الأحد 12 يناير 2003
شاءت الأقدار أن تمر الشعوب في تطورها الحضاري عبر طريق شائك
ومتعرج، محفوف بالآلام والكوارث والحروب والثورات والانتفاضات والدماء والدموع. فكل
مرحلة جديدة تلد من مرحلة سابقة بعد إجراء عملية قيصرية. فلو درسنا التاريخ السياسي
للأمم لتوصلنا إلى نتيجة مفادها أن التاريخ يسير بصورة عشوائية وليس كما يخطط له
صناع التاريخ من قادة الحكومات والإمبراطوريات. فحركة التاريخ تسير وفق فرضية تفيد
أن "الناس يصنعون التاريخ عادة دون علمهم. وحتى حينما يعتقدون أنهم يصنعون التاريخ
بشكل واع ومقصود، فإن النتائج غالباً ما تكون في إتجاه آخر لم يخططوا له أو يحلموا
به". ورغم النتائج الكارثية لبعض المنعطفات التاريخية، إلا إنه على المدى البعيد
ومن خلال هذه المسيرة الصعبة يتحقق التقدم نحو الأفضل. وكما يرى الفيلسوف الألماني
هيغل أن الخير والشر ضروريان لتحقيق التطور الحضاري، أو كما يصفهما علي الوردي هما
الساقان اللتان تسير عليهما البشرية نحو التقدم.
وربما ستستمر هذه العشوائية والنتائج غير المتوقعة في حركة
التاريخ إلى أن تتخطى الشعوب مرحلة المراهقة في تطورها الحضاري، الثقافي والسياسي،
وتبلغ سن الرشد كما الحال في الشعوب الغربية الديمقراطية حيث بلغت مرحلة متقدمة في
تطورها الحضاري وصار تاريخها الحديث، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يسير
سيراً حثيثاً نحو التقدم بصورة هادئةً ووفق مخطط مسبق. فخلال الخمسين عاماً الماضية
خضعت حركة التاريخ الأوربي تحت سيطرة قادة الفكر والسياسة لهذه الشعوب وليس
عشوائياً كما هي الحال في الدول النامية، إذ تحث دول أوربا الغربية المتقدمة الخطى
بثبات لإستكمال وحدتها الإقتصادية والسياسية منذ إتفاقية روما في أوائل الخمسينات
من القرن الماضي ولحد الآن دون هزات عنيفة. ونتيجة لهذا الإستقرار وسيطرة العقل على
العواطف والقلم على البندقية، حقق الغرب قفزات واسعة في العلوم والتكنولوجية
والإقتصاد والفنون وجميع المجالات الأخرى.
كذلك يمكن القول إن أكثر الكوارث
السياسية التي حلت بالشعوب وأدت إلى النكبات وتعطيل التنمية الإقتصادية والبشرية،
كانت نتيجة أخطاء أرتكبها الحكام وكان بالإمكان تفاديها لو توفرت لديهم الحكمة
والعقلانية.
والسؤال الذي نود طرحه هو: هل بلغت قيادات المعارضة العراقية سن
النضج بحيث يمكن أن تستخلص الدروس والعبر من تاريخ العراق الحديث ومن تجارب الآخرين
وتجنيب شعبنا العراقي المزيد من الكوارث والضياع بعد التغيير المرتقب؟ وتحديداً، هل
ممكن الإستفادة من التجربة الإيرانية؟ ونحن إذ نؤكد على التجربة الإيرانية بالذات
لأن يوجد، تيار إسلامي عريق له ثقله في المعارضة العراقية وتاريخه النضالي الدامي
ضد النظام الفاشي، يسعى إلى قيام نظام إسلامي يشبه النظام الإسلامي في
إيران.
فالمعارضة العراقية تتكون من طيف واسع من مكونات شعبنا العراقي، الأثنية
والدينية والسياسية، تضم تيارات متعددة، إسلامي وماركسي وقومي وليبرالي. ويمكن
إختصارها إلى تيارين كبيرين: علماني وإسلامي. ولحسن الحظ، فإن أغلبية المعارضة، بما
فيها فصائل التيار الإسلامي، يقرون الديمقراطية كأفضل نظام سياسي لحكم عراق
المستقبل. ولكن هناك مشكلة عدم الثقة ومخاوف العلمانيين من الإسلاميين. والخوف هنا
ناتج من إحتمال هيمنة الإسلاميين على مقاليد الحكم وفرض نظام مثيل للنظام الإسلامي
في إيران على الشعب العراقي أو على الأقل خلق مشاكل للحكومة الإئتلافية القادمة
بفرض شروط على الدستور الدائم تفرغ الديمقراطية من معناها الحقيقي وتربك الوضع الهش
وتزعزع الإستقرار وتطيل من معاناة الشعب.
فرغم التصريحات التي صدرت من قادة
الفصائل الإسلامية المعتدلة على أنهم يدعون إلى قيام نظام ديمقراطي ولا ينوون قيام
نظام إسلامي في العراق، إلا إنه مازالت هناك مخاوف وشكوك بأن هذه التصريحات هي مجرد
تكتيك مرحلي فرضته الأوضاع الدولية بعد كارثة 11 سبتمبر ويمكن أن يتغير موقف
الإسلاميين في عنفوان نشوة الإنتصار بعد سقوط النظام، مستفيدين من مشاعر الناس
الدينية في زمن الإنهيار السياسي الحالي. إذ تفيد الدراسات بهذا الخصوص أن فترات
الانهيار السياسي تكون عادة مصحوبة بتوجه الناس إلى الدين والغيبيات والخرافات
كوسيلة للخروج من المحنة التي يعيشونها ونتيجة لليأس والإحباط. وهذا ما حصل بعد
نكبة حزيران 1967 في مصر، حيث برزت قصة ظهور العذراء على إحدى كنائس القاهرة التي
أشغلت الناس ردحاً من الزمن وأدت إلى مقتل العشرات من الأبرياء نتيجة التزاحم لرؤية
العذراء. وكذلك الوضع في العراق الآن حيث الإنهيار السياسي المصحوب بتصاعد الموجة
الدينية وظهور قبور أولياء جدد لم يسمع بهم من قبل، يزورها الناس طلباً للشفاء من
الأمراض والخلاص من الوضع المزري. هذه المشاعر الدينية يمكن أن تزول بعد زوال
النظام المسبب، ولكن يمكن أن تغري بعض السياسيين الإسلاميين لاستثمارها من أجل
تحقيق مكاسب سياسية مؤقتة إلا إن لها تأثير مدمر بعيد المدى. وقد حصل مثل هذا
الموقف إثناء إنتفاضة الشعب في آذار 1991 حيث رفعت شعارات مذهبية أثارت الرعب في
نفوس دول الجوار وكذلك أمريكا، من أن البديل في العراق بعد صدام سيكون نظام إسلامي
على غرار النظام الإسلامي في إيران، الأمر الذي لم تسمح له أمريكا أن يحصل، لذلك تم
إجهاض الإنتفاضة وإطالة عذاب الشعب.
فهل يمكن إستنساخ التجربة الإيرانية في
العراق وتعريض الشعب إلى سلسلة من الكوارث التي مر بها الشعب الإيراني، أم يجب
الإستفادة منها بإختيار الطريق الأسلم؟
لقد مر ما يقارب ربع قرن على الثورة
الإسلامية في إيران ولم تكن هذه المسيرة سهلة ولم تحقق الثورة أهدافها كما أراد لها
قادتها، بل على الضد من ذلك، أعاقت الثورة التنمية الإقتصادية والبشرية طيلة هذه
الفترة بالإضافة إلى الكوارث التي جلبتها عليها الحرب العراقية الإيرانية. والآن
نرى قادة الحكومة الإيرانية في مأزق صعب لا يعرفون كيف الخروج منه وبأقل خسائر. قد
يعترض البعض ويقول أن هناك ديمقراطية في إيران، حيث تجرى الإنتخابات بحرية وهناك
برلمان منتخب ورئيس جمهورية منتخب.. الخ
لكن يجب أن لا يخفى عن بالنا أن
الإنتخابات (البرلمانية والرئاسية وغيرها) ورغم أهميتها، لا تكفي لوحدها إضفاء صفة
الديمقراطية على أي نظام. فكانت هذه الإنتخابات تجري في الدول الشيوعية وكذلك في
العراق تحت حكم صدام حسين ونتائج ال 100% المعروفة. ولا يعني أن هذه الدول صارت
ديمقراطية بمجرد إجراء هذه الإنتخابات. فالمعلومات الواردة من إيران تؤكد أن صنع
القرار والسلطات الحقيقية ليست بأيدي الجهات المنتخبة (برلمان ورئيس الجمهورية)
وإنما بأيدي الجهات غير المنتخبة، وتحديداً مرشد الجمهورية الإسلامية ومجلس ولاية
الفقيه. وبذلك فالنظام الإيراني لا يمكن أن يعتبر ديمقراطياً. لذا فهناك صراع عنيف
ودموي أحياناً بين الإصلاحيين بقيادة رئيس الجمهورية المنتخب والإسلاميين الأصوليين
بقيادة مرشد الجمهورية غير المنتخب. ولحد الآن الجهة غير المنتخبة هي المهيمنة على
أمور البلاد والعباد وأنظار العالم موجهة نحو إيران، تراقب هذا الصراع عن كثب ولا
أحد يعرف كيف سينتهي ولصالح أية جهة. وهل سيحسم الصراع بسلام أو بانفجار دموي عنيف؟
كذلك يمكن القول أن المواطن الإيراني العادي لم يتحسن وضعه المعيشي بعد الثورة بل
صار أسوأ بكثير مما كان عليه قبل الثورة، حيث راح الإيرانيون يتحسرون على أيام
الشاه.
فهل يتحمل الشعب العراقي بعد سقوط النظام الفاشي المزيد من المعاناة
ولمدة 20-30 سنة أخرى من الصراع الدموي ويمر في نفس الإرهاصات والعذابات التي مر
بها الشعب الإيراني بعد سقوط الشاه؟
ومن هنا نتمنى على قادة الفصائل الإسلامية
في المعارضة العراقية أن يعيدوا النظر في برامجهم وأهدافهم وتكتيكاتهم
واستراتيجياتهم لعراق المستقبل ونجنب الشعب من المزيد من الويلات، فقد عانى من هذه
الويلات أكثر مما يتحمله شعب.
خاص بأصداء (إيلاف)