صادق محمد نعيمي
الحوار المتمدن-العدد: 1357 - 2005 / 10 / 24 - 10:35
المحور:
ملف 15-10- 2005 الديمقراطية والاصلاح السياسي في العالم العربي
1
من الرغبة في الإصلاح إلى الرغبة في التغيير
ظهرت في منتصف عام 2004, حركتان تحمل شعارا واحدا و هو " لا للتجديد و لا للتوريث", و قد صارت الأولى تحمل شعار "كفاية" و الثانية شعار " الحرية الآن", ثم توالدت حركات فاعلة أخرى مثل " شباب من أجل التغيير" و" أدباء و فنانون من أجل التغيير" و"عمال من أجل التغيير" و " مهندسون ضد الحراسة" و "أطباء من أجل التغيير". و قد كانت مجموعة فئوية, قد سبقت كل هذه الحركات و هي "مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات" التي اشتهرت تحت اسم "9 مارس". و قد ظهرت هذه المجموعة للدفاع عن استقلال الجامعة ضد تدخل الأمن والإدارة في الشأن الجامعي, مدركة في نفس الوقت أن ضعف الحياة الجامعية, مرتبط بفساد سياسي أكبر.
وتمثل الرغبة في التغيير , البنية المشتركة لهذه التجمعات, و ليس الإصلاح الذي يسعى إليه النظام المصري, بعد أن فشل محليا و عربيا. و قد خلقت هذه التجمعات حالة من الحراك بعد ركود المجتمع لما يقرب من ثلاثين عاما, و هو الركود الذي أدى إلى حرمان المجتمع من حراك اجتماعي كان من شأنه أن يولد كوادر جديدة في مستويات الإدارة المتعددة, و في الفن و الفكر. و كان لغياب هذا الحراك السياسي و الاجتماعي أن أصيب المجتمع المدني بشلل, شلل امتد إليه من مؤسسات الدولة التي نخر السوس فيها, و صارت مهلهلة أو بمعنى آخر صارت الوزارات المختلفة كجسد مترهل يفرز موظفين غير مؤهلين لقيادة الإدارات في مستوياتها المتعددة نحو عالم و رؤية جديدة في ظل ظروف عالمية تتغير فيها الرؤى و المعايير بسرعة و في ظل عالم الاتصالات و كثرة الاكتشافات و توالد الرؤى و الأفكار. بعبارة أخرى, كان العالم يتغير من حولنا و نحن في حالة ركود و شلل يصيب مؤسساتنا بسبب اختيار قيادات مطيعة لمن هم أعلى منهم بصرف النظر عن كفاءتهم .
و أمام هذا الترهل الذي أدركه المثقفون ممن لديهم حس وطني أو مهني منذ الثمانينيات, و كانوا ينبهون إليه و يعملون بشكل فردي على تنبيه الناس له كان إعلامنا من صحف و تليفزيون و إذاعة تتعامل بتجاهل معه, و كانت القيادات العليا لا تأبه له أيضا, بل كانوا يضطهدون هؤلاء الراغبين في الإصلاح (كان الإصلاح في هذه الفترة غاية المنى), و تستخدم القوانين و اللوائح في هذا الصدد كسلاح في يد الإدارة للقمع و التدليس في آن واحد. و أدى هذا إلى جو مختنق بسبب الفساد الذي صنعه الاستبداد السياسي و قاد هذا الفساد إلى نتيجة طبيعية و هي الفقر أو الجهل. أو كليهما معا. و في ظل هذا الركود الداخلي الذي أوصل المجتمع إلى ترهل لا أمل في علاجه عن طريق الإصلاح استجدت ظروف خارجية أطلت بظلالها على المجتمع المصري, و قد ساهم النظام المصري في تفعيل التأثير المطلوب لهذه الظروف على مجتمعنا بسبب عدم إدراك النظام لخطورة هذه الظروف الخارجية. و من سخريات القدر, كان لهذه الظروف الخارجية تأثير سلبي تماما على السلطة مما كشف عورتها أمام الرأي العام بلا لبس, ومن هنا انتقلت المعركة من كونها بين بعض المثقفين و السلطة إلى الشارع و السلطة, و تبين للرأي العام مدى فقدان جهاز حكم في مصر للقدرة على التصرف السليم, ومدى تماهي هذا الجهاز مع نظام دولي جديد يسعى للسيطرة على منابع النفط في الوطن العربي.
و لقد شجع إدراك الجماهير لحقيقة هذا النظام, "المثقفون العضويون" على إعلان آرائهم علانية في تحد واضح لهذا الاحتكار الذي فرضته السلطة على التعبير عن الرأي. و تمثل هذا الاحتكار من خلال فرض الحراسة على النقابات و السيطرة على نوادي هيئة التدريس و الجمعيات الأهلية و الاكتفاء بأحزاب معارضة شكلية مع بعض المناورات مع بعض تيارات الإسلام السياسي أو مع هذه الأحزاب الشكلية مقابل بعض المقاعد في البرلمان أو في مجلس الديكور المسمى بمجلس الشورى أو الموافقة على إصدار جريدة ما تقوم بزرع البلبلة أكثر مما تساهم في بلورة رؤية تقود إلى تغيير حقيقي. و كانت أحزاب المعارضة و حركة الأخوان تمثل الديكور الشكلي المطلوب لديكتاتورية تتستر وراء تعددية شكلية, و لعب هذا الديكور في استقرار نظام الحكم المترهل القائم مقابل بعض الفتات كما كان يفعل السلاطين قديما من توزيع العطايا, حتى توافرت عدة عوامل - ارصدها في الفقرة التالية تحت عنوان "ملابسات الكشف عن حقيقة النظام"- دفعت بالناس لان تقول كفاية و الحرية الآن و "متغور يا".
و بعد أن تحرك جزء من المجتمع للدفاع عن الوطن الذي ينهار من خلال الدفاع عن مصالح مهنية أو فئوية مشروعة, خرجت علينا الصحف التي تصدرها المؤسسات الصحفية و الإذاعات و القنوات المتلفزة بترويج فرية و أكذوبة مفادها أن حركات التغيير في مصر جزء من رغبة أمريكية في أن ترى رياح الديمقراطية تهب على العالم العربي, و قد ساهمت الفضائيات مع القنوات المحلية في توصيل هذه الأكذوبة إلى نسبة كبيرة من أبناء العالم العربي و صارت هذه القنوات و خاصة العربية و الجزيرة تقدم معلومة ملتبسة حول آمال التغيير في العالم العربي ( كما تقدم المسئولين الأمريكيين و الإسرائيليين للمشاهد العربي ليدافعوا عن إرهابهم و استعمارهم بحجة الحياد الإعلامي) و خاصة في مصر مما أدى إلى بلبلة فكرية ما و ان كانت هذه البلبلة في طورها للتلاشي. و موضوع هذه السطور أصلا هو التساؤل حول الدوافع التي أدت إلى الرغبة في التغيير.
2
ملابسات الكشف عن حقيقة النظام
1. إتباع تعليمات صندوق النقد الدولي و البنك الدولي (الرئيس الجديد له, هو العسكري المتطرف بول فولفيتس, احد مخططي الحرب ضد و أفغانستان و العراق) , و تمثل هاتان المؤسستان مع منظمة التجارة العالمية الواجهة الاقتصادية للاستعمار الجديد, مع الأمم المتحدة الممثلة للواجهة السياسة لهذا الاستعمار. و لعل الكثير من أبناء مصر لا يعرفون شيئا عن هذه المنظمات الاقتصادية لان أبواق الدعاية الإعلامية المحلية تروج لهم تعليمات هذين المؤسستين على أنها اقتصاد السوق و الحرية الاقتصادية, و لكنهم لمسوا تأثير سياستهما السلبية التي تواطأت الحومة المصرية لتمريرها, من خلال ارتفاع الأسعار ( تراوحت النسبة بين 35% و 40 %, لا نعرف النسبة الدقيقة بسبب غياب الشفافية في أرقام الحكومة, و هذا في حد ذاته جريمة تتمثل في أخفاء الحقائق عن الشعب) الذي ظهر بوضوح في مطلع عام 2003عندما تم تعويم الجنية المصري بحجة تشجيع التصدير. و بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار هذا الذي أنكوى به غالبية الشعب, فقد المودعون أموالا في البنوك , نفس نسبة زيادة الأسعار. ولذ فليس غريبا أن يعلن البنك الدولي في أكتوبر 2005أن مصر تحتل المرتبة الأولي عالميا في إصلاح الإجراءات الجمركية, حيث سهلت تدابير التوثيق التجاري, وقلصت عدد الموافقات الجمركية من26 موافقة إلي خمس موافقات فقط, وأوضح البنك ـ في تقريره عن مناخ الأعمال والاستثمار في2006 ـ أن خطوات مصر اتسمت باستراتيجية إصلاحية أكثر شمولا, نتج عنها التخلص من21 قيدا جمركيا دفعة واحدة وتسهيل عمليات التفتيش علي الحدود. أليس هذا هو "الانفتاح سداح مداح", و تطبيق للعولمة الاقتصادية التي تزيد الدواة الثرية ثراء و الدول الفقيرة فقرا, و تدمر الصناعة المحلية.
2. توازى مع ارتفاع الأسعار الذي أصاب الطبقات الوسطى و الوسطى الدنيا و الفقيرة في مقتل, مع احتلال أمريكي-بريطاني للعراق من خلال تواطؤ واضح من قبل الأنظمة العربية, بما فيها مصر الذي سهل للفوات الأمريكية من الوصول سريعا ( و السرعة أمر مهم جدا في الحرب) للعراق من خلال السماح لحاملات الطائرات بعبور قناة السويس. وكان لاحتلال العراق تأثير مزدوج على المصريين الأول نفسي و الآخر اقتصادي. و يرجع الأول إلى احتلال العراق كان له وقع كئيب في نفوس المصريين-, كما هو الحال عند الشعوب العربية وأحرار العالم- و خاصة و هم يرون كيف أدت الأنظمة العربية إلى عودة الاستعمار العسكري الذي يتوازى مع استعمار اقتصادي و تبعية سياسية, و خاصة بعد صور التعذيب البشعة في سجن أبو غريب و تدمير البنية الأساسية في العراق و التراث الإنساني الذي يفوق كل قيمة مادية إذ يعتبر تاريخ العراق جزء من تراث البشرية, وهاهم المصريون يرون تاريخه تدمره الآلة العسكرية الأمريكية في همجية. و يتمثل التأثير الثاني في الجانب الاقتصادي, إذ استفادت أغلبية البيوت المصرية من عوائد أبنائه الذين كانوا يعملون في العراق, و يقدر البعض حجم العمالة المصرية في العراق قبل سقوطه في يد الأمريكان ما بين ثلاثة و أربعة ملايين يشكل معظمهم عمالة غير مؤهلة كانت تعيش في بطالة واضحة, ثم عادت من جديد تعاني هذه البطالة.
3. بينما كانت الانتفاضة الثانية تدفع إسرائيل نحو كارثة أمنية و اقتصادية بسبب العمليات الفدائية الفلسطينية داخل العمق الإسرائيلي, كانت الحكومة المصرية تمارس دبلوماسية الموالسة أو إن شئت دعارة سياسية من خلال تقديم دعم لوجستي لمجرم الحرب شارون, إذ كانت الحكومة المصرية تضغط على الفصائل الفلسطينية لإيقاف نضالهم تحت دعوى إيقاف العنف, بل كان الرئيس المصري يطالب بتهدئة المقاومة و يستقبل شارون في شرم الشيخ في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير مستمرا في سياسة الاغتيالات و التصفية الجسدية لقادة المقاومة من حماس و الجهاد الإسلامي و فتح و الجبهة الشعبية. و قد أدى هذا و غيره إلى كشف حقيقة هذا النظام أمام الرأي العام المصري الذي صار يرى بوضوح حقيقة الدور المصري في الضغط على الفلسطينيين مستغلا حاجتهم الملحة لمعبر رفح الفاصل بين مصر و قطاع غزة.
4. و يقودنا هذا الأمر إلى النقطة الخامسة المتمثلة في غل يد السياسة المصرية الخارجية, حيث تم إهمال الإدارات المتخصصة في وزارة الخارجية لصالح ديوان رئاسة الجمهورية و صار و زير الخارجية بلا رأي و لا شخصية و من هنا فليس بمستغرب أن لا تتصرف مصر سريعا في مشكلات إقليمية على درجة عالية من الأهمية لأمنها القومي مثل قضية دارفور حيث ترك الأمر حتى تدخلت عناصر أجنبية و استفحل الأمر. و نجد كذلك عدم تعاون مصر مع أنظمة معادية للهيمنة الغربية لنا مصلحة في التعاون معها مثل حكومة اليسار في البرازيل و نظام هوجو شافيز في فنزويلا و فيديل كاسترو في كوبا و الحكومة الإيرانية, رغم تشابه مشاكلنا مع مشكلات هذه الدول. و يضاف إلى ذلك إهانة صورة مصر من خلال توقيع اتفاقيات ثنائية مع إسرائيل مثل اتفاقية الكويز و بيع الغاز الطبيعي لهذه الدولة الخارجة على القانون و التي تشكل على المدى البعيد العدو الرئيس لمصر. و كانت الرئاسة المصرية تضرب عرض الحائط بآراء واعية رافضة لذلك مما يمثل احتقارا لآراء متخصصين. و نذكر هنا الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي عزام و قتل ثلاثة من الجنود المصريين على الحدود... و كأن الدبلوماسية المصرية تقوم بدعارة سياسية في الخارج.
5. كانت النقاط الأربع السابقة بمثابة الصورة الكارثية في الجوانب السياسية و الاقتصادية, التي أدت إلى صورة لا تقل كارثية في الحياة الاجتماعية, إذ أظهرت بعض الإحصائيات أن حوالي 34 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر, وأن نسبة العنوسة وصلت إلى 10مليون ممن هم في سن الزواج, و تصل الكارثة في أن نسبة البطالة تصل في بعض التقديرات غير الرسمية إلى 27 % ممن هم في سن العمل, ناهيكم عن تدني الرواتب في دولة تزداد مواردها من الغاز الطبيعي ( مصر خامس منتج عالمي من الغاز) , كما زادت موارد البترول الذي ارتفعت أسعاره, و يكفي مصر أن بها النيل و أرض خصبة ( حوالي 7 مليون فدان, و الفدان الواحد من شأنه أطعام و كساء و علاج و تعليم مابين ثلاثة و أربعة أفراد) و أخرى قابلة للزراعة و قناة السويس (حصيلة المرور في قناة السويس تبلغ3,3 مليار دولار) و مصريون يعملون في الخارج (صافي التحويلات تصل إلي5,4 مليار دولار) و السياحة إلي (6,4 مليار دولار). ناهيكم عن الضرائب المباشرة و غير المباشرة. و بعد كل ذلك نرى هذا النظام يحول مصر إلى ثالث دولة في العالم من حيث تلقي المساعدات الدولية بعد تركيا و إسرائيل.
6. كان ثمة عوامل ثقافية أدت, وان كان نسبيا, إلى أن ينزل الناس في مظاهرات الحرية : رفض الروائي الكبير صنع الله إبراهيم لجائزة الدولة في الرواية (2003), رفضا كان له أثر في ظهور الاحتجاج العلني على تصرفات النظام. كذلك يجب أن نرصد هنا بداية النقد العلني لشخص حسني مبارك بعد أن كان هذا أشبه بالمحرمات, و كان أول من كسر هذا التابو, العمود الصحفي "لوجه الوطن" في جريدة العربي, و خاصة أن صاحبه عبدالحليم قنديل يتمتع بأسلوب راق و شجاع ( و من الصحفيين القلائل الذين يتمتعون برؤية سياسية سليمة), كذلك مقالات مجدي أحمد حسين في جريدة الشعب الالكترونية بالإضافة إلى بعض الكتابات المناوشة في هذه الجريدة المعارضة أو تلك و دخول بعض الأساتذة الجامعيين المستنيرين إلى الشارع رغبة في التغيير. و استنكار الكثير من أبناء البلد للثقافة الخليجية القائمة على شكلية طقسية و استهلاك للمنتج الرأسمالي الغربي بلا وعي و لا تمييز. و توالي الدواوين الشعرية و الروايات و بعض المسرحيات التي تشير في قالب فني الى كارثية المشهد المصري.
7. قامت مجموعات من فئات مهنية مختلفة بتأسيس تجمعات على هامش نقاباتهم أو أنديتهم أو جمعياتهم للدفاع عن مصالح مهنية في شكلها و إن كانت في جوهرها وسيلة للتجمع من أجل الدفاع عن مصالح فئوية و من أجل تغيير سياسي لأن الإدارة السياسية أفسدت النقابات المهنية مما أثر على مستوى المهن نفسها. و من أشهر هذه التجمعات مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات ( 9 مارس) بعد أن ظهر جليا مدى حالة التعليم المتدنية في الجامعات المصرية, و مهندسون ضد الحراسة, و أطباء من أجل التغيير و محامون ديمقراطيون,... و أدى قيام هذه المجموعات المتجانسة مهنيا إلى تأسيس قواعد بديلة للنقابات و للأندية و اتحاد الطلاب, و قد تشكلت هذه القواعد بسبب سيطرة الدولة على المؤسسات الاجتماعية المدافعة عن فئة ما أو مهنة ما. وكانت هذه السيطرة الحكومية من خلال الجهاز البيروقراطي على النقابات بمثابة غباء و ضيق الأفق السياسي إذ أدى إلى ولادة تجمعات مهنية و فئوية و طلابية بديلة و موازية للتجمعات الرسمية التي أصبحت مشلولة بسبب التدخل البيروقراطي و الأمني في شئونها. و صارت هذه التجمعات الموازية لا تعترف بشرعية النظام القائم و تسعى لتغييره تغيرا جذريا, بعد أن كانت تطالب ببعض الإصلاحات أو الصلاحيات لموكبة روح التطور, و لو كان يتمتع الذين يديرون شئون هذا البلد, ببعض من وعي سياسي, لكانوا قد تركوا لهذه النقابات لوائحها و برامجها بدون تدخل, مما كان سوف يطور من هذه اللوائح وطرق الأداء في أطار النظام.
8. أدى التواصل عن طريق البريد الالكتروني و استخدام الشبكة العنكبوتية إلى مساندة التطلع إلى حراك اجتماعي و سياسي يخرج المجتمع المصري من حالة الركود المميت الذي سقط فيه, فكان هذا التقدم التكنولوجي بمثابة ضربة قاضية للإعلام الرسمي الذي ترهل مثل أجساد كثير من صحفييه و إعلامييه الذين كانوا - ومازالوا يحتكرون وسائل الوصول للرأي العام من أجل استمرارية تغييبه و سجنه في دائرة إعلامية متخلفة تجاوزتها المرحلة. و بفضل هذا السرعة و الفعالية الإعلامية تواصل أبناء المجتمع, و صار المناضلون يقولون : باي باي منشور. صحيح أن عدد القادرين على الوصول إلى الانترنت مازال محدودا و لكن القليل المتصفح للنت يبلغ الكثرة التي لا تستخدم الكمبيوتر, و رب مبلغ أوعى من متصفح ! و أدى النت إلى إعادة شيء من اللحمة للوطنيين الساعين للتغيير, بعيدا عن رقابة الإعلاميين الذين يظهرون ولاء للسلطة التي تبقيهم في مواقعهم رغم قلة كفاءاتهم أو انعدامها في موالسة واضحة بين الاثنين.
9. كانت خصخصة ( و إن كان الصواب خوصصة, فخطا شائع خير من صواب مهجور) الشركات العامة, بمثابة ضربة قاصمة للمنجز الاشتراكي للثورة, ناهيكم عن بيع هذه الشركات بثمن ارخص من سعر الأرض المقامة عليها, و قد أدى ذلك إلى تسريح عدد كبير من العمال من خلال المعاش المبكر مما زاد من نسبة البطالة في البلد و كرس التبعية الصناعية للغرب و شرق أسيا و قلل من فرص التنمية الحقيقية التي تمثل السند المستقبلي للمهمشين و الطبقة المتوسطة الدنيا بل و الطبقة الوسطى. و قد بدأ النظام في هذه الخصخصة عندما سار في ركب التبعية للرأسمالية العالمية المتوحشة من خلال إتباع تعليمات البنك الدولي و صندوق النقد.
10. أتصور انه يمكن إضافة عامل معنوي إلى هذه الملابسات التي كانت الدافع الرئيس في تحريك الشارع المصري, و يلحظ أن ابن البلد كان يعاني من احتقان كبير بسبب ما سببه قانون الطوارئ من اختناق في المجتمع المصري يرجع إلى التضييق على حركته و حرياته و وسائل التعبير عن الرأي في ظل إهدار لكرامة الناس تحت دعوى و جود قانون الطوارئ, فابن البلد الغلبان كان ضحية هذا القانون من خلال ممارسات إرهابية لجهاز الشرطة الذي انحرف تماما عن مهمته في حفظ الأمن الجنائي إلى التركيزعلى الأمن السياسي, و استهلكت ميزانية حماية السلطة القائمة ما يقارب من ربع الموازنة العامة إذا أخذنا في الاعتبار حجم ما ينفق على حماية الرئيس الخائف من شعبه و الكاره له. و كان كل ذلك يأتي على حساب موازنة وزارتي التعليم و الصحة و الشئون الاجتماعية مما جعل هذين القطاعين في حالة يرسى لها, في ذات الوقت الذي ظلت فيه سجون مصر مليئة بما يقارب 25 ألف معتقل معظمهم في سن إنتاج و عمل.
11. تقتضي الأمانة العلمية أن نشير إلى عامل كان له شأن مهم في تحريك النقاش حول سياسة النظام الحاكم, و يرتبط جزئيا بالنقطة السابقة, هو العنف المتبادل بين الجماعة الإسلامية و الجهاد في الصعيد من جهة و بين الشرطة من جهة أخرى, هذا العنف الذي راح ضحيته العديد من أبناء هذا الوطن و بلغ ذروته في شهر نوفمبر عام 1997 حيث قتل حوال37 من السائحين و جرح آخرون. فقد حركت هذه المعارضة المسلحة للنظام القائم حوارات عديدة و رغم أن أجهزة الأعلام و الأزهر و جماعة الأخوان و بعض الممثلين ممن انتهوا فنيا (عادل أمام) وبعض المخرجين (في أفلام ذات معالجات سطحية و بدون حرفية سينمائية) و الشعراء أنصاف المواهب و بعض أدعياء اليسار, قد تم توظيفهم-كالعادة- للدفاع عن النظام في مواجهة ما أطلقوا عليهم الإرهابيين, إلا أن هذه الأحداث قد ولدت نقاشا حول الظروف التي أفرزت هذا الشباب مثل الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تحالفت مع إسلام شكلي قادم من جزيرة العرب و على حرفية الطقس الديني و غياب اشتراكية تحقق عدلا اجتماعيا. و بدلا من معالجة المشكلة على أنها اجتماعية-سياسة-فكرية, تم معالجتها أمنيا مما زاد الاحتقان داخل المجتمع المصري. و لم يتم الدفاع إلا جزئيا هذا الشباب عندما تعرضوا للتعذيب داخل السجون بل استقبلهم المردة بالسنة حداد في إعلام دجال لا يجيد إلا تأليب العوام على أن هذا الشباب هو المجرم ناسين أنهم ضحية لنظام تعليمي شكلي و افقار مستمر من قبل حكومة تخلت عن الفقراء لصالح الأغنياء, ومازال الكثيرون من هؤلاء الشباب في ليمانات و سجون "أزهى عصور الديمقراطية", رغم أنهم شكلوا أول معارضة جذرية للنظام, أقول هذا للأمانة العلمية, رغم أني أختلف مع رؤاهم و وسائلهم.
3
رمزية كسر حاجز الخوف
ومع كل هذه الملابسات ظهرت الإدارة في شكل مترهل فاسد و عاجز عن التطور فأدت إلى كوارث أظهرت حقيقتها للعيان, مثل العبارة سالم اكسبريس, و قطار الصعيد و سلسة انهيار العمارات و البيوت, و أخيرا حادث مسرح مدينة بني سويف في 5 سبتمبر و التخلف الفاضح في إجراءات إنهاء المواطنين لمصالحهم في دواوين الحكومة المختلفة, وسرقة أموال البنوك من قبل لصوص أطلقوا على أنفسهم رجال أعمال, بتواطؤ واضح من كبار المسئولين معهم. ولنضف إلى ذلك حوادث الطرق التي تودي بحياة الكثيرين سنويا حتى صار معدل الحوادث في مصر من أكبر المعدلات على مستوى العالم .
و بعد هذه الملابسات التي كانت كفيلة بتحريك جزئي لهذه الأمة الصبورة – الجزء الذي مازال قادرا أن يسير في مظاهرات أو أن يتزود بمعارف غير التي يتلقاها الناس من هذا الإعلام المتخلف و الرجعي أو بعبارة أخرى الذي مازال بعافيته و لديه كرامة. أقول بعد هذه الأسباب التي سقناها للحركة, عندما يأتينا الإعلام الذي يقدم معلومة ملتبسة, و يقول إن هناك رغبة أمريكية في الإصلاح الديمقراطي هي التي حركت الشارع, لا يسع المرء منا إلا أن يحرك كتفيه احتقارا لما يسمع. أن هذه الأبواق التي تروج عن قصد أو عن جهل المنظومة الإعلامية للشبكات التلفزيونية و المؤسسات الصحفية الدائرة في فلك الرأسمالية الأمريكية أو القريبة الصلة من البيت الأبيض, إنما تهين وطنيين شرفاء يحبون بلدهم. ما هذه السذاجة التي تظن أن حكومة تمثل رأسمالية متوحشة و إدارة أصولية متطرفة تسعى إلى تغيير أنظمة تسير وفق أرادتها؟ إن الإدارة الأمريكية - سواء من الجمهوريين أو من الديمقراطيين- قد درجت في النصف الثاني من القرن العشرين على تشجيع الديكتاتورية خارج أمريكا و خاصة في دول الجنوب كما ظهر جليا في أمريكا اللاتينية. و إذا كانت ثمة رغبة أمريكية في التغيير, وهذا وارد, فإنها تسعى إلى الاحتفاظ بالنظام القائم و لكن بوجوه شابة قادرة على الحركة, و معالجة بعض حالات الفساد و البيروقراطية,من أجل امتصاص الغضب في الشارع المصري مخافة أن يتحول هذا الكره للنظام إلى غضب و احتقان شاملين يؤديان إلى ثورة من شأنها أن تغير الواضع القائم تغييرا جذريا و تأتي بنظام شعبي معاد للمطامع الغربية عموما في المنطقة, و خاصة أن التجربة الإيرانية ليست ببعيد. بمعنى آخر, إن ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية, هو الاحتفاظ بجسم النظام القائم مع تغيير وجوه مرفوضة لإطالة عمره و تحاول فعل نفس الشئ مع نظام آل سعود الموالي تماما لأمريكا.
و إذا كانت الرغبة في التغيير داخلية, و إن كان الظرف القومي المتأزم لعب فيها دورا, فان السؤال الذي علينا أن نطرحه هنا كالتالي : هل سوف تؤدي حركات المطالبة بالتغيير إلى إزاحة الحزب الوطني من السلطة في المدى القصير؟ الإجابة : لا. و هل معنى ذلك أن الحركات الساعية للتغيير لم و لن تقدم شيئا؟ الإجابة كذلك لا, لأن هذه الحركات استطاعت إن تكسر حاجز الخوف, كما كان للاستيلاء على سجن الباستيل في 14 يوليو 1789 بمثابة المرحلة الأهم في الثورة الفرنسية بسبب كسره للخوف من الملك المستبد صاحب الحق الإلهي في نفوس الفرنسيين. و معنى ذلك أن انتزاع حق التظاهر و في ظل قانون الطوارئ, يمثل بداية مرحلة تغيير و إن كانت سوف تكون طويلة إلا أنها قد بدأت, و لن يوقفها شيء سوى أن يرحل المترهلون الذين تجاوزوا العمر الافتراضي مع كونهم يفتقدون الكفاءة في الحكم من الأصل. و بفضل خروج بعض المناضلين للشارع تحولت بعض أصول اللعبة من نظام يتسيد على شعبه إلى أفراد يدافعون عن أنفسهم و يتشبثون في السلطة مخافة أن يقدموا للمحاكمة على ما أساءوا لشعبهم. و سوف يسعى القائمون على السلطة إلى الهاء الجماهير بقضايا تافهة مثلما فعلوا في شغل الرأي العام بقضايا الشذوذ الجنسي و عبدة الشيطان و النساء اللائي يقتلن أزواجهن و بعض القضايا الدينية التي تصل إلى الوقيعة بين المسلمين و المسيحيين حتى يتلهى الشعب عنهم ولذا على كل وطني مستنير أن ينمي مبدأ الحرية و العقل إذ بهما ينكشف رجس هؤلاء المنافقين الدجالين عبدة السلطة الذين يتخذون من الدين و الأخلاق أداة لإلهاء الجماهير البسيطة حتى تنسى الظلم الاجتماعي الفادح الممارس ضدها. و رغم كل محاولات الإلهاء فقد صاروا يدافعون عن أنفسهم, و لتستمر حركات التغيير في الضغط حتى تكسب نقاطا أخرى و حتى يفتح الباب تماما بعد أن تمت مواربته رغم تترس هذا النظام وراءه. و يمكن عمل محكمة شعبية لمحاكمة رموز النظام في نفس وقت تترسهم خلف الباب الموارب.
د. صادق محمد نعيمي
#صادق_محمد_نعيمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟