خرافة العنف الدموي في العراق في ضوء العلوم الحديثة
الجزء الأول :الإطار النظري والدلالات اللغوية
العنف في لغة الضاد ضد
الرفق، وهو أيضاً الشدة والمشقة( ). وأعنف الشيء أخذه بشده واعتنف الأمر جهله فلا
علم له به، والعنف الغلظة والصلابة كما في قول اللحياني: فقذفت ببيضة فيها عنف.
وعنفوان الشيء أوله وغلب على الشباب والنبات. والعنيف عندهم هو الذي لا يحسن الركوب
وليس له رفق بركوب الخيل قال شاعرهم:
لَمْ يركبوا الخيلَ إلا بعدَ أَنْ هَرِموا فَهُمْ ثِقالٌ على
أكتافهِا عُنُفُ.
والتعنيف هو التوبيخ والتقريع واللوم. سنلاحظ أن المعاني التي
تنصرف إليها المفردة أبعد ما تكون عن (العنف) كما صارت تعني وتنصرف في زماننا هذا.
نلاحظ ثانياً أن المضمون المعياري: أولاً السلوكي ، وثانياً: الذوقي، وكلاهما يعني
المتشابه الذي تأول إليه شبكة المعاني التي أتينا على ذكر البعض منها ولا تنسرب إلى
المعنى الراسخ والأول الراهن، في مجموعة اللغات الهندوآرية، هنا، في اللغات
الهندوآرية تحيل مفردة العنف إلى المضمون الجنسي الشبقي فعلا ومصدراً وتركيباً.
وهذا ما تعلنه وتشير إليه القوميس المدرسية الأكثر شهرة واستعمالاً، ففي
الإنجليزية( ) تجد أن من مرادفات كلمة (فايلنص) عنف، أذى، اغتصاب لفتاة، اتقاد في
الشعور. أما الفعل (فيوليت) فيعني تحديداً ينتهك حرمة، يغتصب فتاة، يدنس مقدسات.
ومن مرادفات كلمة (فيوليشن) نقرأ أيضاً: انتهاك، تدنيس، اغتصاب لفتاة. ولا نبتعد
كثيراً أو قليلاً عن هذه الإحالات والدلالات إذا ما تصفحنا
قاموس اللغة الفرنسية( ) حيث تتكرر المعطيات
السابقة بصورة شبه حرفية وأحياناً بوضوح دلالي أكبر. فالفعل (فيوليه) يعني: خالف،
خرق، اغتصب امرأة (بإضافة لفظة إن فام النكرة) واسم الفاعل (فيولاتير) تعني فقط
هاتك أعراض، مغتصب. وأخيراً فإن عبارة (فير فيولونص) والتي ترجمتها الحرفية (يعمل
عنف) تعني وحسب (يغتصب).
ما الذي نريد التأشير عليه دلالياً بعد هذا
الجرد؟
أولا: الاتفاق الاستعمالي
في عصرنا بين عنف (العربية) ومقابلاتها الهندوآرية لا ينفي بل يؤكد طبيعة البنيات
والبيئات التاريخية والحضارية المختلفة وما ينتج عنها على صعيد المعطيات النفسانية
والسياسية والاجتماعية والأخلاقية..إلخ.
ثانياً: الانفصال والتباعد بين المعاني القديمة التي تحيل إليها مفردة (عنف)
في اللغة العربية والتي تصب في مآل: (ضد الرفق)، لا تعني، أو لايجب أن تعني، موت
واندثار تلك المعاني على المستوين الشعوري واللاشعوري. في نفس الوقت الذي يتوجب فيه
الاعتراف بأنها صارت تنطوي على أغلب المرادات (الاجتماعية، والنفسانية، والسياسية،
وبدرجة – ما – الأخلاقية) الخاصة باللفظة اللاتينية ومشتقاتها المعاصرات تحديداً
ضمن أطر الظاهرة التاريخية المبحوثة.
ثالثاً: إن التأكيد على لزوم وضرورة استعمال المنهجيات (العلم نفسية) الشتى
في دراسة ظاهرة العنف لا ينفي أو يعطل أية إمكانية مجدية لاختبار منهجيات تاريخية
نقدية أو اجتماعية أوفينومنولوجية (علم الظاهراتية) ضمن ما يمكن أن نطلق عليه
المنهجية النقدية الشاملة والتي لا تخلو من أسس انتقائية ذات أبعاد واستهدافات
برجماتية.
رابعاً وأخيراً: إن
أخذنا وتطرقنا إلى هذه النظرية أو تلك، في علم النفس المجتمعي تحديداً كنظرية
(فطرية التحريض العدواني عند فرويد ولورنز أو جدلية (الإحباط/ عدوان) عند ميلر
ودولارد وغيرهما، نقول إن هذا الأخْذ أو ذلك التطرق ليس تبنياً إيمانياً (ذا رائحة
أدلوجية) بل هو توضيحي بالدرجة الأولى وتفسيري بالثانية، هدفه إعطاء صورة بانورامية
مقتربة من الدقة باستمرار للظاهرة المبحوثة (العنف) وللوسائل النظرية (في علم النفس
بشقيه) وسيكون هذا المرام كافياً حتى وإن لم نصل إلى الخلاصات والنتائج الحاسمة
التي نطمح إليها. أما في البحث التاريخي للظاهرة عينها فستختلف الصورة تماماً وسوف
نعتمد منهجاً تفسيرياً وتوضيحياً في النقد والتفكيك سبق لنا وأن استعملناه في
مناسبات عدة، بمعنى إننا في هذا الميدان والسياق (التاريخي النقدي) سنحاول الوصول
إلى النتائج والصياغات النظرية العامة حول تلك الظاهرة بما يحقق هدفين:
ـ دحض التفسيرات والقراءات اللاتاريخية
واللاعلمية والقائمة على الخلط والجهل والعوامل الذاتية لصاحب المحاولة ونقصد هنا
محاولة بعينها سنأتي على ذكرها في القسم الأخير من هذا المبحث.
ـ تقديم محاولة تعيد الظاهرة إلى تربتها
التاريخية والاجتماعية وتعطي تصوراً أولياً للتفسير والتوضيح ومن ثم
التعميم.
وسنقدم في المفصل التالي إطاراً نظرياً عاماً لظاهرة العنف من وجهة نظر
[علم نفسية] وعرضاً توضيحياً لأهم المقولات والمشاريع النظرية في هذا الصدد ولا باس
أن نخص البدايات الريادية بشيء من الإسهاب.
إن الإطار النظري العام الوارد في الأسطر التالية من
أهدافه الرئيسة: وضع القارئ في صورة الموضوع والأساليب في محاولة لترصين الأداء
التفسيري الذي سنقوم به بلغة سنسعى جهدنا لتكون مبسطة ومفهومة للقارئ غير المتخصص
دون الوقوع في السطحية الفجة والثرثرة التحريرية عديمة النفع ومعروف أن بين البساطة
والسطحية خيط أرق من الشعرة. ومادمنا نؤاخذ ونأخذ على المتخصصين لغتهم الاصطلاحية
الأقرب إلى الرطانة ونستنكر على أصحاب التآليف الاعتباطية (الكشاكيل الأنيقة)
سطحيتهم وتخبطهم المؤدي إلى نثر هائم لا يلوي على شيء سوى تسول الوجاهة وحب الظهور
حتى ولو كان ثمن ذلك الإساءة إلى وطن عريق، شعب كريم، تاريخ مجيد، أو هوية حضارية
ماكنة راسخة، نقول ما دمنا نفعل ذلك فسيكون بانتظارنا عمل هائل يتطلب من الدقة
والحرص والموضوعية ما ينبغي أن يفوق الكم المتوقع من القراءات القائمة على سوء
الطوية والتدليس لهذه المحاولة.
تعتبر رسالة مؤسس علم النفس العام (سيغموند
فرويد) الشهيرة والموجهة إلى الفيزياوي الألماني وصاحب النظرية النسبية إنشتاين ،
تعتبر وبحق شهادة ميلاد حقيقية لعلم النفس المجتمعي (أو الجماعتي) وإشارة الانفصال
الأكيد بين شقي هذا العلم الفتي إلى علم النفس الفردي والآخر المجتمعي. وبمعنى معين
يمكننا القول أيضاً أن علم النفس الذي بدأ وشب فردياً – معنياً بالإنسان الفرد – ظل
في واقع الأمر هكذا ولكن فرعاً خاصاً بعلم النفس المجتمعي قد تفرع عنه. وقد شاء
السياق التاريخي الموضوعي، بمعنى المتحقق في التاريخ لا بمعنى الصادق معيارياً، أن
يكون محور تلك الرسالة العنف الجماعي أو الحرب بوصفها شكلاً قصوياً من أشكال العنف
فقد كتبت الرسالة في السنة ذاتها التي انتخبت فيها الأغلبية المصوتة الوحش الغربي
النازي أدولف هتلر زعيماً لألمانيا وسيقود هذا الأخير حرباً من طراز غربي أصيل أي
حرباً بوصفها مجزرة هذيانية، ستنتهي بجبال من الجثث البشرية بلغت ستين مليون حيوة
مزهوقة ذر عنك الخراب والتدمير الهائل لمنجزات مئات السنوات من العمل والإبداع
الإنساني والثروات الطبيعية المهدورة والمخربة.
كان موضوع الرسالة أو سؤالها الأول قد أثير من طرف
(إنيشتاين) الذي كان المبادر لتلك المكاتبة فقد طرح سؤالاً جامعاً مانعاً على فرويد
فيما كانت نذر الحرب العالمية (الغربية) الثانية تحوم في السماء يقول: ما الذي يمكن
فعله لحماية الجنس البشري من الحرب ولعنتها؟ ويعترف (فرويد) بأنه شعر بالفزع لشعوره
بالعجز عن معالجة ما كان يعتبره مشكلة عملية ومن مشمولات رجال الدولة. هكذا
كانت البداية، وبمقدار ما كان (فرويد) عبقرياً ومتفرداً في دراسة موضوعه بأدواته
(العلم نفسية) فقد كان ساذجاً كأي مواطن غربي من الطبقة الوسطى في قراءته التاريخية
والسياسية لجدلية الحرب والسلام. إن عالـِِمنـ..نا العبقري في ميدان علم النفس
يتحول إلى مادح ومروج لانتصار الإمبراطورية الرومانية الدموية على العالم
واستعبادها لشعوب حوض البحر الأبيض المتوسط وما بعدها ويعتبر أن الحروب الرومانية
ساهمت في تحويل العنف إلى قانون غدا استعمال العنف بموجبه مستحيلا وأدى كل ذلك إلى
إقامة نظام جديد (لم ينعته بالعالمي مع أنه كان كذلك فعلا) لحل الصراعات وبهذه
الطريقة – يضيف فرويد – أدى احتلال الرومان للبلدان الواقعة على البحر الأبيض
المتوسط لإعطاء هذه البلدان السلام الروماني الذي لا يقدر بثمن) والحقيقة فقد كان
بإمكان نازي ألماني نابه إحراج مؤسس مدرسة التحليل النفسي من خلال سؤال مقارن يقول:
ولماذا تبيح للرومان ما تحرمه على النازيين الألمان؟ وكيف كان سيكون – العالم – لو
قدر لهتلر أن ينتصر؟ لا أحد يستطيع المناكفة والعناد في أن سلاماً نازياً (لا يقدر
بثمن هو الآخر) سيسود ولكنه سيظل قائماً على العنف والعدوان على شعوب الأرض الأخرى
كشقيقه السلام الروماني بالضبط ودون زيادة أو نقصان. نستميح القارئ عذراً إن بدا
هذا الاستطراد نافلاً وسنعود لما كنا فيه.
وللحديث صلة في الجزء الثاني والدراسة تقع في عشرة
أجزاء .
***************
1 - ابن
منظور. لسان العرب. جذر: ع.ن.ف.
2 - منير البعلبكي. المورد. الكلمات الواردة في
الفقرة بالحروف اللاتينية هي كما يلي:
- VIOLENCE – VIOLET – VIOLATION -
3 - سهيل إدريس. المنهل. الكلمات الواردة في الفقرة وبالحروف اللاتينية
هي كما يلي:
VIOLER – VIOLER UNE FEMME – VIOLETEUR – FAIRE VIOLENCE
4 - وردت رسالة (سيغموند) فرويد المشار إليها ومجموعة من الدراسات المهمة
لعدد من علماء النفس بين دفتي كتاب هو حراكيات العدوان (THE DYNAMICS OF
AGGRESSION) والذي ترجم إلى اللغة العربية على يد الدكتور عبد الكريم ناصيف تحت
عنوان سيكولوجية العدوان: بحوث ديناميكية العدوان لدى الفرد، الجماعة، الدولة.
ويبدو أن خللا مطبعياً قد حدث أثناء الطبعة الأولى فخرجت بعض صفحات الكتاب بيضاء.