داؤد أمين
الحوار المتمدن-العدد: 1362 - 2005 / 10 / 29 - 12:04
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
رؤية مختلفة لمحاكمة صدام !!
تابعت يوم 19 أكتوبر الحالي , مثل ملايين الناس , في جميع القارات , محاكمة الدكتاتور صدام حسين , تابعت المحاكمة بمتعة غيرمألوفة , من أول دقيقة حتى أخرها , وكانت مشاعري مختلفة ومتناقضة , وأنا مشدود للتلفاز , ولمحطتين كنت أتنقل بينهما , هما ( العراقية ) بشكل رئيسي و (الجزيرة ) كلما إشتقت لطلعة عبد الباري عطوان وأخوتنا المحللين المصريين , الذين تهيئوا لسد الفراغات والانقطاعات أثناء بث المحاكمة .!!
كنت أشعر بالفرح لآن الحلم الذي إنتظرناه طويلاً يتحقق ألآن , وأن ما كان مستحيلاً أصبح اليوم حقيقة , كنت أنظر للطاغية صدام بشكل رئيسي , وهو يجلس داخل قفصه , ولم أهتم أوألتفت كثيراً لزبانيته , بإعتبارهم ديكوراً ثانوياً يكمل الصورة لا أكثر !! وكنت أسأل نفسي :هل تصور صدام أنه سيجلس يوماً في قفص كالذي هو فيه ألآن , وأمام قاض كردي عراقي !؟ لقد شعرت بالراحة أن دم مئات الاف الشهداء الذين غابوا عن رؤية هذه اللحظة التأريخية الخالدة وتضحياتهم هي من قادت قدما صدام لهذا القفص العادل . تذكرت وجوه الشهداء الذين أعرفهم وتمنيت أن يكونوا ألآن الى جانبي ليشهدوا هذه اللحظة ألآستثنائية من تأريخ هذا العراق العجيب !
كان البث التلفزيوني رديئاً , والصوت متقطعاً , والصورة تغيب أو تشرق , ولكن كل ذلك لم يلغِ متعتي الحقيقية وأنا أتابع المحاكمة . كنت عكس الكثير من الرفاق والاصدقاء والكتاب الآخرين الذين قرأت تعليقاتهم وإنتقاداتهم , أؤلئك الذين قالوا أن المحاكمة لم تكن موفقة ولا ناجحة !! كنت على الضد منهم أشعر أن المحاكمة كانت ناجحة وبكل المقاييس! وأنها قدمت العراق الجديد في أنصع صوره , عراق العدالة والقانون , الذي نأمل له _ نحن ضحايا صدام , وربما ضحايا غيره في المستقبل _ أن يتعزز ويتطور !
لقد فوجئت بالكتابات الكثيرة , وعلى مختلف الصفحات الالكترونية , تلك التي تنتقد ( مرونة ) القاضي رزكار محمد أمين , وتستغرب صبره وحلمه , لآنه أعاد ( العكل ) لبعض المتهمين , وإنه خاطب صدام حسين وطه ياسين رمضان بكلمة ( سيد ) , في حين لا أرى في ما فعله وقاله القاضي رزكار في المحكمة , إلا منتهى الحرفية والنزاهة والحيادية المطلوبة , إذ أن ما فعله هو ما كنا نكتب عنه ونطالب به , وما منحنا أغلى سنوات عمرنا من أجل تحقيقه ! وهو العدالة والاحترام وسيادة القانون !!
إن مشاعرنا , كضحايا , يجب أن تغيب عندما نناقش محاكمة نريد لها أن تكون عادلة حتى لو كانت لمجرم معروف كصدام حسين , هذا إذا كنا نحلم حقاً بعراق أخر جديد !! الم تبح أصواتنا بالمطالبة بقضاء عادل ونزيه ؟ أم أننا نسينا ذلك _ للآسف _ وفي أول خطوة لتطبيق العدالة والنزاهة ؟ لقد كنا ننتظر هذه المحاكمة , بل كنا قلقين لتأخيرها أو نقلها للخارج , وقد رسم بعضنا صورة ذهنية معينة لها , صورة تتطابق مع رغبته في أن يرى صدام ذليلاً مخذولاً ومنكسراً, وحين لم تتطابق الصورة مع ما تخيله وتمناه , راح يتهجم على المحاكمة ( المهزلة ) ! وعلى القاضي المتساهل ! بل أن أحد الكتاب قال إن التساهل في المحاكمة كان بسبب تسلل عناصر من حزب البعث لهيئة المحكمة , وأن أياد علاوي هو من أرجع هؤلاء البعثيين للمحكمة !! في حين يعرف الجميع أن هذه المحكمة تشكلت بقرار من الجمعية الوطنية الحالية , التي ليس لعلاوي كلمة الفصل فيها !
لا أعرف لماذا لم يرَ الاخرون إنكسار صدام وذلته وهزيمته , وكانت أكثر من واضحة ومكشوفة أثناء المحاكمة , أم أن البعض يتصورأن الذلة والانكساريجب أن يتجسدا فقط في البكاء والنحيب والتوسل ؟ لقد كان الانكسار والهزيمة مجسدان وواضحان ,عندما أجبرت المحكمة صدام على الجلوس داخل قفص , وعلى كرسي لا يختلف عن كراسي أؤلئك السبعة الذين كانوا عبيده وأزلامه , وبينهم الفلاح والعامل !!,كما جلس أسفل القضاة وتحت أنظارهم , ووجهت له نفس ألآسئلة التي وجهت للمتهمين ألاخرين , دون تمييز أو تفضيل أو مجاملة , ومن يعرف سايكولوجية صدام حسين , المريض بالتعالي والفوقية , سيدرك أنه كان ذليلاً ومنكسراً , رغم كل إدعاءاته وحركاته المسرحية الهزيلة !!
لقد كتب الكثيرون عن ( مرونة ) القاضي العراقي رزكار , معتبرينها رخاوة وضعفاً , في حين رأيت فيها حكمة وعدالة ونزاهة وقوة أيضاً , فمنذ السؤال الاول الذي وجهه القاضي لصدام عن إسمه وعنوانه , والذي رفض صدام الآجابة عليه , (وهو حق من حقوقه التي قرأها القاضي نفسه على المتهمين) , وحاول تحويل الاجابة لمطالعة سياسية , تغير مجرى المحاكمة لوجهة أخرى أرادها صدام , ولكن لباقة القاضي وحنكته أجبرت صدام على الجلوس , رغم أنفه , وسارت المحاكمة وفق ما كان مرسوماً لها !! وفي هذه النقطة بالذات قرات الكثير من النقد للقاضي, الذي قيل أنه جعل صدام يستخف بالمحكمة !!, لكن المتابع الواعي لمجريات المحاكمة يدرك أن صدام أوقع نفسه في شرك نصبه هو لنفسه , إذ في الوقت الذي أعلن فيه رفضه للمحكمة وشرعيتها , وتأكيده على أن ما أقيم على باطل هو باطل ايضاً ,إلاأنه إضطر _ ربما دون وعي منه أو إرادة _ للخضوع للمحكمة , بإجابته على سؤال القاضي : هل انت مذنب أم بريء ؟ إذ قال بريء , وهي إحدى ألآجابتين اللتين كان ينتظرها القاضي , أو ربما توقعها !! كما رد على وكيل الادعاء, وأعترض أكثر من مرة , بمعنى أنه ورغم عناده وصلفه , فقد جرت أقدامه مرغماً للمحاكمة وأصبح جزءاً منها , وكان حري بصدام أن يصمت ولا يجيب , لكي ينسجم مع قراره بعدم شرعية المحكمة !! كما ان القاضي وهو يأمر بإعادة ( العكل ) للمتهمين , أثبت إنه سيد الموقف , وإن القرار قراره وليس قرار الجهة العسكرية , التي جلبت المتهمين , مهما كان نوعها ! كما أنه كان حازماً وحاسماً عندما حاول أحد المحامين التشكيك بالمحكمة , عندما أتهمها بتبعيتها للحكومة لآن الدكتور ليث كبة صرح بموعد المحاكمة , إذ رد عليه القاضي بوضوح وحزم : هذا إفتراء وكلام غير صحيح فالمحكمة وهيئتها هي من حددت موعد المحاكمة وليس الحكومة , وربما أعاد ليث كبة قول ما سبق أن أعلنا نحن عنه !!
لقد قرأت شتائم للمحامين الذين أنتدبوا للدفاع عن صدام والمتهمين الاخرين , وإستهجان لآعتراضاتهم على مرافعة وكيل الآدعاء العام , في حين كانت إعتراضاتهم صحيحة , وأتفق القاضي معها , وقبلها وكيل الادعاء العام نفسه, الذي قدم خطبة سياسية غير موفقة , إستعرض فيها جرائم صدام , التي يعرفها القاصي والداني , في حين كان حري به أن يلتزم بمرافعة قانونية تتناول تهمة واحدة فقط , هي قضية الدجيل , ولا يتناول قضايا أخرى , خارج السياق . لاأدري ماذا كنا ننتظر من محامين جلبوا للدفاع عن متهم !!؟ وما هو عمل المحامين في كل القضايا المشابهة أو المختلفة, إن لم تكن الدفاع عن المتهم ؟
إذا لم نكن نطيق رؤية محاكمة عادلة , لمجرم نعرف جميعاً حجم جرائمه وبشاعاته , فلماذا لا نسلمه لذوي الضحايا ليأكلوه نيئاً !! ثم ننتظر نصف قرن أخر لندين ما فعلناه , كما أدنا قتل وسحل أركان الحكم الملكي !!
عندما إعترض محامي صدام على مطالعة المدعي العام , شعرت بالفرح , وإزداد فرحي عندما إتفق القاضي مع المحامي , وإشتد فرحي أكثر عندما وافق وكيل الادعاء العام على إهمال قراءة مجموعة من أوراقه , وقفز لصلب القضية موضع الجلسة !! وكان مصدر فرحي , إدراكي أن العالم كله وملايين الناس , في أركان المعمورة يتسمرون الان مثلي أمام التلفاز , ومع كل منهم ( جهاز قياسه ) الخاص للعدالة والنزاهة والحيادية التي يريد أن يراها في المحاكمة ! لقد شعرت أن عطوان والخصانة وغيرهم قد أسقط في ايديهم , ولن يجدوا في الغد ما سيكتبون عنه , او يصرحون ضده ! وبالفعل كانت تصريحات كل هؤلاء تصب في موضوع ( عدم شرعية المحكمة التي جاءت في ظل إحتلال ) ولم يجرأ أحدهم على القول أن القاضي كان منحازاً , او ان أحد المحامين لم يستطع الدفاع عن موكله ! وهنا تكمن قوة المثل الذي يضربه العراق الجديد الذي نحلم ببنائه !!
لقد شبه أحد الآصدقاء , وهو منزعج , المحاكمة بمسلسل مكسيكي ستطول حلقاته , وأنا أرى _ بإعتباري أحد الضحايا _ أنه مسلسل ممتع , ولذلك فلتطل حلقاته ! إذ مع كل حلقة أشعر بإعدام جديد لصدام , وهو ما كنا نحلم به , أي أن لا يعدم مرة واحدة ويرتاح ! وإذا مات صدام والمسلسل لم ينتهي بعد ( فدفعة مردي وعصة كردي !) قابل إنريدله أكثر من الموت !!!؟
لقد إقترح صديق أخر أن يوضع صدام في قفص ويدار به في المدن العراقية للفرجة والشماتة , وأقول لقد وضع صدام في قفص , كما إقترح الصديق , وبدل أن تتفرج عليه المدن العراقية وحدها , فقد تفرج عليه العالم بإسره , فهل هذا قليل !؟
إن ميزة محكمتنا , التي لم تعجب عدالتها البعض , أنها ثمرة من ثمار الجمعية الوطنية العراقية , فقد تكونت بقانون صادر منها , وقد تكون الثمرة غير ناضجة تماماً , ولكنها ثمرة عراقية 100% , وتعقد فوق أرض عراقية , وليس كما حلم الخصاونة وجوقته بنقلها خاج العراق , وهذا بحد ذاته إنتصار كبير .
أرجو أن لا يستعجل ألآخوة _ رغم تفهمي لاسباب تعجلهم _ فالفار في المصيدة , وحزورة يتحاكم لو ما يتحاكم , تم حلها لصالح يتحاكم , وما دام الجميع يعرفون أن ( البطل ! ) وعلى خلاف كل الافلام العربية التي سبق أن شاهدناها ,سيموت في نهاية الفلم , فلماذا العجلة !!؟ ولماذا نزعل إذا قالت عزيزتنا رغد!! إن أباها أسد , فأبوها نفسه يعتقد أنه لا زال رئيس العراق الشرعي , فهل نستكثر على إبنته أن لا تقول ما قالته , اقترح أن نؤيدها بأن أباها كان فعلاً أسد ( بس كُبر .. وركبته الواويه !!! )
#داؤد_أمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟