لعل أهم نقطة اتفق عليها المعارضون العراقيون في مؤتمرهم
الأخير هي التسليم بأهمية الدور الأمريكي في الإطاحة بنظام صدام حسين وإقامة البديل
الديمقراطي في العراق. ورغم إعلان الكثيرين بأن الشعب العراقي هو الذي سيقوم بعملية
التغيير، إلا أن الجميع يدرك حقيقة مهمة وهي أن الشعب العراقي المغلوب على أمره، لن
يستطيع الاضطلاع بمهمة شبه مستحيلة من هذا النوع. فالنظام العراقي يمتلك أسلحة
فتاكة لن يتورع في استخدامها ضد جماهير الشعب وبشكل عشوائي كما حصل في مناسبات
سابقة في حلبجة والدجيل وجيزان الجول والأهوار وحملة الأنفال وانتفاضة عام 1991،
التي راح ضحيتها مئات الألوف من المواطنين العراقيين الأبرياء. وكل عراقي يدرك هذه
الحقيقة منذ زمن بعيد، ومن هنا جاءت مشروعية الاستعانة بالقوى الخارجية سواء كانت
إيران، أو سوريا في السابق، أو الولايات المتحدة حاليا. ورغم أن هناك قوى في
المعارضة داخل المؤتمر الأخير أو خارجه، لا تزال تتبنى خطابا ديماغوجيا )بأن مهمة
التغيير يجب أن يضطلع بها الشعب العراقي وحده..) إلا أنها تعترف في الوقت نفسه بأن
الشعب لا يستطيع القيام بهذه المهمة الصعبة دون مساعدة من قوى أخرى، بل هو بحاجة
إلى الدعم الخارجي الفعال، خصوصا وأن هذا الشعب لم ينس بعد المذابح التي ارتكبها
رموز النظام الحالي بحقه عام 1991 على مرأى ومسمع من العالم كله. لذلك فإن الشعب
العراقي لن يُخدع مرة أخرى، ولن ينهض ضد النظام الحاكم دون تطمينات مؤكدة وإشارات
واضحة بأن هناك قوى خارجية قوية ستأتي لنجدته وفي الوقت المناسب لتخلصه من قيوده
إلى الأبد. وكما كان التدخل الخارجي للإطاحة بنظام هتلر في ألمانيا وموسوليني في
إيطاليا وعيدي أمين في أوغندا وبول بوت في كمبوديا، مبررا من النواحي الأخلاقية
والإنسانية والاستراتيجية، فإن التدخل الخارجي للإطاحة بصدام حسين مبرر أيضا
للأسباب نفسها، بل سيلقى ترحيبا شعبيا قل نظيرُه في التاريخ. ومن هنا فإن إصرار بعض
أطراف أو شخصيات المعارضة العراقية على إنكار الدور الأمريكي ليس في صالحها على
الإطلاق لأنه أولا يطعن في مصداقية خطابها السياسي عراقيا وعربيا ودوليا، وثانيا
فإنه يضلل بعض العراقيين ويجعلهم لا يتفاعلون مع العامل الدولي الذي أضحى عاملا
أساسيا في عملية التغيير. لقد سمعت أحد رموز المعارضة العراقية يدافع في إحدى
الفضائيات العربية عن الدور الأمريكي قائلا "لست قادرا على منع الولايات المتحدة من
إسقاط صدام حسين"! ولا أدري إن كان أخونا قادرا فهل سيمنع سقوط صدام حسين؟ أم أنه
يسعى لإسقاطه بكل السبل الممكنة؟ مثل هذه الإجابات تضعِف خطاب المعارضة وتصورها
كأنها فعلا قوة هامشية يستخدمها الأجانب لتبرير ضرب العراق، وليست قوة تمثل غالبية
الشعب العراقي وتتحالف مع قوى أخرى تتفق معها في الأهداف من أجل مصلحة العراق.
مصارحة الجماهير العراقية قوة للمعارضة وليس ضعفا، خصوصا وأن معظم العراقيين لا
يعارضون العامل الدولي بل يرحبون به.
إن الشعب العراقي الذي يعاني من المآسي
التي ألحقها به النظام الحالي من قمع وحروب وعقوبات وعزلة دولية، دون أدنى مبرر، هو
كمن تحاصره النيران في بيت يحترق، يرحب بمن يساعده على الخلاص. فالإنقاذ من الحريق
يأتي أولا وأخيرا. نعم هذه هي الحقيقة التي أوصلنا إليها صدام حسين، والتي لا
يفهمها إخواننا العرب للأسف الشديد. وبينما يدرك العراقيون تماما أن فهم نظام صدام
حسين يصعب على غيرهم، فإنهم لا يطلبون من إخوانهم العرب سوى الاستماع إليهم كي
يعرفوا حجم الظلم الواقع عليهم، فمن غير المفيد أن يستبينوا النصح ضحى الغد. لقد حل
الغد ونحن بانتظار الفجر.
العراقيون يدركون تماما الظروف المحيطة ببلدهم والأخطار التي تواجهه وطبيعة
النظام الذي يحكمه، وهم جديرون بالمصارحة من قبل المتصدين لقيادتهم، وهذا هو أدنى
ما يطمحون إليه. لقد يئس الجميع ومنذ زمن بعيد من إصلاح النظام القائم الذي أصابه
الغرور وتوهم أن بإمكانه أن يفعل ما يشاء بالشعب العراقي دون تدخل دولي، واعتمد
بدلا من الإقناع على القمع والقتل والحروب وتغييب الرأي الآخر، وأغرق البلاد في
مشاكل لن تستطيع الخروج منها بسهولة. لذلك فإن الواجب الوطني يدعو كل العراقيين إلى
المساهمة في عمل المعارضة العراقية والعمل على إصلاحها وتقويمها قبل أن تقع هي
الأخرى في مشاكل عميقة يصعب حلها لاحقا.
إن مستقبل العراق يعتمد على صلاح
المعارضة وتبنيها للمواقف الصحيحة التي تؤسس لمستقبل ديمقراطي تعددي يعتمد على
احترام الإنسان والسعي لخدمته، وليس احترام السياسي المتصدي والحفاظ على كرامته
ومستقبله. يجب أن يكون السياسي مستعدا لأن يضحي بمستقبله السياسي في سبيل المصلحة
العليا وهذا الاستعداد للتضحية هو الضامن الوحيد للاستمرار في العمل السياسي في
البلدان الديمقراطية. للأسف الشديد فإن بعض السياسيين في المعارضة العراقية مصممون
على التصدي للعمل السياسي على الرغم من فشلهم وصعوبة بقائهم في هذا الحقل أما
لانعدام كفاءتهم أو لعدم اقتناع الناس بأطروحاتهم السياسية، أو لأن العراقيين لا
يثقون بهم في الوقت الحاضر لسبب من الأسباب. إن كان هؤلاء وطنيين فعلا فبإمكانهم أن
يعملوا لصالح العراق دون أن يسعوا لنيل المناصب، وعندها سيكسبون رضا الناس بل
إعجابهم، وقد يكون لهم مستقبل سياسي بعد حين.
إن التنوع السياسي والثقافي
والقومي الذي يتميز به الشعب العراقي هو طبيعة متأصلة لهذا الشعب منذ قديم الزمان،
وكل من يحاول أن يتجاهل هذا التنوع يرتكب خطأ فادحا، وما أوصل العراق إلى المنحدر
الخطير الذي هو فيه الآن إلا هذا التجاهل لطبيعة الشعب العراقي. وهذا التجاهل الذي
مارسه صدام حسين هو الذي دفع العراقيين إلى معارضة النظام وقاد إلى المواجهة
الحالية. ومن هنا فإن أول ما تقوم به المعارضة يجب أن يكون الحرص على احترام هذا
التنوع، ليس فقط في اختيار أشخاص من هذه الفئة أو ذلك التيار، بل في اختيار الأشخاص
المناسبين من التيارات أو الفئات المختلفة، أولا، من القادرين فعلا على خدمة البلاد
والعباد، وثانيا من خلال تفعيل الديمقراطية واحترام الرأي الآخر.
لكن الذي حصل
في المؤتمر الأخير هو أن المؤتمرين لم يستشاروا في معظم القرارات التي اتخذت خصوصا
اختيار أعضاء لجنة التنسيق والمتابعة، التي كنا نأمل أن تكون منتخبة حتى تعكس حقا
تنوع الآراء والتيارات السياسية، وحتى يأخذ أعضاؤها بنظر الاعتبار آراء القواعد
الشعبية التي يمثلونها. لكنها للأسف الشديد لم تنتخب بل اختيرت (بالتراضي) بين
الأحزاب، وبغياب الديمقراطية غابت شخصيات مهمة عن هذه اللجنة، خصوصا من المستقلين.
إنني متأكد من أن الكثيرين من أعضاء اللجنة الحاليين كانوا سيفوزون لو أجريت
انتخابات أصولية بين المؤتمرين، فبينهم رموز سياسية ودينية وثقافية معروفة بتاريخها
النضالي ولا يمكن لأحد أن يتجاهلها. لكن آخرين كانوا سيفوزون أيضا، كنجيب الصالحي
وليث كبة ومدين الموسوي وسامي العسكري وحسن العلوي وطارق علي الصالح وغيرهم، لما
لهم من وزن وتاريخ في ساحة المعارضة العراقية. وإذا كان مفهوما أن هناك بعض
الإشكاليات في أن يكون كل أعضاء اللجنة منتخبين، فما هو السبب أن لا يخضع معظم
الأعضاء للانتخاب من قبل المؤتمرين، مع الاحتفاظ بعدد معين من المقاعد لأعضاء
تعينهم الأحزاب؟
لقد نقل لي مشاركون في المؤتمر أن هناك اجتماعات مغلقة كثيرة
بين زعماء الأحزاب اتخذت خلالها معظم القرارات، بينما تُرك المؤتمِرون في معزل عما
يجري. كان بالإمكان تجنب هذا الخطأ الذي سيولد مزيدا من الأخطاء في المستقبل، إذ لن
ينتهي الجدل بخصوص شرعية اللجنة وأهلية أو صلاحية أعضائها. وإن أُضطِر في المستقبل
لزيادة العدد وتطعيم اللجنة بشخصيات ذات كفاءة وأهلية متفق عليها، فإن الشخصيات
الأخرى المثيرة للجدل لن تنسجم مع التشكيلة الجديدة، وإن أجريت انتخابات لحسم
الأمر، ولم يفز فيها المثيرون للجدل فإنهم سيطعنون بنزاهة هذه الانتخابات، وهلم
جرا.
لقد كان اختيار شخصيات لم تدع أصلا للمؤتمر خطأ كبيرا ارتكب بحق هذا
المؤتمر الذي كنا نتطلع إلى نتائجه لتكون مثالا ديمقراطيا يعيد إلينا الثقة
بالسياسة والسياسيين، كما كان تجاوز الأحزاب للمؤتمرين خطأ أكبر يضاف إلى سلسلة
الأخطاء التي كان يمكن تجنبها بسهولة. لا أدري كيف تتمكن هذه اللجنة من تأدية عملها
وهي تضم أطرافا متنافرة لا يجمع بينها جامع، بل إن هناك بين أعضائها من أعلن أنه
سيقاطعها كالدكتور محمد بحر العلوم، احتجاجا على الطريقة التي اختير بها الأعضاء،
ومن المتوقع أن يحذو حذوه آخرون. لا شك أن هذا الموقف المبدئي للسيد بحر العلوم سوف
يُسجَل له، رغم أن كثيرين يفضلون الحفاظ على أجواء التساهل والتضحية من أجل الهدف
الأسمى، ألا وهو إسقاط النظام.
ومن المشاكل الأخرى المهمة أنه لا أحد يعلم
صلاحيات لجنة التنسيق والمتابعة، ولا العدد النهائي لأعضائها، 65 أم 75؟ ولا طريقة
عملها ولا حتى مهماتها. كل الذي نعرفه أنها سوف تنعقد في أربيل منتصف يناير/كانون
الثاني 2003، ولكن ماذا ستفعل خلال هذا الاجتماع، الذي أشك أنه سيتم فعلا، وماذا
سيتمخض عنه؟ لا أحد يعلم حتى بين أبرز الأعضاء.
وحتى لا نستغرق في السلبيات،
هناك الكثير من الإيجابيات في هذا المؤتمر، منها إجماع العراقيين ومن كل القوميات
والطوائف على ضرورة التخلص من صدام بمساعدة خارجية، وإقرارهم بحقيقة تقبل الآخر
المختلف والعمل معه ليس على مضض كما كان سابقا بل بإقبال ورضا كاملين. كذلك أجمع
العراقيون على قيام دولة علمانية ديمقراطية يشارك فيها الجميع وتحترم حقوق الجميع،
فلم يعد هناك من يدعو إلى قيام دولة حسب أسس أيديولوجية، إذ برز إدراك بين
العراقيين بأن عصر الأيديولوجيات قد انتهى وجاء عصر الواقعية وتقبل الآخر. الدولة
العلمانية محايدة بطبيعتها، تسمح للجميع أن ينشطوا في المجالات الدينية والفكرية
والسياسية المختلفة بما لا تسمح به الدولة الأيديولوجية، بالإضافة إلى أنها مقبولة
من قبل الجميع. ومن الجدير بالذكر أن معظم الرؤى السياسية العراقية كانت ممثلة في
المؤتمر، وحتى الأحزاب التي قاطعته كان هناك من يمثل رأيها فيه من الشخصيات القريبة
منها أيديولوجيا. ومن الأمور الأخرى المهمة هي أن المؤتمرين تجاوزوا النعرات
القومية والطائفية أو العنصرية، إذ رشحت الأحزاب الكردية عربا في قوائمها كما رشح
العرب أكرادا في قوائمهم وهكذا الحال بالنسبة للسنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين.
إلا أنه، ورغم ذلك، لا يزال هناك من يريد تصحيح الماضي بدلا من التركيز على بناء
المستقبل، ومن يطالب بحقوق هذه الطائفة أو تلك أو هذه القومية أو تلك، دون المطالبة
بسيادة القانون وحقوق المواطن العراقي بغض النظر عن هويته القومية أو المذهبية. وفي
هذا الصدد، يجب أن لا يُغْفَل ذكر المتصيدين في الماء العكر، الذين يعرفون جيدا أن
لا مستقبل سياسيا لهم إلا في إثارة النعرات الطائفية والعرقية والقبلية. لكن هؤلاء
ينسون أن معظم العراقيين قد تربوا في بيئة سليمة ترفض التمييز الطائفي أو القومي
وتمقته، وأن أطروحاتهم قد تجاوزها الزمن وما عادت تصلح لأي بلد مهما كان بدائيا،
فكيف تصلح لبلد هو مهد المدنية والحضارة.
ومن هنا، على السياسيين أن لا يتوقعوا
من العراقيين أن يتقبلوا بسهولة التقسيمات العرقية أو المذهبية التي طُرحت في
المؤتمر. ما يهم العراقيين هو قيام دولة القانون التي تتبنى الديمقراطية أسلوبا في
الحكم، وتحترم الإنسان لإنسانيته، وتسعى لخدمة جميع المواطنين دون تمييز وتنقل
العراق إلى صفوف دول العالم المتقدم. عندها لن يسأل المواطن العراقي عن طائفة
الحاكم أو دينه أو قوميته، بل عن سلوكه ومدى التزامه ببرنامجه السياسي الذي أوصله
إلى الحكم.