(دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس الروحي)
********************************************************************************
شريعة الحب(*) كما أتبنى الدعوة لها هنا هي شريعة العقل المنفتح بالحب.
والعقل الذي لا يلتحم بالواقع، ترف زائد عن حاجة مرحلة تشهد تحولات جذرية على مستويات حياتنا الجمعية الراهنة والمقبلة، وعلى مفاهيمنا التراثية التي لا تنفك عن ممارسة تأثيراتها على الحاضر.
العقل هو الوعي الشخصي بالعالم. وفي خطوة تالية، هو تصور فردي مقترح للعالم. يبدأ تكوين العقل من التحامه المباشر، عن طريق القوى الإدراكية، بالعالم الواقع فينا وحولنا. ويستمر تكوين العقل بوحدة معطيات الواقع المدركة مع أداة التعقل ينتج تصور مقترح للعالم الذي يقع الفرد داخله. إن العقل الملتحم مع الواقع لا يقع في فرد هو خارج العالم. العقل الذي يوجد داخلي هو جزء من العالم الذي يقع خارجي. وتصوري للعالم ينقل العالم إلى داخلي. الفرد يتعامل مع العالم الذي يعرفه، الذي يعاني تجربة التوحد معه. العقل لا يستطيع أن يتعامل مع عالم غير واقعي، حتى ولا في الحالات التي لا يمكن العثور فيها على المعادل الموضوعي للصورة التي يتخيلها العقل. إن قصة عروس البحر، مثلاً، لا يمكن أن نعثر على معادلها الموضوعي ككائن يتحرك خارجياً وله وجوده الكامل. المعادل الموضوعي لهذه القصة موجود في قوة التخيل المحددة مادياً بدماغنا. أما في العالم الخارجي، فإنها موجودة في الأحداث التي رسمتها والتي صدرت من آخرين قاموا بإدخالها في عقولنا.
باستنتاجات محددة…
1-التعامل مع العالم الخارجي هو تعامل عقلي بكل مستويات العقل.
2-تعقل العالم لا يتم إلا بي، بحضوري فيه، أي بحضوري في الواقع، كما هو الواقع.
3-تعقل العالم، أو الحضور فيه، هو أداء وجودي واحدي.
4-الواحدية العقلية التي نحاول الاقتراب منها هنا، هى واحدية الفرد مع العالم بأداة العقل، وهى تفاعل الفرد مع وقائع العالم بأداة العالم
5-إن التحام الفرد بالواقع، التحاماً عقلياً واحدياً، هو الأساس النظري لإلتحام الفرد، بكل قواه الوجودية، مع العالم بكل حقائقه الواقعية. وذلك، لأن منطق العقل الواحدي، لا يقبل قسمة الوجود الفردي إلى عقل وإلى ممارسة حركية (ما يسمى بالمادية مقابل الروحية) لأن العقل في تكوينه العضوي وفي تكوينه التصوري لم يكن، ولن يكون، منفصلاً عما يعرف بالعالم المادي الذي يعتقد كثيرون منا أنه يقف مستقلاً إزاء العقل.
6-هذه الرؤية التي توحد العقلي بـ"الواقعي" أو الفردي بالعالم كما هو واقع، تنتقد رؤية أخرى لا تسلم بهذا التوحد وتنتقد ما ينبني على الرؤية غير الواحدية التي تسمح بتكوين عقائد ثنائية أو أكثر.
7-العقل كما نتصوره، هو أداة التعاطي مع العالم. وكل ما لا يستوعبه العقل، لا نملك أن نتحدث عن وجوده، وبالتالي،لا يجب أن ننشغل به. أو يجب أن لا نسمح له بأن يعيق انشغالنا بالحياة كما هي ثابتة لدينا.
8-العقل هو الأرض المشتركة التي يجب أن نتحاور على قاعدتها لنحل مشاكلنا الجمعية والفردية. وأنا أميل إلى أن العقل بصورته الواحدية(النورانية: نورانية الحرية) هو القاعدة الأنسب لحل مشاكلنا الفردية والجمعية.
9-إن مشاكلنا، على المستوى الفردي، والمستوى الجمعي، هي نتائج، أو وقائع، مصاحبة لحالة انشطار يصيب بناء الفرد وبناء الجماعة، لدينا.
إن من يتردد عن الإعلان عن موقف يعتقد أنه ألحق، خوفاً أو نفاقاً، هو، في الواقع، يصور مشكلة الانشطار تصويراً دقيقاً. إنه انشطار الذات بين الأداء؛ بين الداخل بالنسبة للشخص، وبين الخارجي؛ بين الفردي وبين الجمعي؛ بين الحق والباطل.
ومن يعتقد أنه يمتلك الحقيقة الكاملة، يصور أيضاً مشكلة الإنشطار تصويراً دقيقاً. الحقيقة الكاملة لا توجد في فرد. الحقيقة الكاملة توجد في كل مفردات الوجود. وأنا عندما أعيش بعقيدة أنني أمتلك الحقيقة الكاملة، فإن هذا حكم أصدره على الآخرين بأنهم غير موجودين، والحقيقة غير ذلك. العقل الذي لا يتكون إلا بالعلاقة مع الآخرين، أناساً، أو أية كائنات حية أو غير حية، هذا العقل يقدم دليلاً منافياً لحكمي على الآخرين بعدم الوجود. وعندما أعيش في العالم بعقيدة أنني أنا الموجود الحقيقي فيه، فإن أول خروج من إطار عقيدتي إلى إطار العالم الحي المتحرك الصاخب بحقائقه، سيشكل لي صدمة، سيسبب لي صدعاً، سيجعل مني أشلاءا.
إعتقادي أنني أملك الحقيقة وحدي هو سجن لي وحدي لكن العالم سيمضي.. يتركني ويمضي.. الحقيقة موجودة داخلي وخارجي. والحقيقة تنمو؛ إنها تنمو بعلاقة حميمة داخلي وخارجي. إن الحياة تنمو مع نمو الحقيقة، أو، تنمو بها. إن نمو الحياة هو نمو الحقيقة. هذا النمو للحياة، للحقيقة، لا يكون، كما أتصور، إلا على قاعدة رؤية واحدية (نورانية) تمنحني سلاحاً نظرياً لمعالجة مشكلة الإنشطار التي هي، لديّ، أهم وأبرز مشكلات واقعنا العربي، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجمعي.
أشد مستوياتنا تخلفاً تستخدم أرقى مبتكرات العقل البشري: تستخدم الكمبيوتر، لكن بعقلية تنتجها قيم حضارية جرى تشكيلها في الماضي، وفي مناخ حضاري مباين للمناخ الحضاري الذي ابتكر وسائل التمدن المعاصر. إن الآلة لا تنفصل عن القيم السلوكية لشخص يستعملها. إذا كان الكمبيوتر يصلح لحل مشاكلنا المادية بكفاءة عالية، فإن تمثل الفرد لقيم سلوكية ما زالت دون مستوى القيم التي يتطلبها مستوى المدينة التي أبدعت الكمبيوتر، هذا التمثل، سيعطي نموذجاً إنسانياً مقسوماً على ذاته بين الحاضر، وبين الماضي، الحاضر الذي تهيمن عليه قيم أخرى أنتجتها ثقافة أخرى، والماضي الذي لا يزال محكوماً بقيم تراث تكون بعوامل زمانية ومكانية مختلفة.
لكل ثقافة، أو حضارة، معاييرها السلوكية الحاكمة. من معاييرنا التحكمية معيار القبيلة الذي ما زال ينحاز للقريب لمجرد علاقة القرابة. وليس شرطاً أن تكون القرابة عصبية. فقد تل القرابة الظرفية العابرة محل القرابة العصبية. هذه القرابة تتدخل لعرقلة توجه صحيح في التعامل مع مسالة تتعلق بمصلحة الجماعة، فتسند مثلاً، وظيفة إدارة مؤسسة كمبيوتر إلى شخص تنحصر أهليته في أنه "قريب". هذا القريب، عليه أن يرد "جميل" أقربائه. تعيين هذا القريب، وتفضيله لأقربائه في إطار وظيفته، يحدث تعميقاً لمفهوم القبلية المبنى على القرابة العصبية، أو الظرفية، أو المصلحية، وهو مفهوم قديم سابق تطورياً على مفهوم الأمة، أو الدولة التي يستوي فيها المواطنون جميعاً في الحقوق والواجبات.
عودتنا إلى مفهوم القبيلة يشطر الفرد الحاضر بين حاضره المتمثل في الدولة ككيان جمعي، والقبيلة ككيان تراثي نشأ في ظرف، أو ظروف مغايرة لتلك التي انتجت الكمبيوتر.
الظروف التي انتجت الكمبيوتر، انتجته في معيّة زمانية مع تنامي قيم سلوكية حضارية تصاحب، مصاحبة عضوية، مصاحبة واحدية، عمليات التنامي التقني في اتجاه انتاج الكميوتر.
نحن منقسمون بين تراثنا وبين الحاضر. ولدينا، في بعض البلاد، تشريعات تمنع استخدام أطباق استقبال البث التلفزيوني التي تسمح للمشاهد أن يتابع برامج تلفزيونات أخرى غير تلفزيون بلاده.
ومع وجود هذه التشريعات، فإن انتشار اطباق استقبال البث التلفزيوني الخارجي في هذه الدولة (القبلية) أكبر من انتشارها في الدول التي تنتجها. وأستطيع أن أخمن، أن الذي أصدر هذا التشريع، "يتمتع" بجهاز استقبال عالي الكفاءة. واستطيع أن أخمن أيضاً، أنه يحارب على جبهته الداخلية، في دائرته العائلية، ليمنع بناته من متابعة عروض تتنافى مع القيم الحضارية العربية التراثية.
والصراع ليس بين أب وبناته، إنه مشتعل بينه وبين نفسه إنه منشق على ذاته، بعضه محكوم بالتراث، وبعضه منساق للتمتع بالمنتجات التقنية المعاصرة. صوت فيه يصرخ بعنف يقول هذا "عيب"؛ ولديه رغبة ملحة لأن يقتنص لحظة متعة غير بريئة بمفاهيم تترك له مجالاً للتوبة، واداء الحج الذي سيمحو كل الخطايا.
الانشطار أصبح ظاهرة واضحة منذ الاتصال المبكر بين العالم العربي والعالم الغربي في إطار حركة الاستعمار التي كشفت عن انحباس الذات العربية الجمعية في تاريخها المنتمي للماضي، وانحباسها دون حقائق العالم التي تنامت في أوروبا. وقد تطلع العرب، ومنذ قرنين لإنجاز مشروع نهوضي قومي. ولم يتم ذلك حتى الآن. وما زلنا نبحث عن مشروع نحقق به نهوضنا المدني.
أثبتت معركتنا مع الاستعمار الغربي أن أسلحتنا لم تعد صالحة إنها صدئة. لقد أصاب الصدأ عقولنا، أصاب إرادتنا. أن الصدأ علامة رحلة في اتجاه الموت. والموت هو انفكاك الارتباط على المستوى الخارجي، أي بين الكائن وبين عالمه؛ وعلى المستوى الشخصي، فينفك الجسد بعضه عن بعض. الموت هو جمود الكائن عن ممارسة فاعليته وصيرورته موضوعاً مفعولاً به. حضارياً، نحن
نعيش في حالة المفعولية. المنهج النهضوي هو المنهج القادر على أن ينقلنا من حالة الفاعلية.
الفاعلية نشاط كائن حي مقدام. الحياة نسق من عوامل كثيرة، لكنه نسق واحد. حياة الكائن الحي هي فاعليته ككائن واحد، وهي فاعليته ككائن متوحد، أيضا، مع عالمه، على المستويين القومي والإنساني.
كلما اشتدت فاعلية الإنسان، كلما تقدمنا نحو واحدية أكبر وأعمق. الإنسان الغربي، اعني المتقدم تقنياً، يمارس فاعليته بشدة اكبر، وجوده يتوسع أكبر واعمق، وإشارتنا إلى العالم ذي القطب الواحد، هو دليل على أن شدة الفاعلية تساوي تقدم العالم نحو الواحدية. الولايات المتحدة الأمريكية هي الشد فاعلية الآن، وهي التي تفرض، أو تسعى لأن تفرض على العالم نظاماً واحدياً، لكنه واحدي على طريقتها.
الفاعلية هي شرط إنجاز النهضة. النهضة فعل قيام مقدام. ورياح الفاعلية لا تنتقل من حضارة إلى اخرى إلا وفق شروط معينة، أهم هذه الشروط أن تكون طبيعة الفاعلية طبيعة سلامية، أن تكون مؤسسة على قيم الحب والعدل والسلام. القيم التي صاحبت تنامي الفاعلية التي تهب رياحها من الغرب، قيم لم تؤسس على الحب والعدل والسلام. لقد كانت أداتها روح تنافس بصورة تسمح بتضخيم الأنوات الإنسانية الفردية والجمعية. هذه طبيعة لها نتجت عن جذور حضارية فردية، جذورنا الحضارية التي أعطت المدينة الراهنة المسطرة. علاقتنا بالحضارة الراهنة علامة نفور على مستوى الأعماق، ولكنها علاقة اندهاش، أو انفعال، على مستوى السطح.
المنتج الحضاري الغربي يتحدى أعماقنا، هو إنتاج حركة الفاعلية العقلية. نحن الآن نعيش دائرة المفعولية للفاعلية التي تهب رياحها من الغرب، وللفاعلية التي تمتد من تراثنا.
فاعليتان تبث الآن بنا. الفاعليتان، بالطريقة التي نتعامل بهما تشطراننا. المشطور مفعول، المفعول لا ينجز مشروعاً نهضوياً.
الواحد، المتوحد، المتصالح مع ذاته، مع زمانه، المتصالح المتوحد هو القادر على أن يفعل.
لقد ورثنا مفاهيم تعرقل التطلع إلى إنجاز مشروع نهضوي. ورثنا مفهوم المخلوقية {=المفعولية}،وهو مفهوم ينتج من قراءة دقيقة لكتاب تأسيس الوجود الحضاري العربي، الذي هو أهم مكونات التراث العربي. القراءة الدقيقة له تقول إن الإنسان فاعل. الإنسان في مفهوم القرآن الكريم عابد، والإسلام رفض رفضاً حاسماً الاقتراب من فكرة الإنسان المعبود {أي المفعول}. والقرآن الكريم لم يتحدث عن إنسان مخلوق، أي إنسان مفعول، تحدث عن خلق، أي، تحدث عن فعل لفاعل. وفعل الفاعل مشحون بفاعلية خالقيته. والخالق واحد، وفعله مشحون بواحديته.
الواحدية {النورانية: نورانية الحرية الواحدية} التي نؤمن بها، لها جذورها العميقة، والمتميزة عن الواحدية التي تحملها لنا الرياح القادمة من الغرب.
وفيا تبقى، فإن حديثي سيكون عن الواحدية (النورانية) التي ترس معالم مشروع نهضوي، فاعل، أساسه الحب… فالحب شريعة الواحدية {النورانية =الحرية النورانية}.
وكلما تجددت مصافحة الأرض للشمس، فإن الحب، واثقاً صريحاً، يعلن إني أنا القانون، أنا الأساس، أنا أزاهيركم وماؤكم وخبزكم وصلواتكم.. انا فاعل الأم، فاعل بناتها وأبنائها… أنا خالق الهزة أنا الهزات أنا سعيكم في النهار والليل أنا أحلامكم في الصحو والنوم…
قال: الشيخ الصوفي الواحدي الكبير ابن عربي في "ترجمان الأشواق"
"أدين بدين الحب أنيّ توجهت ركائبه
"فالحب ديني وإيماني"
الحب يبدع عالماً واحدياً (حراً نورانياً). لولا الحب ما كان اجتماع. وكل اجتماع هو تحقيق لمبدأ الواحدية.
الحب يبدع عالم السلام. ولا يقوم اجتماع إلا في رحاب السلام، والسلام لا ينمو في كنف العدوان.. لنصنع السلام. لنصنعه بالحب.. إن من لا يحب لا يصنع السلام. السلام هو القيمة الجماعية الأعلى.
إن الله حب وسلام والجنة داء الحب والسلام ودين الله دين الحب والسلام. الحب يجعل الكثيرين كياناً واحداً (نورانياً)… وفي حرية مداها السماوات والأرض، والأزل والأبد.. ساح أريج الكينونة، فارتشفته أم وأب، وأبدع الخالق خلقاً غضاً طرياً… بالحرية (النورانية) يجئ... بالحب يجئ… أم وأب وشمس وماء وهواء.. في مكان في زمان.. في ثوب عرس نسجت أياد كثيرة خيوط حريره.. على ترانيم الأحلام، وفي ضحى الشوق وفي هدأة الليالي ومع ابتسامات القمر… تتوحد العوامل الكثيرة القديمة فيلد واحداً لا ينقسم.. يتفتح الوجود عن سمر وعن سنابل.. عن قصيدة شعر كلماتها كثيرة، صورها كثيرة… قصيدة بديعة، رقصة طروب… فيها تهتز اعضاء كثيرة هزا، جميلاً، تبعث جماليتها، من سكونها فيلتقي الجمال بالجمال… بالحب والحرية (النورانية) يلتقي الجمال بالجمال، ليبدع واحداً، ليبدع خلقاً واحداً يجدد فاعلية الفاعل المطلق، ليتأكد من جديد، أن الصفة التي تصف الخالق، هي صفة الفاعل.
إن صفة الفاعل تأتي من واقعات أفعاله. إن لم يفعل أحدنا أفعالاً، هل يوصف بأنه فاعل؟! الفاعل هو من يفعل الخالق الواحد. الخالق الواحد يفعل كثيراً، يفعل خلقاً كثيراً. كان يفعل، وهو يفعل، وسيفعل، سوف يواصل الفعل، لن يتوقف، لم يتوقف. لو أن الفاعل الأكبر يتوقف عن الفعل، لأمكن تصوره محدوداً. الفاعل الأكبر يملأ مقولة الوجود ملئ كاملاً. الوجود فاعل، الفاعل الأكبر هو الوجود المطلق الذي لا يسمح لغير ما هو وجود أن يوجد. لا شئ في الوجود غير موجود وصفة الوجود لا تنفك عنه هي صفة الفاعلية.
الفاعلية هي الحرية. الفاعلية تخلق وجودنا. الفاعلية تخلقنا بالحرية. نحن إبداع الحرية. ومن يجور على حرية الإنسان، يعتدي على وجوده، يعتدي على حقه الأصيل في الوجود الأصيل.
الوجود الأصيل وجود واحد. الكون نور، يقول العلم: المادة ضوء. ويقول القرآن الكريم: الله نور السموات والأرض ولأن الوجود الأصيل وجود واحد فاعل فعلاً متواصلاً، فلا بد أن يحقق ذاته تحقيقاً متواصلاً. إنه يحقق ذاته، من ذاته، وذاته واحدية، وهو يحقق ذاته في كل واحد. كل فرد منا واحد، خلقه الواحد.
العوامل الكثيرة التي تشترك في خلق ولادة جديدة، تفقد كثرتها في اللحظة التي تلتقي فيها معاً، وفي كيان واحد لا ينقسم. الولادة الجديدة هي ولادة واحد لا تنقسم كينونته. والوجود كله واحد. صفة الوجود توحد كل الكائنات، عند المستوى الأعمق الوسع لها، الوجود صفة لا تغيب عن أية حالة من حالات الكائنات. تتعدد صفات كائنات ولكنها كله توصف بأنها وجود.
الواحدية نظرية ينحاز بها العقل إلى الاعتقاد بأن الوجود واحد، وأن الكثرة التي نعانيها في حياتنا هي كثرة الوجود الواحد. والنظرية الواحدية (النورانية) التي أحمل أمانة التبشير بها، تؤمن بعقيدة تقرر أن الواحدية (النورانية) ليست واحدية الوجود المطلق فحسب، ولكنها واحدية الوجود المتعين أيضاً. أعني، أن كل إنسان هو وجود واحدي، يحقق فكرة واحدية الوجود المطلق الذي يتصوره العقل.
النظرية الواحدية (النورانية _نظريتي) ترسم صورة واحدة (موحدة) لما هو عقلي ولما هو واقعي. العقل والواقع مرتبطان بعلاقات تنموية واحدية. الروحي والمادي في الإنسان كيان واحد.
الواحدية (النورانية) تحلم بعالم الحب والسلام، عالم ينطلق من أساس الحب، عالم يفترش الحب، وينطلق في آفاق السلام. ولأن الواحدية نظرية يتوحد فيها الواقع والحلم، فإنها تحمل راية الدعوة إلى عالم يقوم بالعدل. لا تترك نارك تحرق زرعي وأرضي ثم تطلب مني أن أعطيك سلاماً… إني لا أعطيك السلام إلا إذا افترشنا الحب معاً.
إذا احببتني، قسمت الرغيف بيني وبينك…إذا ناهضنا العدوانية، زرعنا الحب، وصنعنا سموات السلام… أنا وأنت نزرع الحب في الأرض أنا وأنت نحصد ونخبز رغيفاً وأرغفة كثيرة… معاً نأكل… معاً نغني ونصلي. لكننا لن نبقى معاً إذا امتدت شهوتك لتسلبني حريتي الجميلة (النورانية). الحرية ليست عدوناً. الحرية هي أن أمتلئ بالسلام وأن تمتلئ أنت بالسلام. سلامي وسلامك واحد. من حبي لك، ومن حبك لي يجئ السلام. بالحب ينفتح عالمي على عالمك الحب يوحد عالمي وعالمك. الحب يخلق عالماً واحدياً(نورانياً) عالماً منطلقاً في أفق السلام البهيج.
الحب صلاة جامعة. هو اشتعال الوجود بنور الوجود. بالحب، صعد النبي العربي بوجوده الإنساني لينفتح على الوجود الرباني. من قدسنا صعد النبي إلى ربه من قدسنا انفتح الضيق على الواسع المطلق. بالحرية (النورانية) حرية الحب انفتحت الأرض على السموات. ومن قدسنا كانت دعوة السلام قد فاضت وروت الأرض… عيسى المسيح منا، دعوة عيسى للسلام دعوتنا. كانت دعوة عيسى بالحب. كانت دعوة تناهض جمود العقل وجمود الوجدان.
دعوة التوحيد التي نقول إنها دعوة إبراهيم، ودعوة موسى، ودعوة الأنبياء كلهم هي دعوة بزغت من روابي عروبتنا. دين التوحيد كله ولد في تاريخنا وفي جغرافية عروبتنا.
تراثنا الأصيل العميق تراث واحدي (نوراني). تراث الانفتاح دعوة السلام دعوة أعماقنا. ومن أعماقنا كانت دعوة "الله حب". لكن سلام الله وحبه عدل نافذ. ليس العدل أن تسلبني حريتي. العدل في الترجمة هو الحرية (النورانية). إذا أنت قهرتني، فإنك تسلب مني حقي في الحرية، حقي في الوجود الجميل.
وجودي لا يكون جميلاً إلا بوجودك أنت. ووجودي لا يكون إلا بوجودك الحر (النوراني) أنت. إذا أنا سلبت حقك في الوجود الحر فإنني أكون قد جرت على الحقيقة. إن الحقيقة هي حرية الوجود. والذين يجورون على الحقيقة، تمضغهم الحقيقة وتواصل حريتها، تواصل انفتاحها.
الحرية فعل الانفتاح. حريتي (النورانية) هى الإنفتاح عليك؛ الانفتاح بك عليك. لن أمارس الحرية ما لم تكن أنت وجوداً، وأن تمارس الحرية (النورانية). إذا أنت لا تمارس الحرية (النورانية) فأنت مغلق، سيكون قلبك مغلقاً في وجهي. حريتي (النورانية) انطلاق في حريتك، لا جور عليها. حريتك شرط لحريتي. حريتي (النورانية) هي انفتاحي. الانفتاح لا يتم في العدم، الانفتاح هو انفتاح كائن على كائن.
فعل ولادتنا هو فعل انفتاح. باب الوجود الذي نبدأ منه رحلة الكون هو باب الانفتاح.. بالحب ينفتح الشيء على الشيء… بالحب ينطلق شئ من الشهوة ليلتقي بالشهوة الخالقة.. بالحب، بالحرية، يلتقي اثنان في واحد.
تأتي أهمية النظريات العقلية من قدرتها على معالجة المشكلات القائمة. وإن نظرية تفجر من ذاتنا العميقة طاقة الحياة الفاعلة الكريمة، وتعطينا ضماداً للجراح، وتوحدنا (بنورانية) معاً، مع ذواتنا، مع تاريخنا، مع عالمنا، مع مستقبلنا… هذه النظرية، نحسب أنها هي النظرية الصلح لبناء مشروعنا النهضوي المأمول.
*******************
الحب أساس لبناء جماعية إنسانية تتجه بثبات نحو السلام المطلوب لاستمرار البناء الجماعي الإنساني الفردي. والحب ينمو نحو السلام بالعدل.
الحب قانون الوجود الطبيعي، وتحويله لقانون للوجود الإنساني الاجتماعي هو ربط للإنسان وللطبيعة في إطار وجودي واحد، إطار عقلي يكشف لنا من جديد عن واحدية الوجود التي نتصورها بالعقل.
الحياة الاجتماعية لن تقوم إلا بقانون الحب، كما الوجود الطبيعي والحيوي {النباتي والحيواني} يقوم، كأنسان بقانون الحب.
بقانون الحب نحل مشكلة الجار بالجار، الشعب بالسلطة، الأمة بالأمة، الحاضر بالماضي والمستقبل.
بقانون الحب نبدع السلام… السلام الذي يعطي كلاً حقه الوجودي التام.. كما الأرض والشمس والأقمار…
قانون الحب هو القانون الأكبر… إنه خالق الإنسان الوجودية.
قانون الحب لا يلغي كثرة الأفراد… الحب علاقة بين الأفراد، وبدون الفردية لن يكون حب، لن يكون هناك إمكان لتصور وجود واحد مطلق {يخلق باستمرار}حر.
إن ريحاً تصعد من تحتنا،إن ريحاً تزحف من بعيد، ومن قريب، "تتكالب عليكم الأمم، كما الأكلة على قصعتها"… التحدي هو تحدٍ لنسقنا الجمعي الذي يرجع إلى أصل واحدية الخالق، وواحدية الأمة، وواحدية الدنيا والآخرة. فإذا لم يثبت نسقنا في مواجهة العواطف، فإننا سنتفكك مزيداً من التفكك، ستنثرنا الريح الآتية من كل صوب، ستنثرنا في كل صوب….
الحب وحده، الحب المقنن، الحب الفاعل، الحب الذي يتبلور في مشروع حضاري مقدام، هو الذي يستطيع أن يواجه حرب التفكيك التي هي أخطر الحروب. بالحب الجماعي نواجه حرب تفكيك الفرد وتفكيك الأمة وتفكيك الزمان وتفكيك الواقع والحلم، تفكيك وحدتهما.
الواحدية (النورانية) كما نتبناها، نظرية حياة، نظرية اجتماع بمنهج واحدي (نوراني). العقلي لا بد أن يتوحد مع السلوكي. والعقلي الذي يفتقر إلى اهلية التوحد مع السلوكي هو عقلي منحبس في ذاته، حقيقة لا تتجاوز دائرة انحباسه، والواحدية (النورانية) التي تعتقد أن الانفتاح مقولة أساسية من مقولاتها، تعتقد بقوة أن العقل لا يكون مطلوباً إلا بقدر انفتاحه على السلوكيات، او بقدر ما يملك من أهلية لإبداع سلوكيات تحققه.
المشروع الواحدي (النوراني) في كلمة واحدة هو إبداع حياة المحبين.
وشعار الواحديين (النورانيين) هو " الواحدية (النورانية) سلام يبدعه المحبون".
الرؤية الواحدي توحدنا بالعالم، برباط من الحقيقة، مع الحقيقة، العالم هو الحقيقة، وحقيقته الكبرى هي أنه فاعل فاعلية مستمرة، فاعلية ينفتح بها على ذاته كل لحظة، ليجدد ذاته كل لحظة. والارتباط بهذه الحقيقة هو تجدد بها وتجدد معها، ومشاركة فيها، مشاركة المحب لا المدبر، المقبل لا الكاره، المنبط لا المنقبض.
الرؤية الواحدية (النورانية) دعوة إلى الإقبال على الحياة ببهجة. والسلام الذي تتطلع إليه الواحدية (النورانية) هو سلام بهيج، سلام نابض بالحب العميق للحياة، سلام القلب المتدفق، القلب المبدع للأزاهير، سلام العقل القلبي الذي يوحد فرداً حياً نابضاً بالحب، مع الإنسانية ومع الكون كله، في واحدية (نورانية) تتجلى بها واحدية (نورانية) الله السلام.
الواحدية (النورانية) دعوة للسلام والبهجة… ليس واحداً (نورانياً) من لا يدعو للسلام ببهجة…
"أيها الواحديون (النورانيون) _ يقول المبدأ الأربعون من مبادئ الواحدية (النورانية) _ رضاً رضا، وازخروا بالشوق واستنبتوه… قولوا سلاماً رددوه وامضوا…
إمضوا قدماً… إصنعوا سلاماً وغنوا له… أيها الأمجاد الذين يبدعون المطلق وتبدعهم الحرية (النورانية)… أيها الروح التي لا يستذلها الملك إلا وميضاً…"
والأقمار… فليشرق الحب والبناء والعدل والسلام والحرية (النورانية) والجمال…
وسلاماً أيتها الصاحبات أيها الصحاب… سلاماً، سلاماً لكم… سلاماً منكم لكم…
سؤال(**)… وجهه لي الأستاذ قاسم طشطوش المحترم….
هل تعتقد أن الواحدية، كخط عالمي واضح، تؤدي إلى وحدة العواطف على اختلاف أمكنتها؟ هل نستطيع النفاذ من هذا الموقف، بعد الالتجاء إلى الأحدية، ومفهومها الديني الواسع، في التوحيد؟
فيما يلي الجواب..
صديقي العزيز
التفكير المشترك بين من يسأل، ومن يجتهد لتقديم إجابة، هو أحد صور توحد العواطف. والواحدية (النورانية) لدينا، هي دعوة للتفكير المشترك ، لدينا وجهات نظرنا، لكننا لا نزعم أنها أفكار قطعية.
أنا أدعو إلى التفتح الذي هو تجليات لقانون الحب الذي أتبنى الدعوة إلى إشاعته وعلى أوسع نطاق ممكن.
الحب هو العاطفة الكبرى، وهو وحده القادر على أن يوحد كثيرين، في اماكن متباعدة زمتقاربة. ووحدة الحب لا تلغي أياً منأطرافها، الحب لا يواصل فاعليته إلا بوجود الأطراف، بوجود الكثرة، بالخروج من الذاتي، بالالتقاء معاً أنا وأنت، الحب علاقة بيني وبينك، الحب ليس علاقتي بنفسي، ليس تضخماً للأنا، هو نمو الأنا فيما بعد حدودها، ليست فاعلية الحب جوراً على الآخر، هي انفتاح على الآخر، بالاخر، هي علاقة نموي ونموك معاً.
إن سؤالك يحمل تقريراً بأن في العالم الإنساني تنافر في العواطف، إنني أوافق على ذلك، لو أن عالمنا الإنساني برئ من تنافر العواطف، لما كان هناك حاجة إلى دعوة الواحدية (النورانية)، لو كان الناس جميعاً على قلب رجل واحد (امرأة واحدة)، فما الحاجة الإنسانية لنا نحن الذين نرفع شعار "الواحدية (النورانية) سلام يبدعه المحبون"؟!
نظرياً، لو التزم الناس بقانون الحب، عن إيمان به، فإن الطريق إلى وحدة العواطف مفتوحة. ولكن حلمنا بأن يسود الحب والعدل والسلام أرجاء الإنسانية، لا يمنعنا من رؤية الواقعن ولكن بالحلم، دعنا نواصل الدعوة للتحرك الإنساني في اتجاه الحلم.أنا لا أعد بأن هذا الحلم سيتحقق بالكامل. إن كل الأديان، وكل الدعوات الإصلاحية لم تفعل ذلك. الداء الإنساني الوجودي ينزع إلى الخير، ونزوعه إلى الخير مناهضة للنزوع إلى الشر. الشرور واقعة، ولكن لا ينبغي أن نستسلم لها. دعنا نتطلع إلى كسب مساحة اكبر للحب. واعتقد أنك تستطيع مشاركتي في هذا الحلم.. سؤالك يشي بأن لديك الرغبة في ذلك. وكثيرون جداً هم الذين يشاركوننا هذا الحلم وها هنا دعوة لوحدة الحالمين بالحب… إن الإرادة هي التي تصنع الحب والسلام. وتفعيل الحب بالإرادة المحبة هو وسيلتنا للاقتراب من تحقيق حلمنا في خلق نسق عالمي واحد يرتكز إلى مفهومي الوجودي الواحدي (النوراني).
تمتلك الدعوة إلى الحب أسباباً لا باس بها تضمن صلاحيتها وقدرتها على تجديد عاطفة الحب، وهي أم العواطف الإنسانية، على تجديدها في زمن انحسرت فيه، وبصورة مقلقة، هذه العاطفة الأم.. نحن ندعو للحب في زمن يستدعي الحب، ونحن ندعو للحب الذي يخلق السلام البهيج. إن السلام المؤسس على الحب هو سلام بهيج، سلام ذو خدود متوردة، متوهجة بالعاطفة الجياشة. هذا السلام البهيج هو الذي يضمن لكل منا أن يمارس حياته بحرية جمالية…
دعوتي لعاطفة الحب مؤسسة على مفهوم عقلي، إنها إنتاج عقل محب. عقل يسبر أغوار العلاقات الإنسانية ليكشف عن أصالة واحديتها (النورانية) الوجودية. وهي دعوة بالعقل لبناء نسق هو: الحب/العدل.
إن مشكلة الإنسان في كل الأزمان، المشكلة التي تفاقمت في أيامنا، وستتفاقم، هي مشكلة اعتداء بعض على بعض. العدوانية هي المشكلة. الحب يواجه العدوانية، يواجهها بالعدل. أعتقد أنك تعي، وبصورة عميقة، أننا نعيش في عالم إنساني في بعيد عن العدل. وبمقدار بعد الإنسانية عن العدل، نحتاج إلى رؤية توظف جميع أدوات الفاعلية الإنسانية المقدامة لمواجهة الظلم… أدوات دعوتنا هي العقل، وأم العواطف، عاطفة الحب، والحلم بالسلام البهيج، وقبل ذلك، ومعه، وبعده، الإرادة التي تنقل الإنسان من دائرة المفعولية إلى دائرة الفاعلية… بهذا الانتقال نتحرر من أنواتنا الضيقة… لنغدو رسلا يحملون دعوة حب للناس جميعاً… رسلا يبشرون بدين الحرية (النورانية) والسلام والجمال وإرادة الحياة والعدل والحب…
وسلاماً لك أيها الصاحب… سلاماً لك.. وسلاما منك لك…
------------------------------
(*) محاضرة ألقيت في ملتقى إربد الثقافي، في مدينة اربد، بالأردن.
(**) سؤال وجهه لي مستمع لمحاضرتي بعد الفراغ منها.