أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5















المزيد.....



تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4947 - 2015 / 10 / 6 - 15:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


عاشرا: إن الخطيب الذي يحترم أدواته المعرفية، والفكرية، ويمتلك حس تشريف العقول التي تجلس بين يديه، لا يخوض فيما هو ذاتي، وشخصي، ولا فيما يخدم فئة، أو جماعة، بل يستحضر أنه نائب عن الله عز وجل في ترسيخ ذكره في الوجود، ونائب عن النظام الإداري والسياسي للدولة التي ينتمي إليها بالولاية العقدية، والشرعية، أو بالمواطأة على ما يلزمه العقد الاجتماعي من رعاية، وحماية. وإلا، فإنه يعبر عن إيديولوجية معينة، ومنظومة محددة، لا أثر لها إلا في عقل من يعتقد بصدقها، ويرتضي حكمها، لكن من لا يقبل أثرها على صيغة مداره الروحي، والنفسي، ولا يسمح بتأثيرها على محيطه الثقافي، والاجتماعي، فهو في تحلة من أمره، ويلزمه أن يكون له بوق آخر يعبر عنه، لئلا يفقد وجهته بين التيارات المتباينة في رؤية الأحداث المعاصر. وهنا سنفقد المنبر، ونودع المسجد، ونكون أهلا للإصابة بحمى الشتات، والفرقة، والعنصرية، والعصبية، والطائفية. وإذا صار المنبر في صورتنا الدينية معبرا عن فئة دون غيرها من فئات المجتمع، لها رؤيتها الخاصة في تحصيل الحقيقة، ودرك الوجود، فأي قول سيصدق منا إذا قلنا في توجيهنا الأدبي لرسالة الإسلام: إن المسجد مجتمع صغير، وضع أصالة لجميع الألوان والأطياف الدينية التي تتكون منها الأمة.؟ لن نكون صادقين مع أنفسنا إذا دهسنا كل الفئات من أجل فئة واحدة، ونظرنا إلى مجموع الأمة على أنه جمع كلي، لا أفراد فيه، ولا أجزاء معه. لو قلنا بذلك، فإننا أولا قد قطعنا حبال صلتنا بالتاريخ الذي رسخ عندنا مفهوم التعدد في علم الكلام، والفقه، والتصوف، وثانيا خالفنا نواميس تكون المجتمعات الإنسانية. إذ لا يمكن أن نصل إلى مجتمع موحد، لا تنوع فيه، ولا تعدد. بل مهما حاولنا أن ندجن العقول بفكرة الانتظار لذلك الزمن الهارب، وهو موعود للخلاص من الشر، والباطل، والخوف، فإن الحقيقة على عكس ما ندعيه من وجود تلك السويعة المؤذنة بنهاية الشرور في العالم. لأن المجتمع الأول الذي أسسه البشر على هذا الكوكب الأرضي كما ذكر القرآن، لم يكن مختلطا، ولا متنوعا، بل كان عنصر الإنسان فيه محددا بستة أفراد، ولكن رغم قلة عددهم، وصغر مددهم، فإن أحدا منهم قتل أخاه رغبة في كسب رهان مصلحة من المصالح التي تقاتل الناس حولها على امتداد تاريخهم البشري. فالقرآن بهذه القصة قد أثبت لنا وجود صراع أزلي ظاهري بين الخير، والشر، وقيامَ حياة البشر على هذه الطبيعة التي ينتصر فيها الباطل كثيرا، والحق قليلا. بل القرآن رسم لنا صورة عكسية عن كثرة السواد، واعتبرها مؤدية إلى كراهية الحق، والضلال عن سبيل الله. تلك هي الحقيقة التي تأسس عليها الاجتماع البشري في مركبه الجمعي، وتفاعل معها الإنسان في محيطه الذاتي. وأي مروق عن هذ الفكرة المبددة لأفق الوحدة المتوحدة، لا الوحدة المتكاثرة، فهو نقر على طبل منخور، وطمس لهوية حقيقية للعائلة البشرية. ومن هنا، فإن اختلاف أنواع الجنس البشري في مراتب المجتمع المحدد المعالم، مما لا يجوز لنا أن ننكره بتعالينا على الحقيقة، وإلا أن نرفضه لدعاوى نصت عليها بعض الأدبيات التاريخية. وإلا، فإننا سنكون طوباويين في رؤيتنا لما جبل عليه الإنسان من كفر، وإيمان، ونشأ عليه من باطل، وحق. وحينئذ سنجعل المنبر لفئة دون فئة، ولفكر دون فكر. وتلك الفئة المفكرة بعقلها المتفرد بالحق هي الفرقة الناجية، وما عداها من شيع، وسبل، وأفكار، ورؤى، فهي هشيم للنار المؤبدة. لو قلنا بهذا التحليل المجازف، والتفكير المختزل، فإننا لن نكون بانين لأس المجتمع البشري، إلا إذا زرعنا فيه بذور الفرقة، وفسائل الفتنة، لكي تزول كل الفئات المكونة للقيمة الجماعية، ثم يستأثر بالسيادة قوم يرون أنفسهم أهلا لحمل رسالة السماء بنص الشريعة، لا بمقتضى الحقيقة. ومن هنا، فأي دور للمنبر إذا كان خطابه الموجه للأمة مفرقا، لا موحدا.؟ لا أخال هؤلاء المخاطبين للناس بمقتضى قناعاتهم الشخصية مؤمنين بواجب النيابة عن الله، أو عن الدولة، أو عن الأمة، لكي يستوجبوا الحق المكتسب بسبب تلك المهمة، والوظيفة. لأنه ولو أعول كثير ممن سبب في فتنة الأمة بوجود نمطين من الإسلام: الإسلام الرسمي، والإسلام الشعبي، فإن جدية الطرح لجدلية هذه الفكرة، لن تكون جديرة بالاعتبار في رسوم هذه الوظيفة، ما لم تقد إلى المشترك الذي توافق عليه الناس قديما، وحديثا، وصار مع تجربة التاريخ خصوصية ثابتة تنبني عليها رؤية الدولة في تنظيم شأن الدين، والسياسة، بما لا يتناقض مع مقتضيات الحياة المدنية، والثوابت المحلية. فلو فاصلنا بين ملامح التجربتين، وجادلنا بإسلام ضد إسلام، فإننا ننطلق من منطلقات لا علاقة لها بالدين الذي يسع الجميع بظلاله الوارفة، بل هي نتيجة لصراع قائم بين الديني والسياسي في النظم الشمولية، وهو يسوغ تجربة حياة المجتمع وفق نمط مخصص، وقيادة الأمة بنظام معين، يتداخل فيه الديني والسياسي بلا حدود تميز بين ما هو مطلق، وما هو مقيد، وبين ما هو ثابت، وما هو متحول. وفي الحقيقة، لا يجوز لنا أن نفصل بين التجربة الدينية الرسمية، والتجربة الدينية الشعبية، لأنهما ظلال لمعنى واحد، لشيء يمتح من معين موحد النص، والغاية. لكن الذي يستحث الغوغائيين على الخروج عن دائرة الدولة لغرض من أغراضه المضمرة، لا يفتأ يفصل بين نتائج التجربتين، لكي يحدث الفواصل النفسية والاجتماعية بين عموم المتدينين. وإذ ذاك يقودهم إلى ما ينعاه في التجربة الأخرى من تخلف، أو ترهل، أو جمود. وهنا نرى تدخل الدولة من أجل وضع خريطة دينية لتجربة الوطن أمرا ضروريا، بل جزءا لا يتجزأ من رعاية المجتمع، والأمة، لأن التجربة الرسمية، ورغم ما فجر حقد بعض الخطباء في طريقها من تهم كاذبة، لا تعدو أن تكون ضرورة شرعية، أو قانونية، منوطة برعاية الدولة لمجالها الأدبي، والجغرافي، وموكولة إليها من أجل حماية البلد من طغيان الفتنة، والفرقة. وفي ذلك قطع لدابر الخائنين، والمأجورين، والمغرضين، وضرب على أيديهم الملوثة بدماء الأتقياء، والأبرياء. ولذا، يجوز لنا هنا أن نتساءل عن جدوى التجربتين: أيهما أسلم في الاعتبار.؟ هل التجربة التي تحدث الأمن، والاستقرار، وتسهم بحظ في تنمية البلد، وخدمة مشاريعه، وحمايته بمقتضى القانون.؟ أم إسلام يوحي إلى فكر همجي يقيم المجازر والمذابح والمسالخ للمخالف، ويدبر وسيلة الهدم والتخريب لدوره، ويدون رسم الاختلاف والتناحر بين فئاته، وهو في الوقت نفسه يفسر النص ويؤوله بما تقضيه مصلحة فئة معينة.؟ إنني لا أخال عاقلا يرتجي خيرا لهذه الأمة، لا ينكر ما آلت إليه أوضاعنا بسبب المنبر الذي اعتلاه فقراء الدم، والعاطفة، والمشاعر، والحيوية، ولا ينعى ما حاد عنه من قيم التآلف إلى انتحال سلوكيات منفرة عن العشق للكون، والحياة، والطبيعة. لو تاه بنا السبيل بين ظلم هذا الفكر المشتمل ببردة القصاب الذي يحز الرؤوس باسم ربه، ونظرنا بعين مريبة إلى ما اختلفنا حول جديته في بعض السياسات العامة، فإن لنقاشاتنا محالا أخرى، ومجالا أوسع، ليس المنبر واحدا منها، ولا تابعا لها، لأن المنبر ما جعل إلا للدلالة على ذكر الله عز وجل. وحين يتحول نقاشنا العام في أمور السياسة والاقتصاد إلى لغة المنبر، فإننا قد تحولنا إلى مجهلة غائرة، ومفازة غامضة، لا يمكن لنا أن نسير على طريقها إلى حل أفضل، وأكمل، وأجمل، لأن الاختلاف في الشارع العمومي، ليس هو الاختلاف في المكان العام المهيأ لذكر الله. فالاختلاف هناك تنظمه قوانين تؤسس لعملية الاجتماع، ولكنه في المسجد يأخذ بعدا دينيا، وطابعا عقديا، فتكون نتيجته الكفر، أو الإيمان. ومن هنا، لا يمكن للغة المنبر أن تكون القول الفصل في النقاش الذي تتجاذب أطرافه إيديولوجيات مختلفة، ولا يحق للون من هذه الألوان أن يلبس رأيه ثوب المنبر، فيصير خطابه مقدسا لا يقبل الدناسة، ولا النجاسة. إذ لو حولنا ما للمنبر إلى الشارع، وما للشارع إلى المنبر، فمن الذي سينقذنا من فتنة لن تتقد نيرانها إلا بأشلاء الإنسان، ولن تنتهي إلا بنفور عن الدين، والعقيدة.؟ إن الاختلاف حول شؤون التدبير لحاجيات الإنسان، لن يكون له في تطوره وتحوره أمد النهاية. إذ ما يكون عند فئة عدلا، فقد يكون عند غيرها جورا. وهذا ما حدث في التجربة الأولى، فكيف نزيله من تجربتنا المختلفة السياقات، والمفاهيم، وله رواسب نفسية واجتماعية مرتبطة بعلاقة الإنسان بمصالحه المتقلبة والمتغيرة في كوكب مفتوح على كل الثقافات، والحضارات.؟ إن دور المنبر، ليس في تحرير ارتباط صورة الإنسان الخارجية مع سياقات قيم مجتمعه، وأعرافه، وعاداته، ولا في ترسيخ مبدأ السيطرة على فلسفة سلوكه اليومي المنفعل مع أنماط نظمه الاقتصادية، والسياسية، بل في نفخ روح الحياة في كيانه الروحي، وغرس بذرة الحقيقة في جوهره الداخلي، وتحفيز قدرة ملكاته الباطنية، وترويض جنوح قيمه الذاتية. وذلك ما سيخلق في الهيكل البشري المصون بقوة الإرادة قيمة الاستقامة، والثبات، والمكابدة، والالتزام. ولا غرابة إذا كان هذا المقصد دورا للمنبر، لأنه يمنح الإنسان أدوات قلبية يحدد به توجهات حياته الخاصة، والعامة، ويرسم بها خط طريقه نحو الأمل، والفرح، واللذة، والمتعة. وحين يتخلى المنبر عن هذا الدور الذي أسس له، فإنه سيكون شبيها بما عداه، ويصير رأيه مقبولا في رأي، ومردودا في رأي، بل سيتطور الاختلاف حول مواقفه إلى حد التحارب، والتقاتل. وحينئذ، لا أمن له، ولا أمان فيه. ومن هنا، فإن الخلط بين المنبر الديني وغيره من المنابر الأخرى، لن يؤثر في سلوك سيرة الإنسان، ولن يصنع سمو ذلك التاريخ الذي يعد به الخطباء العامة، والسوقة. بل سيضيف إلى جرحنا جراحا، وإلى حزننا أحزانا، وإلى ألمنا آلاما. وهنا يفقد خصوصيته الروحية، والدينية، ويصبح ورما سرطانيا في جسم الأمة المنكوبة. ولعل ما آلت إليه مآلات واقعنا المعاصر، تشهد على ذلك التفتت التي يعتري الذوات المتضخمة بأناها الاستعلائي، أو بمرضها الاجتماعي. فقد اعتلى المنبر من طالب بالخروج على الأنظمة في العراق، وسوريا، ومصر، واليمن، وحين التأم الجمع، والتحم الحشد، وكان القتل مستحرا، والدم مستمرا، انبرى إلى دويرته، وخاصة نفسه، وانزوى إلى عمق خبيئته، وغور سريرته، وكأنه أدرك جرم ما التوى عليه خطابه، وانطوى خلفه توجيهه، فأعاد الكرة مرة أخرى، وقال بعكس ما قال، فكان خطاباته فتنة قاتلة، وفكرة هادمة. لكن ما الذي أوقع عموم الأمة في هذا الخلط بين الدين، والتراث، وبين الفكر، والرأي.؟ إن تسويق رمزية منبر الرسول (ص) على أنه كان محلا للدين، والسياسة، هو الذي مزج بين الحقائق الثابتة، والمتغيرة، وجعل إنسان اليوم منتظرا من هذا المنبر أن يعود إلى سالف عهده، ويؤوب إلى سابق رشده، فيحرك الأمة نحو الجهاد، والشهادة، ويوجهها إلى محاربة الفساد، والمفسدين، ومنازلة الظلم، والظالمين، ومقارعة العدوان، والمعتدين. تلك هي حجة الخطباء، وذلك هو أمل العامة، وكلاهما لم يدرك ما في التاريخ من حجج تقطع على البغاة سبيل تأجيج الحروب على منبر المسلمين. ولعل الباحث عن صيرورة المنبر، سيدرك أن منبر الرسول (ص) قد كان جامعا لكل أدوار الحياة، لكونه إماما، وخطيبا، وزعيم أمة، ورئيس دولة، ومحل نبوة، وصاحب رسالة، وفي الوقت نفسه، لم يكن لقرارات الدولة من مكان تبث فيه سوى هذا المكان الذي اصطفاه القدر لكي يكون مركزا لبناء كيان مستقل عن الزعامات القبلية المنتشرة في زمنه، وتأسيس نمط مجتمع قد فارق عادات جاهليته القائمة على سلوكيات مخالفة لما جاءت به الرسالة من عالمية هذا الدين، وكونيته. وهذا الانتقال يفرض بحكم واقعيته أن يكون المنبر وسيلة لتحقيق حلم سيادة العقيدة، ونشأة هوية الدولة، وبزوغ مظهرها الخارجي. إذ الدولة بمفهومها الحديث الذي يعني الكيان المستقل، والنظام السائد على رقعة جغرافية معينة، لم تتأسس بداياتها إلا في عهد الخليفة عمر (ض). وحين تراكمت التجربة، وترتبت الخيارات، لم يكن من أمر الخليفة علي (ض) إلا أن يعزل الخطباء الذين يتعرضون على المنابر لحق الأشخاص، أو لحق التوجهات العقدية، والفقهية. وهنا، بدأت مؤسسات الدولة وهياكلها تقوم بدورها في المراقبة، لكي يقتصر دور المنبر على ما هو جامع لأفراد الأمة من مشتركات لا تنفي اختلاف مشاربهم، ومساربهم.
ومن هنا، فإن محاربة الإسلام الرسمي، ليس من أجل الإسلام الحقيقي كما يزعم هؤلاء، إذ الإسلام الحقيقي، هو ذلك الدين الذي يشعر فيه المواطن بالاستقرار، والأمن، والأمل، والطمأنينة، بل كل ذلك مما ترعاه أبواق تبتغي الوصول إلى دولة دينية لاهوتية، يبايع فيها أمير الجهاد على تنفيذ الأحكام الدينية، والحدود الشرعية، فيقطع الأيدي، ويحز الرؤوس، وينفل الأنفال، ويتزوج السبايا، ويقتطع الأرض بالخراج، ويستعبد الذمي بالجزية، ويفتك بالمخالف، ويغلق سبيل الحياة على غير المسلمين. هذا هو الإسلام الحقيقي الذي يقابل به هؤلاء الإسلام الرسمي، وقد عشقوا ما فيه من نعيم دنيوي، أو أخروي، وولهوا بما يضيفه إليهم من وجود لم يتحقق لهم في واقع لا يجامل الهمم النكدة، ولا العزائم النكرة. فهم لم يريدوا أن يشعر الإنسان بالأمان بين ديار الإسلام، بل أرادوا زرع فتيل الخوف في الذوات، حتى يستقيم الكون على جادة الصواب. وتلك لعنة من شطحات العقل، وسقطات الفكر، لأن حشر جميع مكونات المجتمع إلى سياق ونمط واحد في العقيدة، والسلوك، لم يكن هدفا للأديان التي احترمت آدمية الإنسان، وحريته، وحقه في الحياة، والوجود. بل كان ذلك نتاج صراع دموي خاضه العقل الاستعلائي من أجل استعباد الإنسان واسترقاقه باسم الرب. وإلا، فمتى استطاعت الأديان أن تجمع الناس على صعيد فكر ورأي وسلوك واحد.؟ فلو قلنا بأن هدف الأديان هو إزالة الاختلاف، فقد فهمنا رسالة الأنبياء بفهم لم يكن غاية للتنزيل، ولا للإنزال. فالاختلاف بين مكونات الطبيعة والأرض والإنسان ضرورة لازبة، ولا يحق لأحد أن يدعي بأن زمنا سيأتي علينا بدون اختلاف، ولا عراك، ولا صراع. فلو قال بهذا أحد ممن يدندن بهذيانه في أسماع العامة، فقد أراد أن تتحول شوارعنا العمومية إلى مشانق، ومجازر، يطارد فيها كل من ارتكب هنة مخالفة لما توطن سواده عقل الجاهل بمفاهيم الدين، وقيمه. وحقا، إن بث فكرة الخلاص في فكر، أو في شخص، أو في نظام، لن يفيد الذوات التي تبحث عن وجود كونها في حقيقتها، ولن يضيف شيئا إلى واقع مستنسخ من رغبات الإنسان، وشهواته، وغفلاته. بل سيلفنا بظلمة الأفكار التي تخرجنا عن طبيعتنا، لكي نجسد دور الملاك مع مارد الحياة الفتان. وحقيقة إنها صورة لبداوة فكرية غاب عنها المشهد الذي يفور فيه دم الإنسان الأعزل، البريء، وهو يتألم، ويتعذب، وقساة القلوب يمرحون، ويفرحون، وغلاة الأفكار يقتلون، ويذبحون، فلم تجد إلا أمل الاستحواذ على الدير، والراهب، والمعبد، والهيكل. وحين قتلت حقيقة الإله في محل ظهوره، لم يكن منها إلا تزييف صورته في محل كمونه.
لعلي لم يخالفني الحظ في المقارنة بين هذين الأنموذجين المتناقضين من حيث المبتدأ، والخبر، والموضوع، والمحمول، لكنني أرى الخروج عن الأنظمة الدينية والسياسية في أوطاننا العربية، لم يفرز إلا هذا النوع الذي سيطر على وعيه الديني والإنساني غلط النطق، ولغط الفكر، وخطل الرأي، فاختار ما أفرزه الصراع العقدي على لغة الحكمة، ونطق المنطق، واصطفى ما أنتجه ذهول الوعي على فهم صدمة الحياة، ومكر الواقع. والأغرب أن هذه التوجهات المعادية لبساطة الأديان، والعقائد، والشرائع، لم تستقم على اتجاه واحد في تحديد الغاية، ولا في تحقيق القصد، بل تناجزت الحرب فيما بينها، وتناحرت بسيفها قبل قنابل غيرها. وإذا تأملنا في جبهة النصرة، فإننا نجدها قد خرجت من جبة ما خرجت منه مارد داعش، وهي ضريح القاعدة المطلول بدماء مؤسسها. والقاعدة ليست إلا نتاجا لفكر بدوي همجي تناسل في رحم الوهابية، والوهابية ما هي إلا عملة أجنبية غربية، نشأت في سياق تاريخي متعفن بسرطان الاستعمار. لكن اختلاف النظر إلى المستقبل الذي يعدهم بالاستحواذ على العالم، قد أدى إلى صراع دموي، وطائفي، لم تكن فيه النصرة، ولا داعش، إلا رغبة محتقنة لعلة مبطنة في النفس المتوحشة، وقد عبر عنها سفك الدم البريء بصراحة. ومن هنا، فإن الخطاب الذي نسج جبة التطرف، والتشدد، لم يكن إلا نتيجة لنظرة أحادية منغلقة، ومتحجرة، ومتكلسة، وفكرة أنجبت في رحم الدين تعصبا للرأي المفرد، والمجرد. لا تقبل معه غيره، مهما كان متصفا باسم الإسلام. لأن خشية هذا الخطاب من الزوال، والاضمحلال، والتلاشي، لم يدفعها إلا إلى نسج دروع تقيها من الميوعة، والتسيب، والتراخي، وتحميها من التقاعس، والتكاسل، والاستخفاف. وذلك ما أربك رأيها، وخطها، وسعيها، وجعلها تحنط فكرها الأحادي النظرة بلغة العنف، لعلها تتعالى بحقيقتها المتصلبة على ما تفرضه الأحداث من مفاهيم تحتاج إلى لغة أخرى في فهم قوانينها الكلية. ومن هنا، لم ترتكز على ذاتها إلا فيما يضمن لها بقاء مشروعية فكرها، لا على اعتبار الذات محلا لمحاربة الأخلاق الرديئة، والمبتذلة، والرخيصة. ولهذا تسوغ مواقفها بما تدعيه من نشدان مفتاح باب السماء بما ستخلص به أرواح البشرية من سبة الحياة اللئيمة. لكن هل خلصت البشرية بإحياء موات أرواحها.؟ أم وأدتها باغتيال حلمها، لكي يكون تحريرها في قبورها، لا في قصورها.؟
ومن هنا، فإن استغلال المنبر لتوجه معين، يعد أكبر خيانة في تاريخ الأمة الإسلامية، لأن المواطن العادي، بل حتى المثقف، بل حتى المفكر، لا يقبل من المنبر أن يكون سببا في إثارة زوبعة الاختلاف، والتفرق، وإشاعة صوت مزلزل يجافي المشترك المتواضع عليه، وينافي العقد المجتمع حوله. لاسيما في واقع يغدو نحو فقدان الثقة من كل خطاب جارف يدعي في صوغه أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، والنظرية الشاملة، والفكرة الحادة في تحديد الغاية. وسواء كان هذا الخطاب دينيا، أو سياسيا، أو كان مما لا يدل على طريق الهداية بالإرشاد، والتوجيه، بل يرسخ فرض لغته بحد السيف، وشلال الدم، وبركان الأشلاء. ولذا يلزمنا أن لا نوسع الهوة بين الإنسان وواقعه، ولا أن نغذي تصوره بسموم تلك الأفكار البائسة، ولا أن نحاصر توجهه في قالب لا يحتمل حريته في الإرادة، والاختيار. لأن ما يتعرض له من تعمية، أو تشويه، لا يجعله يرتجي من المسجد سوى أن يكون هادئا، وناعما، يأتيه في لحظات صعق فيها بالمادية العائمة، والفارعة، فيثري من معينه أحاسيسه ومشاعره بالأمل، والفرح. لكن إذا كان المنبر سببا لتغذية طفيليات الإحباط، واليأس، وعلة في ولوجه كهوفا مظلمة بالأفكار الحائرة، والجائرة، فإننا قد فاصلنا حقيقته عن دوره الذي وضع له، بل جعلناه سببا للاستطالة على حرية الإنسان، واختياره. فأي جمالية للمسجد إذا لم يعلمنا الحرية.؟ وأي حرية أعظم من أن تكون منابرنا أملا، لا مسالك للتيه، والألم.؟ إن استفاضة الخطيب إلى حد السيلان في الأمور المعقدة في الفلسفة، والسياسة، والاقتصاد، لا يفضي إلا إلى تفجير أدوات الصراع، والنزاع، وتجريع الأماكن أصلال التفرق، والتشقق. وهذا ما يحدث في أوطاننا العربية التي انهارت بما حدث فيها من تصدع، وتفكك، وحصل فيها من تذبذب، وتدحرج.
ولا عجب إذا رأينا كيف يثور العامة لحماية خطيب لم يصنع في الواقع شيئا له علامة، غير ما جرعهم من احتقان زفير العداء للآخرين، وكيف يرفعون شعارات معادية لمؤسسات الدولة، وهياكلها، وقوانينها المنظمة لشأنها الديني. بل الأغرب أن يلتجئ الخطيب إذا دهمه غاسق المحاسبة إلى مقتضيات قانون وضعي، لم تجتمع البشرية على شيء أجمل وأكمل منه، لكي يحاجج به، وهو في قرارة عقده تحاكم إلى غير شرع الله، ولكنه يستنجد به لإثبات حق حريته في الرأي، والتعبير. أجل، هناك حرية شخصية يضمنها القانون العالمي، والكوني، ولكننا في المسجد لنا أيضا حرياتنا الجماعية التي يضمنها لنا الدين، والتاريخ، والعرف العام. لاسيما وأن المسجد محل لجميع الفئات، والتوجهات، وليس مقر هيأة دون أخرى، حتى تسيطر عليه، وتستبد به. وإلا فقدنا دلالة المسجد، وعمقه الروحي، والإنساني، وصار مقرا لتوجه معين لا إجماع على رأيه. فلو سمي بعد ذلك بالمسجد، فإن طبيعة حقيقته لا تجسد قيمة الاسم، والشعار. لأن الحرية الدينية، هي في الاختيار، لا في فرض الرأي بعنف، ولا في النزو على منبر هو ملك للجميع. فالحرية هي أن أشعر بأنني حر في محل آمن، لا يتطاول فيه أحد على كرامة ذاتي، وعقلي. والأغرب أن هؤلاء الذين يحتجون بمضمون الحرية الدينية، هم من يعادونها إذا ارتبطت بالأديان الأخرى، بل لا يفقهون أنها حق دافع عنه الإنسان زمنا طويلا، وقدم من أجله تضحيات جسام، وبذل في سبيله مهجة روحه، لكي يصير حقها الطبعي جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان في متون المنظومات القانونية. ولذا، فإن هؤلاء يلتجئون إلى شيء ينفونه بالعقيدة التي جسموها في قالب فارغ المحتوى، وجامد المعنى، وهو القانون الوضعي الذي يعاند في رأيهم مضمون القانون الإلهي، لكي يدفعوا عن أنفسهم تهمة الإخلال بالأمن الروحي النفسي والاجتماعي للمواطن المتدين، لكنهم في جلية أنفسهم يتناقضون في زعمهم للحرية الفردية مع ما يتبجحون به من ابتغاء قيام دولة الإسلام التي لا تتحاكم إلى الطاغوت. وهنا يمكن لنا أن نقول: إن الخطيب إذا تجاوز حدود المشترك، والمجمع عليه، لا المختلف فيه، ووقع فريسة بين فخاخ تأويلاته الذاتية للنص الديني، فقد أخل بقانون الحرية التي ينتحي عند المقاضاة نِحوا من أبعادها المتعددة. فهو في جريرته قد أخل بحرية الجماعة، والدولة، قبل أن يطالب بحريته الشخصية، والفردية. وإن كنا نرى أن نوع هذه الحرية، ليس محلها المنبر، لأنه مهيع للجميع، وأي استغلال له، فهو خيانة للدين، وللوطن، وللدولة.
إذا كانت الحرية لا تعني التسلط على حريات الآخرين، فإن أي إخلال بمقتضياتها يعتبر جريمة أخلاقية، وسلوكية. لأن الخطيب الذي يشعر على المنبر بمعرة فتاة عارية تستفز إحساس المتدينين، لا بد أن يوقن بأن تطاوله على حريات الآخرين بخوضه في المسائل الخلافية المعقدة الموقفِ مستفز لحق حرية اختيار المصلين لما يذهبون إليه من آراء، ومواقف، قد تختلف باختلاف محددات دركها، ووعيها. ومن هنا يجب علينا أن نطرح السؤال الثالث: ما هو دور الخطيب على المنبر.؟ قبل أن أجيب عن هذا السؤال، يجب علينا أن نفصل بين سياقين التبس معناهما على عقل كثير من الخطباء، لئلا نقع في الخلط بين المراتب التي تحدد مسؤولية ووظيفة كل فرد في مكون الجماعة، أو الدولة.وهذان المعنيان يمكن صياغتهما في محل الخبر بصيغة الاستفهام. فأقول: ما هي الحدود الفاصلة بين الشخصية العادية، والشخصية الاعتبارية.؟ أو ما هو دور الخطيب في خاصة نفسه المجردة عن التزامات صفته، وما هو دوره في لبسه للباس مهمته، ودوره.؟ ربما قد يعفى الفرد في حدود محيط ذاته، مما لا تعفى منه الجماعة في دائرتها المشتركة. لأن الفرد حين يجسد حدود ذاته، يجوز له ما لا يستساغ منه حين يمثل جسد الكل الجمعي المشترك. لأن الفرد في سياقه الذاتي المرتبط باتجاهه المادي، ليس هو الفرد في سياقه المذهبي الجماعي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فالجمعي يمثل الأفراد في مكونها الذاتي، لأنه حارس لكل ما يجعل نظام الأفراد منتظما في سياق كلي يحقق الاستقرار، والاستمرار، والسعادة، والهناءة. ومن هنا تختلف المسؤولية باختلاف المراتب. فالحرية الفردية في ارتباطها بالسياق الذاتي القائمة عليه مقبولة، ومطلوبة، ولكنها في سياق ارتباطها بالكلي الجمعي، لا يمكن لها أن تتجاوز حدود ما هو ما هو مسموح به للأفراد في إطار الكل. لأن الحرية في سياق الأفراد حق طبعي يتضمنه نوع حضوره بين مسارات الوجود، وفلسفات الحياة، ولكنها في حق الجمعي مرتبطة بما تواطأت عليه الجماعة من عقد اجتماعي، يمنح الكل حقه المدني في إطار تحقيق المصلحة العامة المشتركة. ومن هنا، فإن الحرية الفردية، تبقى على حالتها الطبعية بين تيارات الطبيعة، ما لم تصطدم بحرية الجماعة. وإذا اصطدمت معها في تأويل العام المشترك، قدمت مرتبة شخصية المجتمع على مرتبة شخصية الفرد، لأن الفرد ومهما أعولنا بحقه في الحرية، لا يعني ثبوت حريته الشخصية أن يسلب بإطلاقها حرية الآخرين، لكي يعيش بلا نظام ولا قانون تترتب به مصالح الجميع في كلية الجماعة، وتلتقي حوله كل الأنساق المجسدة لوحدة الكيان، والمبدأ، والغاية. وهكذا، فإن كل حرية مجردة، لا يمكن لها أن تثمر الاستقرار، ما لم تكن مقيدة بحدود لا يجوز تجاوزها، ولا التعالي عليها، وإلا كانت فوضى عارمة لا تنضبط بنظام، ولا ترتبط بسياق. ومن ثم، فإن حرية الفرد، ليست إلا جزءا مقيدا بحرية الجماعة. لأن الفرد، ومهما كان دوره الوظيفي ثابتا في كينونة الجماعة، لا يمكن أن يتجاوز حدوده التي تؤطر علاقته بالجميع، وذلك عن طريق مسؤوليته في حماية المشترك المتواطأ عليه بين سياقات الكلي الجمعي. وإلا دبرت أمور الجماعة بأفراد لا يجمعهم نظام معرفي وفكري وثقافي واجتماعي مع المجتمع الذين يمثلون سلطة القرار في رعايته، وحمايته. وهنا ينتهي غرور الفرد وأنانيته أمام حق الجماعة التي تضمن استمرارها بما يضبطها من نظام، وقانون. وهكذا فإن كثيرا من الخطباء لم يستوعبوا الحدود التي تفصل بين شخصيتهم العادية، والتي من حقها أن تعبر عما تشاء من آراء، ومواقف، وأن تختار ما تراه صائبا، وحقا، وبين شخصيتهم الاعتبارية التي اكتسب الفرد صفتها بحكم وظيفته المحددة وفق شروطها المعتبرة في قبول العمل بمقتضاها، أو رفض الالتزام بتبعاتها. وهنا تكون الشخصية الفردية تابعة للشخصية الجماعية فيما هو منوط إلى الأشخاص العاديين من مهام، ومسؤوليات، لأنها بمقتضى موافقتها على شروط اتصافها بوظيفة تحتاج إليها الجماعة في تنظيم شأن دينها، وأمر حياتها، تجاوزت الحدود المرسومة للأفراد، وصارت في وظيفتها معبرة عن آراء الجماعة، لا عن آرائها الشخصية. ومن ثم، فإن أي خطيب لا يفرق بين ما يمكن له أن يكون عليه في شخصيته الفردية، وما يجب أن يكون عليه في شخصيته الجماعية، هو غير مؤهل لقيادة الجماعة إلى ما يحقق عدالتها، وحريتها ومساواتها.
إن الخطيب بحكم ارتباطه بالكلي الجمعي، تربطه علاقة مشروطة بعهد ووعد بالجماعة التي اتصف بإماماتها الصغرى، وإن لم يحتفظ على هذا الميثاق الذي هو جزء من مهمته الدينية، فقد خان الأمانة التي يستوجب النص الإلهي الوفاء بها كلا، وجزءا. ولهذا، فالجماعة لم تعين الخطيب لأداء هذه المهمة في حدودها الاعتبارية، إلا لكي يمثل توجهها الديني الذي يحميها من الفرقة، والاختلاف. وهو شرط أساس في ضمان أمنها، وأمانها. وإذا ما تخلى الخطيب عن مقتضيات هذه العلاقة التي تربطه بوظيفته، وابتغى في نتيجة مسؤوليته أن يؤسس تبعية الجماعة لفكر مخالف لما تعاقدت وتعارفت عليه، إما بدعوى امتلاكه لفك رموز النص المطلق، أو بدعوى أن ما يبنيه من فكر هو الأحق بالاقتداء، والاهتداء، فهو خائن للميثاق الذي يربطه بالجماعة، ومضيع لمسؤوليته في رعاية المصلحة العامة. لأن الصلة التي تربطه بالجماعة، هي أداء تلك الوظيفة بما يقتضيه محتوى العقد المؤسس للعلاقة فيما بينه، وبينها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الجماعة لا نعني بها مجموعة من الأفراد المنتشرين على بقعة صغيرة، وفي أرض معينة، وإن عنينا ذلك، فقد مرت مثل هذه التجارب، وما زالت وإلى يومنا سائدة في المدن، والقرى، والأرياف، والمداشر. لكننا نعني بالأصالة ذلك الرباط الذي يربط الفرد بالجماعة، في إطار كلي، وسياق جماعي. وهذه الجماعة كما تعني القبيلة في القديم، فإنها تعني الدولة في النظام المدني الحديث. وكلا العقدين ملزم عرفا، وشرعا، وقانونا، وأي إخلال به، يقتضي العزل، والخلع، لئلا تموت رسالة المنبر، والمسجد. ومن هنا، فإن الخطيب لا يكون شخصا مسؤولا عن هذه الوظيفة، ما لم يكن متمتعا بأهلية يتمازج فيها ما هو معرفي بما هو روحي. وذلك مما لا يشهد بذلك له إلا الأكفاء من العلماء، ولولا هذه الشهادة، لما صعد خطيب منبر المسلمين، إذ لا يجوز في سياق المحافظة على كيان الدولة، بما تحتويه من موروث، وثوابت، وخصوصيات، أن يقوم بهذه المهمة من لا يميز بين الثمر، والتين، ولا بين التبر، والتراب، ولا بين الثريا، والثرى. بل لا بد من وضع مقاليد المنبر بيد من يجيد لغة الخطاب، والتوضيح، وتقَنيات التواصل، والتفاعل، ويتقن فقه التعامل الإيجابي مع الأفراد، والجماعات، وفن التدافع المثمر للوحدة، والمحبة. لكن هذه الشهادة لا تكفي وحدها في واقع تنظمه قوانين معينة، بل لا بد من خلوه من شوائب الأفكار المتطرفة، والمتشددة، لئلا يصير خنجرا مسموما في خاصرة الدولة، وكيان الأمة. ومن هنا تتمازج التزكيتان: تزكيته أهليته بالعلم، والمعرفة، والثقافة الواقعية، وتزكية صلوحه للخطابة، نفسا، وذوقا، وشعورا، ومنهجا. وكل تزكية لها قوانينها، وشروطها. وكل مزكى لهذا المنصب المندرج بحكم مأسسة الشأن الديني في الأمور العامة، لا بد أن يستحضر في صعوده للمنبر، أنه ما ارتقى درجه، واعتلى سدته، إلا لكي يؤدي وظيفته المحصورة في ذكر الله، والتذكير به، وأنه ما منحت له هذه الصفة في وظائف الدولة، وما سمح له بموصوف هذه المرتبة، إلا لكي يخضع لشروط العقد المتضمن لأسس كلية تحمي الأفراد، والجماعات، وقيم محددة تضمن صيرورتهما، واستمرارهما في مجال جغرافي، وطبعي، وكوني. ولذا، فإن تزكية الدولة للخطيب، ليست عقدا مفرغا من محتواه، ولا عهدا مجردا من مضمونه، بل يتضمن أدبيات الدولة وأبجدياتها في تنظيم الشأن المحلي، وترتيب مجالات علاقاتها الدولية. وهذه الأدبيات، والأبجديات، لن تكون ذات فائدة، ما دام الخطيب لا يلتزم بمقتضياتها في محيط وظيفته، ولا يتفاعل مع توجهاتها العامة في بنى الدولة، سواء في الاقتصاد، أو في السياسة، أو في غيرها من المناحي التي تحقق التنمية، والرقي، والازدهار. ولا غرابة إذا عزلت الدولة الخطيب، لا لكونه غير مؤهل أصالة للقيام بوظيفته، بل لكونه أخل بشروط العقد الذي يربطه بحقيقة حاضرها، ومستقبلها. وهذا العقد إما أن يكون مكتوبا، وإما أن يكون عرفيا. وهنا يكون دور الخطيب في مسؤوليته الدينية، هو ما تعاقد عليه مع الجماعة في النظام القديم، أو مع الدولة في النظام الحديث. لأن الدولة من حقها أن تعقد هذا العقد بالإلزام، أو بالالتزام، إذ من شروط قيامها حماية الملة، والعقيدة، والبلاد، والعباد. وكل ما يحقق جدلية حماية الدين، والبدن، فوجوده ضروري، ومفروض على الدولة أن تنظم شأنه، وأمره، وأن تحدث له آليات وأجندة واستراتيجيات ترعاه، وتسوسه، وتخدمه. وذلك ما نجده في كل الدول التي تعاقبت في التاريخ الإسلامي، وتراكمت تجربتها في الأنظمة التي تعتمد دساتيرها الإسلام دينا، والديمقراطية منهجا للحياة المدنية. بل لا أرى منكرا لهذه الحقيقة، إلا إذا استحرت البلادة في عقله، فلم يعرف كيف تشكلت وظيفة الإمامة والخطابة والقضاء والحسبة وما شاكلها من مهام عبر التاريخ العربي، والإسلامي.



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ رقم 4
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 3
- كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2
- جذور المعرفة الصوفية
- حين تلتبس المفاهيم
- ناسك في دير الحرف 1
- ناسك في دير الحرف 2
- مقالات في التصوف
- حقيقة المجرم
- مفهوم الحقيقة
- إزالة الإبلاس عن معاني الإرجاس
- أفكار مسوقة (الجزء السادس)
- أفكار مسروقة (الجزء الخامس)
- أفكار مسروقة الجزء الرابع
- أفكار مسروقة (الجزء الثالث)
- أفكار مسروقة (الجزء الثاني)
- أفكار مسروقة (الجزء الأول)
- صرخة براءة صغير
- همم الحكماء، وذمم السفهاء


المزيد.....




- بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
- قائد الثورة الاسلامية آية الله‌خامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع ...
- اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع ...
- إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش ...
- مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار ...
- سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
- أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5