ملاحظة : حرر هذا المقال ، أثناء عرض قناة < أبو ظبي > مسلسل هولاكو ، وبعث به إلى جريدة " المؤتمر " فوعدت بنشره ، لكن النشر تأخر حتى كاد المقال أن يصبح مخللا !
------------------------------------------------------
ستتصرم الأيام ، وتأتي أيام أخرى يقرأ فيها الأحفاد أو يشاهدون ، كتبا أو أفلاما أو مسلسلات تلفزيونية ، تتحدث عن زعيم منصور بالله اسمه صدام ، حدث في نهاية عهده الزاهر هجوم كاسح من قبل اليانكي الكافر ، الذي اجتاح بغداد وأسقط دولة المنصور بالله وخلافته الإسلامية والعروبية ، مقيما على أنقاضها حكما سلم مقاليده لمن سلموا مفاتيح بغداد إليه ، من المعارضين العراقيين الرفضة أبناء الرفضة ، حتى لو كانوا من مختلف الطوائف والأعراق ، من مسلمين سنة وشيعة ، ومسيحيين أرثوذوكس وكاثوليك ، وصابئة و يزيديين و لادينيين ، ومن عرب وكرد وتركمان وآشوريين ، ومن حضر وبدو ومدن وأرياف ، ومن سكان أعالي الجبال أو أقاصي الصحارى أو تخوم الأهوار المجففة . هكذا سيكتب المؤرخون المنصفون السابقون ، وهذا ما سيقرأه اللاحقون !
قصة تتكرر جيلا بعد جيل ، دون جرح أو تعديل . بالأمس ، في النصف الثاني من القرن السابع الهجري ، سقطت بغداد وانهارت الخلافة العباسية المخضرمة ، إثر هجوم قبيلة من المغول هي " الإيلخانيين " الذين سيطروا على إيران والعراق عقب حملات كاسحة راح ضحيتها الآلاف نتيجة سوء تدبير ولاة الأمور الذين حكموا الناس عنوة حتى دون استفتاءات رئاسية مئوية .
في تلك الفترة التاريخية العصيبة كما هي حالنا اليوم ، أحنى علماء كبار رؤوسهم للعاصفة الكاسحة لكي تمر بسلام وبأقل قدر من الخسائر ، مثلما يفعل حكماء القوم العراقيون اليوم ، الذين يفكرون وينظرون إلى أبعد من أنوف الآخرين ، من الطبالين والمزمرين والعناترة والمجعجعين بدون طحين ، ومن أولئك الأعاظم العلامة نصير الدين الطوسي والوزير مؤيد الدين بن العلقمي وابن طاووس وابن ميثم البحراني والعلامة الحلي الفقيه الشهير . وتشير دراسة المصادر التاريخية لتلك الفترة إلى أن أذهان العلماء المذكورين كانت مهيأة تماما لحدث مدو مثل سقوط الخلافة العباسية وسيطرة المغول ، نتيجة لتحليلهم لميزان القوى بين الطرفين ، ومعرفتهم الدقيقة بالانهيار النفسي الداخلي للبلاط العباسي الغارق في الملذات واللامبالاة وسوء التقدير ، في مقابل القوة المغولية الغازية التي كانت تعرف ما تريد بدقة لا متناهية ، فضلا عن حسن تدبير قادتها وخاصة هولاكو خان الذي حول جنوده إلى عناصر فدائية مستعدة للقتال دون أهدافه حتى الموت ، عبر إغداق المرتبات والهدايا الدسمة عليهم وتذكيرهم بان عدوهم المستعصم يجوع شعبه وجنوده ليكنز هو الذهب والفضة ، هذا طبعا ناهيك عن الفارق الأساس بين الطرفين ، المتمثل بمبدئية المغول الذين يقاتلون لبسط نفوذ شعبهم ودولتهم ، ولا مبدئية الجيش العباسي الذي لم يكن مستعدا للقتال حتى النهاية وفي ظروف غير متكافئة للدفاع عن خليفة مترف تمزق دولته الصراعات ودويلات الطوائف ، فيما يقبع هو في قصوره المنيفة يعب اللذات المحرمة في معظمها . هل نحن بحاجة لمقارنة هذا الوضع بالوضع الملغوم القائم بين نظام المنصور بالله وبين أقوى دولة في العالم ، ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية ؟ ما الحاجة للمقارنة فيما الوضع نسخة تاريخية طبق الأصل ؟!
كان المغول الإيلخانيون قد بدأوا هجومهم على منطقة الشرق الأوسط عام 616 للهجرة ، واستهلوه بالحملة التي كان يقودها جنكيز خان على إيران ، وبعد أربعين عاما ، أي في سنة 656 للهجرة ، إجتاح حفيده هولاكو بغداد ، ورغم كل ماقيل عن الدمار الذي لحق بالمدينة – لا ينبغي أن ننسى أن المؤرخين الذين احتكروا نقل الوقائع هم من المناصرين للحكم العباسي والمقتاتين على فتات موائده وهو ما يدفعنا إلى المقارنة بينهم وبين أرباب القلم المدافعين عن النظام البعثي الدموي الآن والمشنعين على الولايات المتحدة والمخرجين إياها حتى من دائرة التحضر – فإن بغداد عاشت بعد السيطرة المغولية حياتها الطبيعية على الرغم مما كان يشيعه المشعوذون بين الناس من أن الدنيا ستنقلب إذا ما انهار الحكم العباسي (1)
تماما مثلما يشيع مشعوذون معاصرون في أيامنا هذه دعاوى من قبيل أنه إذا ما انهار نظام صدام فإن العراق سيتجزأ والدنيا ستنقلب رأسا على عقب !
إن مراجعة وتحليل موقف الحكماء البغداديين الذين رحبوا بالدخول المغولي إلى بغداد ، وفي طليعتهم الوزير الحكيم مؤيد الدين محمد بن أحمد ابن العلقمي الأسدي البغدادي، يوفر لنا أكثر من حجة دامغة لتبرير موقف المعارضة العراقية حاليا من الحدث المماثل المرتقب . فقد كان هؤلاء الحكماء يؤمنون بأفضلية سيطرة الحاكم الكافر العادل على الحاكم المسلم الظالم ، وكانوا يؤمنون بقبول ولاية الحاكم الجائر لإقامة الحق ، وقد استفادوا أيما استفادة من التسامح الديني الذي اشتهر به المغول رغم وثنيتهم ، لنشر الفكر والثقافة والعلم ، فضلا عن أن هذه الخطة الذكية انتهت فيما انتهت إليه ، إلى اعتناق ملايين المغول الدين الإسلامي ، وكل ما خسره المسلمون ، هو انهيار حكم تعسفي وراثي جثم على صدور المواطنين طوال 524 عاما ، و خليفة خليع لا يأسف على مصيره إلا المنتفعون بعطاياه من الإمعات ، والخراب الناتج عن الاجتياح العسكري ، والذي كان بإمكان الخليفة تجنبه قبل الجلوس في خيمة " صفوان " ! وهذا ما سيتكرر في بغداد للأسف الشديد ، ما دام صدام مصرا على عدم الاتعاظ بمصير أسلافه !
إلى ذلك ، تعاون علماء وحكماء آخرون ، في مدن أخرى غير بغداد ، مع المغول أو حيدوا أنفسهم في الصراع الذي كان قائما بين المغول والسلطة العباسية ، بغية دفع الخطر عن مدنهم . ولو كان المستعصم حكيما حقا لقبل نصيحة وزيره مؤيد الدين منذ البداية ، ولجنب بغداد الخطر الداهم ، لكنه قاتل المغول أولا – مثلما سيقاتل صدام الأميركيين ولا يستقيل أو يخرج من العراق – ثم اضطر إلى مصالحتهم بعد أن امتلأت قلوبهم غيظا عليه فحدث ما حدث .
يروي العلامة الحلي في كتاب كشف اليقين أنه عشية سقوط بغداد استولى الرعب على أهالي الحلة فغادر معظمهم المدينة ولجأوا إلى الصحارى والقفار ، فيما بقي في المدينة القليل منهم ، ومن هؤلاء القلة والد الحلي وابن طاووس وابن أبي العز . فقرر هؤلاء الثلاثة وهم من علية القوم ووجهاء الحلة مكاتبة هولاكو لغرض استسلام المدينة له على أن يعطي أهاليها الأمان ، وهو ما حصل بالفعل ولم ترق في المدينة قطرة دم واحدة .
ويشير الباحثون المحايدون إلى إن هذا الأمر يدل على قناعة أولئك العلماء والحكماء بأن المغول سيغلبون ويسيطرون ولا جدوى من أي نوع من أنواع المقاومة ، وهو ما أكده الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي للمستعصم لكنه لم يصخ سمعا ، وهذا بالضبط ما يفعله صدام الآن ، فلا يستمع إلا لآراء الجهلاء والإمعات أمثال عزة الدوري وطه الجزراوي و طارق عزيز وعشرات المصفقين العرب والأجانب ممن لا يهمهم مصير العراق وشعبه وبناه التحتية لا من قريب ولا من بعيد .
وعقب سقوط بغداد ، بدأ المؤرخون الموتورون بالبحث عن أي سبب مهما كان واهيا لتبرير ما حل بالمدينة الجميلة ، متحاشين السبب الأساس وهو افتقار الخليفة للحنكة والحكمة وعدم استثماره فرصة السلام والصلح قبل فوات الأوان ، رغم علمه التام بعدم استعداد نظام حكمه للمواجهة العسكرية مع القوة الكبرى الغازية ( المغول ) وهاهم ورثة أولئك المؤرخين يفعلون الشيء ذاته . فبدلا من أن يقنعوا صاحبهم الذي ملأ بطونهم بكوبونات النفط المسروقة من بيت مال العراقيين بأن يجنح إلى السلم مادام المجتمع الدولي قد جنح لها ، راحوا يعبئونه بترهات الصمود والمواجهة والوقوف في وجه العالم كله ، وماذا تراهم خاسرين ؟ فكل منهم جالس في بيته يتلذذ بتناول شوكولاتة جالاكسي تحت هواء التكييف وأمام شاشة قناتي الأجيرة وأبو بريص ، لهم الغنم و على أولاد الخايبة العراقيين الغرم ، والبركة برأس صدام أو غليص لافرق !
إن إعادة نظر متجردة بما نقل لنا عن أحداث تلك الفترة ، كفيل بتشكيكنا بالكثير مما روي حول الدمار الذي لحق بدور العلم والكتب التي تناثرت في دجلة واللونين الأزرق والأحمر( لون الحبر ولون الدم ) اللذين غلبا على مياهه وإلخ … مما سنكون على موعد مع تهويل مماثل له مع أول صاروخ دولي سيطلق على قصور صدام في نطاق الحرب المحتملة . يقول نصير الدين الطوسي الذي ألقى المؤرخون المغرضون على عاتقه تبعات المسألة برمتها ، فيما كان سجينا حرره هولاكو للتو من قلعة الموت الاسماعيلية ، ولم يكن وقته يتسع للتدخل في شؤون بغداد مطلقا ، بعد انشغاله بعلوم الفلك والرصد ، بل ونسي الإهانة التي وجهها إليه المستعصم ذات يوم (2) وانشغل بعلمه وتآليفه ، يقول : حينما استولى هولاكو خان على بلد الملحدين – الاسماعيلية – حررني من سجنهم وأمرني برصد النجوم ، وجلب العلماء والكتب من بغداد والشام والموصل وخراسان ، مما مكنني من تأسيس مكتبة ضمت أربعة آلاف كتاب عند مرصد مراغة الذي أسسه لي ( أكد قصة المكتبة بآلافها الأربعة جرجي زيدان في آداب اللغة ) والسؤال الملح هو : كيف يجمع الكتب ويحترمها من قيل أنه أحرقها أو القاها في النهر !
سؤال بريء لن يجيب عليه أحد ، مادام النفاخون والمهولون والمبالغون يسيطرون على وسائل الإعلام والتوجيه والترفيه ، في عالمنا العربي !
(1) كان عراف هولاكو حسام الدين المنجم يحذره من أنه إذا حاول دخول بغداد عنوة فستحل به وبجيشه وبالناس سبع مصائب :
• سيموت كل الخيول التي يستخدمها جيش هولاكو وسيمرض جنوده .
• لن تطلع الشمس .
• لن تمطر السماء .
• ستهب ريح صرصر عاتية ويلحق الخراب بالعالم على إثر زلزال .
• لن ينمو زرع ونبات على الأرض .
• وسيموت الملك الإيلخاني المعظم ذلك العام !
وبعد غزو بغداد ، طلب هولاكو هذا المنجم الكذاب وضرب عنقه !
(2) أثناء وجود نصير الدين الطوسي في بغداد التي تلقى فيها شطرا من علومه قبل احتجازه لدى الاسماعيلية ، ألف كتابا في فضائل أهل بيت النبي ( ص ) وحينما جاء المستعصم ذات يوم للترويح عن نفسه على نهر دجلة ، تقدم الطوسي إليه واهداه الكتاب ، فما كان من هذا الخليفة الجاهل إلا أن قلب الكتاب بدون اكتراث ثم ألقى به إلى النهر ، وحينما كان الكتاب يغرق ثم يطفو ثم يغرق ثم يطفو على صفحة الماء ، كان المستعصم يقهقه ضاحكا وهو يخاطب الطوسي بالقول : أنظر إلى كتابك كيف يرقص رقصا رائعا ! الأمر الذي حفر جرحا عميق الغور في نفس العالم الجليل إزاء مثل ذلك الخليفة الأحمق .