الفاهم محمد
الحوار المتمدن-العدد: 1357 - 2005 / 10 / 24 - 10:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قليلة هي الظواهر والأحداث المؤسسة التي تدفع المجتمعات إلى الاصطدام ببديهياتها المطلقة ، فتراجع ذاتها وفقا للضرورة التاريخية وتخرج معلنة عن تشكل جديد لأناها . ظاهرة الأصولية الإسلامية هي من نوع هذه الظواهر التي جعلت العالم يقف حائرا أمامها،غير قادر على تفسير أسبابها، وبالتالي إيجاد الحلول الملائمة لها، ما عدا الحل الأمني المباشر . إن أغلب الأبحاث والمتابعات ترى أن أسباب هذه الظاهرة تعود إلى غياب الديموقراطية، وإلى الأزمة السياسية التي تعرفها الأنظمة العربية , والى فشل المشروعات التنموية والسياسية من اشتراكية وقومية وليبرالية. هذه التحليلات تقول صراحة أو ضمنيا أنه كلما كانت هناك تجربة ديموقراطية حقيقية , وتنمية متوازنة تراعي ما هو اجتماعي فان ظاهرة الأصولية ستتجه حتما إلى الذوبان والتراجع للوراء . أننا طبعا نتقاطع مع هذا التحليل ونعتبر بدورنا أن الأداء الديموقراطي الحقيقي من شأنه أن يعمل على محاصرة هذه الظاهرة، غير أن ذلك لن يكون في نظرنا كافيا لاجتثاثها من الوعي الجماعي للناس وهذه هي إحدى أطروحات هذه المقالة : إن الذي دفع بهذه الظاهرة إلى الواجهة ليس فقط الفقر والبطالة و الإختلالات الإجتماعية والإقتصادية بل القوة والجاذبية التي تمتلكها المفاهيم التي تنبني عليها الإيديولوجيا الأصولية, وهذا هو ما يشكل قدرتها الكبيرة على الإستقطاب والتأطير . وما يزيد في نجاحها هذا هو أن الدول العربية التي تعلي من شعار الحداثة، لا تمتلك منظورا حداثيا للمسألة الدينية، ربما لأن ذلك يتطلب جرأة سياسية وموقفا كبيرا حضاريا ليس في مكنة هذه الدول أن تتخذه بعد .
كيف نقارب إذن هذه الظاهرة بلغة موضوعية تبتعد عن اعتبارها كمجرد حدث عابر لا أهمية له ؟. ما السبيل لطرح المسألة الأصولية بلغة عقلانية هادئة تهدف إلى نحت مفاهيم بديلة وطرح أسئلة جريئة , وليس الإرتكان إلى اللغة العاطفية الجياشة ؟ هل المقاربة الأمنية التي يتبناها العالم الغربي برمته وليس فقط العالم العربي,والمتمثلة في المحاصرة الأمنية والتدخل العسكري كفيلة لوحدها باجتثاث هذه الظاهرة ووضع حد لها ؟ أخيرا ما معنى أن نكون حداثيين في وجه التطرف الديني ؟ .
في ضرورة البحت عن قراءة جديدة
_______________________
لقد أصبح عصرنا يضخم كثيرا في اللغة والتحليلات السياسية , إنها حاضرة في صحافتنا وإعلامنا وفكرنا , فكل ما يحدث في العالم نفهمه ونؤوله وننتقده بلغة سياسية , حتى أن المحلل السياسي احتل في عصرنا هذا المكانة التي كان يحتلها المفكر سابقا , بل أصبح هذا الأخير تابعا له إن لم يتحول هو نفسه إلى محلل سياسي .
ما الفرق إذن بين المحلل السياسي والمفكر ؟
يهتم المحلل السياسي بوجه عام بالحدث L’événement . قيام حرب معينة , غرق زورق في محيط , مقتل شخصية سياسية ما ....إن هدفه بالأساس هو إنارة الرأي العام , وإخبارهم بما يجري من وقائع في الحياة الإجتماعية أو السياسية أو الثقافية مع توضيحها قدر الإمكان والكشف عن الأسباب المباشرة التي تتحكم فيها . أما المفكر فهو يهتم بالظاهرة
Le phénomène: ظاهرة الحرب, ظاهرة الجريمة السياسية, ظاهرة الهجرة السرية... إن هدفه هو صياغة تصورات وتقديم نظريات عامة قادرة على فهم هذه الظواهر في علاقتها بالإنسان كانسان, أي ضمن إطار شمولي لا نتساءل فيه عن زيد أو عن عمرو, ولا عن هذه المجموعة البشرية أو تلك, بل عن معنى هذه الظواهر بالنسبة لمصير البشرية ككل. هناك إذن اختلافات جذرية بين مفهوم الحدث ومفهوم الظاهرة نجملها فيما يلي :
أولا :الحدث له طابع عابر لحظي وخاص , أما الظاهرة فهي تملك من السمات ما يجعلها أساسية وماهوية , كما أنها تتسع في المكان والزمان .
ثانيا :الحدث له تأثير محدود قد يزول بتدخل جهات أو فاعلين معينين , مثل حدث اختلاس أموال عمومية , حدث انقطاع طريق بفعل عوامل مناخية , حدث تأخر وصول القطار في مواعيده المحددة . أما الظاهرة فلها تأثير قوي ليس
من السهولة مقاومته والتغلب عليه , إنها تحتاج إلى مدة أطول والى تعاون عدة جهود من جهات مختلفة , مثل ظاهرة الرشوة , ظاهرة التدخين , ظاهرة الغش في امتحانات البكالوريا...
ثالثا : قد يتحكم عامل واحد أو عدة عوامل محدودة على أية حال في صناعة الحدث , كالإهمال وعدم تحمل المسؤولية أو اضطراب المناخ . أما الظاهرة فتصنعها عدة عوامل متشابكة ومتناسلة يصعب عزلها عن بعضها البعض مثل ظاهرة العولمة أو الميز العنصري أو التطرف الديني ... طبعا هناك بعض الأحداث التي لا تنطبق عليها هذه التحديدات لأنها أحداث مؤسسة مثل حدت سقوط جدار برلين , أو حدت انخرام ثقب الأوزون ...غير أن هذه الأحداث ليست معزولة وشاردة بل هي تتويج لظواهر عميقة وأساسية , وهي في هذا المثال ظاهرة البيروقراطية وديكتاتورية الحزب الواحد , وظاهرة التلوث الناتجة عن التقدم الصناعي المهول .
طبقا لهذه الإعتبارات يبدو من البديهي أن تكون اللغة السياسية ملائمة للأحداث , أما الظواهر فهي من اختصاص المفكرين والمشتغلين بحرفة السؤال والمفهوم . حينما يتحول المفكر إلى محلل سياسي يصبح الفكر مجرد تعليقات ومتابعات Commentaires وفي أسوء الحالات طرائف وغرائب , وعوض أن يثير فينا ما حدث الرغبة في اتخاذ موقف أو تبني وجهة نظر ، نصير مجرد منفعلين ، مشدوهين ، حيارى إزاء ما نسمع أو نشاهد . إن تضخم القراءة السياسية , هذا التضخم الذي ساعد عليه انتشار القنوات الفضائية ورغبتها في تقديم تحاليل تضمن بها أكبر قدر من المشاهدين , يحد من عملية تفحص الفكر لمواضيعه وأدوات اشتغاله وطرحه لها على وجه آخر من الإعتبار , وهذا هو ما يجعل في نهاية المطاف الحقيقة نفسها ضحلة لا تشبع نهم العقل في التفكير والمساءلة .
لهذه الأسباب نقول إن المسألة الأصولية ـ إلى جانب العديد من القضايا الأساسية للإنسان العربي ـ لم تطرح بعد بما تستحقه من جرأة السؤال والمواجهة الفكرية العنيدة , ونحن هنا نعتبرها ظاهرة أساسية وليست مجرد حدث عابر , إنها عبارة عن مشكلة ثقافية عميقة تتعلق بفهم وقراءة وتأويل التراث العربي الإسلامي , لذلك فالصراع معها لا بد أن يكون أساسا على مستوى الوعي والقراءة الحداثية المتفتحة واليقظة . أي أنه لابد من تفكيك المفاهيم التي تقوم عليها الإيديولوجيا الأصولية مثل مفهوم الجهاد , حاكمية الله , دار الإسلام ودار الحرب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...وتوضيح أنها كلها مفاهيم قد بلغت سقفها التاريخي وما عاد بالإمكان تحيينها حذافيريا في عالم الحداثة , هذا العالم الذي بدأت تغادره جميع الخطابات الشمولية .
الأصولية آخر الحكايات الكبرى
____________________
تدخل الأصولية الإسلامية كخطاب وكممارسة ضمن ما كان يسميه جان فرانسوا ليوطار بالحكايات الكبرى مثل الماركسية ,الليبرالية ,الميتافيزيقا...1 هذه الخطابات التي اعتقدت في مرحلة تاريخية معينة، أنها بإمكانها أن تقدم تصورا نهائيا عن التاريخ و الإنسان و الحقيقة . وهنا نلاحظ أن الأصولية بدورها تقدم نفسها اليوم كخطاب يحمل الخلاص للإنسان على جميع المستويات سواء الروحية أو الاقتصادية أو المعرفية ... فالفكر الأصولي يقدم نفسه مثل عقيدة غير قابلة للزيادة أو النقصان، إنه لم يدرك بعد القيم التي يتأسس عليها عصرنا مثل الحرية ,الإختلاف , التعددية , التسامح , التعايش ,الديموقراطية , نسبية الحقيقة ...هذه القيم التي أنتجها عصر التنوير والتي ما زلنا نعيش في ظلها اليوم . لذلك فهو يعيش في زمان غير زماننا , معتقدا أن الحقيقة اكتملت في فترة تاريخية معينة وما علينا سوى الرجوع إليها لحل مشاكل الحاضر .
ولكن هل يمكن أن يكون الماضي هو كمال الحاضر ؟
إننا لا نحتاج إلى أن نذكر هنا بالإلزامية التي يفرضها الراهن ، سواء كواقع معيش يشدنا إليه في تفاصيله اليومية , أو كوضع فكري وكسؤال لا يمكننا إلا أن نواجهه بشجاعة، بدل الفرار للعيش في أحضان لحظة فردوسية متوهمة. نشير هنا إلى ثلاثة ملاحظات تبدو في غاية الأهمية .
أولا: الماضي نفسه مسكون بالتعدد والإختلاف , تطبعه جروح لم تلتئم بعد إلى يومنا هذا : الفتنة الكبرى , مقتل الخلفاء الراشدين , المشاكل المرتبطة بالتدوين وجمع القرآن , التاريخ الدموي بين الأمويين والعباسيين ...
ثانيا : الوعي بالزمان يعني بالضرورة الوعي بالتغير والحركية والإنفصال , الوعي بأن الإنسان يولد داخل زمانية معينة , لا يستطيع أن يعرف نفسه بعيدا عنها . هذا هو معنى الوجود ـ في العالم الذي حدتنا عنه هيدغر ومن بعده سارتر , إذ ليس في مقدورنا التخلص من الحاضر بجرة قلم , بل إن رفض الحاضر يتم داخل الحاضر نفسه . إن الحنين المرضي للماضي تبعا للتحليل النفسي لا يصنع سوى الهزيمة في الحاضر .
ثالثا : الإنفصال عن الماضي يقتضي الإبداع في الحاضر، والتخلص من الإستنساخ الأعمى للسلوك والمواقف والنقل الحذافيري للنصوص . نقول الإبداع وليس الإجتهاد لأن الأول يعني الخلق على غير مثال سابق ، أما الثاني فهو مفهوم يظل محكوما بشروط الفكر القروسطوي من أقيسة وحدود ومفاهيم . إن مسألة الإبداع هذه ضرورية لتثوير القوالب الجاهزة , وتفكيك الأبنية العتيقة , كما أنها تتطلب قدرا من الشجاعة للذهاب بعيدا أكثر مما يتيحه ظاهر النص .
إننا هنا لا ندعو طبعا إلى إهمال الماضي وطرحه جانبا، وإنما نريد الإشارة إلى أن الماضي نفسه ينبغي أن يكون في خدمة الحاضر وليس العكس . لا أحد يولد من عدم , فالكائن البشري هو نتاج تاريخ يمنحه كيانا وهوية معينة. غير أن الزمان يتجاوز ذاته محتفظا في نفس الوقت بالعناصر الأساسية من الماضي , انه يتجاوز ويقصي في الآن معا
تنضاف إذن الأصولية إلى الحكايات الكبرى التي أنتجها عصرنا هذا , مدعية تقديم خطاب شمولي
Totalitaire حول الإنسان والحقيقة والوجود العام . لذلك فحل هذه المعضلة لا يمكن أن يكون هو فقط الجانب الأمني إذ أن الأمر هو أعقد من ذلك بكثير ، فالأصولي مازال يعيش في عالم ذهني لم تصنعه الثورات الأساسية التي شكلت عصرنا : الثورة الفيزيائية والنجمية التي أطاحت بمركزية الأرض , بحيث أصبحت مجرد حبة رمل في شاطئ كوني لا متناهي . والثورة البيولوجية التي مكنت الإنسان اليوم من التأثير المباشر في سلسلة التطور . تم كذلك الثورة المعلوماتية التي تتجه اليوم إلى إعادة التفكير في مفهوم الذكاء والعقل نفسه ، وذلك ما دام أن هذه الثورة تسير اليوم باتجاه خلق ذكاء اصطناعي قد يتجاوز ذكاء الإنسان أيضا .
إن الأصولي مازال يعيش وكأن الأندلس لم تسقط بعد ، والخلافة الإسلامية ما زالت قائمة نرفل في عزها ونعيمها , وجيش الإسلام يقف بحوافر خيوله على أبواب الإنتصار . بطريقة أخرى نريد أن نقول إن ظاهرة الأصولية في الوطن العربي هي تعبير عن مشكلة ثقافية أساسا , تضرب بجذورها في الأعماق التاريخية للتراث العربي الإسلامي ,وبالتالي فهي مشكلة ينبغي أن تحل أولا وقبل كل شيء عن طريق تأسيس قراءة جديدة لهذا التراث ، وترسيخ مفاهيم بديلة لتلك التي يقوم عليها الخطاب الأصولي عن طريق التربية والتعليم . ولربما أهم قيمة ينبني عليها الوعي بالحداثة ، تكمن في الإيمان بنسبية الحقيقة , والقلق , والتوتر الناتج عن الإحساس بللا طمأنينة اتجاه التحولات التي يعرفها الوجود العام .
إن قدر إنسان عصر الحداثة هو أن يترنح جيئة وذهابا بين الحضور والغياب ، المعنى واللا معنى ، العقل واللاعقل … يكمن توتر الإنسان المعاصر في هذا الوعي التعيس باللاموقع ،لأنه لأول مرة في تاريخ الإنسانية يجد الإنسان نفسه عاجزا عن احتلال مكان ما والدفاع عنه باطمئنان، سواء كهوية أو كمبدأ أو حتى كشعار، عالم الحداثة هو عالم اللامكان ، حيث كل شيء محكوم عليه أن ينفلت منا . إنها الميزة العامة للإنسان المعاصر وهو أن كل ما يقوم به ينقلب ضده ،أي أن الفعل الإنساني يذهب كي يتحول إلى ما يهدد الوجود الإنساني , هذا الأمر يحدث في الغرب كما في الشرق سواء . ففي الغرب نعت ألفن توفلر الظاهرة بصدمة الحداثة ، حيث يقف الإنسان الغربي بعد قرون من عناء البناء والتشييد غريبا أمام هذا العالم الذي بناه بنفسه والذي أضحى يتجاوزه . أما بالنسبة للإنسان العربي فالأمر أسوأ بكثير، إنه مضطر إلى التعايش مع عالم غريب عن قيمه ، بل عالم مستفز له ومهدد لكيانه التاريخي والثقافي . ولكن بين هذا وذاك هل ثمة من إمكانية للهروب من الأسئلة المقلقة للحداثة ؟ . أي هل ثمة إمكانية للعثور على موقع في عالم اللاموقع ؟ . لقد انطلق الغرب من الوعي بالحداثة وهاهو يصل إلى صدمة الحداثة ، أما الخطاب الأصولي فهو ينطلق مما انتهى إليه الغرب، أي من صدمة الحداثة عساه يرفع هذه الصدمة إلى مستوى الوعي والسؤال ، ولكن سواء هنا أو هناك يبرز الشرط الأخلاقي الوحيد للحداثة ، والذي علينا أن نعيشه باعتباره شرط وجودنا ألا وهو إفراطنا في حب الوجود كما كان يقول نيتشة ، هذا الحب المعذب بالسؤال .لأن:"التعايش مع يأس مدجن أفضل من الإستمتاع بآمال غير أكيدة "كما قال دار يوش شايغان 2. إن هذا معناه أن صدمة الحداثة التي نعيشها اليوم هي شرط الوعي بالحداثة .
الأصولية و الأزمة الأخلاقية للحداثة
_______________________
تعرف الحداثة في العقود المتأخرة أزمة بنيوية كبيرة على جميع الأصعدة: سياسيا تجلت أولا في فشل الشعارات البراقة للقرن الثامن عشر، مثل محو الفقر على المستوى العالمي , التقريب بين دول الشمال ودول الجنوب ,القضاء على الفوارق الطبقية ... وثانيا سقوط جميع الخطابات الإيديولوجية التي كانت تبشر بحمل الخلاص للبشرية، سواء كانت ليبرالية أو اشتراكية . علميا وتقنيا اتخذت الأزمة طابعا دراماتيكيا، حينما انقلبت وظيفة العلم المتمثلة في تحقيق التقدم إلى وسيلة لتخريب الطبيعة والقضاء على الحياة . لكن أكبر الأزمات حضورا وتمثلا من طرف غالبة الناس هي الأزمة الأخلاقية , إذ حتى الإنسان الذي لم يتلق أي حظ من التعليم، يستشعر أن هناك تراجعا صارخا على مستوى القيم والمبادئ , فتفكك الأسرة والنظام الاجتماعي , إضافة إلى اضمحلال الهوية وظهور العنصرية الثقافية أو الدينية , ثم الحركية الاجتماعية العالمية، التي ما إن تدفع بسلوكيات وأنماط عيش معينة حتى تتجاوزها بعد فترة وجيزة . كل ذلك جعل السلوك الأخلاقي حبيس تناقضات عنيفة، وتوترات قوية، بين واقع أصبح يتجاوز الإنسان ويدوس عليه , ومبادئ تتراجع إلى الوراء وتضمحل أمام هجوم صدمة الحداثة . لقد حاولت هذه الأخيرة أن تتجاوز الحياة الأخلاقية الدينية بإحلال إيتيقا Une Etique من نوع خاص يتوهم الفرد أنه صانعها لكنها في الحقيقة من صنع دور الأزياء العالمية والشركات العابرة للقارات التي تقرر فيما ينبغي أن يأكله ويلبسه ويسمعه سكان العالم .
على مستوى السلوكيات والطقوس الإجتماعية ورؤى العالم يمكن تشخيص هذه الأزمة ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ كما يلي :
ـ القلق النفسي وعدم الإستقرار في اتجاه معين
ـ الخوف الدائم من المستقبل وضعف الإطمئنان لما يمكن أن يحمله
ـ الفراغ الروحي الهائل وتراجع المثل العليا كالصدق والوفاء والمحبة ...
ـ طغيان أخلاق القوة حتى أن العنف في الثقافة والسياسة والمجتمع بشكل عام .
ـ تراجع الهالة السحرية والقدسية للطبيعة بفعل تقدم العلم وهيمنة المنظور التقني .
ـ تراجع المجتمع العضوي القائم على العلاقات الإجتماعية التقليدية لصالح المجتمع المؤسساتي الدي تحكمه القوانين الموضوعية
أمام هذه الأزمة تقدم الأصولية نفسها اليوم كبديل شرعي لحل التناقضات الأخلاقية التي تتحرك فيها الحداثة , فهي تعتقد أنها تمتلك نظاما من المبادئ والقيم قادر على تجاوز المأزق الحضاري الذي وصلت إليه الحداثة الغربية . يحق لنا إذن أن نتساءل الآن هل بإمكان الأصولية الإسلامية أن تسد الفراغ الأخلاقي الذي تركته الحداثة ؟ إلى أي حد يمكن القول بأن النظام الأخلاقي الموروث عن القرون الوسطى كفيل بأن يشكل للإنسان اليوم دعامة أخلاقية قوية للعيش باطمئنان ؟ ما معنى أن نكون أخلاقيين في زمن الثورات الكونية الأساسية التي تدفعنا إلى إعادة تعريف الكائن والحقيقة ؟ .
تجدر الإشارة أولا إلى ظاهرة مهمة يعرفها الخطاب الأصولي ، ألا وهي تضخم اللغة الأخلاقية , فهي عندهم المدخل الذي ينبغي أن تبدأ به كل مسألة والنتيجة التي ينتهي إليها كذلك . هكذا يصاغ الحديث في الإقتصاد والسياسة والمعرفة بلغة أخلاقية أساسا , وما يبدو أنه قابل للنقد هو أن الأخلاق التي يتحدث عنها الخطاب الأصولي لا يتناولها من جانب " الحكمة العملية " التي ينبغي للإنسان أن يتدبرها لمواجهة وقائع الحياة ومستجدياتها , بل هو يتناولها من جهة تلك المنظومة المتعالية من الوصايا والقيم التي يكفي للإنسان أن يتزود بها في خضوع وامتثال مطلق حتى يعيش في اطمئنان مع ذاته . وبطريقة أخرى يتعلق الأمر بأخلاق طهرا نية تستلهم سلوكيات كائنات نبوية في اللباس والحديث والمواقف ... كذخيرة وسلاح في وجه الضغط الذي تفرضه الإكراهات المادية للحداثة , هذه الإكراهات التي تخلق حالة من التشوهات الشيزوفينية بين الألق الأخلاقي الطهراني الذي تشع به تلك النماذج النبوية والحاجات والإلزامات التي يفرضها منطق الحداثة وقوة الأشياء . لا يتعلق الأمر إذن بكيف نكون متخلقين وأناسا طيبين . بل كيف نفهم ونمارس كينونتنا الآن وهنا , كيف نجيب على الأسئلة التي تطرحها علينا الثورات العلمية الثلاثة . إن الأصولي غير قادر على تحمل الحياة بعنفوانها, بثرائها وتناقضاتها ,لذلك فهو يبحث عن ملجأ آمن يطمئن فيه ذهنه من التحولات المقلقة للحداثة ,وهذا الملجأ هو النموذج الأخلاقي المبني على قاعدة صارمة من الأوامر والنواهي . غير أن استفزاز الحداثة ليس له حدود ,وهذا هو ما يجعل الأصولي في نهاية المطاف بعد أن استشعر الخطر الذي يتهدد نموذجه الأخلاقي يتحول كي يصبح قاضيا يصدر الفتاوى /الأحكام لتكفير وتبديع كل مخترع ومبتكر من مبتكرات الحداثة ,وإهدار دم كل من يجد في هكذا أمور مجالا للفعل ووسيلة للتقدم وتحسين شروط العيش .هكذا يتقمص الأصولي خفية بقصد أو بدونه نموذج الكائنات النبوية ,غير أن ما لا يعيه حتما هو أن الشعور بالعصمة أو بالتعالي لا يساهم ألا في تدهور الدين نفسه , أو بشكل أدق تدهور الحياة الروحية العميقة التي نادى بها الإسلام . لقد أكد هذا الأخير ضرورة المرور إلى الفعل
فما دام الإسلام ديانة تدمج في الآن معا البعد الروحي والبعد الزمني فهذا أكبر دليل على أن الإسلام لا يمكن أن يختزل في مجموع التعاليم والعقائد الثابتة , بل لا بد أن يكون هناك بعد آخر مرتبط بالتاريخ ومحايث للتجربة الإنسانية وغير متعال عليها . بعد يكون الإنسان هو فاعله ومبدعه ومنتقده في الآن معا .
إن الايتيقا التي نتحدث عنها هنا هي عبارة عن أخلاق مرتبطة أساسا بالحركية التي يعرفها التاريخ سواء في المجال العلمي أو الإقتصادي أوالسياسي أو غيره .هكذا لم يعد الأمر مرتبطا بمجموعة من المبادئ القبلية والمتعالية السابقة على التجربة , بل بالعكس كل ما يتعلمه الإنسان اليوم عن الخير والشر والقيم والفضائل العليا يتعلمه أساسا انطلاقا من مجال الفعل , أي من مجال التجربة البشرية ذاتها , وهذا هو ما يزعج الخطاب الأصولي الذي يريد أن يتحصن بأخلاق فوقية , أخلاق بدون إنسان , غير أن الحداثة ماضية في جموح متواصل نحو المستقبل غير آبهة بمن يريدون البقاء خارجها , وهي متأكدة مع ذلك أن سيلها الجارف لا بد أن يجر معه الجميع في نهاية المطاف , يبقى فقط الإشارة إلى إن هناك من يعيش وفقا للضرورة التاريخية , فيعرف كيف يحيى توتر الحقيقة وقلق الوجود , وهناك آخرون يتعلمون ـ ربما؟ّ . ولكن ببطء بعد أن يكونوا قد ملئوا العالم بالأحزان والمآسي ,وتلك هي حال الإنسان العربي الذي اعتاد أن يأتي دائما متأخرا بالنسبة للحقيقة وتلك هي محنته
المراجع
______
1ـ جان فرانسوا ليوطار: الوضع ما بعد الحداثي ـ ترجمة إحسان عباس دار شرقيات 1994
2ـ دار يوش شايغان:طبعة دار الساقي ـ النفس المبتورة1991 ص22
#الفاهم_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟