|
بين سندان الجهل ومطرقة المقدّس
يزن حداد
الحوار المتمدن-العدد: 4949 - 2015 / 10 / 8 - 23:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سيكولوجيا بشرية ملتوية تتولد ما بين سندان الجهل ومطرقة المقدّس، شعور عابر للأفراد يمثّل حجر الزاوية الذي تقوم عليه أية بنية فكرية تتسم بالتطرف. شعور الرغبة الجامحة بالانتقال السريع إلى ملكوت السماء مثلاً، ومغامرات القتل والتعذيب المجنونة لمراكمة "الحسنات" وفق منظور تاريخي يعود إلى ابن تيمية وعبد الوهاب وغيرهما من أئمة التطرف.
من سخرية هذا العصر، القائم على انسحاب الوعي خلف خطوط “المحظور” وعودة الديني لإدارته، أن كثيراً من المفاهيم والمصطلحات تداخلت مع بعضها إلى حد بات فيه التمييز بينها أمر أشبه بمحاولة عقيمة للخروج من متاهة لابيرينث. وهو ما ينذر بحاله من التيه النظري حتى لدى أصحاب المواقف السياسية، أو من يدّعون ذلك على الأقل.
من هو الإرهابي؟ ومن هو المتطرف؟ هل يُعقل أن يكون حامل الفكر الماركسي الجذري “متطرفاً”؟ وإن كان متطرفاً، هل يعني ذلك أنه إرهابي؟ وتعود بالتالي الدائرة إلى نقطة البداية.
هذه الأسئلة التي أطرحها هنا لا تقع خارج إطار العنوان والفكرة الرئيسية للمادة على ما يبدو، فالأسباب التي أدت إلى شلل الوعي في دائرة محكمة الإغلاق، دائرة عدمية تخلق حالةً من التماثل السطحي بين النقائض، تعود في البداية إلى سقوط الفكر بين سندان الجهل ومطرقة المقدّس.
فمثلاً، تستخدم لغة الإعلام الحديث عند ذكر الاحتلال الصهيوني مصطلحات يراد لها أن تبدو متباينة كـ “مستوطن” و”مستوطن متطرف”، لكن في الواقع لا معنى لإرساء هذه الفوارق بينها. فذلك تماماً كأن تقول أن هنالك إرهابي وإرهابي وسطي. هكذا يخلط الإعلام الأوراق ويتلاعب بالكلمات، فيصبح الراديكالي متطرف والإرهابي جذري و”الإخواني” معتدل.. إلخ.
لربما كان عنوان هذه المادة مستوحى بشكل رئيسي من كتاب أوليفييه روا الذي حمل اسم “الجهل المقدّس”، لكنني أردتُ تفصيل الأفكار بشكل آخر هنا حتى يتسنى لنا فهم ظاهرة الإرهاب والفاشية الدينية ووعي المساواة العدمية الذي لا يميّز بين من يحمل مشروع التغيير الثوري، وبين إرهابي متطرف يحمل مشروع القتل والتدمير.
كيف نعرّف الجهل؟ وما الذي نعنيه بالمقدّس؟ ما الذي يجثم قابعاً بينهما؟
لعلّها أسئلة ثقيلة نسبياً وتحتاج إلى مجلدات كي نجيب عنها، لكن ذلك لا يغنينا بالطبع عن إضاءة هذين المفهومين بصورة جزئية، بغرض سبر أغوار الإشكالية التي تناور جميع الأقلام اليوم. والأحرى بالسؤال أن يكون: كيف يمكننا فهم ظواهر انحراف السلوك البشري إزاء مهرجانات القتل الجماعي على الهوية في ضوء القطع المعرفي الذي أحدثته عودة الدين إلى ساحة الفضاء العام؟
في الواقع إن كل ما فعلته علمانية أوروبا التي تجاوزت بها ظلامية القرون الوسطى والتي حاولت البرجوازية إدارتها، هو أنها منحت للدين شروط استقلاله النسبي لمنافسة السياسة في ميدانها بدلاً من إكمال شروط الاستمرارية بأن تقود عملية علمنة شاملة للمجتمع. فالعلمنة التي تقصي الدين من حلبة الدولة فحسب عليها أن تواجه عودته (أو تحوّله إن صح القول) بنفس السرعة التي غادر بها ربما.
حتى وإن عاد الدين بصور مختلفة أكثر تطرفاً أو أقنعة مستحدثة، نجد أن نسخاً جديدة من الدين تظهر دائماً عن سابقاتها وتحمل بداخلها شحنات أعلى من التشدد والتمسك بالنص. على سبيل المثال، فقد “ارتقى” المذهب السلفي إلى المذهب الوهابي في القرن الثامن عشر، وأنجب زواجهما لاحقاً أمثال داعش وغيرها من الجماعات الدينية الأصولية؛ أمّا المذهب الإنجيلي المحافظ فقد وُلد من رحم البروتستانتية، وأفرزت اشتقاقاته الأُخرى لاحقاً حركات عنصرية تعادي السود والكاثوليك (نتيجة ترسبات حرب الثلاثين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت 1618-1648)، من أمثال الـ “كو كلوكس كلان” في الولايات المتحدة مثلاً.
في سياق متصل، طرح جان بودريار تحليلاً مهماً لظاهرة النازية التي عرفها العالم في القرن العشرين وصل فيه إلى أن الفاشية النازية التي تمكنت من تسعير الطاقات الجماهيرية وإلهاب حماسها، لم تكن سوى “تعزيز مجنون لقيمة جماعية (الدم والعرق والشعب..)”، على حد تعبيره. كانت الفاشية تعبيراً عن حالة من الهروب الجماعي من عقلانية الغرب الكئيبة وفقر التاريخ، من “علمانية” مراكز رأس المال التي حوّلت الحياة إلى سلسلة من الإجراءات الروتينية الفارغة والقوانين الباردة، فكانت الفاشية رداً ضمنياً عليها جنح نحو أطماع احتلال العالم.
ومن باب المقاربة، قِس على ذلك مسألة تجذُّر الدين في الشرق مثلاً. لمَ لا تكون الفاشية الدينية حالة من الهروب الجماعي من قيم البرجوازيات الرثة في الأطراف التي تستوحي نفسها من نمط حياة الغرب؟ هروباً نحو الماضي يجد فيه النموذج الأصلح؟ تعزيزاً مجنوناً لقيم ثقافية ما (الإسلام هو الحل، خير أمة أُخرجت للناس.. إلخ). فاشية رجعية قادرة على استغلال نقاط العجز (الجهل والمقدّس) في وعي هذه الأمة، ومن ثم إعادة توجيهها بما يخدم المشروع الاستعماري الذي يعوّل على تلك العوامل بالتحديد.
لا أجد هنا فرقاً يذكر بين فاشية نازية وفاشية دينية، ولا أرى برزخاً يفصل بين هتلر وأبو بكر البغدادي، كلاهما وجهان لعملة واحدة.
“الدين ليس الثقافة، لكن لا يمكنه أن يوجد خارج ثقافة ما”. وبهذا المعنى يمكن فهم اندماج الدين في جوهر التعبيرات الثقافية التي تمثّل انعكاسه الخارجي، أشكال من تعميم قيم جمعية تجسد الحالة العاطفية للدين. في الغرب كانت النزعة العدمية التي أغرقت المجتمع في وهم الخلاص الفردي، أما في الشرق فهي جبل من المراكمات التاريخية التي وضعت عقولنا في صناديق متحجرة لآلاف السنين. وخلاصة القول: يمكننا تعريف الجهل على أنه غياب الوعي، أمّا المقدّس فهو حضور الجهل فيه.
عندما يتم طرح الدين كهوية جماعية لأمة أو عرق ما بدلاً من طرحه كخيار شخصي، تبدأ حينها سلسلة من الانحرافات الناجمة عن ذلك بالظهور إلى العلن والتضخم تحت تأثيرات عديدة.
الكيان الصهيوني على سبيل المثال يطرح اليهودية رسمياً كدين قومي لدولة الاحتلال بسبب غياب قومية واحدة تجمع “المستوطنين” والشتات اليهود، لتنطلق من ذلك المكان دون غيره حملات التطهير العرقي التوراتية. وداعش تطرح نسختها من الإسلام أيضاً كهوية جماعية للشعب العربي، وكل من يرفض هذه “الهوية” الدينية يدفع ضريبتها بالدم والتهجير وقطع الرؤوس.
العلمانية ليست حلاً سحرياً لكل هذه الأزمات المصيرية التي تنهش في جسد الأمة والشعوب، فكما قدّمتها الليبرالية منذ قرون، تبقى العلمانية بنموذجها الغربي عملية منقوصة تحتاج إلى إعادة قراءة شاملة في تاريخ المنطقة وآليات الخروج من مستنقع الجهل والمقدّس.
نقف اليوم على أرضية الجهل وغياب الوعي العلمي، ونئن تحت وطأة المقدّس الذي يوجه ضرباته لنا باطراد من خلال قنوات الإعلام والتربية ومنابر الدين؛ الشعور بالحنين وحده يراكم الماضي فوق حيّز القيم المشوهة الذي خلقته الإمبريالية. لا يمكن الحديث عن نقل مرجعية الإنسان من حقل السلطات الخارجية التخيلية “المقدّسة” إلى العقل البشري، إلا بالحديث عن أدوات تحقيق هذا التحوّل. سيرورة العلمانية اليوم في منطقتنا تختلف عن تلك التي أطلقتها الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر، من حيث الأهداف وحيثيات العملية كذلك.
لم يعد شعار “فصل الدين عن الدولة” بذاته مجدياً اليوم، فلا مفر من علمنة المجتمع أيضاً، وعلمنة المجتمع لا تعني الدعوة إلى العزوف الجماعي عن الدين بالمناسبة (أو التدين بالأصح). لكن لا غنى عن وضع الثقل الثقافي في يد مؤسسات طبقية ثورية جديدة تستلم زمام المبادرة لتخلق ثورة ثقافية شاملة عوضاً عن الفجوة الفكرية التي يسقط فيها كل من يغريه خطاب داعش والنصرة وغيرهما، تلك الفجوة التي أحدثها سندان الجهل ومطرقة المقدّس.
#يزن_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد العقل الأسطوري
-
العلمانية، بين أوروبا القرون الوسطى وواقعنا اليوم
-
167 عاماً، البيان الشيوعي ينبض بالثورة
-
عن الأردن في نظرية الدولة
-
عن الفلسفة والتاريخ وماركس وتوينبي
-
في العلاقة بين الماركسية والدين (2-2)
-
في العلاقة بين الماركسية والدين (1-2)
-
جدلية الثورة والتحرر
-
في ذكرى مهدي عامل
-
في الأول من أيار، محاولة لاستعادة مفهوم الطبقة العاملة
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|