|
أين العرب والمسلمون من زمن الصفح و الغفران
إقبال الغربي
الحوار المتمدن-العدد: 1359 - 2005 / 10 / 26 - 12:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تأسست الديمقراطية الوليدة التي تلت الحرب الأهلية التي مزقت أثينا بعد حربها الضروس مع اسبرطة سنة أربعة مئة و ثلاثة قبل الميلاد على مصطلح سياسي جديد على الفكر الإغريقي هو مفهوم العفو العام المصالحة homonoia كفعل سياسي بامتياز.و يمكننا الاطلاع على البند الكامل للقانون المؤسس لهذا المفهوم في مؤلف لأرسطو " دستور أثينا" . و قد عرف أرسطو قانون الصفح و المصالحة هذا تعريفا متميزا عندما اعتبره" استعمال سياسي للمصائب و علاج مدني للحقد و الكراهية". واليوم و في عصرنا الحالي و من خلال الأحداث اليومية و نشرات الأخبار نلاحظ أن الأحقاد التاريخية الموروثة عن الحروب و التوترات تمثل الخطر الأكبر الذي يهدد السلم و الأمن العالميين. ولهذا السبب تجتاحنا في السنوات الأخيرة موجة تطهير الضمير و تقديم الاعتذارات و إعلان التوبة من طرف طغاة العالم و أسياده.
و لعل ما يلفت الانتباه هم امتداد ا قائمة من يشعرون اليوم بالندم و يسعون إلى طلب الصفح و الغفران: فهذه الكنيسة الكاثوليكية تقدم الاعتذارات لموقفها القديم من اليهود و كذلك لنشاطاتها التفتيشية التعسفية ضد حرية الفكر و المعتقد. و هذا المجتمع الفرنسي يمزقه الندم عن مواقفه السابقة من محاكمة الضابط دريفوس و حكومة فيشي المتواطئة مع النازية وهاهي تفتح ملف التغييب و التعذيب و شناعاته في محميتها السابقة الجزائر. و هذه سويسرا تعاني من وخزات الضمير يما يتعلق بالملابسات التي أحاطت بموقفها الحيادي أثناء قيام الجبهة المعادية للنازية. و هذا توني بلير الوزير الأول البريطاني يعتذر للايرلنديين عما اقترف في حقهم .و هذه روسيا تقدم اعتذارات علنية إلى شعوب أوروبا الشرقية عن الإساءات السابقة. . أما موقف إفريقيا الجنوبية فقد تمثل في إنشاء لجنة لكشف الحقائق وإقرار المصالحة العامة بفضح جرائم كل الأطراف المتورطة في المنظومة العنصرية البائدة التي دامت قرابة الثلاثين سنة في جو من الندم و الصفح الاجتماعي. و لأول مرة في التاريخ شملت هذه الظاهرة النبيلة بلدان عربية مثل المغرب التي أنشئت هيئة الإنصاف و المصالحة و نظمت جلسات إنصات عمومية تبث مباشرة على الهواء عبر الإعلام السمعي و البصري لضحايا التعذيب الذين تعرضوا للخطف و التنكيل و المحاكمات التعسفية خلال الأربعين سنة الماضية.و تسعى هذه المبادرة الفريدة من نوعها في العالم العربي إلى إعادة الاعتبار الرمزي لعشرات المناضلين لا ذنب لهم سوى محاولة المشاركة في الحياة السياسية و تمكينهم من التعويضات عما تكبدوه من خسائر جسدية و مادية و معنوية. و هذه الجزائر تقر مشروع ميثاق للسلم والمصالحة الوطنية محاولة طي صفحة سنوات الجمر التي عاشتها في العشرية الأخيرة من جراء الحرب الأهلية الدموية التي خلفت خمس مئة ألف قتيل من بينهم عدد كبير من المفكرين والمثقفين الأحرار الذين عادة ما يمثلون كبش فداء يقع تحميله جريرة التوتر الاجتماعي . بل إن "الإمبراطورية الجديدة " نفسها تساءل اليوم مسلماتها و تعيد النظر في قناعاتها . فهي لا تخفي شعورها بالذنب تجاه سياستها العبودية التي عانى منها الامركيون الزنوج لمدة قرون مضت و كذلك تجاه الضحايا الأبرياء لحرب الفيتنام التي زارها كلينتون قبل رحيله من البيت الأبيض . و قد أدت صحوة الضمير هذه إلى قيام مجموعات امركية تشكك اليوم في مشروعية إلقاء قنبلة هيروشيما النووية على اليابان إبان الحرب العالمية الثانية و تتساءل عن ملابساتها و عن جدواها السياسية . و ضمن صحوة الضمير العالمية التي طالت جل الأمم و الشعوب و التي تدعو إلى طي صفحة الماضي الكئيب و محاولة الانتقال إلى مرحلة أكثر إنسانية و رحمة لا يزال المسلمون كأمة متشبثين بثوابت عصابية رافضين الاقتداء بهذه السوابق و المساعي . فنحن لا نزال مصرين على أننا ضحايا و أبرياء أبديون. تاريخنا ملائكي . استعمارنا فتوحات . غزاتنا محررين. عنفنا جهاد مقدس. قتلتنا شهداء. سوء فهمنا للقران وانتهاكاتنا اليومية لحقوق المرأة و الطفل و الأقليات شريعة سمحاء. جرائمنا فحولة و دفاع عن الشرف الرفيع .
فإذا كانت مجتمعاتنا لم تعرف إلى حد اليوم سوى ثقافة الضغينة على حد تعبير ماكسيم رودنسون و مقولات الحقد و الثار العشائري فهل نحن قادرين على إعادة صياغة الروابط الحضارية و الأخلاقية والإنسانية مع الآخر و تجاوز أحقادنا البدائية و جرحنا النرجسي و مطالبنا التعويضية الشاسعة و الواسعة.? هل بإمكاننا تجاوز الموروث الثقافي الحالي المطبوع من جهة باجترار النكبات و الهزائم و من جهة أخرى بهذيانات العظمة و احتقار الاخرو مسخه كحيل دفاعية لاشعورية? هل يمكننا الانخراط في نقلة حضارية متكاملة و مسار تاريخي جديد يمكن المواطن المسلم من التسامي في مشاريع عالمية خلاقة و من استبطان مقاصد الشريعة دون المرور بوهم التعالي. لا شك أن الاعتداءات و الغزوات و ممارسات الإبادة الهمجية طبعت التاريخ البشري و انتشرت في كل أنحاء العالم يستوي في ذلك المسلمون و غير المسلمون.ولكن ما نختلف فيه اليوم هو مدى وعيينا للتاريخ و توعيتنا به و مدي تقييمنا للأحداث و الماسي الفارطة و مدى تبريرها باسم الإسلام جملة و تفصيلا. من الأولويات اليوم إعادة النظر في تاريخنا الإسلامي الثري و المعقد و تبني المقاربة العقلانية القائمة على مبدئي التاريخية و النسبية.لان ما نعيشه اليوم هو محاولة لتزوير التاريخ و تصفية الذاكرة الجماعية و نمذجتها في رؤى نرجسية معقمة تتلاءم مع مقولات الحركات الإسلامية المتطرفة التي تدعو إلى النهل من الينابيع الحية الأولى والعودة التوهمية إلى نقطة الصفاء و النقاوة لعصر الخلفاء الأوائل. بينما تبين لنا الحقائق التاريخية أن هذه الدولة التي أضفي عليها الطابع المثالي لم تكن سوى دولة الحرب الأهلية المقنعة أو الفعلية. لقد كانت دولة تحيل إلى الحقيقة السياسية بكل ما فيه من قسوة حين كانت أدنى خصومة تعالج بإراقة الدم. فهل ننسى حادثة السقيفة و معركة الجمل التي قادتها السيدة عائشة و كيف نبرر اغتيال الصحابة. وكيف نمحي من ذاكرتنا ضرب الكعبة المكرمة بالمجانيق و كيف ألغى عبد الملك ابن مروان فريضة الحج و منع أهل الشام من التوجه إلى الكعبة لان ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة . وكذاك تراجع عبد الله ابن الزبير عن الصلاة عن الرسول ص في خطبته قائلا إن له أهل سوء يشرئبون لذكره و يرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به. فلما نحجب الحقائق و نطمسها و نغالط أطفالنا. لماذا لا نسمي الظواهر بأسمائها و نضعها في إطارها التاريخي. لماذا نصر على تجميل التاريخ و على العيش خارجه . إن المناخ الإيديولوجي الجديد يحتم علينا الانخراط في و تبني منظومة حقوق الإنسان و اعتبارها قيمة حضارية انجازية و ليس مجرد مناورة مرحلية في انتظار تحول في موازين القوى الدولية أو قيام دولة الخلافة الإسلامية. و لإبراز حسن نوايانا علينا اتخاذ بعض الخطوات العملية :
فلا بد للكتلة الإسلامية أن تتبرأ نهائيا و إمام العالم عن هذا الإسلام المهووس بالتكفير و التخوين الذي يقسم العالم إلى دار إسلام و دار كفر دار حرب و دار سلم و الذي ينسف كل حوارجدي بين الأديان أو الثقافات. لا بد أن نتبرأ من أحكام أهل الذمة التي تملا الكتب الفقهية و نعتذر للأقليات المسيحية و اليهودية و نكف عن قلب الحقائق و إيجاد التلفيقات البائسة محاولين إثبات المكانة السامية التي كانت تتمتع بها هذه الأقليات في إطار الدولة الإسلامية و ذلك بالاستشهاد بأحداث معينة من التاريخ و عرضها مبتورة وغير كاملة و أحسن مثال على ذلك العهدة العمرية الشهيرة التي نقدمها كمثل أعلى في التسامح والعيش المشترك !! و لا بد أن نقيم التاريخ الإسلامي تقييما موضوعيا فنعتذر اعتذارا علنيا و تاريخيا للأفارقة الذين اختطفوا و استعبدوا وشردوا من ديارهم عبر سواحل بحر العرب و البحر الأحمر و منهم من اوهيم بالترحيل إلى الحج ثم أوقع به في شراك الرق . و قد لعب العرب و المسلمين دورا بالغا في هذه التجارة البغيضة و تسببوا لوحدهم في اجتثاث عشرون مليون شخص علما أن ضحيا تجارة الرقيق يقدرون بأربعة مئة مليون فرد . لا بد أن نعتذر للأقليات الدينية و الطوائف الإسلامية الصغيرة مثل الاسماعلية و البهائية و العلوية و الدرزية عن الاهانة و الإذلال الذي الحق بها . و لماذا لا تطلب الكتلة السنية الصفح من الشيعة عن مذبحة كربلاء و قتل الحسين سعيا منها لطي صفحة الماضي الأليم اقتداء بصفح الفاتكان و غفرانه بالنسبة لدم المسيح كما اقترح المفكر صادق جلال العضم. إن مبدأ تحمل مسؤولية الأفعال و الأخطاء هو أرقى أنواع المسؤوليات فبفضله نتجاوز تمجيد الذات النرجسي .فالتحليل النفسي يعلمنا أن الشخص أو أي مجموعة ثقافية تزداد نضجا كلما انتقلت من منطق إلقاء التبعات على الآخرين و اتهامهم إلى منطق مراجعة الذات و مساءلتها و النظر في مدى تورطها في هذا الاتهام . كما يلعب عمل الذاكرة هذا دورا مهما في تطهير القلوب و غسلها من الحقد و تأسيس عقد عالمي جديد. كما يساهم هذا العمل في غرس مبدأ النسبية الذي سوف يقضي على "أحاسيس الذل بالوكالة" المتنامي لدى الشباب.هذا الإحساس الذي يعتبره عالم الاجتماع فريد كوسافوكار عاملا أساسيا في انتشار الإرهاب عندما يرى البعض ما يتعرض له المسلمون من ذل و عذاب في هذا البلد أو ذاك وهو ما ينمي مشاعر العنف والانتقام تجاه الغرب المتآمر على الأمة على مر العصور والمتسبب في جميع مصائبها و ماسيها . بينما يؤكد لنا الفكر النسبي أن التاريخ ليس سوى سلسلة من تداول الأدوار . فطغاة الأمس أصبحوا ضحايا اليوم .. . فلا وقت اليوم للمرارة و اجترار الآلام بل الأجدر بنا الانخراط في المواطنة الكسموبولتية لرفع تحديات الألفية الثالثة من جوع يلتهم الأطفال بالملايين و اختلال بيئي يهدد الحياة على سطح الأرض و اتساع الهوة بين أغنياء العالم و فقرائه الخ...
جامعة الزيتونة .تونس
#إقبال_الغربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحجاب في زمن العولمة: عودة المكبوت
-
الجريمة الفضيحة
-
العنف ضد المرأة ׃ﻫﺫه المجزرة الصامتة
-
إذا لم نغير ما بأنفسنا سيغير العالم أحوالنا
-
الصيف و الحجاب و شاطئ البحر...مداخل نفسية لفهم المشروع التوت
...
-
المرأة التونسية منعت تعدّد الزوجات منذ 9 قرون
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|