أنه قد أشغلهنّ عن جدتهنّ، لكنهن يقمنَ بزيارتها كلما يسمح وقتهنّ وظروفهنّ، ويلبينَ الحدود الدنيا لحاجتها... لكن البرنامج ودون علم السيدة العجوز كان قد التقى بالحفيدتين وسألهنّ بكل ما يتعلق بجدتهنّ وما تحتاجه وما تحبه وما تتمناه، فصار لدى فريق اعداد البرنامج جملة واجبات، أن يهيئوا للعجوز كل ما يسعدها ويثير أهتمامها... فسألها المقدم أن تحكي لنا تجربتها بالحياة... أصعب لحظات حياتها تلك التي فقدت بها ابنتها الشابة، وقبل ذلك كان وداع زوجها، واليوم تعيش مع هذا الرجل الذي يشاركها البيت ويتحمل نصف نفقاته، فبدا لها رفيقاُ في وحدتها وأنيساً في خلوتها، لكنها أهملت نفسها واثاثها وحديقة المنزل بسبب وضعها الصحي وكبر سنها، كان البيت في السابق أنيقاً مرتباً والحديقة تزهو بالزهور الملونة والأثماراللذيذة والأشجار الجميلة... كانت تتمنى أن تعيش بشكل أفضل وأن تستطيع تقديم المعونة والاسناد والدعم لحفيدتيها أكثر، فقال لها قريق العمل بأنهم قرروا أن يقدمون لها ولرفيقها هدية ولو متواضعة، فتشكرت منهم ولم تُعِر أهمية كبيرة لذلك، فهي تعيش والدولة تقدم لها الرعاية الصحية المجانية والأسناد المادي بما يستوفي شروط حياتها، لكنهم أبهروها حين أخبروها بأن هديتهما ستكون زيارة الى (لاند خود ـ مودر فايفر). طارت العجوز من الفرحة حين أشار المقدم لسيارة فارهة تنتظرها خارج مسكنها، وهي جاهزة للانطلاق خلال بضعة دقائق، فصورت كاميرة البرنامج كيف فتحت حقيبتها الجلدية القديمة التي لم تستخدمها منذ سنوات لتدس فيها أثواب عفا عليها الزمن وذهبت (موضتها)، فعادت وذهبت بضعة مرات وسرحت شعرها ولبست ملابس السفر ووضعت قبعتها ومسكت بقفازيها، فاليوم أصبح يومها والساعات والأيام القادمة لها طعم خاص وقيمة كبيرة. كذلك ركض الرجل ليضع بحقيبته صنارة صيد سمك ودوربيل قديم وبندقية صيد لم تتحرك من على الحائط منذ سنين، كان يشعر بأن الزمن قد عاد به خمسين سنة للوراء. ... وهكذا أستمر البرنامج كما مخطط له، وتابع فريقه جولاتهما داخل العقار الجميل وأقاموا لهما حفلة زواج ولبسا (دبلتي) الزواج بعد أن أبديا رغبتهما بالزواج من بعض، فكان القس حاضراً ونزلاء العقار وفريق التلفزيون شهود. وما ابهرها حقاً أن ترى حفيدتيها قد حضرنَ يحملن شمعتين وقد أرتدين بدلات بيضاء جميلة، كانت دموع الفرح لهذه الهجوز اقوى من أن تداريها وتمنعها... بعد ليلة حافلة، كان (العروسان) يقوما بجولة بمعية فريق العمل في أحد أسواق القرية المجاورة في خطوة كان التلفزيون قد رتبها دون علم العجوز وبالتنسيق مع الحفيدتين، ليقع نظرها على فانوس أثري جميل جداً علقوه لدى أحد بائعي الطريق، وحين توقفت عنده تنظر إليه بإمعان، سألها المقدم عن سبب أن الفانوس قد أخذ من وقتها الكثير، فقالت بأنه يشبه بالضبط فانوساً كانت قد أهدته أبنتها المتوفية لها ثم سقط حين علقته بالشجرة وتهشم، فأخبرها البائع ـ وكان بأتفاق مع الفريق ـ بأنه سيهديه له دون مقابل لأن قيمته بما يوحي من ذكرى لها، هو أكبر من أن يُقدر بثمن... أما الزوج الذي أرتدى ملابس صيد، فقد طار من الفرح حين وفروا له إطلاقتين لبندقيته الأثرية، ومع أنه لم ينجح بأصطياد طير، لكن كانت سعادته غامرة حين نجح بصيد سمكة قادها حظها أن تقع فريسة لطعمه الذي هيأه بحرص شديد... ... بعد رحلة رومانسية للعجوزين وبنا بهذا البرنامج الجميل داخل (بركة الطين)، والتي كانت محفوفة بالمفاجئات الكثيرة، عاد العروسان بعد حلم سعيد للبيت ليجدون ما يسرهم ويُسعد ناظرهم، فقد قام فريق متخصص بتشذيب الحديقة وزراعتها بالزهور الجميلة وهيأوا مكاناً مناسباً لتعليق الفانوس، وبنو (بار بي كيو) حجري بالضبط كما حلم الرجل المسن وتمنى... فقامت العجوز شخصياً بتعليق فانوسها الذي بقيت تحتظنه بين يديها، فأنهمرت دموع فرح بتحقيق أمنيتها ممزوجة بدموع حزن لذكرى أبنتها الراحلة. وحينما شاركها فريق العمل وكل المشاهدين تلك المشاعر الجياشة الصادقة...حقق البرنامج الغاية منه، أسعاد السيدة العجوز والرجل الذي رافقها بكل مودة في خريف عمرها. كانت تطير كالشابة المفعمة بالطاقة والأمل، تتلمس الزهور الملونة وتشم عبيرها، بينما راح الرجل يتجول بخفة بين الممرات المرصوفة بالحجر ويتفحص مكان الشواء، يتصرفان كعصفورين يحلمان أن يعود الزمن عشرات السنين للوراء، فيمتلئ المكان من جديد بالأصدقاء والخلان... كانت الحفيدتين وجميع المشاهدين يُشاركوهما الأحتفال، بينما كان البرنامج بنفس الوقت قد سلط الضوء على... (لاند خود ـ بركة الطين). عماد حياوي المبارك
#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)
Emad_Hayawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
((زوغق))
-
((ديوان بالديوانية))
-
(أوتو ستوب)
-
((خوردل روز))
-
آيدلوجيات وأستراتيجيات
-
بين الرصافة والكرخ
-
((أطوار))
-
حزب الفراشات، بين الباستيل والخضراء
-
(( وعد الله))
-
ناس تأكل الكباب...
-
((لستُ أدري!))
-
((وساطة!))
-
مجرد كلام سلطنة
-
سليخة
-
وهابيون جدد
-
ثلاثاً في ثلاث
-
هبهب
-
من نصرٍ... إلى نصر
-
جواسيس (غشمة)
-
حواس وعجايا
المزيد.....
-
أهل غزة في قلب المجاعة بسبب نقص حاد في الدقيق
-
كالكاليست: أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت خطر على اقتصاد إسرائ
...
-
مقتل واعتقال عناصر بداعش في عمليات مطاردة بكردستان العراق
-
ميلانو.. متظاهرون مؤيدون لفلسطين يطالبون بتنفيذ مذكرة المحكم
...
-
كاميرا العالم توثّق تفاقم معاناة النازحين جرّاء أمطار وبرد ا
...
-
أمستردام تحتفل بمرور 750 عاماً: فعاليات ثقافية تبرز دور المه
...
-
أوبزرفر: اعتقال نتنياهو وغالانت اختبار خطير للمجتمع الدولي
-
-وقف الاعتقال الإداري ضد المستوطنين: فصل عنصري رسمي- - هآرتس
...
-
الأردن.. مقتل شخص واعتقال 6 في إحباط محاولتي تسلل
-
بورل: أندد بالقرار الذي اعتمده الكنيست الاسرائيلي حول وكالة
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|