|
بدون لغة مشتركة: تأملات عن المجتمع والعنف والكلام
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 4933 - 2015 / 9 / 22 - 19:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ماذا يمكن أن تقول رزان زيتونة لمحققي زهران علوش، وهم يتهمونها مرة بأنها "مشروع علماني" ومرة بأنها "مشروع أميركي"، وهي تعابير جرت على لسان زهران علوش شخصياً بعد اختطاف رزان مع زوجها وائل حمادة، ومع زوجتي سميرة الخليل، ومع ناظم حمادي؟ وإذا كانت لغة قائد "جيش الإسلام" في وصف رزان أنها "حذاء خلعه من رجله حين رأى الاهتمام الأميركي" بها (يقال أن روبرت فورد سأل زهران عنها عبر القطريين)، فبأي لغة ستتكلم الكاتبة المحامية الناشطة الحقوقية مع أتباع زهران؟ ستقول إنها عاملة في مجال حقوق الإنسان؟ تدافع عن مبادئها في وجه أي إسلاميين، مثلما سبق أن دافعت، استنادا إلى مبادئ الحق نفسها عن إسلاميين، وعن سلفيين؟ إذ ما معنى حقوق الإنسان؟ أليس هذا مفهوما غريبا مستوردا، الغرض منه إفساد ثقافتنا والتخلي عن ديننا؟ وأية لغة ستجدها سميرة الخليل مع الجماعة نفسها، وهم ربما يأخذون عليها أنها علوية، على ما تبرع لهم بالوشاية والتحريض كاتب وإعلامي موتور؟ أو أنها شيوعية، وقد كانت فعلا معتقلة سياسية بين 1987 و1991 لأنها شيوعية؟ لا يبدو القول إنها كانت معارضة للنظام على الدوام، إنها اعتقلت لأكثر من أربع سنوات أيام حافظ الأسد، إنها مشاركة في الثورة منذ البداية، وإنها جاءت إلى دوما تهريبا لأنها مطلوبة من النظام، لا يبدو ذلك كله كلاما مفيدا. ارتكبت أم لم ترتكب أي خطأ، سميرة هي ذاتها خطأ. وهو ما ينطبق على رزان. وحين يكون الواحد منا خطأ، فإن الصح هو... محوه. ولا يبدو أنه يجدي وائل حمادة القول إنه اعتقل مرتين على يد الأسديين أثناء الثورة، وتعرض لتعذيب سخي، وأنه معارض قديم للنظام. ولا يجدي ناظم القول إنه قضى نحو عامين ونصف متواريا في دمشق وجاء إلى دوما لينجو من النظام وليساعد فيما يستطيع، وأنه، مع وائل، قضى فيها بالكاد ثلاثة شهور قبل اختطافه مع سميرة ورزان ووائل (رزان، بالمقابل، قصة سبعة شهور ونصف، وسميرة أقل من سبعة شهور). في كل الحالات لا يبدو أن هناك لغة مشتركة تتيح للمخطوفين شرح أنفسهم، وتدفع عنهم ما قد يواجهون به من اتهامات. مشروع علماني أو أميركي أو حذاء... هذا كلام ليس له معنى محدد متصل بالعدالة كي ينفى، ومثله الاتهام المحتمل لسميرة بمنبتها الأهلي أو بإيديولوجية سياسية اعتنقتها يوما، أو بزوجها. هذه ليست تهما كي ترد. الاعتقال والتغريد فقدان اللغة المشتركة هو شرط جيلين من معتقلي الرأي والمعتقلين السياسيين في "سورية الأسد". كان متعذرا علينا شرح أنفسنا أمام أجهزة تحقيق أسدية، تعتبرنا أعداء سلفاً، وتتوسل التعذيب منهج تحقيق روتيني، مع تمتع رجالها بحصانة تامة مهما فعلوا. في مواجهة وضع الانكشاف هذا كان من استراتيجيات معتقلين يساريين محاولة شرح أنفسهم بلغة قريبة من لغة النظام نفسه، وهو ما لا يعني بالضرورة تسليماً بهيمنة خطاب النظام ولغته، بقدر ما هو محاولة دفاعية لبناء قضية مشتركة أو مساحة للغة مشتركة، يدفع بها المعتقل المعذّب عن نفسه أشد الأذى، لكنه يجازف بخسارة قضيته حين يفعل ذلك. من تبرؤوا فعلا من لغتهم بغرض النجاة من السجن، وتكلموا لغة النظام، آل بهم الأمر إلى موالاة النظام. اللغة ليست مجرد لغة، إنها سياسة. نحن موجودون في كلامنا، لا "جوهر" لنا مستقل عنه. كان الأمنيون الأسديون يقولون عن المعنّدين بيننا إن رؤوسهم يابسة، ولا يفهمون غير لغة القوة. هذا ليس لأننا نصمت حتما، ولكن لأننا لا "نعترف"، نتكلم مازجين بين الدفاع عن أحقية قضيتنا أو وجاهتها على الأقل، وبين التمويه وحجب المعلومات التي قد ترشد إلى شركائنا ورفاقنا. المطلوب بالعكس، أن "نفرش" أو "نغرد مثل البلابل" (وهذه من تعابير الجلادين عن المعتقل الذي "يعترف" و"يجود" في اعترافه)، وهو ما يمكن أن يتحقق تحت وطأة التعذيب. "الاعتراف" هو "اللغة الفصحى" التي يجب أن يلتزم بقواعدها المعتقل المعذب، وأحسن الاعتراف "التغريد". وفي مواجهة الأجهزة الأسدية كان حال الإسلاميين أسوأ دونما ريب، أمر تعززه الصفة الطائفية القوية للأجهزة والتكوين الطائفي للإسلاميين أنفسهم. منبع سوء الحال هنا هو بالضبط غياب اللغة المشتركة، حتى إن أغفلنا سوء النية. لدينا هنا عالمان من المفردات والإحالات والرموز والتوقعات تجعل التفاهم متعذرا. ولا ريب أن زهران علوش نفسه، وقد سجن لنحو عامين ونصف، مر بالتجربة في سجن صيدنايا، وليس لدينا سبيل لمعرفة تصرفاته الكلامية أثناء التجربة. ووضع مشابه من حيث المبدأ هو وضع أمثال فراس الحاج صالح وباولو دالوليلو واسماعيل الحامض وغيرهم كثيرين بين يدي داعش. بل هو أسوأ لأنه من غير المحتمل حتى أن يجري هنا تحقيق بأي معنى للكلمة. الرجال المذكورون مذنبون بوجودهم لا بفعلهم أي شيء. وهذا وضع مفتوح على الإبادة. التعذيب والكلام في هذه الحالات الثلاث: داعش وجماعة علوش في دوما والطغمة الأسدية، يقترن التحقيق بالتعذيب. وفعل التعذيب يحطم الكلام بأكثر من معنى. بالمعنى الفيزيائي للكلمة أولا، حيث لا يستطيع المعذب أن ينطق كلاما مفهوما وقت تعذيبه، وبدرجة تتناسب مع شد تعذيبه، يحل محله الصراخ وكلام متقطع قد يختنق في أطوار متقدمة من التعذيب. ثم بمعنى أن يفقد المعذب القدرة على كلام دال بعد أن تستولي سلطة التعذيب على كلامه، وبخاصة أن حصل و"فرش" أو "غرد"، قال الكلام "الصحيح". "الاعتراف" حالة نادرة من "الكلام المباشر"، الخالي من المجاز، الذي يقول "الحقيقة" كاملة، يفقد المتكلم بعده القدرة على قول "الحقيقة" في أي وقت لاحق. كان "معبئا" (بمعنيي الكلمة: مليئا، ومتجندا) ففرغ أو "فش". وبقدر ما تخلو لغة المغرد من المجاز، يغدو كلامه بعد ذلك كله مجازات تحيل بصورة ما إلى تلك التجربة الأصلية. هناك ما يتجبنه بإصرار، وما يبقى بعد التجنب، وبفعل التجنب ذاته، صامدا في الأعماق، فراغا صلبا. ولدي انطباع بأن إسلاميين كثيرين من معتقلي الأسديين مروا بتجربة تغريد، تحت وطأة ما تعرضوا له من تعذيب فظيع. وربما تكون اللغة الدينية، وهي مجازات كلها بقدر ما هي أيضا لغة غير شخصية، لغة بديلة بفعل تحطم الكلام الشخصي. إنها قناع يسدل على الصوت الشخصي الذي فقد نهائيا بعد أن غرد تغريدته الكاملة، وصار فارغا. وقبل أن يحطم التعذيب اللغة، هو في الواقع يفترض تحطم الاشتراك، لغويا وغير لغوي، بين المعذِّب والمعذَّب، والعداء بينهما. غياب اللغة المشتركة وضع سياسي يتكثف في العلاقة بين الجلاد والضحية. وليس غياب اللغة المشتركة هو السبب في التعذيب وأوضاع الاستعباد السياسي، في كون بعضنا ضحايا وبعضنا جلادين، هذه الأوضاع، بالعكس، وما تحميه من امتيازات سياسية ومادية وتمييز وتراتب، هي ما تحطم الروابط بين الناس، ومنها رابط الكلام الذي يفهمه الجميع. ومن جهة ثانية، لا يحطم التعذيب، الكلام المفهوم فقط، وإنما كذلك الملكات العقلية العليا. التعذيب يشوش، والمعذب لا يستطيع التفكير تفكيرا صافيا والتقريرالمتروى فيه، ويتقدم في دوافعه دافع النجاة بالنفس والحد من الألم. ثم إن زجّ المُعذّب في صراع بين التزامه بقضية وشركاء وبين إنقاذ نفسه يفضي على نحو متواتر إلى تحطيم الالتزامات الأخلاقية العليا أو يمتحنها امتحانا قاسيا يود المرء أن يتفاداه. وعبر تحطيم ملكات العقل وملكات الضمير العليا أو اقتراتها بتجارب تثير القشعريرة تنحط نوعية الكائن البشري في البيئات السياسية التي يشيع فيها التعذيب والإذلال، مثل البيئة السورية في الحقبة الأسدية، وتتقطع الروابط بين الناس، خوفا أو خجلا أو انعدام ثقة. لا يلزم أن "نغرد" كلنا حتى نعجز بعد ذلك عن الكلام الدال، يكفي أن كثيرين بيننا مروا بتجارب تعذيب وإذلال، دون فرصة في الغالب لنيل مساعدة طبية نفسية لاحقة.
وضعية إبادة ليس في سورية لغة جامعة. لغة داعش بالذات أجنبية جدا، بقدر ما هي فارغة، لا حياة فيها ولا شيء شخصيا، ولا خبرة جماعية متشكلة تاريخيا. ويبدو أن اللغات الفارغة أصلح لأغراض السلطة بفعل فراغها ذاته. إنها جملة من القواعد الأوامر والنواهي والموجبات اللاإنسانية واللااجتماعية. ليست لغة النفس، ليست لغة إيمان حي أو تجارب شخصية. وتسهل نسبتها إلى الله لأن كلام الله هو كلام لا أحد. ولأن تعريف هذه اللغة للحق وللباطل سابق على الناس وعلى تجاربهم وشروط حياتهم، فإن تصلح لاعتبارهم جميعا على باطل ومتهمين في أنفسهم أياً يكن فعلهم. الحق هنا "قانون" مقرر مسبقا، ليس شيئا ملتصقا بالناس يتحرك معهم كيفما تحركوا. إنه ملتصق بالأحرى بكائن بعينه، يملك الكلام الصحيح والقواعد الصحيحة، ووحده التماهي بهذا الكائن الداعشي يمنح حقا لأي كان. لغة جماعة زهران العسكرية الدينية مثلها أو تكاد، من حيث الفراغ، ومن حيث الصلاحية للسلطة، ومن حيث العلاقة بالحق. ولا يحيط أمثال سميرة ورزان وناظم ووائل بشيء من مصطلح هذه اللغة وتعريفها للحق والباطل، حتى لو لم تستخدم بصورة كيدية. وهي لغة رفعت بسرعة كبيرة، وبالقوة، إلى مرتبة الحكم في قضايا الحرية والحياة والرأي والكرامة الإنسانية، قبل أن تدون في سجلات عامة يمكن أن يطلع عليها الناس، ويدركون ما لهم وما عليهم في نظر أصحاب السلطة الجدد. وما ينطبق على لغتي داعش وسلطة علوش ينطبق على اللغة البعثية والأسدية من حيث المبدأ، وإن يكن طول إلفة السوريين بالأسديين كان يتيح لهم هامش مناورة أوسع من هامش المناورة أمام اللغة السلفية. أثناء الثورة لم يعد طول الألفة هذا مفيدا. معتقلو الثورة عوملوا كمذنبي الكيان وليس الفعل، والتوسع في القتل تحت التعذيب مرتبط بهذه النظرة التي لا تمر بالوسيط اللغوي، فكأن المعتقلين يتكلمون لغة أجنبية، كأنهم أجانب أو بكمٌ. بماذا يمكن أن تجيب سميرة محققا سلفيا، يجدها مذنبة ذنبا متصلا بكيانها، فيمتنع عليها إيجاد أية قضية مشتركة معه؟ الحال هنا أسوأ حتى من حال الإسلاميين أمام المحققين الأسديين لأنه حتى الإسلاميين كانوا على إلفة بقدر ما باللغة البعثية والأسدية التي كانت تعممها كل المنابر العامة في البلد. أما لغة السلفيين ففرضت نفسها لغة إكراه وتجريم حتى قبل أن تتاح لها منابر عامة تعممها فيألفها الناس. ولا يتبين المرء لنفسه تهمة قبل أن يجد نفسه بين يدي قوى عاش غير قليل من قادتها تجارب تعذيب وإذلال، وربما "تغريد"، فصارت ترى نفسها مظلومة، فأباحت لنفسها كل ظلم. في هذه الحالات كلها اللغة المشتركة معدومة ليس لأن المعتقلين أو المخطوفين مفتقرون إلى كلام معقول، ولكن لأنه ليس هناك معقولية مشتركة، ولأن الخاطفين والمعتقِلين لا يعترفون بعقل المخطوفين والمعتقلين، أن لهم قضية وجيهة، أو أنهم أصحاب حق ما. لا يعترفون بكيانهم ذاته أيضا. ولسنا في كل الأحوال في وضعية كلامية أو وضعية نقاش وإقناع، بل في وضعية سلطة، الحق فيها مع القوي المسلح، ومعه الحجج المقنعة والبراهين، والكلام المعقول، فيما الضعيف لا منطق له ولا حجة، ولا كلام. بل حتى ضمن وضعية السلطة هذه، نحن في وضعية إبادة، إن جاز التعبير، الحق فيها لا ينبع حتى من سلطة صاحب السلطة، بل من كيانه ذاته، كيان يشرحه الأسدين بعبقرية المؤسس وامتياز سلالته، ويشرحه الإسلاميون بعبقرية معتقدهم وامتيازه. وفي الحالين ينبع باطل الخصم من كيانه الفاسد الذي قد يوصف بالخيانة أو الكفر، أو "التخلف"، على ما قال بشار الأسد في خطابه في تموز. إزالة الباطل توجب محو الكيان، ونصرة الحق توجب سيادة كيان صاحب الحق. خطأنا في كل حال ليس شيئا فعلناه، بل شيئا نكونه، كما سبقت الإشارة. لكن علاقة الإبادة ذاتها شكل خاص من علاقة السلطة، فليس لحافظ أسد وسلالته كيان من غير السلطة، والفاردة المشبغة عليها هي نتاج السلطة وليس لها أدنى أثر قبلها. ومثل ذلك بخصوص عبقرية عقائد الإسلاميين، فليس لها خارج السلطة أفضلية على غيرها. ولعله من باب الربط بين كيان الأشخاص وأفعالهم بحيث ينبع سوء الأفعال من سوء الكيان كان التعذيب والسجن في "سورية الأسد" يقترن دوما بطلب "التعاون"، تعاون المعتقل مع أجهزة مخابرات النظام، أي أن ينقلب الشخص على نفسه الخطأ ويصير الشخص الصح. الواقع أن كيانه يتغير بالفعل، لكن يصير أسوأ حصرا: فارغا، بلا كلام شخصي، فوق كونه واشيا. لم يعد شخصا، صار أداة. وعند الإسلاميين، يستتاب المخالفون وينجون إن تابوا، أي غيروا أنفسهم وفق أصول للنفس الصحيحة يستأثر بكاتالوغها هؤلاء الإسلاميون. وداعش لا تقبل في دولتها غير من يتوبون على يديها. الكل كانوا كافرين أو مرتدين أو ضالين، ويجب أن يمروا بطقس التوبة هذا. ويبدو أنه حتى التوبة لا تشفع لصنف بعينه من الناس: الأصلاء في معارضة الدولة الأسدية. هذا ليس تشنيعا على منظمة لا يبالغ المرء مهما فعل في شناعتها، بل هو واقع مطرد لا جدال فيه، ويبدو أن غريزة المكون البعثي الصدامي لداعش تدرك أن هؤلاء هم العدو الحقيقي. "التوبة" هي أيضا اسم سلسلة سجون زهران علوش، ومن آليات العقاب فيها، فضلا عن الشبح والضرب والإهانات والتجويع، إجبار السجناء على حفظ سور أو أجزاء من القرآن!
لغات السلطة ليس العنف الرهيب المتمادي في سورية منفصلا بحال عن تحطّم اللغة المشتركة خلال عقود من الحكم الأسدي، وإن لم يكن نتاجا لها. الأصل في ذلك تحطيم المشتركات الاجتماعية عبر المراقبة والترهيب، والتفريق والعزل، والاعتقال التعذيب والإذلال، بغرض التمكن من أقصى سلطة ممكنة على المحكومين، وأقصى استئثار بالنفوذ والموارد العامة و"المجد". وقد أفضى ذلك مع السنين والعقود إلى تكون "أمم" أو جماعات مختلفة، أجنبية عن بعضها، لا تثق ببعضها ولا تشعر ببعضها، تتجاور ولا تتحاور، ولم تتحاور طوال هذه العقود. تنتمي رزان زيتونة إلى عالم غريب عن العالم الذي ينتمي إليه حسين الشاذلي الذي كتب بعربية مكسرة لطالب ابتدائية كسول تهديدا لها بالموت، لم ينس تصديره بالبسملة من باب إضفاء طابع عام ولا شخصي على الجهة المهدّدة. وتنتمي سميرة الخليل إلى عالم غير عالم سمير الكعكة، "شرعي" زهران علوش، وأبرز أعضاء مجلس الشورى المرتبط بـ"جيش الإسلام" في دوما. هذا ليس بفعل اختلاف المنابت والتجارب، وليس فقط لأنه لم تتح في أي وقت فرصة للقاء وتحاور، كان يمكن أن تتمخض عن لغة مشتركة أو عن اشتراك من نوع ما. ما كانت رزان ولا سميرة لترفضا لقاء أي كان والأخذ والعطاء مع أي كان، بما في ذلك زهران وشرعييه وسجانيه. ما يجعل العوالم مختلفة هو، بالأحرى، إرادة السلطة والامتياز، وإنكار المساواة، التفكير في السلطة العامة بمنطق السيادة والتبعية. ولم يأت شيء من ذلك من طرف أمثال سميرة ورزان ووائل وناظم. ما يحطم اللغة المشتركة ليس مجرد اختلاف العقائد والأفكار، وإنما هو وضعية سلطوية جديدة، توزع مالكي الكلام والمحرومين منهم وفقا لملكية القوة، وليس بفعل نقاش ومداولة عامة. ومن بين ما تفرضه قواعدها الخاصة، اللغوية والقانونية والسياسية. ويجد من يقترحون لغة وقواعد مغايرة بخاصة، ولهم بالفعل لغة وقواعد خاصة تطورت عبر السنين في مواجهة الحكم الأسدي ولغته، يجدون أنفسهم ممنوعين من الكلام، وإلا فمن الوجود. مشكلة سميرة ورزان ووائل وناظم ليست أنهم غير معارضين للأسديين ولغتهم، بل بالضبط أنهم معارضون أصلاء، لا يتملكهم نقص حيال النظام أو غيره، وطوروا في سنوات معارضتهم الطويلة لغة وإحساسا وقواعد عمل منفتحة على تعدد لغات السوريين السياسية والاجتماعية والاعتقادية، مما يتعارض مع أية لغة لا تحيل إلا إلى نفسها، وترى الحق مكنوزا فيها، لغة سلطة. مشكلة محدثي السلطة ليست حصرا مع أصحاب السلطة القدامى، بل أكثر مع من قدامى معارضيهم ممن يعتبرون منافسين خطرين. أعتقد أن معظم الانقلابات التاريخية الكبيرة تعرض شيئا كهذا.
عوالم العنصرية تقويض اللغة المشتركة من جهة، ونسبة الخطأ إلى كيان الأشخاص من جهة ثانية، هما عنصران أساسيان في بنيات اجتماعية سياسية بعينها، البنيات العنصرية التي تعيش كل مجموعة من مجموعاتها إلى عالم خاص وتختلف جوهريا عن غيرها. الشكل الأبرز للعنصرية في مجتمعاتنا هو الطائفية، حيث "عنصر" الجماعات هو عقائدها ومذاهبها، وليس عرقها. لكن العنصرية والطائفية ليست وليدة اختلاف العناصر والعقائد، بل هي وليدة أوضاع سياسية توظف في تمايز الجماعات الثقافي لضمان الامتياز السياسي والاقتصادي. ليس الإسلامي خطأ عند الأسديين لأسباب دينية، بل لأسباب سياسية، تحيل إلى السلطة والسيطرة والتحكم بالموارد، وإن استنفرت تمايزات موروثة أو مستحدثة كأطر للتعبئة. وليس العلوي خطأ عن السلفيين لأن عقيدته غير قويمة، ولكن في إطار معلوم من الصراع السياسي والاجتماعي، وإن جرى استمداد التبريرات المشرعة لمحاولة الاستئثار بامتياز سياسي واجتماعي باعتبارات تحيل إلى العقاائد. ويقترب الحال من ذلك عند تشكيلات سياسية متنوعة. في كل حال، ليس غياب اللغة المشتركة، وانعزال الجماعات، أصل العنف، بل إن ما يقطعه العنف من روابط وما يخلقه من كراهيات وقطائع، يحطم أي إمكانية للتواصل الكلامي المفيد، ويحصر التفاعل في جماعات أضيق وأضيق. العنف ذاته متأصل في أوضاع الامتياز المادي والسياسي. الطائفية نتجت عن هذا الوضع، أعني عن القطع السياسي للروابط بين السكان والحيلولة دون التواصل والشرح وتطوير لغة جامعة، لا عن مجرد وجود جماعات أهلية مختلفة. كان يمكن لهذه الواقعة الأخيرة أن تكون بلا أثر سياسي أو محدودة الأثر السياسي لولا أنه جرى الاستثمار فيها وتوسيع تجانب الجماعات أو أجنبيتها عن بعضها. لغتنا هي نحن، وتقويض لغة مشتركة يعني تقويض نحن سورية جامعة. تطورنا السياسي في الزمن الأسدي ليس فقط لم يسر نحو بناء شعب سوري، سار بالضبط نحو تضاؤل المشتركات بين السوريين، ونحو أجنبية موسعة لبعضهم في عين بعضهم.
لغة جامعة أختم هذه التأملات بملاحظتين: الأولى أن اللغة المشتركة هي البنية التحتية للمشترك الاجتماعي، لما يجعل من جماعات مختلفة مجتمعا. لا يلزم حتما أن يتكلم الناس لغة واحدة، لكن يلزم أن تقبل لغاتهم الترجمة إلى بعضها وأن يجري تداول معان مشتركة. في سورية يتكلم أكثر السكان العربية، لكن هذا يغطي على أجنبية متسعة بينهم منذ ما يقترب من جيلين. ومعلوم أن أعنف الصراعات في سورية وقعت بين متكلمين للعربية. المشكلة في محدودية فرص وأطر التواصل والتفاعل والنقاش وتوسيع المشتركات بين السوريين، كي يفهموا من الكلمات المتشابهة أشياء متشابهة. هذا لأن المعنى اجتماعي، والكلمات لا تعني في انفصال عن المداولة الاجتماعية. يمكن تصور سورية أخرى، سكانها يتكلمون العربية والكردية والأرمنية والسريانية والآرامية...، لكن يشتركون في تفاعلات كلامية وغير كلامية تزداد كثافة، فتتوسع مشتركاتهم وتنمو اجتماعيتهم. وجود لغة عامة يسهل الأمور، لكنه يسهلها فحسب. ليس هو ما يخلق التفاعل وما يصنع الاشتراك الاجتماعي والسياسي. الثانية أن اللغة الإسلامية لا يمكن أن تكون لغة جامعة للسوريين. ليس فقط لأنها لا تجمع حتى السنيين السوريين، ولا حتى الإسلاميين، ولا حتى السلفيين وحدهم، على ما تشهد تجاربنا في السنوات الثلاث الماضية، ولكن لأنها لغة أجنبية عن التجارب الحية للسوريين المعاصرين، وهي تجارب تعذيب وتهجير وفظاعة وقتل، ثم لأنها لغة- قناع، على نحو يشيع أن يحيل إلى تجربة "تغريد" جرى كبتها، وأخيرا لأن الحق فيه منفصل عن الناس، ومتصل بالعقيدة وبمالكي العقيدة، بما يؤسس لسلطة امتيازية لهم. وبينما أتيح لبعضنا أن يواجهوا تجاربهم، وهي تجارب تعذيب وإذلال أيضا، ويطوروا بقدر ما لغة مرنة تنفتح على تجارب السوريين المشار إليها، وتتيح امتلاك كلام شخصي حي، فإن اعتماد لغة خشبية عامة هو المخرج المعتمد في أوساط الإسلاميين. إسلام اليوم السياسي والعسكري هو نتاج كبت متعدد المستويات، يمتد طيفه من الكبت الجنسي إلى الكبت السجني وخبرات التغريد. سيكون تطورا سياسيا وثقافيا مهماً أن يتكلم الإسلاميون عن تجاربهم، أن يعترفوا بها لأنفسهم من أجل أن يعترفوا بها لغيرهم، وأن يتصالحوا معها. إسلام الإسلاميين اليوم مصنوع من هروب ومن كبت، من فشل. أما ما يمكن أن يكون لغة جامعة للسوريين فهو لغة سميرة الخليل ورزان زيتونة، اللغة المنفتحة على لغات السوريين المتنوعة، والتي تقبل الترجمة إلى لغات خاصة متنوعة. وهذه لغة تصنع عبر عمليات التلاقي والتواصل والتفاعل والأصغاء والتعاطف. ما تنفيه هذه اللغة قطعيا هو أن هناك أشخاصا أو جماعات خطأ.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الظالمون العادلون: من سرديات المظلومية إلى مقاومة الظلم
-
انطباعات سورية عن حركات ثورية في تركيا
-
الباراديغم السلفي الجهادي وهيمنته
-
المشكلة في مفهوم -العلوية السياسية-؟
-
بشار الأسد، الشخص والسلالة والطبقة
-
600 يوم على الجريمة المستمرة في دوما
-
في الليل السياسي، حيث تتخلق الأشباح وتنتشر
-
ما بعد انهيار الإطار الوطني للصراع السوري
-
من الثورة إلى الحرب: الأرياف السورية تحمل السلاح
-
تعريبان وتكريدان وما شابه
-
تل أبيض وما بعدها
-
تدمر كسياسة: عن المصنع السري للدولة الأسدية
-
مقابلة/ سورية، مصر، الإسلام، الثورة والثورة الثقافية
-
فلنسلّح المجرم: عن الأكاديميا الألمانية والقضية السورية
-
الثائرون والسلطان: أدوار ونماذج، واستحالات
-
بعد 48 عاما على 1967، و67 عاما على 1948
-
تأسيس الإبادة
-
من السيادة إلى ... السياسة أم الإبادة؟
-
رزان زيتونة: قوة الرمز
-
تحديق في وجه الفظيع: مساهمة في النقاش السوري حول الصور
المزيد.....
-
جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR
...
-
تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
-
جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
-
أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ
...
-
-نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
-
-غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
-
لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل
...
-
ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به
...
-
غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو
...
-
مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|