فاروق عطية
الحوار المتمدن-العدد: 4970 - 2015 / 10 / 29 - 19:23
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
سادت في الآونة الأخيرة أقوال تتردد أن ثورة 23 يوليو هي التي أقرت مجانية التعليم, وأنها صاحبة الفضل علي متعلمي الأجيال التي عاصرتها وحتي اليوم, ولولاها لظل التعليم مقتصرا علي أبناء الأمراء والباشوات والباكوات وأبناء الأثرياء ومن استطاع إليه سبيلا, ولظل أبناء الشعب ومعظمهم فقراء كما هم جهلاء أميين حتي يومنا هذا. ونسيوا أوتناسوا أن الدكتور طه حسين وزير المعارف العمومية في آخر وزارة للوفد عام 1951 هو من أطلق وفعّل مقولة أن التعليم كالماء والهواء حق للجميع دون تفرقة.
حتي قبل طه حسين بعشرات السنين كان أبناء الفقراء يتعلمون بل يجبرون علي التعليم بالقانون, كانت هناك المدارس الإلزامية في القري والنجوع التي يُلزم فيها الأطفال علي التعلم اجباريا من سن السابعة وبدون مصاريف وهذه المدارس تكافئ المدارس الابتدائية في كل المواد عدا أنها لا تدرس اللغة الإنجليزية. وكان عدد سنوات الدراسة بالمدارس الابتدائية أربعة سنوات, يدخلها التلاميذ بعد اختبار قدرات تعليمية كإجادة القراء والكتابة ومبادئ الحساب كالجمع والطرح والضرب والقسمة التي يتعلمها التلميذ في مدارس الحضانة أوالكُتّاب (مدارس الحضانة كانت ترعاها الكنائس مجانا والكًتّاب يقوم بها ما يسمي بالفقي نظير بعض المأكولات). وفي نهاية السنة الرابعة يعقد امتحان علي مستوي المديرية للحصول علي شهادة عامة تؤهل الحاصلين عليها للعمل الحكومي. من كان يحصل علي الشهادة الابتدائية أُجزم أنه كان مثقفا وملما بكل مناح الحياة الحياتية أفضل من كثير من خريجي جامعات هذه الأيام, فهو يجيد اللغتين العربية والانجليزية اجادة تامة ويجيد كل أنواع الحساب ويجيد الجفرافيا العامة وتاريخ مصر والكتير من علوم البيولجي والصحة العامة ومكونات جسم الانسان إضافة للخط الواضح الجميل.
في نهاية كل عام دراسي (يوليو) تجري امتحانات لا ينجح فيها غير من يستحق النجاح ومن يرسب في مادتين يدخل ملحق بعد شهر(أغسطس) ومن يرسب في أكثر من مادتين يعيد العام الدراسي, ومن يعيد العام الدراسي مرتين متتاليتين يفصل من المدرسة. ويبدأ العام الدراسي دائما في الأسبوع الأول من سبتمبر. اليوم الدراسي يتكون من سبع حصص كل حصة 45 دقيقة , بين الحصة والحصة خمس دقائق وبعد الحصة الثالثة 15 دقيقة راحة (فسحة) وبعد الحصة الخامسة راحة لمدة ساعة (فسحة كبري) لتناول الغذاء ويعقب ذلك حصتين تكونان في الغالب للرسم أو الألعاب الرياضية أو الهوايات. كان أولياء الأمور أيضا من الفطنة بحيث حين يتكرر رسوب التلميذ يعلم ولي الأمر أن ابنه غير قابل للتعليم فيسحبه من المدرسة ويدخله إحدي الورش ليتعلم صنعة أوحرفة من صغره بدلا من تركه حتي يكبر فلا يصلح للتعليم ولا يكون قادرا علي إجادة الصنعة.
المصروفات الدراسية بالمدارس الابتدائية كانت أربع جنيهات للعام الدراسي. وفي الغالب لا يدفعها معظم التلاميذ. كان الموظف الذي لديه أكثر من تلميذ بالمدارس يتقدم بشهادة تثبت ذلك معتمدة من شيخ البلد أوالعمدة فيعفي أبناؤه من المصاريف أومن نصفها حسب عدد أبنائة. أما أبناء الفقراء (العمال والمهنيين والباعة) كانوا يتلقون العلم مجانا بمجرد تقديم شهادة تثبت عدم المقدرة. في المقابل تلتزم المدرسة بتقديم كل الكتب المدرسية والكراسات والكشاكيل وكراسات الرسم ودفاتر خاصة بالخط العربي واللغة الانجليوية, وأقلام الرصاص والأساتيك وريش الكتابة وأسنانها المختلفة (بسط ونسخ ورقعة) ويوضع الحبر في دوايات مثبتة بالتُخَت, والطالب لا يشتري شيئا خلال مدة الدراسة مقابل المصاريف التي لا يدفعها معظمهم. المدرسون أكفاء يقومون بواجبهم في التدريس خير قيام وينتظر كل منهم في حجرة المدرسين طوال اليوم الدراسي يجيبون أسئلة أي تلميذ يحتاج الإجابة, ولا مجال إطلاقا للدروس الخصوصية. كانت الفصول لا تحوي علي أكثر من 24 تلميذا وقد يكون بعضها أقل عددا.
المدارس الثانوية كان اليوم الدراسي بها من حيث عدد الحصص وزمن الحصة وبداية ونهاية العام الدراسي والنجاح والرسوب مثله مثل المدارس الابتدائية. كانت مدة الدراسة بها خمس سنوات. آخر السنة الثانية يعقد إمتحان عام علي مستوي المديرية للحصول علي شهادة الكفاءة. بعض الطلبة يكتفون بهذه الشهادة للعمل ويستمر الباقون. وفي نهاية العام الدراسي للسنة الرابعة يعقد امتحان علي مستوي المديرية للحصول علي شهادة الثقافة العامة التي تؤهل للاتحاق بكليات الشرطة أوالجيش أو العمل. في السنة الخامسة تنقسم الدراتسة بين الطلبة حسب رغباتهم إلي قسمين رئيسيين. القسم الأديي وينقسم لشعبتين هما أدبي رياضة وأدبي فلسفة. والقسم العلمي ينقسم أيضا لشعبتين هما علمي علوم وعلمي رياضة. أدبي رياضة يدرس الجغرافيا والتاريخ واللغات العربية والانجليزية والفرنسية وبعض من الفلسفة والمنطق والرياضة (التفاضل والتكامل) وهذا الفرع يؤهل لكليات التجارة. أما قسم الأدبي فلسفة هو يدرس نفس المواد التي تدرّس في أدبي رياضة ما عدا الرياضة مع التوسع في دراسة الفلسفة والمنطق وهذا الفرع يؤهل لكليات الأداب. أما القسم العلمي علوم فهو يدرُس اللغات الثلاث مثل باقي الفروع والأحياء والفيزياء والكيمياء والرياضة (هندسة وحساب مثلثات وجبر) وهذا الفرع يؤهل لجميع كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان والبيطرة والعلوم. أما علمي رياضة يدرُس نفس المواد التي يدرسها قسم علمي علوم عدا الأحياء ويدرس مزيد من الرياضيات كالتكامل والتفاضل وهذا الفرع يؤهل لكليات الهندسة والتجارة أيضا والعلوم. وفي نهاية العام الخامس يعقد امتحان علي مستوي المملكة المصرية للحصول علي شهادة التوجيهية (الثانوية العامة).
والمصروفات المدرسية للمدارس الثانوية كانت ستة جنيهات مصرية, أيضا لا يدفعها معظم الطلبة كالمتفوقين في الشهادة الابتدائية والمتفوقين رياضيا ومن يقدمون شهادة عدم مقدرة. أيضا كانت المدرسة تقدم جميع الكتب والكراسات والكشاكيل والآقلام والريش وجميع متطلبات الهوايات كالتصوير والنحت وأشغال الخشب والجلد كل ذلك ولا يشتري الطالب طوال سنوات الدراسة شيئا. والمدرسون في منتهي الكفاءة التدريسية يبذلون كل جهدهم داخل الحصة الدراسية ويفرحون بتفوق أبنائهم ويعتبرونها ثمرة نجاحهم في التدريس, ولا مجال إطلاقا للدروس الخصوصية. وكانت الفصول لا تحوي علي أكثر من 24 طالبا وقد يكون بعضها أقل عددا. التفوق في التوجيهية كان يبدأ من 70% ولم نسمع قط علي أحد حصل علي أكثر من 80% وذلك لأن التصحيح كان يحاسب علي كل كبيرة وصغيرة كحسن الخط والتنسيق والشطب وسلامة التعبير, ولم تكن هناك درجات رأفة, أو سرقة مجهود طالب نابه لصالح أخر فاشل من أبناء المحاسيب وعلية القوم كما يحصل اليوم وكما عايناه في مشكلة الطالبة مريم ملاك المجني عليها.
كان في المملكة المصرية كلها ثلاث جامعات هم جامعة فؤاد الأول وقد أنشئت 21 ديسمبر 1908تحت اسم الجامعة المصرية الأهلية في عهد الخديوي عباس حلمي. وفي 11 مارس 1925 صدر مرسوم بقانون إنشاء الجامعة الحكومية باسم الجامعة المصرية, وفي 23 من مايو عام 1940 صدر القانون رقم 27 بتغيير اسم الجامعة المصرية إلى جامعة فؤاد الأول, (تغير إسمها بعد الثورة إلي جامعة القاهرة). وجامهة فاروق الأول بالإسكندرية التي أنشئت عام 1942 (تغير إسمها بعد الثورة إلي جامعة الإسكندرية). وجامعة ايراهيم ياشا بالعباسية التي تأسست في يوليو 1950(تغير إسمها بعد الثورة إلي جامعة عين شمس). وكان التعليم الجامعي يماثل التعليم في أرقي جامعات العالم ويُقبل خريجيها ويعترف بشهاداتهم في جميع أنحاء العالم.
المصروفات الجامعية كانت ثمان جنيهات للكليات النظرية واثنا عشر جنيها للجامعات العملية وأيضا معظم الطلاب يعفون من المصروفات للتفوق في شهادة التوجيهية (70% فما فوق) أو للتفوق الرياضي أولعدم المقدرة المالية. في الكليات العملية معامل مجهزة بكل الأدوات والأجهزة والمعدات مثل أرقي معامل العالم المتقدم, ويقوم الطلاب بإجراء كل التجارب المعملية بأنقسهم.
أما تعليم اليوم حزني وأسفي عليه, ينتقل التلميذ من المرحلة الابتدائية لا يستطيع كتابة إسمة أو قراءة بضع كلمات. ويظل في المرحلة الإعدادية أيضا أميا إلا إذا لجأ ولي أمره للدروس الخصوصية حتي يسنطيع المرور من المرحلة الإعدادية إلي المرحلة الثانوية. وخطوطهم إذا كتبوا تضاهي نبش الفراخ ومن العسير قراءتها. وحدث ولا حرج عن المرحلة الثانوية الغياب مستمر, والمدرسون يتعمدون تضييع الحصص فيما لا يفيد حتي يحصلون علي عدد وافر من الدروس الخصوصية. وينجحون بالغش الذي أصبح ظاهرة عامة لدرجة وجود سيارات تذيع الإجابات بجوار المدارس, وتسريب أوراق الامتحانات صار شيئا مألوفا, والنتيجة تخرج طلاب متفوقون بالغش, ويدخلون الجامعات وكليات القمة وهم جهلاء. ويتخرج أجيال لا يصلحون لقيادة الدولة وننحدر من سيئ لأسوأ والدليل وزير التربية والتعليم الذي لا بجبد الكتابة بالعربية ويخطئ في الإملاء ولا يميز بين الذال والزين ولا يعي قواعد النحو.
في الكليات العملية لا توجد معامل وإن وجدت فهي خالية من الأجهزة العلمية الحديثة. أثناء عملي كنت أقوم بإلقاء محاضرات بكلية العلوم جامعة المنصورة عن تكنولوجيا صناعة الأسمدة كأستاذ زائر, وفي يوم طلبت أن أري أحد معامل الكيمياء بالكلية. وجدت أحد المدرسبن يقف علي المنصة ويمسك بأنبوبتي اختبار ويشرح للطلاب في المعمل كيف تتفاعل مادة ما مع مادة أخري. سألته لمذا لا يقوم الطلاب بلإجراء التجارب بأنفسهم وكان الجواب المؤلم أن ليس هناك أدوات زجاجية ولا كيماويات كافية ولا أجهزة معملية. حتي طلاب درجة الماجستير أو الدكتوراه لا يجدون أجهزة ولا معامل. فطلبت أن يرسل إلي اثنين واحد من طلاب الماجستير وآخر للدكتوراه للقيام بأبحاثهما في معامل الشركة المجهزة بأحدث ما وصل إليه العالم من أجهزة معملية لأجراء بحثيهما تحت إشرافي. وقس علي ذلك في جميع الكليات العملية كالطب بأنواعه والصيدلة والهندسة يتخرج منها خريجين لا يجيدون مهنتهم, فيستمر التقدم إلي الخلف, حتي وصل الأمر أن لا يوجد دولة تعترف بمؤهلات خريجينا. ورغم ذلك يتشدقون بفضل القورة في مجانية التعليم التي تكبد الدارس من الابندائية للجامعة أولياء الأمور ما لا طاقة لهم من أموال بحرمون أنفسهم من أي شيئ حتي بدفعوها شراء للكراسات والكتب والدروس الخصوصية. ألا تبا لها من مجانية مزيفة أدت لتقهقر الدولة حتي وصلنا إلي من نحن فيه وما سنصل إليه لاحقا.
#فاروق_عطية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟