|
اعتذار .. عن مطالبة الكنيسة بالاعتذار
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1362 - 2005 / 10 / 29 - 12:03
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"الاعتذار" هو "الشرط" الذى تمسك به كثيرون لاغلاق ملف الأزمة الطائفية التى وقعت أحداثها فى الإسكندرية مؤخراً، على خلفية توزيع شرائط لمسرحية تم عرضها لليلة واحدة منذ عامين فى كنيسة مار جرجس بمحرم بك بالاسكندرية، وقيل انها تضمنت إساءة للإسلام والمسلمين. وتباينت تفاصيل هذا "الاعتذار" المطلوب. حيث طالب البعض بأن يعتذر كاهن كنيسة مار جرجس باعتبار انه المسئول المباشر عما يجرى داخل جدران كنيسته. بينما تمسك البعض الآخر بأن يكون الاعتذار على لسان الأنبا شنوده بطريرك الاسكندرية والكرازة المرقسية شخصياً. وفى رأيى أن التمسك بهذا المطلب، أى مطلب الاعتذار على أى مستوى، هو تعميق للأزمة وليس حلاً لها. صحيح أن هناك خطأ قد حدت بالسماح بعرض هذه المسرحية السخيفة. وصحيح أن هذا الخطأ قد وقع داخل جدران الكنيسة وتحت سمع وبصر رجال الكنيسة المشار إليها. وصحيح أن هذا يرتب مسئولية أدبية وقانونية على رجال تلك الكنيسة. وصحيح أن هذا يسوغ محاسبة المسئولين عن هذا العبث. لكن تلك المحاسبة يجب أن تكون شاملة وعامة، وليست انتقائية. أى ان التمسك بمحاسبة من يضبط متلبساً بالجرم المشهود، وهو هنا جرم بث سموم الفتنة الطائفية وازدراء الأديان الأخرى، لا يجب أن يكون "انتقائياً"، وإنما يجب أن يطبق على الجميع. ثم إن هذه المحاسبة يجب أن تكون بالاحتكام إلى القانون الذى يتساوى الجميع أمامه بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو اللون. وبالتالى .. فانى أفهم أن يتمسك اولئك المتضررين من عرض هذه المسرحية السخيفة بمثول المسئولين عنها أمام العدالة. ولا أفهم – بالمقابل – سبب هذا التشبث باعتذار مراجع دينية، أيا كان مستواها القيادى فى الكنيسة، لأن التمسك بهذا الاعتذار ينطوى ضمنا على محاولة انتزاع اعتراف بمسئولية "عامة" عن هذا الخطأ. وهذا تعنت واضح، فضلاً عن أنه خارج نطاق استحقاقات المساءلة القانونية. والأهم .. ان هذا التمسك بالاعتذار، عن هذه الواقعة بالذات، يتجاهل أن التجاوزات فى هذا السياق كثيرة ومتعددة ومتبادلة. فاذا كان الاعتذار مطلوباً .. فلماذا لا يكون عن "كل" التجاوزات من الطرفين؟! فلا أحد يستطيع أن ينكر أن هناك تجاوزات كثيرة قد قام بها متطرفون مسلمون ضد المواطنين المسيحيين. ولا أحد يتحلى بالحد الأدنى من الانصاف يستطيع أن ينكر أن التعصب ليس حكراً على حفنة من المتطرفين الأقباط بل هو قاسم مشترك بين المتطرفين من الجانبين. ولا أحد ممن لا يدفنون رءوسهم فى الرمال أمام قبح الواقع يستطيع أن ينكر أن المساحة التى يحتلها هؤلاء المتطرفين من الجانبين تتسع باستمرار وتنتقل من الهامش والأطراف إلى المركز والقلب. وأخشى أن أقول أكثر من ذلك أن التعصب الدينى، الذى كان قيمة مرذولة وممجوجة من أغلبية المسلمين والمسيحيين المصريين فى السابق، أصبح قيمة تلقى التشجيع والاستحسان من دوائر كثيرة فى المجتمع. وفى ظل استشراء واستفحال هذه الموجة من التزمت والتعصب والتطرف تجلت ظاهرة سلبية خطيرة أخرى هى إذعان الكثيرين لابتزاز المتطرفين – من الجانبين – ومغازلتهم، بصورة سخيفة وضعت الانتماء لـ "الملة" أعلى من متطلبات الانتماء إلى "الأمة". وهذه الظاهرة الأخيرة ادت إلى شيوع ظاهرة سلبية ثالثة هى تراجع مبدأ "المواطنة" امام الهوية "الطائفية" فى الكثير من المعاملات والسلوكيات. ولعلى أذهب إلى الزعم بأن دعوة البعض إلى المطالبة بـ "اعتذار" الكنيسة، هو تكريس لهذا النهج الطائفى. لأن هذا الاعتذار المطلوب يقوم فى حقيقة الأمر على خلفية التمسك بتقسيم الأمة إلى "طائفتين"، طائفة مسلمة وطائفة مسيحية. وأن الطائفة الثانية يجب أن تعتذر للطائفة الأولى. وهذه سخافة لأن الخطأ الذى حدث فى كنيسة بالإسكندرية هو خطأ فرد أو مجموعة أفراد فى حق الأمة كلها وليس فى حق المسلمين فقط. بل هو عدوان على الأقباط قبل أن يكون عدواناً على المسلمين، لأنه عدوان على الوطن الذى ننتمى إليه جميعاً. والسؤال الذى يطرح نفسه ايضا بهذا الصدد هو: ما هى "صفة" من يطالب بالاعتذار؟! الواضح أنها صفة طائفية. وهذا ينقلنا إلى مسألة اخرى هى مسئولية "الأغلبية" وهذه المسئولية تضع على عاتق المواطنين المصريين المسلمين واجبات أكبر فيما يتعلق بقضية الوحدة الوطنية. ومن هذه الواجبات أن يتصدى المثقفون المسلمون للدفاع عن مطالب اشقائهم المسيحيين، الذين ربما يتحرجون من ذلك بدافع الحساسية أو غير من أسباب. واذا كانت هناك أجواء صحية، فان الطبيعى أن يكون المثقفون المسلمون هم الذين يقودون المطالبة – مثلا – بالغاء الخط الهايونى، وإلغاء الديانة من البطاقات الشخصية والمعاملات التجارية والقانونية، وإلغاء كافة صور التمييز من مناهج التعليم وبرامج الاعلام وشغل الوظائف العمومية من أدناها إلى أعلاها، وإلغاء الخلط بين الدين والسياسة فى الدستور وفى المجتمع. ومن الطبيعى بالمثل أن يكون المثقفون الأقباط هم الذين يقودون الدفاع عن أشقائهم المصريين المسلمين، بعد أن أصبح الإسلام والمسلمون عموماً متهمون عالميا بالإرهاب. هذا هو الوضع المثالى الذى يجب ان نناضل معا - مسلمين وأقباط – كى نصل إليه، بدلاً من هذا الحروب الطائفية الصغيرة والخائبة، التى يكون فيها الغالب هو المغلوب لا محالة، والتى يدفع الوطن ثمنها غالياً فى هذه الظروف الدولية والاقليمية الحرجة. والمسألة العجيبة التى لا أجد لها تفسيراً هى : كيف نستأسد على بعضنا البعض ونتشبث بأكبر قدر من التصلب والعناد فى النزاعات الصغيرة التى تنشأ داخل بيتنا، بينما نتهاون ونتنازل فى القضايا المصيرية الكبرى أمام أعدائنا التاريخيين، بل ونسبغ على هذا التنازل وتلك المهانة صفات الحكمة والواقعية والعقلانية .. وهى كلها صفات نتعامى عنها أمام سفاسف الأمور. و"أعتذر" .. لكل من لا يعجبه كلامى.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقرير القاضي »ميليس«.. ليس حكم إدانة
-
-التَّوْلَه- الجماعية .. فى قضايا مصيرية!
-
سور شرم الشيخ .. غير العظيم
-
أول قصيدة الحزب الوطنى .. تسد النَّفْس
-
هل يطلب المصريون حق اللجوء -البيئى-؟
-
لغز الكويز ينافس فوازير رمضان
-
تاريخ صلاحية صرخة يوسف إدريس مازال سارياً -2
-
الانتقال من »الملّة« إلي »الأمة« .. مقتل الطائفية
-
نصف جائزة.. ونصف فرحة
-
تاريخ صلاحية صرخة يوسف إدريس مازال ساريا
-
دمج البنوك.. وتفكيك الأحزاب!
-
هل المطالبة بتعديل المادة الثانية من الدستور .. حرام؟
-
إطلاق سراح السياسة فى المؤسسة الجامعية .. متى؟
-
مثقفون.. ملكيون اكثر من الملك فاروق -الثانى-
-
كرامات الوزير المعجزة: 9 و10 يونيه في عز سبتمبر!
-
لا مكان للمعارضة.. في الدولة الدينية
-
!هيا بنا نلعب .. ونتعلم
-
انتبهوا أيها السادة : النار مازالت تحت الرماد
-
توابع هولوكوست بنى سويف
-
بلاط صاحبة الجلالة فى انتظار الفارس الجديد
المزيد.....
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|