|
مدخل إلى مفهوم الاستراتيجية في نهاية مطافها 2 *
ميشيل حنا الحاج
الحوار المتمدن-العدد: 4975 - 2015 / 11 / 4 - 02:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تنبيه ==== هذا ليس مقالا، بل هو دراسة تشكل الجزء الثاني من الفصل الأول من كتاب جديد لي بعنوان: نحو مفهوم جديد للاستراتيحية - "الاستراتيجية في نهاية مطافها". وأنا أعمل على هذا الكتاب منذ عام 1992 ، حيث أعدت صياغته أكثر من مرة، وانا أحاول الان انجاز صياغته الرابعة والأخيرة لغايات نشره كتابا في العام القادم. وقد تكون فصول الكتاب التي ستنشر هنا على دفعات، طويلة. لكني أرجو أن يعذرني القارىء عن الاطالة في فصوله. فالكتاب يشكل دراسة علمية شبه أكاديمية (لكنها سياسية بأهدافها)، تحاول الغوص في الأعاصير والحروب التي تنجم عن قرارات استراتيجية متسرعة من بعض الدول، وخصوصا الدولة الأميركية **************************
بعد أن أوردت موجزا لأهم أنواع التخطيط السياسي الاستراتيجي، والمسماة أحيانا بالثوابت المبدئية، أود أن أوضح أن بعض هذه الاستراتيجيات، وخصوصا الجوهرية والهامة منها، تصاغ على مهل من مجموعة من السياسيين والمفكرين والدارسين للعلوم السياسية وللمفاهيم الاستراتيجية. ولكن بعضها يتم أحيانا اقراره على عجل، وخصوصا في ظروف التطورات الطارئة. وأود هنا أن أستدرك بالقول، أن تسمياتي لأنواع ودرجات الاستراتيجيات، لا أستخدم فيها بالضرورة، التسميات المستخدمة في كتب العلوم السياسية والاستراتيجية والدراسات الأكاديمية، بل يستدند الى وسيلتي الخاصة في وصف تلك الاستراتيجيات استادا الى مراحلها ودرجاتها وخطواتها. ومن أمثلتها ما سأورده الآن عن بعض القرارات الاستراتيجية التي تتخذ على عجل وفي ظرف طارىء.
ومن أمثلة القرارات الاستراتيجية المتخذة على عجل، وربما في لحظات غضب، كان قرار زبيغنيو بريجنسكي - مستشار الرئيس الأميركي جيمي كارتر، بتقديم الدعم والسلاح والتدريب لحركة من المجاهدين الاسلاميين، بغية مقاومة الغزو السوفياتي لأفغانستان.
فالسوفيات قد بدأوا بالغزو في ليلة الرابع والعشرين من كانون أول (ديسمبر) 1979. ونتيجة لذلك، وجد بريجنسكي المتواجد في مكتبه في البيت الأبيض... نفسه مضطرا .. غاضبا وعلى مضض .. للبقاء في مكتبه، في ليلة عيد الميلاد (كريسماس)، عوضا عن مشاركة أسرته في تلك الليلة الاحتفالية الهامة للأسر الأميركية، وذلك ليتابع أخبار الغزو السوفياتي عبر محطات التلفزيون ووكالات الأنباء والتقارير المتسارعة المرسلة اليه من السي آي ايه والبنتاغون. ففي لحظات الغضب هذه ، لاحت له بادرة التعاون مع المجاهدبن الاسلاميين في مقاتلة السوفيات، باعتبار المجاهدين الاسلاميين المتشددين في تدينهم، أكثر الناس ملائمة لمقاومة الجيوش السوفياتية الكافرة الملحدة.
ولكن الحقيقة تقتضي أن نذكر بأن التوجه "البريجنسكي" نحو التعامل مع الاسلام السياسي، لم تبدأ في ليلة كريسماس 1979، اذ كان قد بدأ التعامل معهم منذ بضعة أسابيع سابقة، بل ربما منذ شهور سابقة، معتمدا وتيرة ذات الاجتهاد القائل بأن التوجه الاسلامي، هو أفضل وسيلة لمحاربة الشيوعية واليسارية والسوفياتية الكافرة. فمنذ ذلك الوقت السابق على ليلة كريسماس 1979 ، بدأ بتشجيع الامام روح الله خميني المتواجد في أحد ضواحي باريس، على الادلاء بصوته في مسيرة الثورة على الشاه التي بدأت معالمها تظهر منذ نهايات عام 1978، وكان يقودها العمال والطلبة وحزب توده الشيوعي والحركات اليسارية وخصوصا المتمثلة بتنظيم فدائيي خلق الماركسي، يشاركهم أنصار الزعيم القومي الراحل الدكتور محمد مصدق. وهكذا بدأت فجأة رسائل الشاه الصوتية المسجلة على أشرطة تسجيل والمشجعة على التمرد على الشاه، تصل الى طهران فتنتشر فيها، دون أن تستطيع أجهزة أمن السافاك الايرانية التمكن من منع وصولها، أو اكتشاف وسيلة وصولها من فرنسا الى ايران. ورجح البعض أنها كانت تصل الى طهران في الحقيبة الدبلوماسية للسفارة الأميركية؟
وهنا لا بد أيضا من الاستدراك بالقول، أن توجه بريجنسكي للتعامل مع خميني (ثم مع المجاهدين الأفغان)، لم يكن يتم ضمن مفهوم القرارات الطارئة لمواجهة حالة طارئة كتلك السابق ذكرها كنوع من القرارات المتخذة على عجل. ذلك أن خطوته تلك قد استندت الى مفهوم استرانيجي طرحه بريجنسكي قبل تلك التطورات بفترة طويلة، وشكل نظريته الخاصة القائلة بأنه اذا كان لا بد من التغيير في بلد ما، ولم تكن الولايلات المتحد راغبة بطبيعة التغيير القادم، فان عليها أن توجه ذاك التغيير ليخدم في النهاية مصالحها. وبما أن بريجنسكي الكاره للفكر الماركسي الشيوعي والذي اعتبره الخطر الأكبر على الولايات المتحدة، فقد تبنى تقديم الدعم السياسي للامام خميني، ممكنا اياه من الوصول الى السلطة مع مطلع عام 1980 ، لا لتمكينه فحسب من طرد الشاه من طهران، بل لطرد وسحق كل الحركات اليسارية والقومية والشيوعية في ايران، مع أمل بأن الخميني عندما يتخلص من أولئك، سيوجه بنادقه نحو الاتحاد السوفياتي عبر الحدود المشتركة بين ايران والأراضي الخاضعة للنفوذ السوفياتي. الا أنه فعل العكس تماما. **********
ولغاية مزيد من الايضاح وتفهم قضية الاستراتيجيات، خصوصا الأميركية منها بتفصيل أوسع، لا بـدّ من التـنويه أنّ الاستراتيجيات، ليست هي العناصر الوحيدة المؤثّرة في الموقـف السياسي الأميركي. فهناك عوامل أخرى تـؤثّـر في صناعة ذاك الـقـرار. ومنها المبادئ السياسية ، والاجتهادات السياسية، التي لها من الأهمية ما للاستراتيجـيات المرسومة. فالمبادئ هي استراتـيجـيات راسخة في سياسات الولايات المتحدة .
ومن أقـدم المبادئ السياسية الأميركية،"مبدأ مونرو" ( MONROE’S DOCTRINE). وينـسب المبدأ للرئيس الأميركي "جيمس مونرو "، الذي أرسى أسسه في خطاب وجّهه إلى الكونجرس في عام 1823. وبموجب هذا المبدأ، فإنّ الولايات المتحدة تعارض تحويل السلطة على أراضي القارة الأميركية، من دولـة أوروبـية إلى دولة أخرى، مشيرا الى هيمنة بريطانيا، واسبانبا والبرتغال على أجزاء من الأراضي التي باتت لاحقا ولايات أميركية. وتعارض أيضاً تـدخّـل الدول الأوروبـية في العلاقات السياسية للدول المستـقـلّة في العالم الجديد، أي في الأمريكيـتـين. فإذا تـذكّرنا أنّ معظم أراضي الـقـارتـين الأميركيتين، كانـت مستعمرات أوروبـية حتى ذلك الوقت ، ندرك أهمية هذا المبدأ ودوره في فرض وصاية أو حمايـة النـفـوذ الأميركي الذي بزغ نجمه حديثـاً، في ذاك الجزء من العالم. ونتيجة ذاك المبدأ، سيطرت الولايات المتحدة على ولايات فلوريدا (الاسبانية سابقا)، وكاليفورنيا المكسيكيكية الاسبانية سابقا، ومثلها ولاية تكساس وولايات أخرى كانت تحت الهيمنة الأوروبية أو البريطانية.
ومن المبادئ الأساسية الأخرى السائدة في الفكر الاستراتيجي الأميركي، مبدأ " توازن القوى " (BALANCE OF POWER) . وهو مبـدأ قـديـم عرف منذ عهد المدن اليونانية، ولكـنّه لم يصبح ناشطاً على الصعيد الدولي، إلاّ في القرن الخامس عشر. ولـقـد أصبح مبدأ جوهرياً في السياسة الأميركـيـة مـنـذ أوائـل القرن التاسع عشر.
ولـقـد طوّر هذا المبدأ في السياسة الأميركية، ليصبح وسيلة لخدمة الاستراتـيجـية والمصالح الأميركية، من خلال المحافظة على توازن الـقـوى العسكرية المتـقـاتـلـة ، طالما أنّ استمرار تـقـاتـلها يخدم تلك المصالح. فهو بالتالي قـد نُـفِّـذ بوجهه السلبـي، وليس بوجهه الإيجابـي. ولـقـد رعت الولايات المتحدة، أو راعت هذا المبدأ بشكل واضح ، أثـناء الحرب العراقـيـة الإيرانية بـين الأعوام 1980 ـ- 1988 ، ساعية عبر المحافظة على توازن القوي بين الفريقين المتحاربين ، للحيلولة دون انـتصار أي من الطرفين المتحاربـين، لأنّ انـتصار أي منهما لا يخدم مصالحها، بل وقـد يهدّد أمن الدول المجاورة. كما رعته أيضا في الحرب اللبنانية الأهلية من العام 1975 الى عام 1989.
ومن تلك المبادىء أيضا، ً مبدأ " الحفاظ على الـقـوّة الوطنية عسكرياً واقـتـصادياً وفكرياً . وفكرة " الـقـوّة " عرّفها " هانز مورجانـتو "(HANS MORGENTHAU) بأنّها "سيطرة رجل على عـقـول وسلوك الرجال الآخرين"(#) . وركّز الرئيس هاري ترومان هـذا المـبـدأ وأبرزه في خطاب له عام 1946. إذ قال: " "يجب أن نـبـقى أقـويـاء . ليس لأنـنا نخطّط لفرض وجهات نظرنا بالقوة على العالم ... يجب أن نبـقـى أقـويـاء ، من أجل الحفاظ على موقعنا القيادي " .
وهناك مبادئ أخرى كثيرة رسخت في السياسة الأميركية ، وليس هذا هو مجال التعرّض لها بالتـفصيل. ولكنّ أحدثها هو ما يعرف "بمبدأ كينيدي " (KENNEDY’S DOCTRINE) . وكذلك "مبدأ نيكسون" (NIXON’S DOCTRINE). ومثلها "مبدأ كارتر" (CARTER’S DOCTRINE) الذي أطلـقـه الرئيس"جيمي كارتر" (JIMMY CARTER). وهـذا " المبـدأ يـقـضي بـالدفاع عن مـصـادر النـفـط ، وعـن حريـة تـدفّـقـه " بأيّـة وسيلة ممكنة " ، بما فيها العسكرية ، بل والنووية ، كما قال كارتر.
وإذا كان " مبدأ كارتر " هو أهم المبادئ المتعـلّـقـة بحماية النفط، فإنّ "مبدأ أيزنهاور" الذي أطلق في أوائل الخمسينات، والمعروف باسم "ملء الفراغ" ، قـد سعى "لملء الفراغ " الذي تـتركه بريطانيا وفرنسا بسبـب انسحابهما سياسياً وعسكرياً من المنطقـة النـفـطية. وهو قـد قصد " ملأه " بالنفوذ الأميركي. فهو شبــيـه " بمبدأ مونرو" المعني بالمناطق الكائنة في القارة الأميركية. كلّ ما في الأمر انه كان معنيا هذه المرة ً بمنطقة أخرى من مناطق العالم هي منطقة الشرق الأوسط . ********
وبالإضافة إلى المبادىء السياسية ، هناك الاجتهادات التي تـفرز نظريات لـم ترسخ بعد في السياسة الأميركية رسوخاً كافياً، كي تـتحوّل إلى مبادئ سياسية مـؤكّدة ، فـضلاً عن كونها تدور في محور الاستراتـيجـيات المؤقّـتـة، لتعامل مع قضايا طارئة أو أزمات مؤقتة.
ومن أبرز النظريات أو الاجتهادات الحديثة : 1) استراتـيجـية "حافة الهاوية "، التي تـنسب الى "جون فوستر دالاس" (JOHN FOSTER DULLES) ، وزير الخارجـية الأميركية في أوائل الخمسينات، وهدفها تـأزيـم ودفع أحداث أزمة ما نحو حافة الهاوية، تمهيداً لإيصالها إلى مرحلة تـتطلّب الجلوس للـتـفـاوض من أجل حلّها. فهي وسيلة تخويف من رهبة وغموض نـتائج الوقوع في براثـن الحرب . 2) سياسة أو استراتيجية الخطوة خطوة التي ابـتـكرها "هنري كيسنجر" (HENRY KISSINGER) في أوائل السبعينات، أي في عهد الرئيس "ريتـشـارد نيكسون" ( RICHARD NIXON). وهذه الاستراتـيجـية المؤقّـتـة، تهدف إلى حلّ القـضـايا المعقـدة على مراحل، أي خطوة خطوة. وقـد طبّـقـهـا "كيسنجر"، على المراحل الأولى لمفاوضات السلام بـين مصر وإسرائيل، بادئاً " بـفـكّ الاشتباك " ، مـنـتـهـيـاً بالمفاوضات المباشرة في " كامب ديفيد " . 3) سياسة أو استراتيجية " توجـيه التغيـير "التي نسبت إلى " إزبـيجنيو بريجنسكي" مستـشار مجلس الأمن القومي في أواخر السبعنيات. ومفهوم هذه النـظريـة، أنّه إذا هـبّـت رياح التـغيـير على بـلد ما، وكان لا بدّ من التغيـير [أي تغيـير النظام السياسي فيه] ، فمن الأفضل توجـيـه هذا التـغـيـير ليخدم مصالح الولايات المتحدة. وطبّـقت هذه الاستراتـيجـية المؤقّـتـة في إيران وأفغانستان في أواخر السبعينات كما سبق وذكرت تفصيلا، وكذلك في الفلبـين في منـتصف الثمانينات, وقد أدى تنفيذ نظريته تلك، الى معاناة الولايات المتاحدة من كوارث سياسية وعسكرية، كما حدث في ايران الخمينية، وفي افغانستان نتيجة ظهور القاعدة وطالبان. 4) وهناك استراتـيجـية مؤقّـتة أخرى، لم تـتبلور معالمها بعد، ولا يعرف بالضبط من هو راسمها ، ولكن قـد تكون شرارة إنطلاقها قـد تواجدت في ردّة الفعل الغاضبة على قرار الحظر النـفـطي الذي صدر في أواخر عام 1973، وما سبّـبه ذلك القرار من تضخّم مالي وعملات صعبة بـدأت تـتجمّع في خزائن دول "اوبـيك" ، مما تطلّب امتصاصه بشكل أو بآخر. ومن هنا بدأت في تلـك المرحلة ، الحروب الصغيرة في المنطقة ، كالحرب الأهلية اللبنانـيـة ، والحرب الأفغانية ، والحرب العراقـية الإيرانـية .
وتطبـيـقـاً لمبـدأ " تـوازن القوى"، فإنّ كلّ حرب بدأت، قـد جرى العمل على إطالتها، فلا يجوز إخمادها. ومن هنا يمكن تسميتها بحرب انـتهت، حرب ابتدأت . كما يمكن تسميتها بالحروب العـبـثـية، لأنّ الغايات المعلنة لإشعالها وكأهداف ظاهرة لها، غالباً ما تـتحقّـق. ومع ذلك، تمضي الحرب في موكبها دونما تـوقـف. فالغايـة المعلنة للحرب الافغانية، كانـت طرد السوفيات من افغانستان. ومع ذلك، استمرّت الحرب رغم خروج السوفيات منها. ومثلها الحرب اللبنانية التي بـدأت بصورة حرب "الموارنة المسيحيين" ضدّ الوجود الفلسطيني ، ثم استمرّت ـ رغم الخروج الفلسطيني الى تونس، ـكحرب مسيحية إسلامية، فحرب ضدّ الوجود السوري في لبنان، ثم حرب بـين أحزاب "الشيعة "، وحرب بـين الموارنة أنـفـسـهم. واستمرّت الحرب تـبدّل مواقعها وجبهاتها إلى ما لا نهاية .
ولكن إذا كان مبـدأ التحليل من الـقـمّـة، أي انطلاقـاً من ذروة استراتـيجـية نهاية المطاف، هو المبدأ الذي اعتمدته دائماً في التحليل السياسي لأي حدث سياسي أو عسكري يطرأ على ساحة الأحداث والتطورات،، فإنّ المنهج المستخدم في ذاك التحليل، هو الذي اخـتـلف أو تطـوّر تدريجـيـاً، فصقـل بالتجربـة والممارسة. فـفي بـداية عهدي به، كنـت أعتمد فكرة " الافـتراض والإسقاط ". وهذه تسمية قـد تـبـدو للوهلة الأولى غامضة أو معـقـدة، لكنّها في الواقع ، تسمية بسيطة تمـثّل أسلوباً مبسّطاً في المفاضلة بـين احتمال وآخر.
فإذا وقع حدث ما في المنطقة، وأخذ شكل الأزمة السياسية، أو الاضطراب الأمني، أو التمرّد الثوري الذي قـد يـبلغ مرحلة الحرب الأهلية أو المواجهة العسكريـة الداخلية أو مع دولة اخرى، فإنّ الأمر يـقـتـضينا أن نفـترض كخطوة أولى احتمالين لما يجري. فإما أن تكون الأزمة المتـفجّرة حديثاً، مهما كان شكلها، نـابعة من عوامل داخلية محضة، أو ناتجة عن عنصر خارجي يحرّكها. وبما أنـنا أمام "افـتراضين" ، فإنّ علينا عندئـذٍ ، مستخدمين العقل وما توفّر من معلومات عن المصالح المتضرّرة أو المستـفيدة مما يجري، أن نرجّح أحد "الافـتراضين"، و"نسقـط" الافـتراض الآخر من جدول الاحتمالات .
بهذه الفـقـرة البسيطة نـفـهم معنى "الافـتراض" ، ومعنى "إسقـاط" الافـتراض الضعيف أو الذي يـبدو لنا ضعيفاً. وعلى هذا المنوال نسير في منهج التحليل ، فـنطرح افـتراضين آخرين على أن يـكون الافـتراض السابـق الذي جرى ترجيحه منهما . ثم " نسقـط " الأضـعـف من بـينهما .
ولكنّ " الافـتراض" لا يعني الانطلاق من المجهول أو من الفراغ. فهو افـتراض للمصلحة الـقـائمة. ومصلحة الجهة المعنية ، أو المشتبه بوجود دور لها، غالباً ما تكون واضحة ومعروفة. فهو افـتراض يـنـطلق من نـقـطة ظاهرة هي المصالح للجهات أو للدول المعنية المشتبه بوجود دور لها. فالدول ليس لها أصدقـاء، "وإنّما هي صديـقـة لمصالحها " .
إلاّ أنّ الافـتراض والإسقـاط ، كان يعني المفاضلة بـين احتمالين فـقط. ولاحظت تـدريجـيـاً ، أنّ مفاضلة كهذه، قـد لا تـقـود إلى النـتائج الدقـيـقـة المتوخّاة، لأنّك قـد تـفاضل بـين احتمال ضعيف، واحتمال آخر رغم زخمه في مواجهة الاحتمال الضعيف، هو أيضاً احتمال ضعيف آخر في مواجهة احتمال ثالث. أي أنّ المفاضلة عندئـذٍ، ستجري بـين احتمالين كلاهما ضعيف، ولا ينطوي (أي منهما) على المصلحة الـفـاعلة الجاري استـقصاؤها والبحث عنها. فالمفاضلة إذن يـنـبغي أن تجري بـين كافـة الاحتمالات في آن واحد. وأدّى ذلك إلى طرح منهـج "شمولية الاحتمالات" ، دون إلـغـاء منهج "الافـتراض والإسقاط " إلـغـاء تامـاً .
وعندما أقول ""شمولية الاحتمالات"، فأنا أعني " الشمولية " بكلّ معانـيـها. لأنـك إذا فـاضلت بـين أربعة احتمالات مطروحة، فـقـد تخرج بنـتيجة خاطئة لأنّك أهملت الاحتمال الخامس، أو السادس الذي قـد يكون هو الاحتمال الأكثر ترجيحاً، ومع ذلك غـاب عن " افـتراضاتـك". وبذا تكون قـد فاضلت بـين أربعة احتمالات جميعها خاطئة. وبما أنّك قـد رجّحت أحدها باعتباره الاحتمال الأقـوى بـينها، فأنـت قـد رجّحت استـنـتاجاً خاطئاً، لأنّ الاحتمال المرجّح، رغم قــوّتـه بـين الاحتمالات الأربعة ، هو احتمال ضعيف أمام الاحتمال الخامس .. أو السادس الذي لم يطرح .
فـشمولية الاحتمالات ضرورية للوصول إلى النـتائج الصحيحة. وينبغي أن تـتسع لتـشمل الاحتمال الـتـافه أو الهامشي أو الضعيف. فما يـبدو احتمالاً ساذجاً أو هامشياً ، قـد يكون هو الاحتمال الصحيح. وغالباً ما يكون الاحتمال الذي يلمع سريعاً كالشهاب باعتباره الاحتمال الأقوى، فـيـشدّ أنظارك إليه منذ الوهلة الأولى، هو آخر الاحتمالات التي يـنـبـغي ترجـيحها، إذ قـد لا يكون بالضرورة هو أقـواها جميعاً. كما أنّ إهمال الاحتمال "الهامشي"، قـد يعود بالكارثة على مخطّطي الاستراتـيجـية.
فـعـنـدما وقع التـغـيـيـر في إيران عام 1979، لم تحاول الولايات المتحدة منع وقـوعه ظناً منها بأنّ "الخميني" الـقـادم حاملاً راية الدين ومحاربة الإلحاد، سيكون العدو اللّدود للاتحاد السوفياتي. فالشيوعية، كما جرى الترجـيح، لا بدّ أن تكون عدوّته الأولى، مما سيؤدّي إلى ضرب الحركات اليسارية والماركسية الإيرانية بسيف الأصولية الخمينية، ليتّجه ذلك السيف بعدها، نحو الدول الإسلامية في الاتحاد السوفياتي. ولم يـفـكّر عندئذ مخطّطو تلك الاستراتـيجـية، باحتمال تـوجّـه ذاك السيف أو تلك البنادق نحو الولايات المتحدة. إذ كانـت محاربـة الشيوعية، هي الخاطرة الأولى التي لمعت كالشهاب في الأفـق، وبـدت عندئذ محاربـة الولايات المتحدة عوضا عن محاربة الاتحاد السوفياتي، كاحتمال هامشي صغير، بل وبعيد الاحتمال. لكنّ الاحتمال الهامشي هو الذي تحقّـق على أرض الواقع، فاتـّجهت كـلّ البنادق الإيرانية، ومن اللحظات الأولى، نحو الولايات المتحدة التي اضطرّت عندئذٍ لإشعال حروب ومعالجة أزمات متعاقـبـة ما زالت تعاني منها حتى الآن، (ربما رغم توقيع الاتفاق الأميركي الايراني حلو الملف النووي) ... نـتيجة إهمالها لذاك الاحتمال الهامشي الصغير .
والحرب اللبنالنية استهدفـت على أرض الحقيقة والواقع مشاغـلـة الفلسطينين عن مشروع "كامب ديفيد " المطروح آنئذ على الساحة. ولكنّ الحرب الاهلـيـة تـلـك ، أدّت أيضاً الى انهيار أمني شامل في لبنان (وهو احتمال هامشي جرى إهماله) ، مما أدّى الى توطيد مركز الفلسطينين، والى تحوّلهم الى دولة على أرض الغير، وبالتالي الى صداع في رأس اسرائيل اضطرّها لغزو لبنان وللدخول في حرب ضدّ الفلسطينين في عام 1982 .
فالاحتمال الهامشي إذن، لا يجوز إهماله أو إسقـاطه. ولو أعدنا كتابة التاريخ، للاحظنا كم من الحروب أو الأزمات الكبرى قـد وقـعـت، مشكّلة منعطـفـاً في التاريخ ، نـتيجة احتمال هامشي جرى إهماله أو تجاهله
ولا بد لي من الاعتراف أن رؤيتي تلك حول المفاضلة بين الاحتمالات، ليس منهجا موجودا في علم الاستراتيجيات أو العلوم السياسية. فهو اجتهاد شخصي مني، وجدت فيه ككاتب ومحلل سياسي، أنه الوسيلة الأفضل والأسلم للغور في عمق الحدث السياسي أو العسكري أو الأمني الطارىء والمفاجىء، دون وضوح في الرؤية والمعلومة حول أسبابه الحقيقية أو من يقف وراءه. فانطلاقا من المبدأ القانوني في التحقيق الجنائي (وأنا قد درست القانون)، لا بد دائما من البحث عن المستفيد من جريمة ما ارتكبت. وفي التطور المفاجىء السياسي أو الأمني أو العسكري، قد يكون المستفيد منه واضحا في بعض الحالات، فلا يحتاج المحلل عندئذ للاستقصاء والتحليل عبر المفاضلة بين الاحتمالات. لكن اذا تعدد المستفيدون، أو ساد بعض الضبابية حولهم، فعندئذ يصبح اللجوء الى المفاضلة بين الاحتمالات المفترضة، هو الوسيلة المثلى للوصول الى الحقيقة، وتفهم ما يحدث فعلا على أرض الواقع.
والواقع أنّ المفاضلة بـين الاحتمالات الشاملة، قـد يتحوّل إلى مفاضلة أو مـقـارنة بـين الاستراتـيجـيات المعـنـية المختـلـفـة، بهدف ترجيح الاستراتـيجـية الأكثر تأثيرا أو استفادة من الحدث وما يقود اليه من تطورات وتفاعلات.
فالاستراتيـجـيـات الأساسية العليا، التي هي انعكاس للمصالح الحيوية للدولـة المعنية، معروفة المضمون عادة ولو إلى حد ما، لكنّه حدّ يشكل "كمّا " كافياً لتـفهّم السلوك الـقـائم. ذلك أنّ استخدام العـقـل في عملية التحليل، هو عامل جوهري وأساسي. "فـالعـقـل العلمي هـو الباحث عن أسباب حقـيـقـية ومعـقـولة لسياسات الغير نحونا، وسلوكهم تجاهنا " .
ونادراً ما تـكون استراتـيجـيات "الغير" الأساسية نحونا، مجهولة منا باعتبارها انعكاساً لمصالحه الحيوية المعروفة. ولكن قـد نجهل حدود تلك الاستراتـيجـية. فالجانـب السرّي في استراتـيجـية ما هو جانب ضئيل، وإن وجد ، فـقـد ينصبّ على الحدّ الأعلى والحدّ الأدنى، وعلى التـكـتـيـك أو على كيفـيـة التـنـفيذ، وليس على الأهداف العامة المبتغاة .
فعندما تـتضح لنا حدود الاستراتـيجـية المعنية، وتصبح أطراف "اللعبة" السياسية واضحة أمامنا ، فـإنّ السؤال المطروح أمام المحلّـل السياسي لا يعود " من فعل ذلك" ، بل " لمَ فعل ذلك" ، أو " ماذا يريد المخططون من وراء ذلك " ، وكيف تخدم " فـعـلـتـه " تـلـك، استراتـيجـيته المعروفـة أو الظاهرة أو المعلنة . ******** بـعـد هذا التميـيز بـين المبادىء السياسية والاجتهادات السياسية، وهذا التحديد لأنواع ودرجات الاستراتـيجـيات المخـتـلـفـة، تصبح إمكانية دراسة الاستراتـيجـية الأميركية بشكل عام، وتـلـك المرسومة لمنطقـة الخليج بشكل خاص، بل لدول الشرق الأوسط قاطبة، أكثر يسراً وسهولـة، خصوصاً وأنّ ما تـريـده الولايات المتحدة من منطقـة الخليج ، لم يكن قط لغزاً مبهماً.
فرغبتها في حماية بل والهيمنة على مصادر النفط، اضافة الى التواجد في الموقع الجغرافي الاستراتيجي، وحماية ربيبتها اسرائيل التي باتت الحارس على تلك المصالح الأميركية ... كانـت دائماً رغبة واضحة ومعلنة، وقـد شكّلت على الدوام ركن استراتـيجـيـتها الأساسية العليا، وأحيانا تصريحاتها العلنية. فلا غموض في ذلك اذن. الا أن الولايات المتحدة وربيبتها اسرائيلـ، يخشون المستقبل وما قد يحمله من تطورات الى الأفضل في العالم العربي نتيجة التقدم العلمي والتعليمي والاقتصادي والوعي القومي وانتشار نسبة عالية من المثقفين وخريجي الجامعات في صفوف أبنائهم، اضافة الى تزايد المواليد بسرعة يصعب السيطرة عليها، ... هذا كله ينطوي على مخاوف جمة للأميركيين الذين حتى لو تضاءل اهتمامهم بالنفط في مرحلة ما نتيجة توافر كميات منه في الآبار الأميركية، بل ونتيجة اكتشافهم ما قد يصبح مستقبلا البديل للذهب الأسود وهو الزيت الصخري المكتشف حديثا في الولايات المتحدة، فان المخاوف الأميركية حول احتمال خسارة الموقع الجغرافي الاستراتيجي الهام والذي باتت بحاجة ماسة اليه حفاظا على مركز قيادتها للعالم، وتعزيزا لموقعها كقطب أوحد ... هذا كله يدفعها الى السعي الى تفتيت دول المنطقة، ومشاغلتها بحروب داخلية تمهيدا لتفكيكها، منهية خارطة سايكس بيكو، لتحل محلها خارطة الشرق الأوسط الجديد المتوقع له أن يضم أربعين دويلة لا حول ولا قوة لأي منها.
ولكن الولايات المتحدة التي لا يرى مخططوها الاستراتيجيون أبعد من أنوفهم، فيرتكبون الخطأ تلو الآخر، كما في ايران الخميني، وأفغانستان القاعدة وطالبان، نتيجة اعتزازهم بما تنجزه استراتيجياتهم المتسرعة من نتائج فورية ومباشرة، سيقعون مرة أخرى في مزيد من الأخطاء والمستنقعات. فقد رسموا مخططهم للشرق الأوسط الجديد عندما كان الاتحاد السوفياتي قد بات بناية آيلة للسقوط منذ منتصف الثمانينات، فأخذوا يهيئون أنفسهم لقيادة العالم كقطب أوحد، دون أن يقدروا أبدا بأن قلعة الاتحاد السوفياتي ودرته، بل وعاموده الفقري والجمهورية القوى بين جمهورياته.. أي روسيا الاتحادية، قد تضعضعت بتفكك الاتحاد السوفياتي، وعانت من المرض العضال الى درجة أدخلت معها غرفة العناية الفائقة في عهد الرئيس يلتسين...لم يتوقعوا أبدا أن هذا الرجل المريض جدا، أكثر من مرض تركيا العثمانية في أوائل القرن الماضي، سوف يقف مجددا على قدميه، فيطرح نفسه بديلا للاتحاد السوفياتي، بل وقطبا آخر موازيا للقطب الأميركي، رافضا لمخططاته الخبيثة الضارة به كضررها لشعوب ودول المنطقة.
ميشيل حنا الحاج عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية (THINK TANK ( عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن كاتب في صفحات الحوار المتمدن - ص. مواضيع وأبحاث سياسية عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية عضو في رابطة الكتاب الأردنيين - الصفحة الرسمية عضو في منتدى فلسطين للفكر والرأي الحر عضو في مجموعة شام بوك عضو في مجموعة مشاهير مصر عضو في مجموعات أخرى عديدة.
تنبيه ==== هذا ليس مقالا، بل هو دراسة تشكل الجزء الثاني من الفصل الأول من كتاب جديد لي بعنوان: نحو مفهوم جديد للاستراتيحية - "الاستراتيجية في نهاية مطافها". وأنا أعمل على هذا الكتاب منذ عام 1992 ، حيث أعدت صياغته أكثر من مرة، وانا أحاول الان انجاز صياغته الرابعة والأخيرة لغايات نشره كتابا في العام القادم. وقد تكون فصول الكتاب التي ستنشر هنا على دفعات، طويلة. لكني أرجو أن يعذرني القارىء عن الاطالة في فصوله. فالكتاب يشكل دراسة علمية شبه أكاديمية (لكنها سياسية بأهدافها)، تحاول الغوص في الأعاصير والحروب التي تنجم عن قرارات استراتيجية متسرعة من بعض الدول، وخصوصا الدولة الأميركية **************************
بعد أن أوردت موجزا لأهم أنواع التخطيط السياسي الاستراتيجي، والمسماة أحيانا بالثوابت المبدئية، أود أن أوضح أن بعض هذه الاستراتيجيات، وخصوصا الجوهرية والهامة منها، تصاغ على مهل من مجموعة من السياسيين والمفكرين والدارسين للعلوم السياسية وللمفاهيم الاستراتيجية. ولكن بعضها يتم أحيانا اقراره على عجل، وخصوصا في ظروف التطورات الطارئة. وأود هنا أن أستدرك بالقول، أن تسمياتي لأنواع ودرجات الاستراتيجيات، لا أستخدم فيها بالضرورة، التسميات المستخدمة في كتب العلوم السياسية والاستراتيجية والدراسات الأكاديمية، بل يستدند الى وسيلتي الخاصة في وصف تلك الاستراتيجيات استادا الى مراحلها ودرجاتها وخطواتها. ومن أمثلتها ما سأورده الآن عن بعض القرارات الاستراتيجية التي تتخذ على عجل وفي ظرف طارىء.
ومن أمثلة القرارات الاستراتيجية المتخذة على عجل، وربما في لحظات غضب، كان قرار زبيغنيو بريجنسكي - مستشار الرئيس الأميركي جيمي كارتر، بتقديم الدعم والسلاح والتدريب لحركة من المجاهدين الاسلاميين، بغية مقاومة الغزو السوفياتي لأفغانستان.
فالسوفيات قد بدأوا بالغزو في ليلة الرابع والعشرين من كانون أول (ديسمبر) 1979. ونتيجة لذلك، وجد بريجنسكي المتواجد في مكتبه في البيت الأبيض... نفسه مضطرا .. غاضبا وعلى مضض .. للبقاء في مكتبه، في ليلة عيد الميلاد (كريسماس)، عوضا عن مشاركة أسرته في تلك الليلة الاحتفالية الهامة للأسر الأميركية، وذلك ليتابع أخبار الغزو السوفياتي عبر محطات التلفزيون ووكالات الأنباء والتقارير المتسارعة المرسلة اليه من السي آي ايه والبنتاغون. ففي لحظات الغضب هذه ، لاحت له بادرة التعاون مع المجاهدبن الاسلاميين في مقاتلة السوفيات، باعتبار المجاهدين الاسلاميين المتشددين في تدينهم، أكثر الناس ملائمة لمقاومة الجيوش السوفياتية الكافرة الملحدة.
ولكن الحقيقة تقتضي أن نذكر بأن التوجه "البريجنسكي" نحو التعامل مع الاسلام السياسي، لم تبدأ في ليلة كريسماس 1979، اذ كان قد بدأ التعامل معهم منذ بضعة أسابيع سابقة، بل ربما منذ شهور سابقة، معتمدا وتيرة ذات الاجتهاد القائل بأن التوجه الاسلامي، هو أفضل وسيلة لمحاربة الشيوعية واليسارية والسوفياتية الكافرة. فمنذ ذلك الوقت السابق على ليلة كريسماس 1979 ، بدأ بتشجيع الامام روح الله خميني المتواجد في أحد ضواحي باريس، على الادلاء بصوته في مسيرة الثورة على الشاه التي بدأت معالمها تظهر منذ نهايات عام 1978، وكان يقودها العمال والطلبة وحزب توده الشيوعي والحركات اليسارية وخصوصا المتمثلة بتنظيم فدائيي خلق الماركسي، يشاركهم أنصار الزعيم القومي الراحل الدكتور محمد مصدق. وهكذا بدأت فجأة رسائل الشاه الصوتية المسجلة على أشرطة تسجيل والمشجعة على التمرد على الشاه، تصل الى طهران فتنتشر فيها، دون أن تستطيع أجهزة أمن السافاك الايرانية التمكن من منع وصولها، أو اكتشاف وسيلة وصولها من فرنسا الى ايران. ورجح البعض أنها كانت تصل الى طهران في الحقيبة الدبلوماسية للسفارة الأميركية؟
وهنا لا بد أيضا من الاستدراك بالقول، أن توجه بريجنسكي للتعامل مع خميني (ثم مع المجاهدين الأفغان)، لم يكن يتم ضمن مفهوم القرارات الطارئة لمواجهة حالة طارئة كتلك السابق ذكرها كنوع من القرارات المتخذة على عجل. ذلك أن خطوته تلك قد استندت الى مفهوم استرانيجي طرحه بريجنسكي قبل تلك التطورات بفترة طويلة، وشكل نظريته الخاصة القائلة بأنه اذا كان لا بد من التغيير في بلد ما، ولم تكن الولايلات المتحد راغبة بطبيعة التغيير القادم، فان عليها أن توجه ذاك التغيير ليخدم في النهاية مصالحها. وبما أن بريجنسكي الكاره للفكر الماركسي الشيوعي والذي اعتبره الخطر الأكبر على الولايات المتحدة، فقد تبنى تقديم الدعم السياسي للامام خميني، ممكنا اياه من الوصول الى السلطة مع مطلع عام 1980 ، لا لتمكينه فحسب من طرد الشاه من طهران، بل لطرد وسحق كل الحركات اليسارية والقومية والشيوعية في ايران، مع أمل بأن الخميني عندما يتخلص من أولئك، سيوجه بنادقه نحو الاتحاد السوفياتي عبر الحدود المشتركة بين ايران والأراضي الخاضعة للنفوذ السوفياتي. الا أنه فعل العكس تماما. **********
ولغاية مزيد من الايضاح وتفهم قضية الاستراتيجيات، خصوصا الأميركية منها بتفصيل أوسع، لا بـدّ من التـنويه أنّ الاستراتيجيات، ليست هي العناصر الوحيدة المؤثّرة في الموقـف السياسي الأميركي. فهناك عوامل أخرى تـؤثّـر في صناعة ذاك الـقـرار. ومنها المبادئ السياسية ، والاجتهادات السياسية، التي لها من الأهمية ما للاستراتيجـيات المرسومة. فالمبادئ هي استراتـيجـيات راسخة في سياسات الولايات المتحدة .
ومن أقـدم المبادئ السياسية الأميركية،"مبدأ مونرو" ( MONROE’S DOCTRINE). وينـسب المبدأ للرئيس الأميركي "جيمس مونرو "، الذي أرسى أسسه في خطاب وجّهه إلى الكونجرس في عام 1823. وبموجب هذا المبدأ، فإنّ الولايات المتحدة تعارض تحويل السلطة على أراضي القارة الأميركية، من دولـة أوروبـية إلى دولة أخرى، مشيرا الى هيمنة بريطانيا، واسبانبا والبرتغال على أجزاء من الأراضي التي باتت لاحقا ولايات أميركية. وتعارض أيضاً تـدخّـل الدول الأوروبـية في العلاقات السياسية للدول المستـقـلّة في العالم الجديد، أي في الأمريكيـتـين. فإذا تـذكّرنا أنّ معظم أراضي الـقـارتـين الأميركيتين، كانـت مستعمرات أوروبـية حتى ذلك الوقت ، ندرك أهمية هذا المبدأ ودوره في فرض وصاية أو حمايـة النـفـوذ الأميركي الذي بزغ نجمه حديثـاً، في ذاك الجزء من العالم. ونتيجة ذاك المبدأ، سيطرت الولايات المتحدة على ولايات فلوريدا (الاسبانية سابقا)، وكاليفورنيا المكسيكيكية الاسبانية سابقا، ومثلها ولاية تكساس وولايات أخرى كانت تحت الهيمنة الأوروبية أو البريطانية.
ومن المبادئ الأساسية الأخرى السائدة في الفكر الاستراتيجي الأميركي، مبدأ " توازن القوى " (BALANCE OF POWER) . وهو مبـدأ قـديـم عرف منذ عهد المدن اليونانية، ولكـنّه لم يصبح ناشطاً على الصعيد الدولي، إلاّ في القرن الخامس عشر. ولـقـد أصبح مبدأ جوهرياً في السياسة الأميركـيـة مـنـذ أوائـل القرن التاسع عشر.
ولـقـد طوّر هذا المبدأ في السياسة الأميركية، ليصبح وسيلة لخدمة الاستراتـيجـية والمصالح الأميركية، من خلال المحافظة على توازن الـقـوى العسكرية المتـقـاتـلـة ، طالما أنّ استمرار تـقـاتـلها يخدم تلك المصالح. فهو بالتالي قـد نُـفِّـذ بوجهه السلبـي، وليس بوجهه الإيجابـي. ولـقـد رعت الولايات المتحدة، أو راعت هذا المبدأ بشكل واضح ، أثـناء الحرب العراقـيـة الإيرانية بـين الأعوام 1980 ـ- 1988 ، ساعية عبر المحافظة على توازن القوي بين الفريقين المتحاربين ، للحيلولة دون انـتصار أي من الطرفين المتحاربـين، لأنّ انـتصار أي منهما لا يخدم مصالحها، بل وقـد يهدّد أمن الدول المجاورة. كما رعته أيضا في الحرب اللبنانية الأهلية من العام 1975 الى عام 1989.
ومن تلك المبادىء أيضا، ً مبدأ " الحفاظ على الـقـوّة الوطنية عسكرياً واقـتـصادياً وفكرياً . وفكرة " الـقـوّة " عرّفها " هانز مورجانـتو "(HANS MORGENTHAU) بأنّها "سيطرة رجل على عـقـول وسلوك الرجال الآخرين"(#) . وركّز الرئيس هاري ترومان هـذا المـبـدأ وأبرزه في خطاب له عام 1946. إذ قال: " "يجب أن نـبـقى أقـويـاء . ليس لأنـنا نخطّط لفرض وجهات نظرنا بالقوة على العالم ... يجب أن نبـقـى أقـويـاء ، من أجل الحفاظ على موقعنا القيادي " .
وهناك مبادئ أخرى كثيرة رسخت في السياسة الأميركية ، وليس هذا هو مجال التعرّض لها بالتـفصيل. ولكنّ أحدثها هو ما يعرف "بمبدأ كينيدي " (KENNEDY’S DOCTRINE) . وكذلك "مبدأ نيكسون" (NIXON’S DOCTRINE). ومثلها "مبدأ كارتر" (CARTER’S DOCTRINE) الذي أطلـقـه الرئيس"جيمي كارتر" (JIMMY CARTER). وهـذا " المبـدأ يـقـضي بـالدفاع عن مـصـادر النـفـط ، وعـن حريـة تـدفّـقـه " بأيّـة وسيلة ممكنة " ، بما فيها العسكرية ، بل والنووية ، كما قال كارتر.
وإذا كان " مبدأ كارتر " هو أهم المبادئ المتعـلّـقـة بحماية النفط، فإنّ "مبدأ أيزنهاور" الذي أطلق في أوائل الخمسينات، والمعروف باسم "ملء الفراغ" ، قـد سعى "لملء الفراغ " الذي تـتركه بريطانيا وفرنسا بسبـب انسحابهما سياسياً وعسكرياً من المنطقـة النـفـطية. وهو قـد قصد " ملأه " بالنفوذ الأميركي. فهو شبــيـه " بمبدأ مونرو" المعني بالمناطق الكائنة في القارة الأميركية. كلّ ما في الأمر انه كان معنيا هذه المرة ً بمنطقة أخرى من مناطق العالم هي منطقة الشرق الأوسط . ********
وبالإضافة إلى المبادىء السياسية ، هناك الاجتهادات التي تـفرز نظريات لـم ترسخ بعد في السياسة الأميركية رسوخاً كافياً، كي تـتحوّل إلى مبادئ سياسية مـؤكّدة ، فـضلاً عن كونها تدور في محور الاستراتـيجـيات المؤقّـتـة، لتعامل مع قضايا طارئة أو أزمات مؤقتة.
ومن أبرز النظريات أو الاجتهادات الحديثة : 1) استراتـيجـية "حافة الهاوية "، التي تـنسب الى "جون فوستر دالاس" (JOHN FOSTER DULLES) ، وزير الخارجـية الأميركية في أوائل الخمسينات، وهدفها تـأزيـم ودفع أحداث أزمة ما نحو حافة الهاوية، تمهيداً لإيصالها إلى مرحلة تـتطلّب الجلوس للـتـفـاوض من أجل حلّها. فهي وسيلة تخويف من رهبة وغموض نـتائج الوقوع في براثـن الحرب . 2) سياسة أو استراتيجية الخطوة خطوة التي ابـتـكرها "هنري كيسنجر" (HENRY KISSINGER) في أوائل السبعينات، أي في عهد الرئيس "ريتـشـارد نيكسون" ( RICHARD NIXON). وهذه الاستراتـيجـية المؤقّـتـة، تهدف إلى حلّ القـضـايا المعقـدة على مراحل، أي خطوة خطوة. وقـد طبّـقـهـا "كيسنجر"، على المراحل الأولى لمفاوضات السلام بـين مصر وإسرائيل، بادئاً " بـفـكّ الاشتباك " ، مـنـتـهـيـاً بالمفاوضات المباشرة في " كامب ديفيد " . 3) سياسة أو استراتيجية " توجـيه التغيـير "التي نسبت إلى " إزبـيجنيو بريجنسكي" مستـشار مجلس الأمن القومي في أواخر السبعنيات. ومفهوم هذه النـظريـة، أنّه إذا هـبّـت رياح التـغيـير على بـلد ما، وكان لا بدّ من التغيـير [أي تغيـير النظام السياسي فيه] ، فمن الأفضل توجـيـه هذا التـغـيـير ليخدم مصالح الولايات المتحدة. وطبّـقت هذه الاستراتـيجـية المؤقّـتـة في إيران وأفغانستان في أواخر السبعينات كما سبق وذكرت تفصيلا، وكذلك في الفلبـين في منـتصف الثمانينات, وقد أدى تنفيذ نظريته تلك، الى معاناة الولايات المتاحدة من كوارث سياسية وعسكرية، كما حدث في ايران الخمينية، وفي افغانستان نتيجة ظهور القاعدة وطالبان. 4) وهناك استراتـيجـية مؤقّـتة أخرى، لم تـتبلور معالمها بعد، ولا يعرف بالضبط من هو راسمها ، ولكن قـد تكون شرارة إنطلاقها قـد تواجدت في ردّة الفعل الغاضبة على قرار الحظر النـفـطي الذي صدر في أواخر عام 1973، وما سبّـبه ذلك القرار من تضخّم مالي وعملات صعبة بـدأت تـتجمّع في خزائن دول "اوبـيك" ، مما تطلّب امتصاصه بشكل أو بآخر. ومن هنا بدأت في تلـك المرحلة ، الحروب الصغيرة في المنطقة ، كالحرب الأهلية اللبنانـيـة ، والحرب الأفغانية ، والحرب العراقـية الإيرانـية .
وتطبـيـقـاً لمبـدأ " تـوازن القوى"، فإنّ كلّ حرب بدأت، قـد جرى العمل على إطالتها، فلا يجوز إخمادها. ومن هنا يمكن تسميتها بحرب انـتهت، حرب ابتدأت . كما يمكن تسميتها بالحروب العـبـثـية، لأنّ الغايات المعلنة لإشعالها وكأهداف ظاهرة لها، غالباً ما تـتحقّـق. ومع ذلك، تمضي الحرب في موكبها دونما تـوقـف. فالغايـة المعلنة للحرب الافغانية، كانـت طرد السوفيات من افغانستان. ومع ذلك، استمرّت الحرب رغم خروج السوفيات منها. ومثلها الحرب اللبنانية التي بـدأت بصورة حرب "الموارنة المسيحيين" ضدّ الوجود الفلسطيني ، ثم استمرّت ـ رغم الخروج الفلسطيني الى تونس، ـكحرب مسيحية إسلامية، فحرب ضدّ الوجود السوري في لبنان، ثم حرب بـين أحزاب "الشيعة "، وحرب بـين الموارنة أنـفـسـهم. واستمرّت الحرب تـبدّل مواقعها وجبهاتها إلى ما لا نهاية .
ولكن إذا كان مبـدأ التحليل من الـقـمّـة، أي انطلاقـاً من ذروة استراتـيجـية نهاية المطاف، هو المبدأ الذي اعتمدته دائماً في التحليل السياسي لأي حدث سياسي أو عسكري يطرأ على ساحة الأحداث والتطورات،، فإنّ المنهج المستخدم في ذاك التحليل، هو الذي اخـتـلف أو تطـوّر تدريجـيـاً، فصقـل بالتجربـة والممارسة. فـفي بـداية عهدي به، كنـت أعتمد فكرة " الافـتراض والإسقاط ". وهذه تسمية قـد تـبـدو للوهلة الأولى غامضة أو معـقـدة، لكنّها في الواقع ، تسمية بسيطة تمـثّل أسلوباً مبسّطاً في المفاضلة بـين احتمال وآخر.
فإذا وقع حدث ما في المنطقة، وأخذ شكل الأزمة السياسية، أو الاضطراب الأمني، أو التمرّد الثوري الذي قـد يـبلغ مرحلة الحرب الأهلية أو المواجهة العسكريـة الداخلية أو مع دولة اخرى، فإنّ الأمر يـقـتـضينا أن نفـترض كخطوة أولى احتمالين لما يجري. فإما أن تكون الأزمة المتـفجّرة حديثاً، مهما كان شكلها، نـابعة من عوامل داخلية محضة، أو ناتجة عن عنصر خارجي يحرّكها. وبما أنـنا أمام "افـتراضين" ، فإنّ علينا عندئـذٍ ، مستخدمين العقل وما توفّر من معلومات عن المصالح المتضرّرة أو المستـفيدة مما يجري، أن نرجّح أحد "الافـتراضين"، و"نسقـط" الافـتراض الآخر من جدول الاحتمالات .
بهذه الفـقـرة البسيطة نـفـهم معنى "الافـتراض" ، ومعنى "إسقـاط" الافـتراض الضعيف أو الذي يـبدو لنا ضعيفاً. وعلى هذا المنوال نسير في منهج التحليل ، فـنطرح افـتراضين آخرين على أن يـكون الافـتراض السابـق الذي جرى ترجيحه منهما . ثم " نسقـط " الأضـعـف من بـينهما .
ولكنّ " الافـتراض" لا يعني الانطلاق من المجهول أو من الفراغ. فهو افـتراض للمصلحة الـقـائمة. ومصلحة الجهة المعنية ، أو المشتبه بوجود دور لها، غالباً ما تكون واضحة ومعروفة. فهو افـتراض يـنـطلق من نـقـطة ظاهرة هي المصالح للجهات أو للدول المعنية المشتبه بوجود دور لها. فالدول ليس لها أصدقـاء، "وإنّما هي صديـقـة لمصالحها " .
إلاّ أنّ الافـتراض والإسقـاط ، كان يعني المفاضلة بـين احتمالين فـقط. ولاحظت تـدريجـيـاً ، أنّ مفاضلة كهذه، قـد لا تـقـود إلى النـتائج الدقـيـقـة المتوخّاة، لأنّك قـد تـفاضل بـين احتمال ضعيف، واحتمال آخر رغم زخمه في مواجهة الاحتمال الضعيف، هو أيضاً احتمال ضعيف آخر في مواجهة احتمال ثالث. أي أنّ المفاضلة عندئـذٍ، ستجري بـين احتمالين كلاهما ضعيف، ولا ينطوي (أي منهما) على المصلحة الـفـاعلة الجاري استـقصاؤها والبحث عنها. فالمفاضلة إذن يـنـبغي أن تجري بـين كافـة الاحتمالات في آن واحد. وأدّى ذلك إلى طرح منهـج "شمولية الاحتمالات" ، دون إلـغـاء منهج "الافـتراض والإسقاط " إلـغـاء تامـاً .
وعندما أقول ""شمولية الاحتمالات"، فأنا أعني " الشمولية " بكلّ معانـيـها. لأنـك إذا فـاضلت بـين أربعة احتمالات مطروحة، فـقـد تخرج بنـتيجة خاطئة لأنّك أهملت الاحتمال الخامس، أو السادس الذي قـد يكون هو الاحتمال الأكثر ترجيحاً، ومع ذلك غـاب عن " افـتراضاتـك". وبذا تكون قـد فاضلت بـين أربعة احتمالات جميعها خاطئة. وبما أنّك قـد رجّحت أحدها باعتباره الاحتمال الأقـوى بـينها، فأنـت قـد رجّحت استـنـتاجاً خاطئاً، لأنّ الاحتمال المرجّح، رغم قــوّتـه بـين الاحتمالات الأربعة ، هو احتمال ضعيف أمام الاحتمال الخامس .. أو السادس الذي لم يطرح .
فـشمولية الاحتمالات ضرورية للوصول إلى النـتائج الصحيحة. وينبغي أن تـتسع لتـشمل الاحتمال الـتـافه أو الهامشي أو الضعيف. فما يـبدو احتمالاً ساذجاً أو هامشياً ، قـد يكون هو الاحتمال الصحيح. وغالباً ما يكون الاحتمال الذي يلمع سريعاً كالشهاب باعتباره الاحتمال الأقوى، فـيـشدّ أنظارك إليه منذ الوهلة الأولى، هو آخر الاحتمالات التي يـنـبـغي ترجـيحها، إذ قـد لا يكون بالضرورة هو أقـواها جميعاً. كما أنّ إهمال الاحتمال "الهامشي"، قـد يعود بالكارثة على مخطّطي الاستراتـيجـية.
فـعـنـدما وقع التـغـيـيـر في إيران عام 1979، لم تحاول الولايات المتحدة منع وقـوعه ظناً منها بأنّ "الخميني" الـقـادم حاملاً راية الدين ومحاربة الإلحاد، سيكون العدو اللّدود للاتحاد السوفياتي. فالشيوعية، كما جرى الترجـيح، لا بدّ أن تكون عدوّته الأولى، مما سيؤدّي إلى ضرب الحركات اليسارية والماركسية الإيرانية بسيف الأصولية الخمينية، ليتّجه ذلك السيف بعدها، نحو الدول الإسلامية في الاتحاد السوفياتي. ولم يـفـكّر عندئذ مخطّطو تلك الاستراتـيجـية، باحتمال تـوجّـه ذاك السيف أو تلك البنادق نحو الولايات المتحدة. إذ كانـت محاربـة الشيوعية، هي الخاطرة الأولى التي لمعت كالشهاب في الأفـق، وبـدت عندئذ محاربـة الولايات المتحدة عوضا عن محاربة الاتحاد السوفياتي، كاحتمال هامشي صغير، بل وبعيد الاحتمال. لكنّ الاحتمال الهامشي هو الذي تحقّـق على أرض الواقع، فاتـّجهت كـلّ البنادق الإيرانية، ومن اللحظات الأولى، نحو الولايات المتحدة التي اضطرّت عندئذٍ لإشعال حروب ومعالجة أزمات متعاقـبـة ما زالت تعاني منها حتى الآن، (ربما رغم توقيع الاتفاق الأميركي الايراني حلو الملف النووي) ... نـتيجة إهمالها لذاك الاحتمال الهامشي الصغير .
والحرب اللبنالنية استهدفـت على أرض الحقيقة والواقع مشاغـلـة الفلسطينين عن مشروع "كامب ديفيد " المطروح آنئذ على الساحة. ولكنّ الحرب الاهلـيـة تـلـك ، أدّت أيضاً الى انهيار أمني شامل في لبنان (وهو احتمال هامشي جرى إهماله) ، مما أدّى الى توطيد مركز الفلسطينين، والى تحوّلهم الى دولة على أرض الغير، وبالتالي الى صداع في رأس اسرائيل اضطرّها لغزو لبنان وللدخول في حرب ضدّ الفلسطينين في عام 1982 .
فالاحتمال الهامشي إذن، لا يجوز إهماله أو إسقـاطه. ولو أعدنا كتابة التاريخ، للاحظنا كم من الحروب أو الأزمات الكبرى قـد وقـعـت، مشكّلة منعطـفـاً في التاريخ ، نـتيجة احتمال هامشي جرى إهماله أو تجاهله
ولا بد لي من الاعتراف أن رؤيتي تلك حول المفاضلة بين الاحتمالات، ليس منهجا موجودا في علم الاستراتيجيات أو العلوم السياسية. فهو اجتهاد شخصي مني، وجدت فيه ككاتب ومحلل سياسي، أنه الوسيلة الأفضل والأسلم للغور في عمق الحدث السياسي أو العسكري أو الأمني الطارىء والمفاجىء، دون وضوح في الرؤية والمعلومة حول أسبابه الحقيقية أو من يقف وراءه. فانطلاقا من المبدأ القانوني في التحقيق الجنائي (وأنا قد درست القانون)، لا بد دائما من البحث عن المستفيد من جريمة ما ارتكبت. وفي التطور المفاجىء السياسي أو الأمني أو العسكري، قد يكون المستفيد منه واضحا في بعض الحالات، فلا يحتاج المحلل عندئذ للاستقصاء والتحليل عبر المفاضلة بين الاحتمالات. لكن اذا تعدد المستفيدون، أو ساد بعض الضبابية حولهم، فعندئذ يصبح اللجوء الى المفاضلة بين الاحتمالات المفترضة، هو الوسيلة المثلى للوصول الى الحقيقة، وتفهم ما يحدث فعلا على أرض الواقع.
والواقع أنّ المفاضلة بـين الاحتمالات الشاملة، قـد يتحوّل إلى مفاضلة أو مـقـارنة بـين الاستراتـيجـيات المعـنـية المختـلـفـة، بهدف ترجيح الاستراتـيجـية الأكثر تأثيرا أو استفادة من الحدث وما يقود اليه من تطورات وتفاعلات.
فالاستراتيـجـيـات الأساسية العليا، التي هي انعكاس للمصالح الحيوية للدولـة المعنية، معروفة المضمون عادة ولو إلى حد ما، لكنّه حدّ يشكل "كمّا " كافياً لتـفهّم السلوك الـقـائم. ذلك أنّ استخدام العـقـل في عملية التحليل، هو عامل جوهري وأساسي. "فـالعـقـل العلمي هـو الباحث عن أسباب حقـيـقـية ومعـقـولة لسياسات الغير نحونا، وسلوكهم تجاهنا " .
ونادراً ما تـكون استراتـيجـيات "الغير" الأساسية نحونا، مجهولة منا باعتبارها انعكاساً لمصالحه الحيوية المعروفة. ولكن قـد نجهل حدود تلك الاستراتـيجـية. فالجانـب السرّي في استراتـيجـية ما هو جانب ضئيل، وإن وجد ، فـقـد ينصبّ على الحدّ الأعلى والحدّ الأدنى، وعلى التـكـتـيـك أو على كيفـيـة التـنـفيذ، وليس على الأهداف العامة المبتغاة .
فعندما تـتضح لنا حدود الاستراتـيجـية المعنية، وتصبح أطراف "اللعبة" السياسية واضحة أمامنا ، فـإنّ السؤال المطروح أمام المحلّـل السياسي لا يعود " من فعل ذلك" ، بل " لمَ فعل ذلك" ، أو " ماذا يريد المخططون من وراء ذلك " ، وكيف تخدم " فـعـلـتـه " تـلـك، استراتـيجـيته المعروفـة أو الظاهرة أو المعلنة . ******** بـعـد هذا التميـيز بـين المبادىء السياسية والاجتهادات السياسية، وهذا التحديد لأنواع ودرجات الاستراتـيجـيات المخـتـلـفـة، تصبح إمكانية دراسة الاستراتـيجـية الأميركية بشكل عام، وتـلـك المرسومة لمنطقـة الخليج بشكل خاص، بل لدول الشرق الأوسط قاطبة، أكثر يسراً وسهولـة، خصوصاً وأنّ ما تـريـده الولايات المتحدة من منطقـة الخليج ، لم يكن قط لغزاً مبهماً.
فرغبتها في حماية بل والهيمنة على مصادر النفط، اضافة الى التواجد في الموقع الجغرافي الاستراتيجي، وحماية ربيبتها اسرائيل التي باتت الحارس على تلك المصالح الأميركية ... كانـت دائماً رغبة واضحة ومعلنة، وقـد شكّلت على الدوام ركن استراتـيجـيـتها الأساسية العليا، وأحيانا تصريحاتها العلنية. فلا غموض في ذلك اذن. الا أن الولايات المتحدة وربيبتها اسرائيلـ، يخشون المستقبل وما قد يحمله من تطورات الى الأفضل في العالم العربي نتيجة التقدم العلمي والتعليمي والاقتصادي والوعي القومي وانتشار نسبة عالية من المثقفين وخريجي الجامعات في صفوف أبنائهم، اضافة الى تزايد المواليد بسرعة يصعب السيطرة عليها، ... هذا كله ينطوي على مخاوف جمة للأميركيين الذين حتى لو تضاءل اهتمامهم بالنفط في مرحلة ما نتيجة توافر كميات منه في الآبار الأميركية، بل ونتيجة اكتشافهم ما قد يصبح مستقبلا البديل للذهب الأسود وهو الزيت الصخري المكتشف حديثا في الولايات المتحدة، فان المخاوف الأميركية حول احتمال خسارة الموقع الجغرافي الاستراتيجي الهام والذي باتت بحاجة ماسة اليه حفاظا على مركز قيادتها للعالم، وتعزيزا لموقعها كقطب أوحد ... هذا كله يدفعها الى السعي الى تفتيت دول المنطقة، ومشاغلتها بحروب داخلية تمهيدا لتفكيكها، منهية خارطة سايكس بيكو، لتحل محلها خارطة الشرق الأوسط الجديد المتوقع له أن يضم أربعين دويلة لا حول ولا قوة لأي منها.
ولكن الولايات المتحدة التي لا يرى مخططوها الاستراتيجيون أبعد من أنوفهم، فيرتكبون الخطأ تلو الآخر، كما في ايران الخميني، وأفغانستان القاعدة وطالبان، نتيجة اعتزازهم بما تنجزه استراتيجياتهم المتسرعة من نتائج فورية ومباشرة، سيقعون مرة أخرى في مزيد من الأخطاء والمستنقعات. فقد رسموا مخططهم للشرق الأوسط الجديد عندما كان الاتحاد السوفياتي قد بات بناية آيلة للسقوط منذ منتصف الثمانينات، فأخذوا يهيئون أنفسهم لقيادة العالم كقطب أوحد، دون أن يقدروا أبدا بأن قلعة الاتحاد السوفياتي ودرته، بل وعاموده الفقري والجمهورية القوى بين جمهورياته.. أي روسيا الاتحادية، قد تضعضعت بتفكك الاتحاد السوفياتي، وعانت من المرض العضال الى درجة أدخلت معها غرفة العناية الفائقة في عهد الرئيس يلتسين...لم يتوقعوا أبدا أن هذا الرجل المريض جدا، أكثر من مرض تركيا العثمانية في أوائل القرن الماضي، سوف يقف مجددا على قدميه، فيطرح نفسه بديلا للاتحاد السوفياتي، بل وقطبا آخر موازيا للقطب الأميركي، رافضا لمخططاته الخبيثة الضارة به كضررها لشعوب ودول المنطقة.
ميشيل حنا الحاج عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية (THINK TANK ( عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن كاتب في صفحات الحوار المتمدن - ص. مواضيع وأبحاث سياسية عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية عضو في رابطة الكتاب الأردنيين - الصفحة الرسمية عضو في منتدى فلسطين للفكر والرأي الحر عضو في مجموعة شام بوك عضو في مجموعة مشاهير مصر عضو في مجموعات أخرى عديدة.
تنبيه ==== هذا ليس مقالا، بل هو دراسة تشكل الجزء الثاني من الفصل الأول من كتاب جديد لي بعنوان: نحو مفهوم جديد للاستراتيحية - "الاستراتيجية في نهاية مطافها". وأنا أعمل على هذا الكتاب منذ عام 1992 ، حيث أعدت صياغته أكثر من مرة، وانا أحاول الان انجاز صياغته الرابعة والأخيرة لغايات نشره كتابا في العام القادم. وقد تكون فصول الكتاب التي ستنشر هنا على دفعات، طويلة. لكني أرجو أن يعذرني القارىء عن الاطالة في فصوله. فالكتاب يشكل دراسة علمية شبه أكاديمية (لكنها سياسية بأهدافها)، تحاول الغوص في الأعاصير والحروب التي تنجم عن قرارات استراتيجية متسرعة من بعض الدول، وخصوصا الدولة الأميركية **************************
بعد أن أوردت موجزا لأهم أنواع التخطيط السياسي الاستراتيجي، والمسماة أحيانا بالثوابت المبدئية، أود أن أوضح أن بعض هذه الاستراتيجيات، وخصوصا الجوهرية والهامة منها، تصاغ على مهل من مجموعة من السياسيين والمفكرين والدارسين للعلوم السياسية وللمفاهيم الاستراتيجية. ولكن بعضها يتم أحيانا اقراره على عجل، وخصوصا في ظروف التطورات الطارئة. وأود هنا أن أستدرك بالقول، أن تسمياتي لأنواع ودرجات الاستراتيجيات، لا أستخدم فيها بالضرورة، التسميات المستخدمة في كتب العلوم السياسية والاستراتيجية والدراسات الأكاديمية، بل يستدند الى وسيلتي الخاصة في وصف تلك الاستراتيجيات استادا الى مراحلها ودرجاتها وخطواتها. ومن أمثلتها ما سأورده الآن عن بعض القرارات الاستراتيجية التي تتخذ على عجل وفي ظرف طارىء.
ومن أمثلة القرارات الاستراتيجية المتخذة على عجل، وربما في لحظات غضب، كان قرار زبيغنيو بريجنسكي - مستشار الرئيس الأميركي جيمي كارتر، بتقديم الدعم والسلاح والتدريب لحركة من المجاهدين الاسلاميين، بغية مقاومة الغزو السوفياتي لأفغانستان.
فالسوفيات قد بدأوا بالغزو في ليلة الرابع والعشرين من كانون أول (ديسمبر) 1979. ونتيجة لذلك، وجد بريجنسكي المتواجد في مكتبه في البيت الأبيض... نفسه مضطرا .. غاضبا وعلى مضض .. للبقاء في مكتبه، في ليلة عيد الميلاد (كريسماس)، عوضا عن مشاركة أسرته في تلك الليلة الاحتفالية الهامة للأسر الأميركية، وذلك ليتابع أخبار الغزو السوفياتي عبر محطات التلفزيون ووكالات الأنباء والتقارير المتسارعة المرسلة اليه من السي آي ايه والبنتاغون. ففي لحظات الغضب هذه ، لاحت له بادرة التعاون مع المجاهدبن الاسلاميين في مقاتلة السوفيات، باعتبار المجاهدين الاسلاميين المتشددين في تدينهم، أكثر الناس ملائمة لمقاومة الجيوش السوفياتية الكافرة الملحدة.
ولكن الحقيقة تقتضي أن نذكر بأن التوجه "البريجنسكي" نحو التعامل مع الاسلام السياسي، لم تبدأ في ليلة كريسماس 1979، اذ كان قد بدأ التعامل معهم منذ بضعة أسابيع سابقة، بل ربما منذ شهور سابقة، معتمدا وتيرة ذات الاجتهاد القائل بأن التوجه الاسلامي، هو أفضل وسيلة لمحاربة الشيوعية واليسارية والسوفياتية الكافرة. فمنذ ذلك الوقت السابق على ليلة كريسماس 1979 ، بدأ بتشجيع الامام روح الله خميني المتواجد في أحد ضواحي باريس، على الادلاء بصوته في مسيرة الثورة على الشاه التي بدأت معالمها تظهر منذ نهايات عام 1978، وكان يقودها العمال والطلبة وحزب توده الشيوعي والحركات اليسارية وخصوصا المتمثلة بتنظيم فدائيي خلق الماركسي، يشاركهم أنصار الزعيم القومي الراحل الدكتور محمد مصدق. وهكذا بدأت فجأة رسائل الشاه الصوتية المسجلة على أشرطة تسجيل والمشجعة على التمرد على الشاه، تصل الى طهران فتنتشر فيها، دون أن تستطيع أجهزة أمن السافاك الايرانية التمكن من منع وصولها، أو اكتشاف وسيلة وصولها من فرنسا الى ايران. ورجح البعض أنها كانت تصل الى طهران في الحقيبة الدبلوماسية للسفارة الأميركية؟
وهنا لا بد أيضا من الاستدراك بالقول، أن توجه بريجنسكي للتعامل مع خميني (ثم مع المجاهدين الأفغان)، لم يكن يتم ضمن مفهوم القرارات الطارئة لمواجهة حالة طارئة كتلك السابق ذكرها كنوع من القرارات المتخذة على عجل. ذلك أن خطوته تلك قد استندت الى مفهوم استرانيجي طرحه بريجنسكي قبل تلك التطورات بفترة طويلة، وشكل نظريته الخاصة القائلة بأنه اذا كان لا بد من التغيير في بلد ما، ولم تكن الولايلات المتحد راغبة بطبيعة التغيير القادم، فان عليها أن توجه ذاك التغيير ليخدم في النهاية مصالحها. وبما أن بريجنسكي الكاره للفكر الماركسي الشيوعي والذي اعتبره الخطر الأكبر على الولايات المتحدة، فقد تبنى تقديم الدعم السياسي للامام خميني، ممكنا اياه من الوصول الى السلطة مع مطلع عام 1980 ، لا لتمكينه فحسب من طرد الشاه من طهران، بل لطرد وسحق كل الحركات اليسارية والقومية والشيوعية في ايران، مع أمل بأن الخميني عندما يتخلص من أولئك، سيوجه بنادقه نحو الاتحاد السوفياتي عبر الحدود المشتركة بين ايران والأراضي الخاضعة للنفوذ السوفياتي. الا أنه فعل العكس تماما. **********
ولغاية مزيد من الايضاح وتفهم قضية الاستراتيجيات، خصوصا الأميركية منها بتفصيل أوسع، لا بـدّ من التـنويه أنّ الاستراتيجيات، ليست هي العناصر الوحيدة المؤثّرة في الموقـف السياسي الأميركي. فهناك عوامل أخرى تـؤثّـر في صناعة ذاك الـقـرار. ومنها المبادئ السياسية ، والاجتهادات السياسية، التي لها من الأهمية ما للاستراتيجـيات المرسومة. فالمبادئ هي استراتـيجـيات راسخة في سياسات الولايات المتحدة .
ومن أقـدم المبادئ السياسية الأميركية،"مبدأ مونرو" ( MONROE’S DOCTRINE). وينـسب المبدأ للرئيس الأميركي "جيمس مونرو "، الذي أرسى أسسه في خطاب وجّهه إلى الكونجرس في عام 1823. وبموجب هذا المبدأ، فإنّ الولايات المتحدة تعارض تحويل السلطة على أراضي القارة الأميركية، من دولـة أوروبـية إلى دولة أخرى، مشيرا الى هيمنة بريطانيا، واسبانبا والبرتغال على أجزاء من الأراضي التي باتت لاحقا ولايات أميركية. وتعارض أيضاً تـدخّـل الدول الأوروبـية في العلاقات السياسية للدول المستـقـلّة في العالم الجديد، أي في الأمريكيـتـين. فإذا تـذكّرنا أنّ معظم أراضي الـقـارتـين الأميركيتين، كانـت مستعمرات أوروبـية حتى ذلك الوقت ، ندرك أهمية هذا المبدأ ودوره في فرض وصاية أو حمايـة النـفـوذ الأميركي الذي بزغ نجمه حديثـاً، في ذاك الجزء من العالم. ونتيجة ذاك المبدأ، سيطرت الولايات المتحدة على ولايات فلوريدا (الاسبانية سابقا)، وكاليفورنيا المكسيكيكية الاسبانية سابقا، ومثلها ولاية تكساس وولايات أخرى كانت تحت الهيمنة الأوروبية أو البريطانية.
ومن المبادئ الأساسية الأخرى السائدة في الفكر الاستراتيجي الأميركي، مبدأ " توازن القوى " (BALANCE OF POWER) . وهو مبـدأ قـديـم عرف منذ عهد المدن اليونانية، ولكـنّه لم يصبح ناشطاً على الصعيد الدولي، إلاّ في القرن الخامس عشر. ولـقـد أصبح مبدأ جوهرياً في السياسة الأميركـيـة مـنـذ أوائـل القرن التاسع عشر.
ولـقـد طوّر هذا المبدأ في السياسة الأميركية، ليصبح وسيلة لخدمة الاستراتـيجـية والمصالح الأميركية، من خلال المحافظة على توازن الـقـوى العسكرية المتـقـاتـلـة ، طالما أنّ استمرار تـقـاتـلها يخدم تلك المصالح. فهو بالتالي قـد نُـفِّـذ بوجهه السلبـي، وليس بوجهه الإيجابـي. ولـقـد رعت الولايات المتحدة، أو راعت هذا المبدأ بشكل واضح ، أثـناء الحرب العراقـيـة الإيرانية بـين الأعوام 1980 ـ- 1988 ، ساعية عبر المحافظة على توازن القوي بين الفريقين المتحاربين ، للحيلولة دون انـتصار أي من الطرفين المتحاربـين، لأنّ انـتصار أي منهما لا يخدم مصالحها، بل وقـد يهدّد أمن الدول المجاورة. كما رعته أيضا في الحرب اللبنانية الأهلية من العام 1975 الى عام 1989.
ومن تلك المبادىء أيضا، ً مبدأ " الحفاظ على الـقـوّة الوطنية عسكرياً واقـتـصادياً وفكرياً . وفكرة " الـقـوّة " عرّفها " هانز مورجانـتو "(HANS MORGENTHAU) بأنّها "سيطرة رجل على عـقـول وسلوك الرجال الآخرين"(#) . وركّز الرئيس هاري ترومان هـذا المـبـدأ وأبرزه في خطاب له عام 1946. إذ قال: " "يجب أن نـبـقى أقـويـاء . ليس لأنـنا نخطّط لفرض وجهات نظرنا بالقوة على العالم ... يجب أن نبـقـى أقـويـاء ، من أجل الحفاظ على موقعنا القيادي " .
وهناك مبادئ أخرى كثيرة رسخت في السياسة الأميركية ، وليس هذا هو مجال التعرّض لها بالتـفصيل. ولكنّ أحدثها هو ما يعرف "بمبدأ كينيدي " (KENNEDY’S DOCTRINE) . وكذلك "مبدأ نيكسون" (NIXON’S DOCTRINE). ومثلها "مبدأ كارتر" (CARTER’S DOCTRINE) الذي أطلـقـه الرئيس"جيمي كارتر" (JIMMY CARTER). وهـذا " المبـدأ يـقـضي بـالدفاع عن مـصـادر النـفـط ، وعـن حريـة تـدفّـقـه " بأيّـة وسيلة ممكنة " ، بما فيها العسكرية ، بل والنووية ، كما قال كارتر.
وإذا كان " مبدأ كارتر " هو أهم المبادئ المتعـلّـقـة بحماية النفط، فإنّ "مبدأ أيزنهاور" الذي أطلق في أوائل الخمسينات، والمعروف باسم "ملء الفراغ" ، قـد سعى "لملء الفراغ " الذي تـتركه بريطانيا وفرنسا بسبـب انسحابهما سياسياً وعسكرياً من المنطقـة النـفـطية. وهو قـد قصد " ملأه " بالنفوذ الأميركي. فهو شبــيـه " بمبدأ مونرو" المعني بالمناطق الكائنة في القارة الأميركية. كلّ ما في الأمر انه كان معنيا هذه المرة ً بمنطقة أخرى من مناطق العالم هي منطقة الشرق الأوسط . ********
وبالإضافة إلى المبادىء السياسية ، هناك الاجتهادات التي تـفرز نظريات لـم ترسخ بعد في السياسة الأميركية رسوخاً كافياً، كي تـتحوّل إلى مبادئ سياسية مـؤكّدة ، فـضلاً عن كونها تدور في محور الاستراتـيجـيات المؤقّـتـة، لتعامل مع قضايا طارئة أو أزمات مؤقتة.
ومن أبرز النظريات أو الاجتهادات الحديثة : 1) استراتـيجـية "حافة الهاوية "، التي تـنسب الى "جون فوستر دالاس" (JOHN FOSTER DULLES) ، وزير الخارجـية الأميركية في أوائل الخمسينات، وهدفها تـأزيـم ودفع أحداث أزمة ما نحو حافة الهاوية، تمهيداً لإيصالها إلى مرحلة تـتطلّب الجلوس للـتـفـاوض من أجل حلّها. فهي وسيلة تخويف من رهبة وغموض نـتائج الوقوع في براثـن الحرب . 2) سياسة أو استراتيجية الخطوة خطوة التي ابـتـكرها "هنري كيسنجر" (HENRY KISSINGER) في أوائل السبعينات، أي في عهد الرئيس "ريتـشـارد نيكسون" ( RICHARD NIXON). وهذه الاستراتـيجـية المؤقّـتـة، تهدف إلى حلّ القـضـايا المعقـدة على مراحل، أي خطوة خطوة. وقـد طبّـقـهـا "كيسنجر"، على المراحل الأولى لمفاوضات السلام بـين مصر وإسرائيل، بادئاً " بـفـكّ الاشتباك " ، مـنـتـهـيـاً بالمفاوضات المباشرة في " كامب ديفيد " . 3) سياسة أو استراتيجية " توجـيه التغيـير "التي نسبت إلى " إزبـيجنيو بريجنسكي" مستـشار مجلس الأمن القومي في أواخر السبعنيات. ومفهوم هذه النـظريـة، أنّه إذا هـبّـت رياح التـغيـير على بـلد ما، وكان لا بدّ من التغيـير [أي تغيـير النظام السياسي فيه] ، فمن الأفضل توجـيـه هذا التـغـيـير ليخدم مصالح الولايات المتحدة. وطبّـقت هذه الاستراتـيجـية المؤقّـتـة في إيران وأفغانستان في أواخر السبعينات كما سبق وذكرت تفصيلا، وكذلك في الفلبـين في منـتصف الثمانينات, وقد أدى تنفيذ نظريته تلك، الى معاناة الولايات المتاحدة من كوارث سياسية وعسكرية، كما حدث في ايران الخمينية، وفي افغانستان نتيجة ظهور القاعدة وطالبان. 4) وهناك استراتـيجـية مؤقّـتة أخرى، لم تـتبلور معالمها بعد، ولا يعرف بالضبط من هو راسمها ، ولكن قـد تكون شرارة إنطلاقها قـد تواجدت في ردّة الفعل الغاضبة على قرار الحظر النـفـطي الذي صدر في أواخر عام 1973، وما سبّـبه ذلك القرار من تضخّم مالي وعملات صعبة بـدأت تـتجمّع في خزائن دول "اوبـيك" ، مما تطلّب امتصاصه بشكل أو بآخر. ومن هنا بدأت في تلـك المرحلة ، الحروب الصغيرة في المنطقة ، كالحرب الأهلية اللبنانـيـة ، والحرب الأفغانية ، والحرب العراقـية الإيرانـية .
وتطبـيـقـاً لمبـدأ " تـوازن القوى"، فإنّ كلّ حرب بدأت، قـد جرى العمل على إطالتها، فلا يجوز إخمادها. ومن هنا يمكن تسميتها بحرب انـتهت، حرب ابتدأت . كما يمكن تسميتها بالحروب العـبـثـية، لأنّ الغايات المعلنة لإشعالها وكأهداف ظاهرة لها، غالباً ما تـتحقّـق. ومع ذلك، تمضي الحرب في موكبها دونما تـوقـف. فالغايـة المعلنة للحرب الافغانية، كانـت طرد السوفيات من افغانستان. ومع ذلك، استمرّت الحرب رغم خروج السوفيات منها. ومثلها الحرب اللبنانية التي بـدأت بصورة حرب "الموارنة المسيحيين" ضدّ الوجود الفلسطيني ، ثم استمرّت ـ رغم الخروج الفلسطيني الى تونس، ـكحرب مسيحية إسلامية، فحرب ضدّ الوجود السوري في لبنان، ثم حرب بـين أحزاب "الشيعة "، وحرب بـين الموارنة أنـفـسـهم. واستمرّت الحرب تـبدّل مواقعها وجبهاتها إلى ما لا نهاية .
ولكن إذا كان مبـدأ التحليل من الـقـمّـة، أي انطلاقـاً من ذروة استراتـيجـية نهاية المطاف، هو المبدأ الذي اعتمدته دائماً في التحليل السياسي لأي حدث سياسي أو عسكري يطرأ على ساحة الأحداث والتطورات،، فإنّ المنهج المستخدم في ذاك التحليل، هو الذي اخـتـلف أو تطـوّر تدريجـيـاً، فصقـل بالتجربـة والممارسة. فـفي بـداية عهدي به، كنـت أعتمد فكرة " الافـتراض والإسقاط ". وهذه تسمية قـد تـبـدو للوهلة الأولى غامضة أو معـقـدة، لكنّها في الواقع ، تسمية بسيطة تمـثّل أسلوباً مبسّطاً في المفاضلة بـين احتمال وآخر.
فإذا وقع حدث ما في المنطقة، وأخذ شكل الأزمة السياسية، أو الاضطراب الأمني، أو التمرّد الثوري الذي قـد يـبلغ مرحلة الحرب الأهلية أو المواجهة العسكريـة الداخلية أو مع دولة اخرى، فإنّ الأمر يـقـتـضينا أن نفـترض كخطوة أولى احتمالين لما يجري. فإما أن تكون الأزمة المتـفجّرة حديثاً، مهما كان شكلها، نـابعة من عوامل داخلية محضة، أو ناتجة عن عنصر خارجي يحرّكها. وبما أنـنا أمام "افـتراضين" ، فإنّ علينا عندئـذٍ ، مستخدمين العقل وما توفّر من معلومات عن المصالح المتضرّرة أو المستـفيدة مما يجري، أن نرجّح أحد "الافـتراضين"، و"نسقـط" الافـتراض الآخر من جدول الاحتمالات .
بهذه الفـقـرة البسيطة نـفـهم معنى "الافـتراض" ، ومعنى "إسقـاط" الافـتراض الضعيف أو الذي يـبدو لنا ضعيفاً. وعلى هذا المنوال نسير في منهج التحليل ، فـنطرح افـتراضين آخرين على أن يـكون الافـتراض السابـق الذي جرى ترجيحه منهما . ثم " نسقـط " الأضـعـف من بـينهما .
ولكنّ " الافـتراض" لا يعني الانطلاق من المجهول أو من الفراغ. فهو افـتراض للمصلحة الـقـائمة. ومصلحة الجهة المعنية ، أو المشتبه بوجود دور لها، غالباً ما تكون واضحة ومعروفة. فهو افـتراض يـنـطلق من نـقـطة ظاهرة هي المصالح للجهات أو للدول المعنية المشتبه بوجود دور لها. فالدول ليس لها أصدقـاء، "وإنّما هي صديـقـة لمصالحها " .
إلاّ أنّ الافـتراض والإسقـاط ، كان يعني المفاضلة بـين احتمالين فـقط. ولاحظت تـدريجـيـاً ، أنّ مفاضلة كهذه، قـد لا تـقـود إلى النـتائج الدقـيـقـة المتوخّاة، لأنّك قـد تـفاضل بـين احتمال ضعيف، واحتمال آخر رغم زخمه في مواجهة الاحتمال الضعيف، هو أيضاً احتمال ضعيف آخر في مواجهة احتمال ثالث. أي أنّ المفاضلة عندئـذٍ، ستجري بـين احتمالين كلاهما ضعيف، ولا ينطوي (أي منهما) على المصلحة الـفـاعلة الجاري استـقصاؤها والبحث عنها. فالمفاضلة إذن يـنـبغي أن تجري بـين كافـة الاحتمالات في آن واحد. وأدّى ذلك إلى طرح منهـج "شمولية الاحتمالات" ، دون إلـغـاء منهج "الافـتراض والإسقاط " إلـغـاء تامـاً .
وعندما أقول ""شمولية الاحتمالات"، فأنا أعني " الشمولية " بكلّ معانـيـها. لأنـك إذا فـاضلت بـين أربعة احتمالات مطروحة، فـقـد تخرج بنـتيجة خاطئة لأنّك أهملت الاحتمال الخامس، أو السادس الذي قـد يكون هو الاحتمال الأكثر ترجيحاً، ومع ذلك غـاب عن " افـتراضاتـك". وبذا تكون قـد فاضلت بـين أربعة احتمالات جميعها خاطئة. وبما أنّك قـد رجّحت أحدها باعتباره الاحتمال الأقـوى بـينها، فأنـت قـد رجّحت استـنـتاجاً خاطئاً، لأنّ الاحتمال المرجّح، رغم قــوّتـه بـين الاحتمالات الأربعة ، هو احتمال ضعيف أمام الاحتمال الخامس .. أو السادس الذي لم يطرح .
فـشمولية الاحتمالات ضرورية للوصول إلى النـتائج الصحيحة. وينبغي أن تـتسع لتـشمل الاحتمال الـتـافه أو الهامشي أو الضعيف. فما يـبدو احتمالاً ساذجاً أو هامشياً ، قـد يكون هو الاحتمال الصحيح. وغالباً ما يكون الاحتمال الذي يلمع سريعاً كالشهاب باعتباره الاحتمال الأقوى، فـيـشدّ أنظارك إليه منذ الوهلة الأولى، هو آخر الاحتمالات التي يـنـبـغي ترجـيحها، إذ قـد لا يكون بالضرورة هو أقـواها جميعاً. كما أنّ إهمال الاحتمال "الهامشي"، قـد يعود بالكارثة على مخطّطي الاستراتـيجـية.
فـعـنـدما وقع التـغـيـيـر في إيران عام 1979، لم تحاول الولايات المتحدة منع وقـوعه ظناً منها بأنّ "الخميني" الـقـادم حاملاً راية الدين ومحاربة الإلحاد، سيكون العدو اللّدود للاتحاد السوفياتي. فالشيوعية، كما جرى الترجـيح، لا بدّ أن تكون عدوّته الأولى، مما سيؤدّي إلى ضرب الحركات اليسارية والماركسية الإيرانية بسيف الأصولية الخمينية، ليتّجه ذلك السيف بعدها، نحو الدول الإسلامية في الاتحاد السوفياتي. ولم يـفـكّر عندئذ مخطّطو تلك الاستراتـيجـية، باحتمال تـوجّـه ذاك السيف أو تلك البنادق نحو الولايات المتحدة. إذ كانـت محاربـة الشيوعية، هي الخاطرة الأولى التي لمعت كالشهاب في الأفـق، وبـدت عندئذ محاربـة الولايات المتحدة عوضا عن محاربة الاتحاد السوفياتي، كاحتمال هامشي صغير، بل وبعيد الاحتمال. لكنّ الاحتمال الهامشي هو الذي تحقّـق على أرض الواقع، فاتـّجهت كـلّ البنادق الإيرانية، ومن اللحظات الأولى، نحو الولايات المتحدة التي اضطرّت عندئذٍ لإشعال حروب ومعالجة أزمات متعاقـبـة ما زالت تعاني منها حتى الآن، (ربما رغم توقيع الاتفاق الأميركي الايراني حلو الملف النووي) ... نـتيجة إهمالها لذاك الاحتمال الهامشي الصغير .
والحرب اللبنالنية استهدفـت على أرض الحقيقة والواقع مشاغـلـة الفلسطينين عن مشروع "كامب ديفيد " المطروح آنئذ على الساحة. ولكنّ الحرب الاهلـيـة تـلـك ، أدّت أيضاً الى انهيار أمني شامل في لبنان (وهو احتمال هامشي جرى إهماله) ، مما أدّى الى توطيد مركز الفلسطينين، والى تحوّلهم الى دولة على أرض الغير، وبالتالي الى صداع في رأس اسرائيل اضطرّها لغزو لبنان وللدخول في حرب ضدّ الفلسطينين في عام 1982 .
فالاحتمال الهامشي إذن، لا يجوز إهماله أو إسقـاطه. ولو أعدنا كتابة التاريخ، للاحظنا كم من الحروب أو الأزمات الكبرى قـد وقـعـت، مشكّلة منعطـفـاً في التاريخ ، نـتيجة احتمال هامشي جرى إهماله أو تجاهله
ولا بد لي من الاعتراف أن رؤيتي تلك حول المفاضلة بين الاحتمالات، ليس منهجا موجودا في علم الاستراتيجيات أو العلوم السياسية. فهو اجتهاد شخصي مني، وجدت فيه ككاتب ومحلل سياسي، أنه الوسيلة الأفضل والأسلم للغور في عمق الحدث السياسي أو العسكري أو الأمني الطارىء والمفاجىء، دون وضوح في الرؤية والمعلومة حول أسبابه الحقيقية أو من يقف وراءه. فانطلاقا من المبدأ القانوني في التحقيق الجنائي (وأنا قد درست القانون)، لا بد دائما من البحث عن المستفيد من جريمة ما ارتكبت. وفي التطور المفاجىء السياسي أو الأمني أو العسكري، قد يكون المستفيد منه واضحا في بعض الحالات، فلا يحتاج المحلل عندئذ للاستقصاء والتحليل عبر المفاضلة بين الاحتمالات. لكن اذا تعدد المستفيدون، أو ساد بعض الضبابية حولهم، فعندئذ يصبح اللجوء الى المفاضلة بين الاحتمالات المفترضة، هو الوسيلة المثلى للوصول الى الحقيقة، وتفهم ما يحدث فعلا على أرض الواقع.
والواقع أنّ المفاضلة بـين الاحتمالات الشاملة، قـد يتحوّل إلى مفاضلة أو مـقـارنة بـين الاستراتـيجـيات المعـنـية المختـلـفـة، بهدف ترجيح الاستراتـيجـية الأكثر تأثيرا أو استفادة من الحدث وما يقود اليه من تطورات وتفاعلات.
فالاستراتيـجـيـات الأساسية العليا، التي هي انعكاس للمصالح الحيوية للدولـة المعنية، معروفة المضمون عادة ولو إلى حد ما، لكنّه حدّ يشكل "كمّا " كافياً لتـفهّم السلوك الـقـائم. ذلك أنّ استخدام العـقـل في عملية التحليل، هو عامل جوهري وأساسي. "فـالعـقـل العلمي هـو الباحث عن أسباب حقـيـقـية ومعـقـولة لسياسات الغير نحونا، وسلوكهم تجاهنا " .
ونادراً ما تـكون استراتـيجـيات "الغير" الأساسية نحونا، مجهولة منا باعتبارها انعكاساً لمصالحه الحيوية المعروفة. ولكن قـد نجهل حدود تلك الاستراتـيجـية. فالجانـب السرّي في استراتـيجـية ما هو جانب ضئيل، وإن وجد ، فـقـد ينصبّ على الحدّ الأعلى والحدّ الأدنى، وعلى التـكـتـيـك أو على كيفـيـة التـنـفيذ، وليس على الأهداف العامة المبتغاة .
فعندما تـتضح لنا حدود الاستراتـيجـية المعنية، وتصبح أطراف "اللعبة" السياسية واضحة أمامنا ، فـإنّ السؤال المطروح أمام المحلّـل السياسي لا يعود " من فعل ذلك" ، بل " لمَ فعل ذلك" ، أو " ماذا يريد المخططون من وراء ذلك " ، وكيف تخدم " فـعـلـتـه " تـلـك، استراتـيجـيته المعروفـة أو الظاهرة أو المعلنة . ******** بـعـد هذا التميـيز بـين المبادىء السياسية والاجتهادات السياسية، وهذا التحديد لأنواع ودرجات الاستراتـيجـيات المخـتـلـفـة، تصبح إمكانية دراسة الاستراتـيجـية الأميركية بشكل عام، وتـلـك المرسومة لمنطقـة الخليج بشكل خاص، بل لدول الشرق الأوسط قاطبة، أكثر يسراً وسهولـة، خصوصاً وأنّ ما تـريـده الولايات المتحدة من منطقـة الخليج ، لم يكن قط لغزاً مبهماً.
فرغبتها في حماية بل والهيمنة على مصادر النفط، اضافة الى التواجد في الموقع الجغرافي الاستراتيجي، وحماية ربيبتها اسرائيل التي باتت الحارس على تلك المصالح الأميركية ... كانـت دائماً رغبة واضحة ومعلنة، وقـد شكّلت على الدوام ركن استراتـيجـيـتها الأساسية العليا، وأحيانا تصريحاتها العلنية. فلا غموض في ذلك اذن. الا أن الولايات المتحدة وربيبتها اسرائيلـ، يخشون المستقبل وما قد يحمله من تطورات الى الأفضل في العالم العربي نتيجة التقدم العلمي والتعليمي والاقتصادي والوعي القومي وانتشار نسبة عالية من المثقفين وخريجي الجامعات في صفوف أبنائهم، اضافة الى تزايد المواليد بسرعة يصعب السيطرة عليها، ... هذا كله ينطوي على مخاوف جمة للأميركيين الذين حتى لو تضاءل اهتمامهم بالنفط في مرحلة ما نتيجة توافر كميات منه في الآبار الأميركية، بل ونتيجة اكتشافهم ما قد يصبح مستقبلا البديل للذهب الأسود وهو الزيت الصخري المكتشف حديثا في الولايات المتحدة، فان المخاوف الأميركية حول احتمال خسارة الموقع الجغرافي الاستراتيجي الهام والذي باتت بحاجة ماسة اليه حفاظا على مركز قيادتها للعالم، وتعزيزا لموقعها كقطب أوحد ... هذا كله يدفعها الى السعي الى تفتيت دول المنطقة، ومشاغلتها بحروب داخلية تمهيدا لتفكيكها، منهية خارطة سايكس بيكو، لتحل محلها خارطة الشرق الأوسط الجديد المتوقع له أن يضم أربعين دويلة لا حول ولا قوة لأي منها.
ولكن الولايات المتحدة التي لا يرى مخططوها الاستراتيجيون أبعد من أنوفهم، فيرتكبون الخطأ تلو الآخر، كما في ايران الخميني، وأفغانستان القاعدة وطالبان، نتيجة اعتزازهم بما تنجزه استراتيجياتهم المتسرعة من نتائج فورية ومباشرة، سيقعون مرة أخرى في مزيد من الأخطاء والمستنقعات. فقد رسموا مخططهم للشرق الأوسط الجديد عندما كان الاتحاد السوفياتي قد بات بناية آيلة للسقوط منذ منتصف الثمانينات، فأخذوا يهيئون أنفسهم لقيادة العالم كقطب أوحد، دون أن يقدروا أبدا بأن قلعة الاتحاد السوفياتي ودرته، بل وعاموده الفقري والجمهورية القوى بين جمهورياته.. أي روسيا الاتحادية، قد تضعضعت بتفكك الاتحاد السوفياتي، وعانت من المرض العضال الى درجة أدخلت معها غرفة العناية الفائقة في عهد الرئيس يلتسين...لم يتوقعوا أبدا أن هذا الرجل المريض جدا، أكثر من مرض تركيا العثمانية في أوائل القرن الماضي، سوف يقف مجددا على قدميه، فيطرح نفسه بديلا للاتحاد السوفياتي، بل وقطبا آخر موازيا للقطب الأميركي، رافضا لمخططاته الخبيثة الضارة به كضررها لشعوب ودول المنطقة.
ميشيل حنا الحاج عضو في جمعية الدراسات الاستراتيجية الفلسطينية (THINK TANK ( عضو مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب - برلين عضو في مركز الحوار العربي الأميركي - واشنطن كاتب في صفحات الحوار المتمدن - ص. مواضيع وأبحاث سياسية عضو في رابطة الصداقة والأخوة اللبنانية المغربية عضو في رابطة الكتاب الأردنيين - الصفحة الرسمية عضو في منتدى فلسطين للفكر والرأي الحر عضو في مجموعة شام بوك عضو في مجموعة مشاهير مصر عضو في مجموعات أخرى عديدة.
#ميشيل_حنا_الحاج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدخل إلى مفهوم الاستراتيجية في نهاية مطافها - 1 *
-
هل تعطل الحرب بالوكالة على الأرض السورية، منجزات مؤتمر فيينا
...
-
متى يبق نتانياهو البحصة التي في فمه ويعلن عن مطالبه الحقيقية
...
-
هل تخلى صانع الحلم العربي عن الحلم العربي وتوجه نحو الحلم ال
...
-
تحذير للمسافرين بالطائرة عبر الأجواء الاسرائيلية: استخدموا ا
...
-
مفاجأة المشاركة الأردنية لروسيا في مكافحة الارهاب، قد لا تكو
...
-
هل تمنع سلطات اسرائيل الطائرات ألأجنبية من استخدام مراحيضها
...
-
نحو انتفاضة فلسطينية على الطراز الجزائري
-
هل سقط مخطط اسرائيل باستخدام الربيع العربي لانهاء الحلم الفل
...
-
هل أقام في البيت الأبيض يوما ما، رئيس كنيرون.. قيصر روما الذ
...
-
جولة في البرجين، وتمثال الحرية، وسور البيت الأبيض، ثم جراند
...
-
متى يلتقي القطبان ليقررا كيفية حل النزاعات الدولية قبل انقضا
...
-
في الذكرى الرابعة عشرة لهجمات 11 ايلول 2001، يبقى الغموض حول
...
-
تعظيم سلام لميركل، وتعظيم سلام أشد وأقوى للأردن
-
عشية لقاء سلمان بأوباما: هل سيكون اغتيال الانسانية أحد الموض
...
-
هل بتنا نقترب من حرب دولية على الأرض السورية، أم على الباغي
...
-
هل حلت حرب المعلومات في سوريا، محل حرب الأسلحة التقليدية وال
...
-
تطوير مشروع الحل الوسطي للأزمة المتفاقمة في سوريا، ليصبح أكث
...
-
مشروع وسطي لحل النزاع في سوريا، قد يرضي معظم الأطراف ويضع حد
...
-
علامات الاستفهام التي رافقت ظهور الدولة الاسلامية في بغداد
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|