أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟















المزيد.....



كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟


جميل حسين عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 4938 - 2015 / 9 / 27 - 16:56
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


أين الحقيقة.؟ شيء مربك للإنسان، ومتى استطاع أن يفهم كل ما يدور حوله، فإنه سيبني غده، ومستقبله.!
الحقيقة عندي هو ما أشعر به من ألم، وما لم أشعر به من عناء، فهو ألم في ذات الآخرين. فهل ستتصالح آلامنا، لكي نعرف شراسة منعرجات الطريق.؟
الألم عندي، هو اللغة التي تكتبني، وأنا أكتبها، وقد تزاوجنا، لكي ننتج هذا الوليد الذي نترجى له البقاء طويلا.
واللغة عندي كثيرا لا تسعفني، لا لأنني لم أفجرها من عمقي، بل شدة حرص ذلك الحارس الصنديد الجاثم على صدري تمنعني من الكلام.
والحارس لا يفتر عن همسي، ولمسي، فكيف لي أن أختبئ من نظره الحاد، لعلني أفرح بطفولتي، وألاعيبي.؟
هذه مقدمة، وبقية النص:
بعد الأحداث الأليمة التي شهدها موسم الحج هذه السنة، لا بد لنا أن نرجع السؤال إلى الوراء، لكي نتساءل: كيف تحدث هذه الأحداث في أمة تزعم أنها تخدم الإنسان بمقتضى مما يدعو إليه دينها من رحمة، وحب، وجمال.؟ لعلني لا أبالغ إذا قلت: إن ما يحدث اليوم في عالمنا الإسلامي من قتل لبريء لأرواح، وتدمير لهادئ الدور، وإفساد لنظام الطبيعة، وإخلال بنواميس الكون، يجعل حيرتنا تتراكم بأوجاعها على صدورنا المثخنة بالجراح، ويصيرنا نبتعد شيئا فشيئا عن ذلك الأمل الذي ننتظره، والرجاء التي نتفقده، وكأننا ومن غير إرادة ننصرف ببطء عن محطات البداية، لكي نشعر بأننا ما زلنا لم نخط بخطوة إلى الأمام، ولم نتحرك من دائرة الاغترار بجبروت ذواتنا، والاجترار لأمراضنا المخزونة في أذهاننا، والمغروسة بين واقعنا الذي ندبر تحولاته بعقول عجماء، ونبتر ما فيه من صلات بيد تبطش بكل معنى، وتفتك بكل قيمة، وتهدم كل شاخص، وتخرب كل سياق في تاريخنا، وحضارتنا، وهويتنا.
إن حقيقة ما يحدث اليوم من موت في عالمنا الإسلامي، لا يمكن أن نمر عليه سراعا، خفافا، بل يقتضي منا أن نسترجع التاريخ، ونستظهر الذكريات، ثم نتمهل في اختبار ما هو كائن، واختيار ما هو حاصل. وإلا، فإننا سنكون كما كنا، أمة تتذكر مأساتها، ولكنها تنسى بسرعة، وتعشق محبوبها، ولكنها تكره بعجلة. تلك هي الصفة اللازمة لنا، والنازلة علينا، وإلا، فهل تذكرنا فيما مضى أننا مررنا بالتجارب نفسها، ولم نستفد شيئا من دروسها. إذ لو استفدنا من طوام ماضينا، لما حدث ما يحدث اليوم من دواه تنثر غبار المهانة على وجوهنا.؟ أجل ذاكرتنا غارقة في الأوصاب المخضلة بالعناء، ومثقلة بالأوجاع الممرعة بالشقاء، وكأني بها لم تطق بعد شيخوختها أن تضيف شيئا إلى ما جثم بين طياتها من أحلام، وكمن بين شرايينها من أوهام. بل ربما قد أصبنا بمرض فقدان الذاكرة في حاضرنا المغبون، فنسينا ما قررناه أمس البارحة، وها هو اليوم ندبر غده بعقل متشنج، وغدا سننساه كما أهلنا التراب على غيره من القرارات، والآراء. إنها لحظة الهذيان، والتوهان، لا لحظة الوقوف، والتوقف، إذ لو توقفنا عند محطة المراجعة، لحددنا المنطلق، والطريق، والغاية. لكننا نمضي بين الأيام بدون شعور بالزمان، ولا بالمكان، ونسير بين الدروب بلا نظام، ولا مرام. فكأننا من شدة ذهولنا نكتفي بما رسمناه من حلم في أذهاننا، ولو لم يتحقق ذلك في واقعنا. فحسبنا أننا انتشينا باللحظة الهاربة بين ذواتنا، ولو لم يكن لها في وجود في حياتنا. تلك هي آفتنا، وأزمتنا، ونحن نجر ذيل الخيبة، والخسارة، ونجوس بخزي حول الديار المترعة بالدم، والجماجم، والأشلاء. فهل هذه مقبرة حياة عشناها عطشى، وسنفارقها أمواتا بلا جدوى.؟ فهل هذه هي سيرة حياة لم نضف إلى مستقبلها عمرا زائدا، ولا علما وافرا.؟
لم تكن الفاجعة مؤلمة فقط، بل كانت جريرتها نكاية بنا، لأننا نرى ذلك الغربي في عز سكره بخمرة حضارته، كيف يسخر من غبائنا، وبلادتنا، وكيف يشفق على فقرنا، ومرضنا. وهو يقول: إذا كانت أمة المليار والنصف، لا تستطيع أن تنظم نفسها في رسوم شعائرها، فكيف يمكن لها أن تقود العالم إلى حياض العلم، ومنابع المعرفة، وعوالم الحضارة.؟ كلا، لو قدنا العالم حقيقة، لقبلنا بأن يموت الإنسان كلا، لا جزءا، لكي تحيى أوهام رجال استحوذوا على عقولنا بما يدونون من صكوك حياتنا، وموتنا. كلا، لو ملكنا العالم أجمع، لتفشى الفقر، والمرض، والبؤس، والشقاء. وتلك هي الحقيقة التي صدقناها بالتجربة، والخبرة، فلم لا نقبلها في أمة تنفق على تبييض وجهها أكثر مما تنفقه على فقراء ملتها.؟ لو رضينا في يوم من الأيام بالنقد الذاتي، وبالمراجعة الفكرية لمنطلقات مفاهيمنا، وقناعاتنا، لقلنا: إن خيرات أوطاننا العربية، والإسلامية، ليست ملكا لسكان هذه الأحراش المصلصلة بزفير البنادق، ورياح البارود، بل هي ملك لمن يقتلنا بسمومها، ويحمومها. لو رضينا بأن لا نهلل للغة الخداع، والتزييف، وقبلنا بأن نفكر في سبب وجودنا بين لعبة هذه الحياة الأليمة، وصرحنا بأننا لا نريد إلا الكرامة البشرية، فإننا لن نأنف عن معاتبة أنفسنا على ما ضيعت من فرص الأمل، وفروض الرجاء. لكن أنى لنا أن نصل إلى ذلك المرتجى، وقد أغرانا غيرنا بنعيم آخر، قد لا نصل إليه إلا إذا قتلنا أنفسنا، وأمتنا غيرنا. فهل الحياة بهذا القبح الذي يشكل شجن أنفسنا، فنسترضي الموت، لعلنا نحيى بعدها.؟
إن ما حدث في موسم الحج، سيضع أناملنا على مجموعة من الأسئلة التي تأمل الإجابة عنها بصدق. فهل سنجيب عنها بقول لا يحتاج التأويل.؟ أم سنداجن، ونوارب، لئلا نفقد ثراء لغة الصحراء، وبريق مال الصحراء، وأماني وعد الصحراء.؟ لو كنا صادقين مع ذواتنا فيما نحتقنه من لاعج، وذرفنا في حقه دموع الوجع، لسألنا عما ستره الصمت من سبب في موت هذه الجماهير الغفيرة. فمن المسبب في موت مئات تطبع على شفاهها بسمة الفرض الواجب المقدس، وهي تندفع إلى حتفها بين أخطاء مشعر كان رمزا لرجم الشيطان في النفوس، قبل أن يرجم في منى.؟ لو قلنا بنفي الخطأ عن البشر، وأثبتنا بأننا ضحايا للقضاء، والقدر، فإننا قد نسبنا إلى الله إزهاق الأرواح في نسك يطهر الجوارح من نجاسة الإرادة، والعزم، والفعل. أجل، لو قلنا بأن كل ما يحدث مما فيه أثر للفعل البشري، هو من أمر القضاء، والقدر، ويقتضي مطلق الخضوع، والرضوخ، فإننا لن نعتب بعد اليوم على من يدوس مقدساتنا، ويهين معتقداتنا، ويقضي على أرواحنا، ويجني على خيراتنا. فلو عاتبناه على سيء فعله، وطالبناه بإرجاع الحق إلى أهله، فإننا قد تجاوزنا فهمنا الحرفي لقضايا القضاء، والقدر. وإذ ذاك سنتهم بأننا لم نرض بما كتب علينا، ولم نختر ما اختير لنا. لكن هل تصح هذه المقولة في جلية الحقيقة.؟ إن مفهوم القضاء، والقدر، لم يكن إجابة جاهزة عما يحدث، إلا حين فقدنا بوصلة التمييز بين المفاهيم، وصرنا نكرر ما قيل في الزمن الماضي، ونجتر تلك المفاهيم التي صنعتها السياسة الأموية، والعباسية، وهي تسوغ الدماء البريئة التي أهريقت تحت شعار حماية الدين، والمذهب. وحقا، لولا ما أترعت به عقولنا من مفاهيم سياسية تلبست مسوح الديانة، ولبوس الطهارة، لأدنا المتهم الحقيقي في كل الجنايات التي حدثت عبر فترات التاريخ الإسلامي. لكننا رتبنا منطق عقولنا وفق هذه المفاهيم المفرغة من محتواها، وصرنا نرفع الجناية عن الأشرار، ثم نضعها على جبين الأخيار، لكي نتخلص من معاقبة الشريف بجنايته على الوضيع. تلك هي الحقيقة التي لا تأخذ بمفهوم السببية في سياق تحليلنا لعناصر الوقائع، والأحداث. فلو قلنا بأن تاريخية مفهوم القضاء، والقدر، تحمل في خباياها حمولة ثقافية لتلك المرحلة الزمنية التي نشأت فيها المفاهيم، لكنا قد حررنا عقولنا من ذلك الفهم المنغلق الذي حصرنا به معناه في تصورنا، وتصديقنا. وحينئذ سنعرف فعل الله عز وجل في الأشياء بالعلم، وفعل الإنسان فيها بالإيجاد. لكننا ما دمنا لم نميز بين فعل الله التكويني، والتشريعي، ولم نكتشف العلاقة بين الأزل والحدوث في الإنجاز الطبعي، والبشري، فإننا سننسُب إلى فعل الله كل ما يموت من أرواح بريئة، ويهدم من ديار هنيئة، ويخرب من بساتين جميلة. كلا، إن فعل الله عز وجل ليس كما صورناه في أذهاننا، ولا كما صغناه في واقعنا، بل فعله الخلق، والحياة، والموت، وما بين هذه المراحل كسب الإنسان، وسعيه، وكده. وهنا تتحدد مسؤوليته، وأمانته، وطهارته. لكننا إذا جردنا الإنسان من كبسه أمام الأزمات التي دبرها بعقله، وطورها بيده، فإننا نعطل حاسة التفكير، والتغيير، وإذ ذاك، سيكون كل ما حصل في واقعنا أمرا مقدورا، لا مفر منه، ولا معدى عنه.
إذا سكتنا عن الجناة الذين سببوا في موت الحجاج بدعوى أن ذلك من أمر القضاء، والقدر، فإننا وبكل صدق، لا نحتاج إلى أن نكون مواطنين في دول مدنية، تعترف بحق الإنسان في الوجود، بل الأولى بنا أن نهرع إلى قلب الصحراء، ونقيم عليها خياما، ومراحا، ونرعى فيها شياها، وأغناما، ثم ننطلق مع الفضاء الممتد بين أعيننا، والمدى المنتشر بين أنظارنا، وحينئذ لا راد ولا صاد لنا في حريتنا. أجل، هذه هي الحياة التي نستحقها باعتقادنا القاتل لعقولنا، وتفكيرنا، بل هذه هي الحياة التي رغب فيها كل داعشي يمني بقاءه بما امتزج من عقل وخبل بين يقينه، وواقعه. ولولا وجود ذلك في مكنون ذواتنا، ومكبوت أفكارنا، لما انطلت الخدعة على كثيرٍ من شبابٍ غرر بهم باسم الدين، ففارقوا فسيح الأوطان، لكي يعيشوا غربة الحلم بين ضيق الأكوان. وحقا، إن تفويت الاتهام بالجناية عمن يستحقها، وسواء كان موكبا أميريا كما صرحت بذلك الصحافة، ووسائل الإعلام، أو كان تفريطا من المنظمين، أو كان عنفا من الحجاج، لا يعني أننا قد وجدنا الحل في تضليل الرأي العام بالأكاذيب، وتجهيل نظره بالأغاليط، وتبخيس حقه بالأراجيف، بل يعني أننا نسير إلى محرقة التاريخ، ومجهلة الحضارة، ولو لم نشعر بذلك على مستوى سلوكنا المعبر عن اختناقنا بأزمات حادة. لأن ما نكتبه بالتدليس، والتزييف، سيؤثر غدا على أبنائنا، وأحفادنا. وإذ ذاك سيكونون ضحايا لمكر نعيشه اليوم، ونرعى وجوده بقوة، ونحارب من أجله بشدة. فما الذي يضير الجناة إذا اعترفوا بنظام السببية والعلية في علاقة مفهوم القضاء والقدر بالفعل التنجيزي للإنسان.؟ فيا للحسرة، هم اعترفوا بمفهوم القضاء، والقدر، ولم يعترفوا بعلية الأسباب التي تعطل وجود الأشياء، أو تؤدي إلى حدوثها. فلو اعترفوا بما اجترحوه في الأديان، والأبدان، لأيقنا بأن الجناة كانوا أقدر من غيرهم على حماية أرواحنا في موسم يكتظ فيه العباد حول الشعائر بطرق تدل على كوامن دفينة بين أعماق أرواح المتدينين. لكن عدم اعترافهم بالجناية التي أفقدت الأبناء آباءهم، وأمهاتهم، وهم ينتظرون هدية الحج المباركة، ويرتقبون أوبتهم بين الديار الجذلانة، لن يجعلنا نثق بما قيل، أو بما سيقال، بل سيضع عقولنا على محماة فرن ساخن، لا تشعرنا بالاطمئنان على حجاجنا، ومعتمرينا، ولا تترعنا بأحاسيس الأمن على عهدنا، ووعدنا. وذلك أخبث الضرر، لأننا سنفقد في حقيقة خوفنا كل زائر لبيت الله الحرام حتى يعود، فإن عاد هنأناه على عودته، وإن لم يعد، اخترعنا له أوصاف الشهادة، والموت في سبيل الله، والفوز بالجنة في أطهر مكان.
إن مفهوم الجناية، لا يستقيم أمره، ما لم نقف على الحقيقة الجلية، ولم نصل إلى طبيعة ما حدث، ولو لم يكن كشف فضيحته مهينا لجهة من الجهات، ولا معاديا لفئة من الفئات. لأن طهارة دم الإنسان البريء أعظم في الحرمة من مكة التي سيطرت عليها طغمة غير مرضية السجية، والسيرة. وإلا، فلم تطاولت على ما تبقى من آثار العمارة الإسلامية في تلك المدينة المقدسة، لكي تحولها إلى مدينة تتنافس فيها ناطحات السحاب السماء.؟ أجل، إن مسخ هوية التراث العمراني في أقدس مكان لها، لم يكن إلا واحدة من مآثر هذه الطغمة التي حاربت التاريخ بدعوى حماية العقيدة السلفية، لئلا يبقى للمسلمين أي أثر في مكان يحجون إليه كل سنة وحدانا، وزرافات. بل من كثرة حقدها على التاريخ، والحضارة، لم تبرح دائرة إيقادها للفتن في العراق، وسوريا، واليمن، ومصر، ولم تزل توسع الهوة بين الفرق، والطوائف، والملل. وهل زوال هذا الميراث من مواطنه، سيمنح لهؤلاء صفة التاريخ المسروق.؟ كلا، فما تقوم به من تسويق لأيديولوجيتها الدينية، وتسويق لمرجعيتها العقدية، لم ينقذ الإنسان العربي من شركه، ولا من كفره، بل أغرقنا ذلك في بحر الاختلاف، والخلاف، فتشاجر الأحداث الأغرار مع محتوى ميراث الآباء، والأجداد، فكانت الفتنة سبيلا، والفوضى أملا. ولولا ما زرعته من بذور الشتات في أوطاننا الإسلامية، لما تناحرنا حول معلوم الدين بالضرورة. لكننا لم نملك أمام ذهبهم إلا الخنوع، والخشوع. أجل، قد اشتروا ما وصفوه بالمشايخ، ثم باعنا هؤلاء الوعاة لحصة الكعكة بما أشبعوا به بطنا نشأ في فقر، ومات في قفر. تلك هي اللعبة القذرة التي أفسدت الروابط الاجتماعية، والعلاقات الإنسانية، وأجهضت رسالة الرحمة في الدين، وفي الكون. ودعونا نسترجع شيئا من تاريخ الوهابية، لعلنا نتذكر ما فعلته أيدي الشؤم بالبيت الذي ولد فيه النبي (ص)، وبالآثار والمشاهد الإسلامية. وسواء في ذلك ما دفن من تاريخ مكة، أو ما سرق من تراث المدينة المنورة. ولعل زائر البقيع، والمزارات الأخرى، سيرى ذلك جلية، وسيلحظه في كل ما يعظمه الموحدون هناك من أماكن لها رمزية في الذاكرة المسلمة. فأين بقية التاريخ في البنايات التي أعيد بها بناء الأماكن المطهرة، وهي خالية من جمالية الفن، والرسم، والنقش، والنحت.؟ كل ذلك قد حاربه الوهابية، لكي يكتبوا تاريخا لم يكن له في الزمن الغابر أصل، وفصل، ثم ينشأ على رؤيته صغيرنا المفصول عن ماضيه، فيشهد عليه شراسة فكر يحارب الفن، والجمال، والإبداع. ولا شك أن ذلك مما أحسست به في زيارتي لتلك الأماكن مرارا، فتألمت، وامتعضت، وأنا أرى أجلافا وأوباشا يمنعون الناس من الدعاء إلى جهة قبر النبي (ص)، ويزرمون صوت العشاق المتولهين بساكن المكان. غريب أن زائر العتبات الشريفة، لا يزورها إلا لعمق إيماني مكتوم في قلبه، ولكنه في عين الوهابي مشرك إذا خالف ما نسجوه من عقيدة، وشريعة. تلك هي المعضلة الكبرى، ونحن نستمع إلى تفسير آخر للدين، وتأويل لا يقبله العقل، وتشريح لا ترضاه اللغة. بل الأغرب أن هذه الطغمة نادت مرارا وكرارا بفصل القبر النبوي عن المسجد. وقد حاولوه ولمرات عديدة، لولا ما أطلقته تلك الجناية من شرارة تظاهرات سمع هديرها في جاكرتا، وكولالمبور، وتركيا، ومصر. أجل، لولا ذلك، لفصلوا القبر عن المسجد. وإذ ذاك، فأي فرق بينهم وبين من سرق الكعبة، والهيكل، والمعبد.؟
إن إقرار الجناة بجنايتهم النكراء، لن يكون سهل القبول في ذهن استقوى بوجاهة المال المجلل نواله بتاج العجرفة، والعنجهية. لأن الجناة في الحقيقة، لا يتاجرون بنا، إلا لغباء عقيدتنا، وتطرف سلوكنا. فأموالهم تنفق لقتل الأبرياء في سوريا، واليمن، ومصر، وثرواتهم ينشر بها الفساد بين مواخير الدعارة في الأماكن الفقيرة، والمطلولة بدماء البراءة. فلم لا يقرون بجنايتهم البشعة، وجنابتهم تدنسهم في كثير من المواطن التي عشقوا بين جهلها وطيء الأخلاق الفاسدة.؟ إنني، وإن أيقنت بأن إقرارهم مستوعر في عقولهم الداكنة، فإنني لا أبعد التهمة أيضا عن الحجيج المندفعين إلى الموت بلا ضمير. لأن كل واحد منهم يجسد قيمة هذا الدين، ويمثل حقيقة مفاهيمه، وعنوانه. فأين دور العقيدة والدين في سلوك الحجاج.؟
إنني أستغرب من هؤلاء الذين نصفهم بأنهم ماتوا شهداء، كيف ضنوا بحياتهم على غيرهم، حين دهسوا الساقطين، ورفسوا الجاثمين، وهم ينظرون إلى أرواحهم التي تزهق بين أعينهم، ولا رحمة تصرفهم، ولا شفقة تمنعهم.؟ كم سيكون الألم غصة في حلق من رأى هذه المشاهد المروعة، وهو يتأمل الحجيج في عز تباهيهم بالشعائر، كيف انعدمت فيهم أخلاق الحنان، والعطف، والحدب. إنها مأساة الأمة الإسلامية، وأزمتها التربوية، ومشكلتها الأخلاقية. ولا عجب في ذلك عندي، وقد شاهدت بأم عيني تلك المناظر المفزعة، والملامح المقززة، وأنا أرى إفراز هذه الأخلاق من لحظة تأطير الحجاج، وإلى حين عودتهم إلى بيوتهم سالمين. رأيت كيف يحتجون على مؤطر لم يحضر في وقته، لا لكونه تغافل عن مهمته، بل لكونه دهمه غاسق المرض، فتأخر لبضع دقائق عن الموعد، ورأيت بأم عيني كيف يتزاحمون عند الإجراءات الإدارية، سواء في أماكن تواجدهم، أو في المطارات التي سيحلقون منها حول فضاء السماء، ورأيت ذلك في طريقة صعودهم إلى الطائرة، وفي أنانيتهم عند اختيار المقاعد، ورأيت ذلك في صالة الانتظار لتفويج الحجيج نحو مكة، أو المدينة، ورأيت ذلك في طريقة تسكينهم بين غرف الفنادق، ورأيت ذلك في سلوكيات طوافهم، وسعيهم، ورأيت ذلك في صعودهم إلى الحافلات، وفي طلبهم للمستحيل في الوصول إلى عرفة قبل غيرهم، أو العودة إلى مزدلفة قبل هطول الحجيج عليها، أو إلى منى قبل امتلاء أزقتها بالراجمين، ورأيت ذلك في طبيعة خوفهم من رجمهم، وفي سلوكهم في حلقهم. بل الأغرب أنني شاهدت منى في أيام التشريق غاصة بالأزبال، ومجللة بالأوساخ، وسواء في ذلك مخلفات شعرهم، أو أكلهم، أو برازهم. تلك هي الحقيقة المرة، وأنا أشم رائحة المبيدات التي تلقى على تلك الأزبال والنفايات لمنع تسلل الأمراض إلى ذواتنا، فأختنق، وأسعل، وأصاب بمرض حاد يمنعني من التنفس إلا بحرج، ومشقة. كل هذه المناظر المروعة شاهدتها، ولم تحك لي. ويشهد الله أنني كنت في حجة مرشدا دينيا، فسألني رجل سياسي، وهو ممن ينتمي إلى حزب إسلامي، وقال: ألا ترى يا سيد إبراهيم أن حجنا قد فقد روحانيته. تململت يمنة، ويسرة، وأنا أجيبه: لو صرحت بما أحس به، لرجموني قبل هذا الشيطان. ضحك ضحكة بريئة، وقال: وما تحس به.؟ قلت: أحس بأن المسلمين يحتاجون إلى مئات السنين، لكي يتعلموا مَدَنية الدين.! أجل، في الحج أشاهد ما أشهده يوميا في مدننا البائسة من احتياج الأمة الإسلامية إلى تربية روحية، ومدنية. لأننا ومهما غالينا في إشباع غرائزنا المكبوتة بمظاهر التدين، فإن سلوكياتنا العامة، لا تعبر عن ترسيخنا لمبادئ مَدَنية هذا الدين. فهل الذي تربى في أحضان الإسلام، سيكون هو القاتل في طريق أراد أن يرجم فيه شاخصا يوحي بحقيقته إلى معنى الشيطان.؟ لو رجمنا الشيطان في ذواتنا، وأخرجنا هذا المارد من أعماقنا، لكان رجمنا دلالة على أننا تحررنا من نوازع الشيطان، ووخزه، ونخسه، ونزغه. لكن أن نظن وجود الشيطان في ذلك الشاخص بمنى، وهو يعترض طريقنا في لحظة مهاجمته، ويغرينا بالموت بدلا عن الحياة، فإننا ما زلنا لم نع سر المناسك، ولا الشعائر. بل لن نحاربه إذا عدنا إلى أماكن سعينا، وسعايتنا.
إن مفهوم التربية على أخلاق الإسلام، والإيمان، والإحسان، يحتاج منا إلى أن نعيد النظر في كثير من وسائل تثقيفنا، وتهذيبنا، لأننا، إن لم نستطع أن نحرر الأمة من رجس رجال الدين المتاجرين بالعقيدة، فلا محالة، سينتج خطابهم بؤرا قاتمة في عقولنا، وداكنة في قلوبنا، وسيؤثر ذلك في صيرورة التزامنا بمبادئ الحياة، والكون، والطبيعة، والإنسان. ومن هنا، فإن الاهتمام المستفيض من قبل رجال الدين بتبيين مناسك الحج المجردة من دلالاتها المعنوية، لا يفيدنا في ترسيخ مبادئ التربية الروحية، والمَدَنية، لأن أدوات الفقه، لا تضمن لنا إلا معرفة دقيقة بالأماكن، والعلامات، والصوى، لكنها لا تطيق في عقمها أن تفجر بين أعماقنا أخلاقا ترعى روحها طهارة الأماكن، وتستلهم من كل المناسك سرها، ومن كل الشعائر رمزها. إذ الفقه لن يكون ثورة حقيقية على السلوكيات المنحرفة، ما دامت روح الشريعة ومقاصدها غائبة عن مفاهيم وعظنا، وتوجيهنا. فلا عجب إذا اهتم المسلمون بالأحكام اللازمة للمشاعر، لئلا ينفلت منهم زمام القبول عند الفقيه المتشدد بحكمه، وتركوا دمج هذه الشعائر بروح الكون، ووحدته، ونسوا أن الحج في حقيقته، ما هو إلا جزء من كيان هذا الدين الذي لا يقبل الاختزال، ولا التجزئة.
في الحقيقة إنني لحظت في بنية نفس المتدين تناقضا يلغي أحيانا سمو تعامله مع الدين، فهو بمقدار ما ينساب نحو الكعبة، ويلبي، ويهلل، وهذا هو المطلب الحقيقي، لأنه يزحف نحو لحظة التوحد، والوحدة، لكنه في الوقت نفسه لا يستسيغ أن يندمج في بؤرة الفعل الممتزج بنوع سلوكه الذهني، إلا إذا فقد ذاته، ووعيه، وفكره، لأنه في شعوره بفقدان مكوناته الذاتية، يجد فرحا بكونه مخْلصا ثابت الإخلاص. ولا أدري، هل الدين جاء لإثبات العقل وترسيخه في وعي الشعائر.؟ أم جاء لمسخ هوية الإنسان، لكي يحس بأنه تعالى عن آدميته، وصار في شطح تدينه بلا إحساس، ولا مشاعر.؟ لو أراد الدين منا أن نكون بدون عقل، أو وعي، أو فكر، لكان مجانين الحمقى أولى بهذا الفضل من غيرهم، بل سيكون السكران في غيبوبته أقرب إلى درك فهم العبادة من غيره. أجل، فهؤلاء السكارى يجتمعون في ميونيخ لأداء ما يفرضه السكر من طقوس الجعة، وتعدادهم يربو على سبعة مليون، ولكن التاريخ لم يسجل عن سكرهم أنه قتل ألفا من السكارى. فما الذي أصاب عقلنا الإسلامي من ترد، وهوان.؟ إن تقاذف المسلمين على بؤرة من كوكبنا الأرضي، تحمل تاريخا مترعا بالفداء، والتضحية، هو جزء من الدين، لأنه أداء لشعيرة من شعائره المفروضة. وفيها يتجسد المسلم تجسدا آخر، لا لباس عليه إلا ما يستر عورته، ولا صوت له إلا نداء التلبية، ولا رغبة له إلا أن يسمع حفيف شجرة الحقيقة، ونغم ناي الطبيعة. وهذا التجسد للحقيقة المعنوية، يقتضي منه صناعة الحياة، لا صناعة الموت.
وهكذا يتجلى لنا هذا التناقض في كون كثير ممن يؤمون الحج، يبحثون عن الموت بين قدسية المكان، لأنهم في تراكم حزنهم، وألمهم، يتصورون أن الموت أجمل من الحياة. وأن متعة الوجود لا قيمة لها أمام العدم المطلق. أجل، لا قيمة لها إذا فقدنا قيم العقل، والوعي، والفكر، وأخلاق الإنسان، والمدنية، والحضارة، وصرنا عالة على أمم الكون، نستدر عطفهم، ونستجدي ولاءهم. أجل، الموت أفضل من الحياة، والعدم أجمل من الوجود، إذا لم يعش الإنسان حرا، كريما، ولم يطق أن يدفع شرا، ولا أن يرد مكرا. لكن ما نتألم له من رغبة جشعة في الحياة، ونقمة كره حزينة لها، هو التناقض عينه، لأنها صورت في نظر بصورة عاهرة فاتنة، وفي نظر آخر بحثنا عن حقيقتنا في لحظتها الهاربة. وهنا امتزج فينا حب الحياة، وحب الموت. لكن هل نحن صادقون في ادعائنا لرغبة الموت.؟ لو كنا صادقين، لما قتلنا غيرنا من أجل البقاء، ولما زعمنا أن الكون ملك لنا، ولغيرهم حظ العبودية، والرق، والضعة. إنها قمة التناقض التي يصنعها الفكر الوعظي، وغاية التشظي التي تتلاشى بين جنونه حقائق هذا النوع البشري. فأين مفهوم الفداء، والتضحية، ونحن نؤثر أنفسنا بالحياة دون غيرنا، ونهدم الحواجز بيننا وبين متعتنا المستبدة بعقولنا، وقلوبنا.؟ لو صدقنا في هذا الزعم المكذوب، لما رأيت بأم عيني، وأنا نائم إلى جانب أسطوانة في الطابق السفلي للمسجد الحرام، أناسا فروا عن بكرة أبيهم نحو الأبواب، لا لانفجار حدث، بل لسماع ارتجاج أحدثه تماس كهربائي في إحدى جنبات المسجد. هنا أدركت خوف وجبن هؤلاء الذين يؤثرون الموت على الحياة. لأنهم لم يكونوا أهل رغبة سالبة للإرادة في نعيم الآخرة، بل ينفسون الكرب عن ذواتهم، ويفرجون العقد عن باطنهم، ويطمئنون أوجاع فقرهم وجهلهم بما يرتجون نيل وعده المنتظر. والأغرب أنه إذا حدث مثل هذا الذي حدث في منى، صعد على منابرنا غرير، طرير، يعدنا بأن جثمان القتلى، قد انتقلوا إلى عالم الآخرة شهداء.
إن أغرب حكاية أسمعها اليوم، وأنا أمعن النظر فيما يحدث، أن الذي قتلوا هناك قد ماتوا شهداء، وأن الذين نجوا من مأساة الازدحام، قد عادوا من ذنوبهم إلى أوطانهم كيوم ولدتهم أمهاتهم. فيا للعجب، كيف نفذ إلى عقولنا أن المقتولين بالازدحام المثير للشبهة، قد ماتوا شهداء.؟ هل هناك من طلب الشهادة، ورغب فيها.؟ وهل المكان محل حرب وعداء لغير المسلمين.؟ فمن القاتل هنا، ومن المقتول.؟ وهل مجرد الوفاة بحرم مقدس يوجب الشهادة.؟ لا أبالي إذا قلت بأن المسلمين أدركوا خطورة ما حدث من خلل، واختلال، وآلمهم أن يجتمع السكارى على قنينة في ميونخ بدون حدوث ما يؤدي إلى موت متحقق، وأن يجتمع البوذيون ببحر الغانج بملايين تفوق ما يجتمع في منسكنا بلا موت مقدر. إنه تسويغ نلتجئ إليه حين لا نريد أن نصرح بحقيقتنا، وهذيان يرخي عنان هذره وعاظ استشعروا أن الخطب خلل، وأن أمة الغرب تسخر من بداوتنا، وجهلنا، وحمقنا. فكيف يمكن لنا أن نسوغ هزيمتنا في ميدان التربية، والأخلاق، إن لم ننفس عن كربنا بهذه الوعود الكاذبة.؟ تلك أمور تحز في نفسي، وأنا أرى سيلان مفهوم الشهادة كالصديد على أفواه لا تقبل الموت لنفسها، ولكنها تحث وتحض وتحرض عليه غيرها. فلم لا يأتي هؤلاء المتسكعون على فتات موائد الوعظ الديني إلى ميادين الوغى، لكي يفجروا أنفسهم فداء للملة، والأمة.؟ أم هو شيء اسمه الخوف من الموت، والهلع من الفقد، وحب للعاجلة، وإيثار للباقية.؟ لو فعلوا ما يدفعون إليه غيرهم، لكان لكلامهم محمل صدق.! لن يفعلوا، ولن يسكتوا عن إغراء فلذات أكبادنا بالموت، والقبر. فلو سكتوا، لنام القطا على جناح الأمان. فأمثال هؤلاء الصعاليك بين دروب الشهوة الخفية، يتصيدون العقول بفتاواهم، ثم يزجون بهم في سعير الحروب، وأتون المعارك، وإذا ما تغيرت وجهة الفلك بين أمواج الحياة العاتية، نكثوا ما نسجوا، ثم صاروا حماة لمن عادوه بالأمس، ورعاة له بالفتوى، وناطقين له بصوت الوعظ. تلك هي سبتنا في أوطاننا العربية، والإسلامية.! فهؤلاء الذين يتحدثون عن الشهادة في مجتمعات أسسها الإسلام، وتاريخه، وحضارته، يمثلون عقلية داعش، ولو لم يصرحوا بذلك، لأنهم ينفثون سموم أمراضهم النفسية والاجتماعية في أسحار شبابنا، وأذواق مجتمعنا، وإذا ما ألجأهم القدر إلى مخافر أمن الدول، تنصلوا، وتنكروا، وربما أولوا كلامهم، أو ربما أعلنوا التوبة، والمراجعة الفكرية، لكي يتحولوا بأعجوبة إلى ناصحين، آمنين. إنه جبن الوعاظ الذين زعموا عليتهم أمام غيرهم، ولكنهم في هوس غرورهم ببهجة الحياة يتملقون، ويتزلفون، وإذا ما نالوا حظوة، وجاها، أو مركزا، ومنصبا وثيرا، تحولوا إلى ألسنة تتعالى بدركها لمناطات المصالح، والمنافع. فأي شهادة يتحدث عنها هؤلاء، والذين ماتوا لم يقتلوا إلا بأرجل إخوانهم الخشنة.؟ بل لم يكن الموت رغبة ولا أملا لهم، بل كانوا كغيرهم أحرص على حياتهم، لكن صدمهم ما دهمهم، فأرداهم قتلى تحت سنابك إخوانهم.
لم يكن الحج كارثة طبعية، ولا زلزلا، ولا بركانا، بل كان محلا للأمن، ومن دخله كان آمنا، فأين الأمن.؟ لقد ضاعت الحجة، وفقدت الحقيقة، ولم يبق لنا إلا أن نقول: إن مستقبلنا يعدنا بالمفاجآت، لأن بنية التخلف صعبة، وشرسة، لا تقبل النقاش، فمنطلقاتها محصنة، لا تقبل الغير، فإما أن تتركها على حالها، وإما أن تموت غيضا، وتنتهي حياتك في صناعة شيء عجز عنه العلم، والفكر، والفلسفة، بل عجزت عنه الأنظمة الديمقراطية العتيدة. هذه هي الحقيقة المرة. وإلى فاجعة أخرى، ومأساة أخرى.
وأختم هنا بتوضيحات:
الأولى: لو كان كل قتل وذبح واغتيال يفسر بمفهوم القضاء، والقدر، لما كان لحكم القاتل عمدا أو خطأ أي معنى. فالجناية ثابتة مهما كان عمق وغور التفسير، أو التأويل. وأما هو سابق في أزل علم الله، فهو الجانب الإلهي في تدبير الخلق، والكون. ولكن إثبات العلم له عز وجل في الكلية، لا ينفي المسؤولية الجنائية في الفعل التنجيزي الاختياري. وهنا لزم الفصل في الاعتقاد بين ما هو راجع إلى سابق علم الله، وبين ما هو مقدور للبشر، ومحمول لطاقتهم، وتحدده معاني الإرادة، والاستطاعة، والهم، والعزم. لأن القدر منه، والقضاء مرتبط بالأسباب والعلل التي تؤثر في الفعل البشري بالوجود، أو العدم.
الثانية: لو فرضنا أن المسؤولية تقع على طرف آخر كما يدعي الإعلام السعودي، فهل يعني هذا أنها بقولها هذا ستكون في تحلة من أمرها، أو أنها تخلصت من حق الغير في المتابعة، وصارت بريئة من التهمة.؟ لو قلنا بما يدعون من دعاوى، لزعمنا يقينا أنهم غير قادرين على حماية أمن بلدهم. وهذا مما لا يمكن أن نصل إليه في النتائج، وإن كان هذا الادعاء يوحي إليه بوجه من الوجوه. لأن قدرة هذا الجاني على أن يحدث خللا في وظيفة أمن الدولة، لا يعني سوى أنها عاجزة عن معرفة من يفد عليها من أعدائها، وأصدقائها. ومن هنا، فإن قدرة هذا العدو على إسقاط أضخم رافعة في الشرق الأوسط فوق رؤوس الطائفين، والراكعين، والساجدين، هي من إحدى المعاجز العظيمة التي لا يمكن إثباتها إلا لسيدنا سليمان عليه السلام. إذ هو القادر على تسخير الرياح، وهو القادر على أن يخرج من قبره في موسم حج هذه السنة، لكي يقول للرياح: هبي، فتهب، ثم تقع الرافعة، وتزهق أرواحا عديدة، ثم ينتهي الملف بأنه كان معجزة لمن استطاع أن يحرك الرياح، ويحدث الفاجعة في محل الأمان. وهو القادر أيضا على يقول للحجيج هلموا إلى مهلكتكم، فيهرعون إليها بشوق، وتوق. إنه الدجل في المواقف، والتدجين لشعوب آثرت أن تسقط عنها لغة الاعتراض على ما يحدث، لا لأنها لا تعي ما يقع في أمتها، وإنما ترجت أن يكون لبؤس العالم الإسلامي يوم عيد تنتهي فيه المأساة.
الثالثة: إن تفسير ما يحدث بعامل نفسي كامن في عقل الصراع بين المذاهب الإسلامية، هو تسويق لإيديولوجية معينة، كان لها أثر كبير فيما حدث من صراع بين الألوان والأطياف الدينية في أمتنا المنكوبة. فالمواطن المسلم، وفي أي بلد وجد، وسواء كان عربيا، أو فارسيا، أو تركيا، أو أمازيغيا، أو غيرهم، لا يهمه في واقع أزمة عالمنا الإسلامي، من هو الأجدر بالعقيدة الصحيحة، ومن هو صاحب البدعة الضلالة، ومن هو صاحب الحق في الصراع، بل يهمه في لحظة حجه أن يجد الأمن في مكان جعله الله آمنا، وأن يشعر بحريته في أداء مناسكه، لا يضايقه فكر، ولا توجه، ولا مذهب. فقصارى جهده أنه ما أتى المكان إلا بعد امتزجت ذاته بروح الإيمان، وعشقت أذواقه أن تستمع إلى صوت الحقيقة بين خزائن السر، والمعنى. فهو لم يتجشم المشاق، ولم يتحمل المتاعب، لكي يتعلم نمطا من العقيدة، أو لكي يستمع إلى خطاب يرسخ لعقدة الصراع، والنزاع، أو لكي يشهد بوقا يفرق بين أفراد الأمة الإسلامية. هذه رغبته في زيارة مكان يفترض فيه أن يكون لعموم المسلمين، على اختلاف مذاهبهم العقدية، والفقهية، ومشاربهم الروحية، والمعنوية. وما لم تحترم الدولة المنظمة خصوصيات الإنسان، وحريته، ومساواته، فكيف يمكن للحج أن يكون براءة من الانحراف، والفساد، والظلم، والصراع.؟



#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 1-2
- جذور المعرفة الصوفية
- حين تلتبس المفاهيم
- ناسك في دير الحرف 1
- ناسك في دير الحرف 2
- مقالات في التصوف
- حقيقة المجرم
- مفهوم الحقيقة
- إزالة الإبلاس عن معاني الإرجاس
- أفكار مسوقة (الجزء السادس)
- أفكار مسروقة (الجزء الخامس)
- أفكار مسروقة الجزء الرابع
- أفكار مسروقة (الجزء الثالث)
- أفكار مسروقة (الجزء الثاني)
- أفكار مسروقة (الجزء الأول)
- صرخة براءة صغير
- همم الحكماء، وذمم السفهاء
- تعدد الزوجات بين فحوى النص، وفوضى اللص.
- دموع الجمعة
- رسالة حب إلى أوشو


المزيد.....




- عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي ...
- مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي ...
- أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع ...
- الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى ...
- الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي- ...
- استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو ...
- في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف ...
- ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا ...
- فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي ...
- استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - جميل حسين عبدالله - كارثة مشعر منى... أي خيار في تفسير النكبة.؟