|
المسيحيون في العراق : البداية والنهاية
إبراهيم حسن
الحوار المتمدن-العدد: 4973 - 2015 / 11 / 2 - 23:23
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
المسيحيون في العراق : البداية والنهاية Christians in Iraq: The Beginning and the End
يشكّل المسيحيّون في العراق مكوّناً هاماً من مكونات المجتمع، غير إنحسار وجوده في العقدين الأخيرين ينذر بخطر تلاشي هوية العراق التي تشكّلت على أساس التعدّد القومي والديني فيه، وتبرز ظاهرة العنف المسلّح في الشرق الأوسط عموماً والعراق خصوصاً ، و ظهور جماعات إسلامية متطرّفة، كإحدى ابرز المشكلات التي غيّرت الكثير من المعادلات، وأحدثت تغييرات ديموغرافية لصالح الجماعات الإسلامية وذلك على حساب تهجير الأقليات الدينية ( المسيحيون و الايزيديون والمندائيون انموذجاً) . فبعدما كان المسيحيون يشكّلون نسبة 20% من سكّان الشرق الأوسط، أصبحت النسبة الآن أقل من 5 % . و لربما من حقنا أن نسأل من البداية : من أين تستلهم تلك الجماعات الإسلامية المتطرّفة أفكارها ؟ وعلى أي شيء تستند في تبرير أفعالها ؟.. ولماذا لم تنجح جميع الحكومات الإسلامية التي حكمت العراق في إحتواء تلك القوميات والأقليات الدينية إذ إعتبرتهم مواطنون من الدرجة الثانية و وصُفوا بأنهم من أهل الذمة ؟! إن المشكلة الأساسية في البلدان الإسلامية جميعاً هي وجود نصوص مقدّسة في القرآن تُعتبر من وجهة نظر الأغلبية المُسلمة والسلطة الحاكمة واجبة التنفيذ كما إنها تحرّضهم على إعتبار أهل الكتاب ( اليهود والمسيحيين : النصارى بالمفهوم الإسلامي ) من أهل الذمة، الأمر الذي زاد من الأمر سوءا، ناهيك عن اعتبار المندائيين والكاكائيين والإيزيديين إنجاس ولا يمكن التعامل معهم بأيّ شكل من الأشكال، إلا إن الجماعات المتطرفة وخلال العقد الأخير لم تكتفِ بتصنيف المسيحيين ضمن فئة " مواطنو الدرجة الثانية " بل قامت بتهجيرهم وقتلهم إستناداً إلى نصوص صريحة في القرآن، وهذا سبب لا يمكن تجاوزه أبداً، وإلا من أين جاء كل ذلك الرفض للمسيحيين عموماً ؟ الم يكن المسيحيون العراقيون مسالمون مع المُسلمين في كافة الأزمنة ؟ ولم يُجازى المسيحيون بتلك الطريقة البشعة التي نراها الآن على أيدي الجماعات الإرهابية وفي مقدمتها داعش ؟ كيف سيبرّر المسلمون أفعال داعش الإجرامية ضد تلك المكوّنات ؟ هل تمثل داعش و من لف حولهم الإسلام بصبغتهِ الطبيعية الأصلية ؟ أم إنها تمثل تيار متطرّف يعترف المسلمون بشذوذه عن الإسلام الحقيقي و إبتعاده عنه ؟ وإذا كانت داعش لا تمثل الإسلام الحقيقي الذي نادى به النبي محمد إبن عبد الله، فلم لا يرفض المسلمون أفعال داعش ويقفون مع أخوتهم المسيحيين وقفة مشرّفة ؟. أليس من المفترض أن يكون للحكومة العراقية موقف واضح تجاه ما يتعرّض له المسيحيون في العراق في مدينة الموصل من قتل وتهجير وسلب ونهب وتفجير لكنائسهم لحد الآن؟.
البداية بدءاً يجب القول، إن الوجود المسيحي في العراق يمتد من النصف الثاني من القرن الأول الميلادي إلى اللحظة الراهنة التي بدء فيها الوجود المسيحي يتضاءل نتيجة إعمال العنف والقتل التي يتعرّضون لها بعدما كان المسيحيون يشكلون أغلبية سكان بلاد ما بين النهرين سابقاً، إذ لا يخفى على أحد إن وجود المسيحيين في العراق يسبق الوجود الإسلامي بما يقارب 550 عام أو أكثر بقليل، و هناك اتجاهان يفسران بداية الحضور المسيحي في العراق قبل ألفي عام، الأول ينسب ذلك إلى التبشير الذي قام به القديس توما، والثاني ينسبه إلى القديسين أداي وماري، اللذين زارا العراق في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، وذلك مؤشر مهم لأصالة الوجود المسيحي في العراق نظير الوجود الإسلامي الذي أتى لاحقاً . لقد غطّت المسيحية العراق بكافة تشكلاتها الطائفية المختلفة، فهناك كاثوليك و أرثوذكس، و هناك بروتستانت PROTESTANT وإنجيليونEvangelicals وسبتيون Adventists، تتداخل ضمن تلك العناوين قوميات فرعية هي : الآشوريون / الكلدان / السريان / الأرمن ، فالعراق لم يكن حكراً على طائفةٍ مسيحية واحدة، بل كان طيفاً مسيحياً متنوعاً، كان الآشوريون والكلدان هم الأسبق تواجداً على ارض العراق مقارنة ببقية الطوائف المسيحية التي تواجدت لاحقاً، أما الكنائس البروتستانتية Protestant Churchesو الإنجيلية Evangelical churches فكانت هي الأكثر تأخراً من ناحية الحضور التأريخي على ارض العراق، إذ شيّدت أوّل كنيسة بروتستانتية مشيخية Presbyterian في الموصل عام (1840 م) ، ثم دخول الطائفة الإنجيلية البروتستانتية الآثورية وطائفة الإدفنتست السبتيين التي يعود تأريخهم في العراق إلى عام ( 1924م)، ثم تأسيس أوّل كنيسة بروتستانتية إنجيلية مشيخية في بغداد بتأريخ ( 5/8/1954م). ثم حاولت بعض التيارات الإنجيلية التي كانت منضوية تحت الكنيسة البروتستانتية الإنجيلية الوطنية ( المشيخية ) قبل عام (2003م) الإنشقاق عن الكنيسة البروتستانتية الأم، إلاّ إنّ سياسة النظام السابق( نظام صدام حسين ) منعتهم من الإستقلال بذاتهم، وهو ما أدى إلى إصرار تلك التيارات على الاستقلال و تحرّكها للعمل على شكل مجاميع بيتية مستقلة للصلاة، الأمر الذي عرّضهم للإعتقال أكثر من مرّة بتهمة التبشير تارة أو إرتباطهم بمنظمات إسرائيلية و ماسونية تارة أخرى، وحادثة الإعتقال الأولى كانت عام ( 1978م) أمّا الثانية فكانت عام ( 2002م) . أما بعد سقوط نظام صدام حسين من قبل قوات التحالف الدولي عام 2003، فقد إفتتح الإنجيليون كنائس خاصة بهم في بغداد وفي شمال العراق، تجاوز عددها أكثر من عشرة كنائس تتبع طوائف إنجيلية متنوعة. اما الحديث عن الكنائس الكاثوليكية والارثوذكسية فهي كثيرة وعريقة وتنشر في بغداد وشمال العراق وبعض محافظات الجنوب ناهيك عن الاديرة القديمة .. وإن من ابرز تلك الكنائس هي كنيسة سيدة النجاة في بغداد، وماركوركيس ومار يوسف، في حين تبرز محافظة نينوى بحضور مسيحي واضح في قرى مسيحية منعزلة فضلا عن القوش وكذلك مركز المدينة ( الموصل ) ..
وخلال كل ذلك الوجود التأريخي ساهم فيه المسيحيون بكل ما يمتلكونه من طاقات وأدوات بناء مجتمع متسامح هادئ يقبل الآخر ويتواصل معه، ولم يكن المسيحيون في يوم ما وخلال كل تأريخهم الطويل في العراق حجر عثرة او عائق في طريق بناء دولة مواطنة او دولة مدنية، بل على العكس، في حين لم تُوفق الحكومات الإسلامية التي حكمت العراق في إحتواء المسيحيين وبقية الديانات والقوميات بشكل متساو مع اقرأنهم المسلمين في العراق، ولسنا هنا في معرض الدفاع عن المسيحية كدين، بقدر ما هي مراجعة تأريخية وقراءة حاضرة لما يمر به المسيحيون في العراق. إن الحقيقة التي يجب أن تقال وبدون أي تطرّف، هي إن الحكومات الإسلامية أخفقت في إحتواء تلك التعدديّة الدينية الخلاّقة التي تتمثل في المسيحيين والايزيديين والمندائيين في العراق، ولم تفكر إلا بنفسها، بل و ضيعت كل فرص المشاركة الفاعلة لتلك المكوّنات التي بالتأكيد ستدفع بعجلة التقدّم إلى الأمام مما يسهم في بناء دولة حقيقية قائمة على أساس المواطنة والولاء إلى الوطن من دون غيره . بل من الواضح إن أيّ جماعة إسلامية ترفض وضمن آيديولوجيتها وجود آلاخر معها بنفس الرقعة الجغرافية .
النهاية : مسلسل الهجرة الجماعية لقد تعرّض المسيحيون بكل اطيافهم إلى مضايقات في زمن النظام السابق، وإحدثت تلك المضايقات هجرة شبه جماعية في تسعينات القرن الماضي، في حين شكّل الإحتلال الأمريكي للعراق نقطة تحوّل فاصلة، لم يكن يعرف المسيحيون أنها ستؤدي بهم إلى وضع لا يُحسدون عليه، إذ بدأت الجماعات الإرهابية ( في عام 2005/2006 ) وعلى رأسها تنظيم القاعدة الإرهابي بتصفية وتهديد وتهجير الكثير من العوائل المسيحية الساكنة في مركز محافظة نينوى وهي مدينة الموصل مما اضطر ببعض العوائل النزوح إلى القرى الواقعة في شمال المحافظة والتي يشكل فيها الحضور المسيحي نسبة اعلى من الحضور الاسلاموي ، كما وإنها تقع تحت سيطرة القوات الكردية ( البيشمركة ) ..في حين اضطر مسيحيو بغداد، وتحديدا في منطقة الدورة، ترك منطقتهم هذه واللجوء ايضا الى مناطق شمال نينوى ( القوش وغيرها ) .. من جانب اخر تمسّـك الكثير من المسيحيين ببلدهم وتحمّلوا خطورة الوضع وجازفوا بالبقاء، إلا إن يوم 31- تشرين الأول من عام 2010 ، كان يوماً اسوداً على المسيحيين في بغداد لم يحسبوا له حساباً من قبل، إذا اقتحمت الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية ( القاعدة ) كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك في منطقة الكرادة / بغداد، وقتلت عشرات المسيحيين في أثناء تأديتهم لمراسيم القداس، وقتلهم لكاهن الكنيسة أيضاً، في حين لم يأتِ الحل الحكومي العسكري إلا متأخراً بعد أن إستشهد وجُرح الكثير.
للاسف ، لم يعد يشعر أي مسيحي بالأمان في بلدهِ بعد تلك المجزرة، فشكّلت تلك الحادثة المؤلمة هجرة اكبر من قبل، حيث هاجرت عشرات العوائل من العراق إلى أمريكا وبلدان أوروبية أخرى، في حين تمسّكت عوائل مسيحية مرة أخرى بالعراق حباً وتعلقاً بهذا البلد الذي وُلدوا فيه ، ومرة ثالثة وفي يوم 10-6-2014، إستيقظ العراقيون صباحا على خبر مفاده إن الدولة الإسلامية في العراق والشام قد استولت على محافظة نينوى ( شمال العراق ) ، وبعدها محافظة صلاح الدين وأجزاء أخرى من محافظة ديالى والانبار وهروب جماعي لعناصر الجيش العراقي منها، ولا شك إن محافظة نينوى تسكنها آلاف العوائل المسيحية وخصوصاً في سهل نينوى (القوش) والقرى المحيطة بها، فضلا عن وجود العشرات من الكنائس القديمة والأديرة التي يعود تأريخها إلى بداية الوجود المسيحي في العراق. حينها لم تنتظر العوائل المسيحية الساكنة هنالك إنذار تنظيم الدولة الإسلامية لمغادرة المدينة، بل هربوا فورا إلى إقليم كردستان المحاذي لمدينة الموصل، في حين أجبر المسلحون المتطرّفون من تبقى من المسيحيين في وسط مدينة الموصل بين دفع جزية ( مبلغ من المال مقابل بقاءه في المدينة ) أو اعتناق الإسلام أو القتل ، في تلك الحالة فضّل المسيحيون مغادرة المدينة إلى كردستان العراق، مما دعا المسلحين الإرهابيين إجبارهم على الخروج من المدينة بأجسادهم فقط وتمت مصادرة منازلهم وسرقة أثاث بيوتهم وأموالهم.
من كردستان العراق، هاجرت الكثير من العوائل المسيحية إلى أمريكا وفرنسا وتركيا وبلدان أخرى بعدما أيقنت بعدم الفائدة من بقائها في العراق، وكذلك كثير من العوائل المسيحية في بغداد أيضاً خشية وصول المد الارهابي (تنظيم داعش ) الإرهابي إلى العاصمة. وعلى ما يبدو فأن الأشهر القادمة ستشهد خلو العراق من أي عائلة مسيحية، فنحن أصبحنا نتحدّث عن هجرة مسيحية كبيرة تشابه هجرة اليهود من العراق في أربعينيات القرن الماضي. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بقلم: إبراهيم حسن باحث انثروبولوجي مهتم بشؤون الأقليات
#إبراهيم_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاقليات العراقية وقانون البطاقة الوطنية الموحد
-
يوم الحضارة العراقية 29-11-2013
-
أصدقاءُ الله
-
مفهوم العشق الإلهي عند المتصوفين
-
الثورة على مرسي : هل ثورات الربيع العربي مؤدلجة ؟
-
الانثروبولوجيا وأزمة العراق اليوم : بحث في علمية الانثروبولو
...
-
الإنتظار
-
إستثناءٌ من الموت
-
المثقفون أفيون الشعوب
-
البرلمانيون العراقيون وحقوق التقاعد
-
الهوية العراقية والتبادل الاجتماعي
-
مفهوم الجماعة ومفهوم المجتمع
-
العنف ضد المرأة – التحرّش الجنسي انموذجاً
-
العراقيون الحقيقيون
-
هل الإنسان هو أفضل المخلوقات ؟
-
آلهتي
-
الدين أفيون الشعوب .... هل كانَ ماركس مُحقاً ؟
-
فكرة المخلّص في الثقافة الاسلامية
-
الاحلام : الرمز والمعنى - 1
-
الإنسان الكوني - المعنى والمفهوم
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
-
كارل ماركس: حول الهجرة
/ ديفد إل. ويلسون
المزيد.....
|