|
ختان العقل ووأد الروح واستهجان الاستنارة
عادل صوما
الحوار المتمدن-العدد: 4959 - 2015 / 10 / 18 - 09:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
انضمت هيفاء وهبي إلى قائمة طويلة تضم أسماء فنانين مصريين وعرب، يواجهون اتهامات ب"التحريض على نشر الفسق والفجور"، أمام القضاء المصري والمغربي والداعشي وغيرهم، ما يعني أن الفكر المتزمت مستشر في العالم الاسلامي، رغم الحروب الضروس بين الانظمة الحاكمة (العلمانية) وهذا الفكر، التي يبدو انها معارك على كراسي الحكم وليست معارك تنويرية. قادة معارك "التحريض على الفسق والفجور" مصنفون تحت خط الفقر العقلي، لأنهم يتهمون الفنانات ب"إشاعة العري والتحريض على الفسق والفجور"، من خلال فيديوهات بُثت على مواقع التواصل الاجتماعي، وأخرى أذاعتها بعض القنوات التلفزيونية، ويتجاهلون منتجي هذه الاعمال! وقد انضم إلى هؤلاء محامون متزمتون أصبح لا عمل لهم سوى ملاحقة الفنانات والادباء وأصحاب المدونات، بعدما هُجرت المحاكم المدنية وأصبح التقاضي شرعيا أمام الدعاة وامراء الجماعات وخلفاء المسلمين (هم في الواقع أكثر من واحد). اعتزاز لا إزدراء من أغرب هذه القضايا التي صدر فيها أحكام قضائية من محاكم علمانية، قضية الراقصة صافيناز الارمينية، التي رقصت بفستان مصمم بألوان علم جمهورية مصر العربية، تحية لمصر نفسها وإعتزازا انها ترقص في القاهرة، وهي قضية غريبة فعلا لأن كل الافلام القديمة تؤكد أن علم مصر كان زينة منصة جميع الافراح التي ترقص عليها الراقصات، وقد رقصت تحية كاريوكا وسامية جمال ونبوية مصطفى ونجوى فؤاد في بداياتها الفنية وغيرهن تحت علم مصر، ولم يقل أحد مفكري الاسلام مثل عباس محمود العقاد، أو حسن البنا نفسه في العهد الملكي، أن هذا الامر إزدراء لمصر، أو تحريض على نشر الفسق والفجور، فما الذي يحدث فعلا؟ سأبدأ من الفنانين أنفسهم، فقد وصفت الفنانة انتصار هذه البلاغات والمحاكمات والانتقادات على أنها جهل وقمع حريات وعدم تقبل الرأي الآخر. هنا بيت القصيد لأن مقص الرقيب الذي كان سياسيا في عهود سابقة، أصبح متزمتا دينيا في عصرنا، فكل ما يُبث اليوم حذفوا منه الكلمات التي تعبّر عن التساؤلات العقلية أو السخرية من التزمت واقحام الدين في كل شيء. ولم تسلم الاغاني والخطابات السياسية والمسرحيات ايضا من هذا الحذف أو الحجب. مجرد أمثلة قال الرئيس عبد الناصر في خطاب شعبي له انه سأل مرشد الاخوان المسلمين عن طلباته ليفتح باب تعاون سياسي معهم، وكان رد المرشد ان يفرض على نساء مصر الحجاب بصفته الرئيس. وقال عبد الناصر: قلت له مش معقول ألبِّس ستات مصر الطرحة.. دي مسألة حرية شخصية. وبمجرد أن إنتهى من هذه العبارة ارتفع صوت احد الحاضرين بوضوح تام: يلبسها هو. وضحك الجميع بصوت مرتفع بمن فيهم الرئيس نفسه. هذا المقطع موجود على "يو تيوب" مع إشارة انه حُذف من خطاب عبد الناصر الأصلي. عُرض في بداية ثمانينات القرن الماضي فيلم "لا تبكي يا حبيب العمر" وفريد شوقي يقول لعبد الوارث عسر بعد أن فقد فريد شوقي إبنه الشاب الوحيد بعد جراحة سرطان في الدماغ: "يعني هو ربنا معرفشي يختبرني غير في الولد الوحيد ألّي عندي في الدنيا؟"، ثم اختفى هذا الرد الذي يعبّر عن ألم أب مفجوع في إبنه ليس إلاّ. هذا الرد أوجع حتى قلب الرئيس أنور السادات لدرجة انه لم ينسه كرئيس وإنسان وراع للجماعات الاصولية وقال لفريد شوقي في مناسبة جمعتهما: "إنت غمّتني يافريد"، ولم يقل له "إنت كفرت يافريد". حُذفت مقاطع خروج عادل إمام عن النص في "الواد سيد الشغال" لأنه سخر فيها من التزمت، وبطريقة لطيفة للغاية قال في احدها لعمر الحريري "هو إنت حتقرا القرآن كله؟" عندما لم يتمكن عمر الحريري من مواصلة المسرحية بسبب ضحكه المتواصل، وطلب عادل إمام منه أن "يخزي الشيطان ويسمّي علشان الليلة دي تعدّي على خير". حتى مزاج الناس تغيّر، لأنهم في ثمانينات القرن العشرين كانوا يقهقهون على هذا المقاطع، وفي التسعينات بدأوا يستغفرون، وفي بداية الألفية تابعوها بتعابير وجوه عدائية وضحكات قلبية لئيمة، ثم حُذفت أهم مقاطع في تاريخ المسرح المصري فيه خروج على النص. غنت أم كلثوم "أغدا ألقاك" مباشرة بعد أغنية "الحب كله"، ولم يقابل جمهورها قصيدة "أغدا ألقاك" بالحماسة نفسها التي قابل بها "الحب كله"، فغيّر عبد الوهاب ملحن الاغنية سرعتها، وتغيير سرعة الاغنية يشبه تماما تغيير تصفيف شعر المرأة، وتدخلت أم كلثوم بثقل 50 سنة خبرة غناء في حفلها التالي ، وجوّدت بيت الشعر في مقطع القصيدة الاخير الذي يقول: فارحم القلب الذي يصبو إليك فغدا تملكه بين يديك أدت "الست" هذا البيت بطريقة تجويد القرآن وسط تصفيق هستيري من جمهور السبعينات؛ الذي لم يكن قد حُقن بالتزمت البغيض بعد، وإستحسان بالغ شعرت به أم كلثوم فغنت هذا البيت فقط وأعادته وجودته على قراءات مختلفة لمدة خمس وعشرين دقيقة، بينما الاغنية كلها زمنها ساعة ونصف. نسحة هذه الاغنية اختفت من سوق المبيعات والانترنت. كان صباح فخري يصل إلى قمة السلطنة احيانا في أغنية ما فيؤذن، وسط تهليل الناس وقوفا وتصفيقهم وتكبيرهم، لكنه احجم عن اداء الاذان منذ منتصف التسعينات، رغم أن الناس كانوا يعتبرون قبل حقنهم بمصل التزمت البغيض أن ترتيل الاذان قمة السلطنة في الطرب. بيت القصيد الفكر المتزمت هو نفسه في جميع الاديان والمذاهب، فالكنهة المسيحيون في القرون الوسطى كانوا يعتبرون أن الضحك حرام، وكآبة الوجه دليل إيمان. متزمتو اليهود ملتحون على طريقة متزمتي المسلمين تماما، ونساؤهم يرتدين فساتين طويلة وطرحات رأس في كل العصور حتى يومنا، والطرفان يعيشان في غيتو سكاني ونفساني. وفي اواخر سبعينات القرن العشرين، فرض الخوميني اللون الاسود وليس التشادور فقط على مسلمات إيران، وفي الوقت نفسه تقريبا بدأت حملة التزمت الوهابي تنتشر في العالم العربي، لدرجة انها غيّرت معالم الثقافات والفن والادب وحتى شكل البناء، وصبغت بلون موّحَد جميع الحركات الفكرية الاسلامية، التي كانت في الاساس تعبيرا عن ثقافات مختلفة، والامر واضح في الفلسفات الاسلامية وصوفيات وزوايا وتكايا العالم العربي وسنوسية ليبيا وما إلى ذلك. بيت القصيد هو جعل المسلمين يعيشون في عصر التواصل وهم في عزلة ويكفّرون من ليس منهم. ويستحيل أن يبدأ عصر استنارة إسلامية بدون فلاسفة ومفكرين ينتهجون على الأقل طريقة فلاسفة أوروبا التنويريين في التفكير. تلك الطريقة التي جعلت فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي يطلب بلسان أحد ابطاله استصدار مُذكرة بالقاء القبض على المسيح لمعرفة سبب قوله "أسهل على الجمل أن يدخل من ثقب الابرة، من أن يدخل الغني ملكوت السماء". والمؤكد أن ما قاله دوستويفسكي مستحيل لعدم وجود المسيح نفسه، لكنه يُعبر عن تساؤل عميق هو أن الاغنياء بنوا كنائس المسيح وليس الفقراء، فلماذا هذا الموقف من رجل مفترض انه يقرأ الغيب والمستقبل لأنه نبي. وهذه الفكرة قمة التعبير والحرية وتقبّل ثقافات الآخرين وإحترام التفكير، وتُعبّر تماما عن إشراقات فلسفة الانوار في العقول. على أية حال، في كل ثقافات الدنيا أغاني خليعة وقصص إباحية وأشعار ماجنة وصور ومنحوتات جنسية، حتى أن التاريخ يؤكد أن الفراعنة كانوا أول من أصدر مجلة إباحية وليس صاحب "بلاي بوي"، ولم يقل أحد سوى المتزمتين في العصور كافة أن هذا الجانب من الثقافات يحرض على الفسق والفجرو والرذيلة.
#عادل_صوما (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحت خط الفقر العلمي
-
التمييز والعنصرية والتقية ومصادر التمويل
-
الازدواجية الاخلاقية في الضمير الجهادي
-
ليته يستقيل قبل تشرين
-
الفرق بين رجال السياسة وبائعي التمائم
-
تحديث الخطاب الديني مهمة العلمانيين
-
قراءة في فقه المستفيدين من الاسلام سياسيا(8)
-
قراءة في فكر المستفيدين من الاسلام سياسيا (7)
-
قراءة في فقه المستفيدين من الاسلام سياسيا (6)
-
قراءة في فقه المستفيدين من الاسلام سياسيا (5)
-
قراءة في فقه المستفيدين من الاسلام سياسيا (4)
-
قراءة في فقه المستفيدين من الاسلام سياسيا (3)
-
قراءات في فقه المستفيدين من الاسلام سياسيا (2)
-
قراءات في فقه المستفيدين من الاسلام سياسيا
-
التنويريون والمرأة اعداء المستفيدين من الاسلام سياسيا
-
إذا كان الله لا يخاف فالبشر يخافون
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|