خليل كلفت
الحوار المتمدن-العدد: 5397 - 2017 / 1 / 9 - 06:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
هل ستظل المياه جارية؟
في رؤيا كابوسية، صرخ الملاح القديم Ancient Mariner الذي مجده الشاعر كولريدج: "الماء، الماء، في كل مكان، ولا قطرة ماء نشربها"(1). فهل سيحقق القرن الحادي والعشرون هذه النبوءة الكئيبة؟ ومن الوهلة الأولى، يبدو أن الماء في الواقع هو المورد الطبيعي الذي لا يكاد كوكبنا يعاني من أي نقص فيه. بل إن هذه الوفرة هي التي جعلت الأرض جديرة بلقبها "الكوكب الأزرق". وعلى كل حال، فمن كمية إجمالية تصل إلى 1.4 مليار كيلومتر مكعب من المياه، لا تمثل المياه العذبة سوى حوالي 2.5%. ويوجد الجزء الأكبر من المياه العذبة في طبقات عميقة من القبب أو القمم الجليدية القطبية التي يصعب الوصول إليها، ، ولا توجد سوى نسبة 0.3% من المياه العذبة المتجددة والمتاحة لاستخدام واستهلاك البشر(2). ولا تمثل تدفقات المياه، التي تحدد الجانب الأكبر من الموارد المتجددة، إلا حوالي 41000 كيلو متر مكعب في العام من المياه القارية، وحوالي 9000 كيلومتر مكعب فقط هي التي يمكن الوصول إليها واستخدامها فعلاً للاستهلاك البشري(3).
والماء، مع الهواء، هو المورد الطبيعي الأكثر ضرورية لصحة البشر ولنشاطهم الاقتصادي ورفاهيتهم الثقافية(4). كما يشترك الماء مع الهواء، في السمة المميزة المتمثلة في أنه متجدد في ظاهر الأمر على الأقل، وبصورة جزئية فقط. وعلى سبيل المثال فإن استعمالات الماء لا تدمره، بل تستهلك فقط خواصه أو تحول حالته الطبيعية. وعند المنبع أو المصب، تؤثر استخدامات المياه في غرض بعينه، على استخداماتها الممكنة في أغراض أخرى وسياقات أخرى (وبألفاظ أخرى، إذا استخدمنا لغة الاقتصاديين، فإن استخداماتها تحدد "مظاهر خارجية" قوية). والمياه هي "المادة الأولية" الوحيدة التي يكون لاستخدامها تأثير يرتد على احتياطياتها. ومع ذلك، فإن السمة المميزة التي تجعل المياه تختلف عن الهواء هي أنها غير موزعة بالتساوي: المياه وفيرة، وهي "جارية"، ولكن ليس في كل مكان وليس للجميع.
والواقع أنه، في الآونة الأخيرة، لا يتمتع حوالي ربع البشرية، أي مليار وأربعمائة مليون شخص، بالحصول المباشر على مياه الشرب(5)، ولا يملك أكثر من نصف البشرية معدات كافية لتنقية المياه، ذلك أن الاستثمارات التي أتاحت منذ ثمانينيات القرن العشرين الحصول على مياه نظيفة، لم تفعل في الواقع أكثر من مجاراة معدل زيادة السكان. وتتمثل إحدى المشكلات الرئيسية التي تواجه البلدان النامية في الحضرنة المتسارعة، والتي تكون نتيجتها ارتفاع بالغ في أعداد السكان الذين يعيشون في مناطق سكنية في أطراف المناطق الحضرية أو في مدن صفيح يصعب فيها بشدة تأمين الإمداد بالمياه النظيفة(6).
ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، يمكن أن نعزو 30 مليونا من الوفيات كل عام إلى أمراض مرتبطة بتلوث المياه، نعني الكوليرا، أو الالتهابات الكبدية الوبائية، أو حمى الدنج، أو الملاريا، أو الأمراض الطفيلية الأخرى، التي تكون آثارها مدمرة جدا في البلدان النامية. ويقدر أن أربعة ملايين طفل يموتون كل عام بسبب الأمراض التي تنقلها المياه غير الصالحة للشرب، أي طفل واحد كل ثماني ثوان. ولا يملك 66% من سكان البلدان النامية حمامات ولا مراحيض. ووفقا لمنظمة الصحة العالمية، فإن مجرد حدوث خفض لأمراض الإسهال يمكن أن يتيح إنقاذ حياة 1.25 مليون طفل كل عام. وفوق ذلك، فإن الأمراض المرتبطة بالمياه الملوثة تعرقل التنمية الاقتصادية لبلدان الجنوب لأنها عندما لا تقتل، تحول مئات الملايين من الأشخاص إلى معوقين.
وقد سجل مؤتمر دبلن، المنعقد في كانون الثاني/ يناير 1992، هذا الظلم الرهيب: اعتمد إعلانا بشأن المياه والتنمية المستديمة، يتم فيه التأكيد على مبدأ الإنصاف، الذي يقود إلى إقرار حق أساسي لكل إنسان في الوصول إلى المياه الصالحة للشرب، وإلى معدات تنقية المياه. وفى وقت لا يكف فيه سكان الحضر عن الزيادة وتؤدي فيه الزيادة الديموغرافية إلى ضغوط إضافية على الأراضي المروية، تفرض نفسها إدارة أفضل لموارد الكوكب من المياه باعتبارها تحديا كبيرا. وبتعبير بنجامين فرانكلين Benjamin Franklin فإنه "فقط حينما تجف البئر، ندرك قيمة المياه(7)".
طلب لا يمكن السيطرة عليه
منذ وقت طويل، لم يكن لاستخدامات الناس للمياه، التي كانت تزيد باعتدال مثل السكان، سوى مجرد آثار لا وزن لها، لا تتعارض بشدة مع حاجات الكائنات الحية الأخرى في المحيط الحيوي للأرض ومع احتمالات التناسل الطبيعي. وقد انقضت تلك الأزمنة. وخلال العقود الأخيرة، لم يكف الاستهلاك العالمي من المياه عن الزيادة بمعدل سريع جدا، أسرع في الواقع من السكان: زاد استهلاك المياه إلى سبعة أضعاف منذ بداية القرن (العشرين) وإلى ثلاثة أضعاف منذ عام 1950، فاستقر استهلاك المياه لكل فرد عند مستوى أعلى بنسبة 50% عن 1950 وذلك، بوجه خاص، نتيجة لتحسن مستوى المعيشة وتوسع الري.
وفي الوقت الحالي، تتجاوز كميات المياه المستخدمة لكل الأغراض 3700 مليار متر مكعب سنويا، وهى كميات تمثل حوالي عُشر الإيراد الكلي للأنهار في العالم(8). وقد نتج عن زيادة السكان، بنحو 2 مليار فرد، فضلا عن هذا، منذ عام 1970، انخفاض في موارد المياه الطبيعية لكل فرد بنسبة الثلث، إذ أن الكمية المتاحة ثابتة عمليا. وفيما يتعلق بالفترة من 1995 إلى 2025، لا مناص من أن تصل الزيادة في الطلب العالمي على المياه إلى 38% وأن تصل زيادة الطلب على مياه الشرب إلى 82%(9). ولا حاجة إلى القول إن هذه الأرقام تحجب تفاوتات قومية ومحلية هائلة.
وعلى أي حال، لا بد من ملاحظة أن هذه الاتجاهات لا تنطوي على أي شيء حتمي، وأنه في الماضي، كثيرا ما كانت هناك تنبؤات خاطئة تماما نتيجة لتعميم معدلات نمو غير متغيرة على المستقبل، وكأن المستقبل لا يمكن إلا أن يكون نسخة مكررة من الماضي أو الحاضر. في الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، وبعد زيادة متسارعة في منتصف القرن العشرين، حدثت قطيعة مفاجئة في الاتجاه في السبعينيات واستقر تطور الاستهلاك منذ 1980 متباعدا بشدة عن "التنبؤات" السابقة. ويلاحظ في الوقت الحالي وجود اتجاه إلى التباطؤ في عدد من البلدان الصناعية: يبدو أن أغلب التنبؤات السابقة كان مبالغا فيها، وفي كثير من الأحيان عن عمد، لمزيد من الضغط على القرارات السياسة للاستثمار(10).
والحقيقة أن السيطرة على الطلب، خصوصا فيما يتعلق بالري، تشكل بالنسبة للبلدان الفقيرة في المياه أهم "مستودع" مبشر، خصوصا بعد أن اتضحت صعوبة زيادة العرض بإقامة خزانات جديدة مثلا(11). وما يهم أولا وقبل كل شئ هو تحقيق إدارة متكاملة للموارد المائية. وتتفق هذه الفكرة مع مدخل عالمي إلى التفاعلات بين المياه وما اتُفق على تسميته بالحضارة، أي المعتقدات وأنساق القيم والسلوكيات والعادات الثقافية التي تشكِّل مجتمعا. والواقع أن المسائل التي تؤثر في موارد المياه متشابكة، وهذا أيضا مما يجعل فهمها بالغ الصعوبة. ولهذا تعتبر اليونسكو إدارة الموارد المائية ضمن مجالات اختصاصها. ومن 1964 إلى 1973، أبرز العقد الهيدرولوجي الدولي ـ وكانت تلك حقيقة نبوئية ـ الحاجة إلى عمل منسق وأبحاث ودراسات جماعية في مجال المياه. وكان البرنامج الهيدرولوجي الدولي، بلجانه القومية الـ 158، أداتنا الرئيسية في هذا المجال منذ 1974.
خطر نقص المياه
يتمثل مؤشر لافت للنظر بصورة خاصة على الندرة المتزايدة للمياه في مؤشر عدد البلدان التي تجاوز عدد سكانها العدد الذي يمكن إمداده بدون صعوبة بالموارد المائية الحالية(12). ومن اللحظة التي ينخفض فيها المورد الطبيعي النظري للمياه إلى أقل من 1000 متر مكعب للفرد في السنة المتوسطة (المستوى الذي يراعى أنه لا ينبغي اقتصاديا وعمليا استغلال كل مياه أي بلد)، فإن المياه تعتبر موردا نادرا يمثل ضغطا على تنمية البلد(13). ويقدر معهد الموارد المائية أنه في الوقت الحالي يندرج تحت هذه الفئة 26 بلدا، منها 11 بلدا في القارة الأفريقية، وأن حوالي 232 مليون فرد يعانون من نقص المياه. ومن الآن وحتى 2010، فإنه لا مناص من أن تضاف إلى هذه القائمة ستة بلدان أخرى، ولا مناص من أن يرتفع عدد الأفريقيين الذين يعيشون في بلدان تندر فيها المياه إلى 400 مليون، وهو عدد يمثل 37% من السكان المتوقعين حينئذ في هذه القارة. والوضع حرج أيضا في الشرق الأوسط، إذ أنه منطقة لا مناص من أن تواجه ليس فقط ندرة المياه (تسعة بلدان من أصل أربعة عشر بلدا تعانى من نقص في المياه) بل أيضا زيادة ديموغرافية مرتفعة جدا. وفي هذه المنطقة، من المحتمل أن تتفاقم التوترات الجيوبولتيكية المرتبطة بالمياه(14)، كلما اشتد التنافس على هذا "الذهب الأزرق".
ويجب ألا ننسى أن المشكلة لا تكمن في نقص المياه على المستوى العالمي، بل تكمن بالأحرى في انعدام المساواة في توزيعها. والواقع أنه حتى مع زيادة ديموغرافية كبيرة وعدد لسكان العالم سوف يستقر بين 10 و12 مليار شخص، فإن نصيب الفرد من الموارد الطبيعية النظرية للمياه سوف يبقى في المتوسط فائضا بوضوح بالمقارنة مع مستوى 1000 متر مكعب سنويا للفرد بما يكفي لتفادي إلهاب التوترات وتعريض الإنتاج الغذائي للخطر. ولهذا فإن المشكلة تكمن بصورة جوهرية في مشكلة توزيع الموارد المائية والحصول عليها.
وعلى سبيل المثال، فإن البرازيل وروسيا وكندا والولايات المتحدة والصين وإندونيسيا والهند وكولومبيا والدول الخمس عشرة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتقاسم حوالي ثلثي الموارد المائية في العالم(15). ووفقا لتقديرات أخرى، فإن عشرة بلدان فقط تتقاسم حوالي 65% من الموارد المائية في العالم(16). غير أن المتوسط السنوي من الموارد المائية للفرد يتراوح بين 23 مترا مكعبا في جيبوتي و700000 متر مكعب في آيسلندا(17). وعلى حين يستهلك الأمريكي 425 لتر من المياه يوميا في الاحتياجات الشخصية والمنزلية، يستهلك الفرنسي 150 لتر، ويكتفي الملاغاشي الذي يعيش في منطقة ريفية بـ 10 لترات(18). ويستهلك الإسرائيلي أربعة أضعاف ما يستهلكه الفلسطيني من المياه(19). وعلاوة على هذا، فإن الوضع في البلدان التي تعانى من نقص المياه قد يتفاقم مع مرور الوقت، بالقدر الذي سوف يرتفع به عدد سكان تلك البلدان: على حين يرتفع عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص المياه في حوض البحر الأبيض المتوسط في الوقت الحالي إلى 113 مليون، فإن من المحتمل أن يتجاوز هذا العدد 200 مليون من هنا وحتى 2010(20).
وإذا كانت المشكلة الرئيسية تتمثل في عدم المساواة في الحصول على الموارد، فإن الاستغلال المفرط والفوضوي لطبقات المياه الجوفية يمثل أيضا مصدرا للقلق. وتقوم أعمال الضخ المكثف بالسحب المفرط لكميات ضخمة من المياه وتفقر هذه الطبقات المائية بصورة لا سبيل إلى إصلاحها: هذا بالفعل هو الحال في الصين والهند والمكسيك وتايلند والولايات المتحدة وشمال أفريقيا والشرق الأوسط. وعلاوة على هذا فإن هذا الضخ المكثف يمكن أن يؤدي إلى تدهور نوعية المياه الجوفية عن طريق سحب المياه المالحة، خصوصا مياه البحر في المناطق الساحلية. والحقيقة أن الاستغلال المنجمي لموارد المياه الجوفية الأحفورية كما يحدث في ليبيا لا يمكن إلا أن يكون مؤقتا، حتى إذا استطاع أن يتواصل خلال عدة عشرات من السنين.
وبطبيعة الحال، فإن العود الأبدي لدورة الماء يجعل الموارد المائية متجددة غير أن هذا لا يجعلها غير قابلة للنضوب. والواقع أن الموارد المائية المتجددة قابلة تماما للنضوب، إذ أن الإنسان لديه القدرة والوسائل لتعبئة كل المياه المتدفقة في نظام مائي بعينه، بل حتى لتجاوز هذا الحد في بعض الحالات بالسحب من المخزون المنظم. وقد حدث هذا من قبل في بلدان مختلفة: في الولايات المتحدة، في السهول المرتفعة في كولورادو وكاليفورنيا، وفى إسبانيا وإسرائيل على وجه الخصوص. ولهذا بالتحديد تفرض نفسها إستراتيجيات متمايزة. ومع ذلك، أصبح واضحا أن المياه لم يعد يمكن النظر إليها على أنها مورد غير قابل للنضوب يمكن للإنسان أن يستعمله أو يسئ استعماله كما يحلو له.
ما هي التوقعات من الآن وحتى 2025؟
من بين الممارسات المعاصرة في مجال الدراسات المستقبلية العالمية، تعد ممارسة عالم الهيدرولوجيا الروسي إيغور شيكلومانوڤ Igor Shiklomanov هي الأحدث(21). ووفقا لتوقعات هذا العالم، فإن الكمية الكلية للمياه المستخدمة على النطاق العالمي في مختلف قطاعات النشاط، بما في ذلك تبريد محطات الطاقة الكهرو ـ حرارية وتبخير المستودعات، يمكن أن ترتفع مسحوباتها من 3760 كيلومتر مكعب سنويا عام 1995 (ومنها 2285 مستهلكة) إلى 5187 كيلومتر مكعب سنويا عام 2025 (ومنها 2879 مستهلكة)، أي زيادة المسحوبات بنسبة 38% وزيادة في الاستهلاك بنسبة 26% على مدى ثلاثين عاما.
ويلاحظ إيغور شيكلومانوڤ أن المؤشر الأساسي هو النسبة بين الموارد المائية المتجددة واستهلاك المياه، أي النسبة المئوية المتاحة للاستخدام من الماء. ومن هذا المنظور، يمكن التمييز بين أربع فئات:
حين تكون النسبة أقل من 10%، يكون الضغط على الموارد المائية ضئيلا؛
حين تقع بين 10% و20%، يكون الضغط متوسطا؛
حين تستقر بين 20% و40%، يكون الضغط عاليا؛
حين تتجاوز 40%، يكون الضغط عاليا جدا، وإذا تجاوزت 60% فإنه يقود إلى سيناريو كارثي.
ووفقا لتقديرات شيكلومانوڤ، فلا مناص من أن يجد 80% من سكان العالم أنفسهم في عام 2025 في الفئتين الثالثة والرابعة، بما يتفق مع ضغط عال على الموارد المائية. وفى البلدان الصناعية، في أوروبا والولايات المتحدة، سيكون الانخفاض في توافر المياه ضئيلا نسبيا، حيث يكون مُعامل الانخفاض بين عامي 1950 و2025 حوالي 01.8 وفى البلدان النامية الواقعة في مناطق المناخ المعتدل أو المدارى التي تنعم بموارد مائية كبيرة، في آسيا وأمريكا اللاتينية، فإن معامل الانخفاض سوف يصل، بالمقابل، إلى 4.5. أما في البلدان الواقعة في المناطق القاحلة، كما في أفريقيا والشرق الأوسط، التي سيكون عليها أن تواجه الأوضاع الأكثر مأساوية، فإن المعامل سوف يستقر عند 8.5.
وتعتمد ممارسة أخرى حديثة في مجال الدراسة المستقبلية، بتنسيق عالم الهيدرولوجيا [الجيولوجيا المائية] الفرنسي جان مارغا Jean Margat، على فرضيتين، حيث تقوم الأكثر انخفاضا بتقييم بالحد الأدنى لكل الاحتياجات المائية، ويتوافق بصورة أفضل مع "التنمية المستديمة". وقد أتاح هذا الجهد المستقبلي أيضا تقدير صافي الكميات المسحوبة والمستهلكة من المياه على مشارف عام 2025. ووفقا للفرضية المنخفضة، فإن من المتوقع أن ترتفع المسحوبات (باستثناء محطات توليد الطاقة الهيدروكهربية التي تقوم بإعادة المياه المستعملة) من وضع أصلي قدره 3024 كيلومتر مكعب سنويا في 1990 إلى 3073 كيلومتر مكعب سنويا في 2025، فيما يرتفع الاستهلاك من 1.872 إلى 1955 كيلومتر مكعب سنويا. ووفقا للفرضية المرتفعة، فإن المسحوبات (باستثناء المحطات) يمكن أن ترتفع إلى 4416 كيلومتر مكعب في السنة، وأن ترتفع الاستهلاكات إلى 2950 كيلومتر مكعب في السنة(22).
ووفقا للفرضية المرتفعة، يمكن أن تحدث أكبر زيادة في المسحوبات في أفريقيا، حيث يمكن أن تزيد عن الضعف في غضون 35 عاما، على حين أنها يمكن أن تزيد بنسبة 70% في أمريكا الجنوبية، وبنسبة 57% في أمريكا الشمالية (الزيادة إلى الضعف في المكسيك)، على حين أنها يمكن أن تنخفض في أوروبا (-17%). أما بالقيم المطلقة، فإن آسيا هي التي يمكن أن تحدث فيها أكبر زيادة (+1087 كيلومتر مكعب سنويا). وفي 2025، يمكن أن تتم أكثر من ثلثي الاستخدامات العالمية للمياه في آسيا. ووفقا للفرضية المنخفضة، فإن الزيادات النسبية يمكن أن تكون، بالمقابل، محدودة جدا في كل مكان تقريبا، فيما عدا أفريقيا (+45%)، وأحيانا معدومة أو سالبة (-27% في أوروبا، -2% في الولايات المتحدة).
ومن المتوقع أن يميل متوسط نصيب الفرد من الطلب على المياه بصورة عامة إلى الانخفاض وفقا لكل من الفرضيتين، غير أنه وفقا للفرضية المنخفضة بوجه خاص، سينخفض المتوسط العالمي من 575 متر مكعب سنويا في الوقت الحاضر إلى 395-490 متر مكعب سنويا. ويمكن بالفعل ملاحظة هذا الاتجاه في كل مكان تقريبا، باستثناء مناطق قليلة ينخفض فيها الطلب الحالي بشدة، في أفريقيا وأمريكا الجنوبية. ويعنى هذا أن الطلب العالمي على المياه، في معظم المناطق، سوف يكف عن الزيادة أسرع من السكان في القرن الحادي والعشرين، على خلاف الزيادة التي لوحظت بصفة عامة خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
ولهذا فإن الأزمات المائية المستقبلية سوف تكون أقل ارتباطا بالزيادات في الطلب، في حد ذاتها، من ارتباطها بمعدلات الاستهلاك المرتفعة للفرد من الموارد الطبيعية للمياه، حتى عندما تكون مستقرة، ومن ارتباطها بالعجز الاقتصادي عن تلبية مختلف أنواع الطلب، حتى رغم أنها غير متزايدة. وينبغي، وسيظل ينبغي، التمييز بين نوعين من نقص المياه:
أنواع من النقص الهيكلي ناتجة عن استنفاد الموارد التقليدية، وتتفاقم نتيجة النقص الظرفي في أوقات الجفاف، وسوف تصيب عددا متزايدا من البلدان.
أنواع من النقص ناتجة عن الفقر سوف تصيب البلدان الأقل نموا والعاجزة عن الاستثمار لتلبية مختلف أنواع الطلب، خصوصا طلب الميغابولات، أو لتحديث نظم الري عن طريق زيادة كفاءتها وخفض استهلاكها للمياه في المناطق القاحلة.
السيطرة على الري
تتمثل إحدى المشكلات الرئيسية التي يجب بصورة مطلقة أن تحلها، باعتبارها أولوية، كل سياسة للاستخدام الفعال للموارد المائية، أولا وقبل كل شئ، في الاستهلاك المفرط للمياه في الزراعة المروية. وعلاوة على هذا، فإن هذه المياه لا يتم فقط سحبها بل ويتم "استهلاك" الجزء الرئيسي منها: إنها تعود بصورة مباشرة في شكل بخار إلى الغلاف الجوى ولا تتم استعادتها محليا. وفى الوقت الحاضر، تستهلك الزراعة على النطاق العالمي حوالي ثلثي كمية المياه المسحوبة من الجداول والأنهار والبحيرات ومن طبقات المياه الجوفية. ومنذ عام 1960، زادت كمية المياه المستخدمة في ري المحاصيل بأكثر من 60 (23). ويتم تبديد أحجام هائلة من المياه في زراعة محاصيل ذات قيمة هزيلة جدا، على حين أن الاحتياجات، خصوصا احتياجات المدن الكبرى، لا تكف عن الزيادة. وفى عدد من البلدان النامية، يستخدم المزارعون، في المتوسط، لري الهكتار الواحد ضعف المياه المستخدمة لذلك في البلدان الصناعية، مقابل ثلث المردود: الواقع أن هذا الضعف في المردود يصيب على وجه الدقة المناطق شبه القاحلة أو القاحلة(24). ويرى الخبراء بصفة عامة أن ثلث إجمالي المياه المخصصة للزراعة يسهم بصورة حقيقية في نمو النباتات.
وكما تذكرنا ساندرا بوستل Sandra Postel، فإنه توجد بالفعل تقنيات متعددة تتيح استخداما أكثر عقلانية للمياه: الري بالتنقيط، والمشاريع ذات الحجم المحدود مثل الخزانات الصغيرة والآبار الضحلة والمضخات الرخيصة بين أشياء أخرى(25). وتتيح تقنيات بسيطة جدا، تهدف إلى زيادة رطوبة التربة على مستوى جذور الزراعات، الحصول على مردود أعلى تماما كما تجعل الإنتاج أقل عرضة للتقلبات. وحتى مع منسوب ضعيف نسبيا لهطول المطر، تتميز بعض أنماط الزراعة تقوم على تجمع جيد للمياه بفعاليتها. ويتمثل نموذج رائد في الهند في استخدام نجيل ڤيتيڤيه vétiver الهندي، الذي أتاح مضاعفة مردود بعض المحاصيل على جانبي التل عن طريق تكوين حواجز نباتية تحتجز مياه الأمطار وتحافظ على رطوبة التربة(26). ووفقا لتقديرات عدد من الخبراء، يمكن توفير 50 لترا من المياه يوميا للفرد من كل 54 شخصا على أساس مساحة هكتار واحد يستفيد من معدل سنوي لهطول الأمطار يصل إلى 100 مم(27).
ويشدد الخبير الإسرائيلي يوري شامير Uri Shamir، بالإضافة إلى هذا، على أهمية تعديل إجراء تغييرات في المكان المحيط بالنباتات، لأن مثل هذه الإجراءات تسمح بزيادة فعالية استخدام المياه في الإنتاج الزراعي، بالنسبة للمحاصيل التي تعتمد على مياه الأمطار وكذلك للمحاصيل المعتمدة على الري: المهم هو "تعديل في المناخ الصغير فوق النباتات وعزق سطح التربة لتقليل التبخر والتسرب إلى حد أدنى وزيادة تشرب النباتات للمياه إلى حد أقصى، وحرث الأرض وفرشها بالتبن والقش لتحسين احتفاظ التربة بالمياه وتوزيعها فيها، واتباع تقنيات مصممة على التزويد بالمياه في الاتجاه واللحظة اللذين يستخدمها فيهما النبات بصورة فعالة لإنتاج المحصول المرغوب"(28).
وبطبيعة الحال فإن هذه الحلول ليست ترياقا سحريا، كما لا ينبغي أن نبالغ في مزايا وفعالية الأعمال الصغيرة الحجم والتقنيات التي تحتاج إلى استثمارات باهظة وإلى تغيير عميق في العقليات والعادات. كذلك فإن الري بالتنقيط، الذي ينتشر الآن على مساحات زراعية شاسعة، ما زال، كقاعدة عامة، مرتفع التكلفة؛ وسرعان ما تغمر الأوحال الخزانات الصغيرة؛ وكثيرا ما تكون الآبار الضحلة هي الأقل إنتاجا. وهذا هو السبب في أن هذه الاختراعات يجب أن تندرج في إطار إستراتيجية أكثر عالمية. لا ينبغي فقط تشجيع الزراع على استخدام الموارد المائية بفعالية أكبر، بل ينبغي كذلك تحسين نوعية القنوات التي تنقل المياه إلى المزارع.
وبالإضافة إلى هذا فإن إعادة تخصيص جزء كبير من الموارد المائية المستهلكة الآن في الري لاستخدام المدن، لا يجب أن تؤدي إلى انخفاض في دخل الزراع أو إلى ارتفاع في أسعار المواد الغذائية الأساسية، الأمر الذي يمكن أن تكون له نتائج سلبية على الأمن الغذائي للسكان الأكثر حرمانا(29). ولتحسين الاستخدام الزراعي للموارد المائية، ينبغي دفع المزارعين إلى المشاركة في تصميم وإدارة واستغلال البنية الأساسية الهيدروليكية. وقد لوحظ في الفليبين، مثلا، أنه عندما يتم إشراك المزارعين في تخطيط وإدارة المشروعات، تزداد المساحة المروية عن التقديرات الأصلية، وترتفع غلة حقول الأرز، ويتحسن تشغيل التجهيزات والقنوات(30). ومن ناحية أخرى، سبق إقرار المشاركة باعتبارها أحد المبادئ الأساسية في إعلان بكين الذي اعتمده 50 بلدا في آذار/ مارس 1996: "يجب أن يقوم استغلال المياه وإدارتها على نهج المشاركة، عن طريق الإشراك في كل مستوى لمستعملي المياه، وأصحاب القرار، والمسئولين السياسيين"(31).
وفضلا عن واقع خفضه لاستهلاك المياه وجعلها متاحة لأغراض أخرى، يمكن أن يكون لاستخدام أكثر فعالية للمياه في الزراعة نتائج ملائمة للبيئة. والواقع أن الري المفرط والصرف السيئ للمياه يعجلان بملوحة التربة. ويمثل هذا خطرا جسيما جدا أو حتى "قنبلة زمنية" حقيقية. وعلى سبيل المثال، فإن 25% من الأرض المنزرعة في باكستان قد تم إتلافها بالفعل، ويتم فقدان حوالي 200000 هكتار من الأراضي الزراعية في العالم كل عام(32). كما أن كل محاولة لتعويض الأراضي المصابة بالملوحة مكلفة جدا. ولتفادي تدمير الملوحة للأراضي بصورة لا يمكن إصلاحها، ينبغي أن يتم من الآن خفض كمية المياه التي يستخدمها المزارعون، كما يجب الاستعانة بالصرف الذي يقدم علاوة على هذا مياها قابلة لإعادة الاستخدام.
ومن جهة أخرى، يوضح خبيران من الفاو، وولف كلون Wulf Klohn وهانس م. ڤالتر Hans M. Walter، بكل جلاء، أن هناك تكنولوجيات جديدة للمعلوماتية يتيح تطبيقها على الهندسة الزراعية ري المحاصيل بطريقة أكثر دقة ووفرا بكثير، كما يوضحان أن تكلفتها غير المرتفعة يمكن أن تتيح تكييفها دون صعوبة كبيرة مع احتياجات المجتمعات الريفية في البلدان النامية(33). وفى المستقبل، سوف يكون من الممكن أن تتيح إنجازات البيوتكنولوجيا رفع الإنتاجية الزراعية في الوقت الذي يتم فيه خفض كمية المياه اللازمة للإنتاج: من المتوقع، على سبيل المثال، أن يكون من الممكن زيادة مقاومة النباتات للحرارة والجفاف، أو نقل بعض خصائص الحبوب الغذائية الأقل استهلاكا للمياه مثل الذرة الرفيعة والذرة البيضاء إلى حبوب غذائية تستهلك الكثير من الماء مثل القمح والذرة الشامية، أو حتى زراعة أنواع بعينها من الخضروات في مياه مرتفعة الملوحة نسبيا(34): أجريت دراسة برعاية اليونسكو حول هذا الموضوع في مركز للأبحاث في تونس، منذ ثلاثين عاما.
نوعية المياه والبيئة
بين التطورات الأكثر إثارة للقلق، لا يمكن بطبيعة الحال التغاضي عن مشكلة تلوث المياه. وفي الوقت الحاضر، يتم التخلص من 90% من المياه المستعملة في البلدان النامية بدون إجراء أدنى معالجة لها(35)، كما أن الوضع أبعد من أن يكون على أكمل وجه في البلدان الصناعية.
ويمثل تلوث مجارى المياه خطرا مهددا بصورة خاصة، سواء أكان بسبب عدم تنقية المياه المستعملة في مجارى المياه التي يتم تفريغها (وبالأحرى التلوث الكثيف والمحدود الانتشار) أو بالتالي بسبب الاستخدام المفرط للمخصبات أو المبيدات الحشرية (وبالأحرى التلوث الممتد والواسع الانتشار). في الحالة الأولى، يحدث أن تتخذ المياه المستعملة التي يتم تفريغها في مجاري المياه أهمية في إشباع ما للأنهار من طاقة تنقية ذاتية. أما في الحالة الثانية، فإنه، وفقا لنغوين تيين دوك Nguyen Tien Duc، ارتفع تركيز معدلات النترات في المجارى المائية في البلدان الغربية إلى الضعف وأحيانا إلى خمسة أضعاف خلال السبعينيات والثمانينيات(36). وكما شدد المؤتمر الدولي بشأن الموارد المائية في العالم في مستهل القرن الحادي والعشرين، الذي شارك في تنظيمه في حزيران/ يونيه 1998 كل من اليونسكو والمجلس العالمي للمياه والجمعية الدولية للعلوم الهيدرولوجية، فإن تدهور نوعية المياه يقلل فائدتها ويرفع تكلفتها، وعلى وجه الخصوص بالنسبة للاستهلاك الآدمي. كما أنه يشكل إفقارا للتربة التي سوف نورثها للأجيال المقبلة(37).
وسوف ينبغي، بصورة متزايدة، تشجيع المشروعات على تفضيل الحد من تدفق مغذيات وانبعاثات المواد الضارة ذات المنشأ المنزلي أو الصناعي أو الزراعي. وبالفعل فإن قوانين مكافحة التلوث أحدثت تأثيرا أكيدا في البلدان الصناعية، خاصة عن طريق فرض معايير محددة لنوعية المياه قبل أن تقوم الصناعات بإفراغ مياهها المستعملة داخل البيئة. وفي كثير من الحيان تتمثل الوسيلة الأكثر فعالية والأقل تكلفة لمراعاة هذه القوانين في معالجة المياه وإعادة تدويرها، وبالتالي تقليل نفايات مياه الصرف. وبالتالي، فإن لهذه القوانين نتائج إيجابية بصورة مزدوجة: إنها تسهم ليس فقط في تنقية الجداول والبحيرات والأنهار، بل أيضا في التشجيع على استخدام أكثر توفيرا وأكثر عقلانية للمياه. ومع هذا فإن التلوثات الانتشارية ذات المنشأ الزراعي لم تتم السيطرة عليها تماما إلى الآن في هذه البلدان ذاتها، خصوصا مع مشكلة التلوث بالنترات.
وتعد تجربة نهر الراين مثالا واعدا: في الواقع، نجح العمل المنسق بين الدول المطلة على الراين في التحسين بصورة بالغة الدلالة لنوعية مياه نهر يقع في قلب منطقة ذات نشاط صناعي كثيف، وكان قد نال اللقب الكريه "بالوعة أوروبا"(38). وبين الأمثلة المشجعة الأخرى، يمكن الاستشهاد بمثال اليابان، حيث ارتفع إسهام الناتج المحلى الإجمالي لكل متر مكعب من المياه المخصصة للصناعات إلى 77 دولارا في 1989 مقابل 21 دولارا في 1965. وينبغي الإشارة أيضا إلى الولايات المتحدة، حيث انخفض الاستخدام الصناعي للمياه بحوالي 40% منذ 1950، على حين ارتفع الإنتاج الصناعي إلى أكثر من 3.5 أضعاف، أو الإشارة أيضا إلى الجزء الغربي من ألمانيا حيث لم يتجاوز إجمالي استهلاك المياه في الصناعة في 1993 مستوى عام 1975، في حين ارتفع الإنتاج الصناعي خلال تلك الفترة بنسبة 44% (39).
ومن المؤسف حقا أنه في كثير جدا من الأحيان تنعدم الدوافع إلى توفير المياه ومعالجتها وإعادة تدويرها أو لا تكون مطبقة بصرامة كافية في عدد من البلدان النامية والبلدان الصناعية، التي لا تسعر بصورة صحيحة إمدادات المياه وتهمل معالجة المياه المستعملة. وتبين التجربة مدى قدرة هذه الدوافع على تحقيق نتائج إيجابية. وفي غوا، في الهند، استطاع مصنع سماد خفض استخدامه للمياه إلى النصف في غضون ست سنوات نتيجة لتسعير مرتفع وضغوط من الحكومة عليه لخفض مياه الصرف التي يقوم بتفريغها في البحر(40). وفى ولاية خاليسكو، في المكسيك، قام مصنع سكر بخفض استهلاكه إلى الخُمس خلال أربع سنوات، خافضا بهذا تكلفة إنتاجه، وهذا بفضل نظام يربط معالجة المياه وإنشاء دوائر مغلقة تدور فيها المياه بصورة مستمرة خلال مختلف مراحل الإنتاج، مما سمح بالقضاء على كل فاقد(41).
أشجار لتنقية وتطهير المياه؟
هناك خيار مثير سوف ينبغي دراسته عن كثب، ويمكن أن يلعب دورا هاما في تنقية وتطهير المياه في البلدان النامية، في المناطق الريفية بصورة أساسية، وهو يرتبط بـ "مورينغا أوليفيرا" Moringa oleifeira. إنها شجرة من شمال الهند يمكن أن تتيح بذورها ترشيح المياه القذرة عن طريق جذب البكتيريات والفيروسات وتكييسها. وقد قام بهذا الاكتشاف جيوف فولكارد Geoff Folkard، الباحث والأستاذ بجامعة ليسيستر في بريطانيا، الذي تبين دراساته أنه عن طريق هرس هذه البذور وخلطها بمحاليل طميية مأخوذة من الأنهار أو الجداول يمكن الحصول على مياه صالحة للشرب في غضون ساعات قليلة، مقابل تكلفة تقل كثيرا عن تكلفة المنتجات الكيميائية المستخدمة في الوقت الحالي.
المصدر:
Catherine Vincent, « Les graines d espoir du Moringa oleifeira, Le Monde, 18/09/95.
المياه: سلعة اقتصادية؟
بدلا من السعي إلى الإشباع بصورة مستمرة للطلب المتزايد على المياه، سيكون من الضروري في المستقبل السعي إلى ضمان أمن الإمدادات عن طريق إدارة أفضل للطلب تتيح توفير الموارد وحماية أفضل للبيئة. ولا يتعلق الأمر فقط بمشكلة تكنولوجيا أو خبرة تقنية، بل تتعلق بصورة خاصة بمشكلة في الإرادة السياسية. وفى هذا الصدد، كثيرا جدا ما يقود التسعير المنخفض إلى التبديد وإلى زراعة محاصيل مفرطة الاستهلاك للماء. وتبين دراسة للبنك الدولي استعرضت مشاريعه الخاصة بتقديم خدمات المياه في البلديات أن التسعيرات مقابل استخدام المياه لا تمثل في المتوسط إلا 35% من متوسط تكلفة الإمدادات(42). ووفقا لهذه الدراسة، فإن قطاع المياه، بين القطاعات الرئيسية لتنظيم البنية الأساسية، هو القطاع الذي يكون فيها العائد على تكلفة الإنتاج هو الأقل. وعلى حين أن معدل العائد يصل في المتوسط إلى 160% بالنسبة إلى قطاع الاتصالات وإلى 60% بالنسبة إلى الطاقة، فإنه لا يتجاوز 20% بالنسبة إلى المياه.
على أن لمثل هذا التسعير المنخفض نتائج سلبية عديدة. فهو، أولا، يجرد الهيئات العامة من أموال يمكن استخدامها من أجل صيانة وتحديث شبكات أنابيب المياه وتجهيزات الري الأخرى. وهو، ثانيا، يعرقل تنفيذ سياسة فعالة في النضال ضد فواقد المياه التي تعزى بجانبها الأكبر إلى قدم الأنابيب؛ غير أن مثل هذه السياسة يمكن أن تكون ملائمة بصورة خاصة. ونعلم جميعا أن أكثر من نصف إمدادات المياه الصالحة للشرب تختفي في القاهرة وجاكارتا ولاغوس وليما ومكسيكو سيتى. وإليك مشكلة كئيبة أخرى: إن الفقراء هم الذين يعانون أشد المعاناة من توزيع سيئ للمياه؛ فعندما لا يتمتعون بالوصول إلى شبكة المياه، فإنه يتعين عليهم أن يشتروا المياه من باعة متجولين يفرضون عليهم أن يدفعوا ما يصل إلى دولارين أو ثلاثة دولارات للمتر المكعب(43). والواقع أن إمدادات المياه عن طريق باعة متجولين أو عن طريق أشخاص يتمتعون بالوصول إلى شبكة مياه، يكلف في المتوسط أغلى عشرة أضعاف، وأحيانا عشرين ضعفا في معظم مدن البلدان النامية. ولهذا تفرض نفسها اليوم ثقافة حقيقية للصيانة.
ويقتضي اقتصاد أفضل للمياه، وهو ما تجعله الاحتياجات المتعاظمة لسكان للعالم هم الآن في حالة من التوسع، استخداما أكثر عقلانية لهذا المورد الطبيعي، وهذا بفضل إعادة التدوير؛ وخفض الفاقد؛ وري أكثر فعالية؛ وإعادة استخدام للمياه المستعملة؛ والدعم، عندما يكون السياق ملائما، لطاقات غير تقليدية لإنتاج المياه، مثل تحلية المياه من الملوحة؛ وتوحيد جهود التطهير في إدارة الموارد. غير أن المستخدمين أنفسهم هم الذين يجب أن يدركوا مسئولياتهم تجاه أنفسهم وتجاه الأجيال المقبلة، ومن هنا أهمية جهود التعليم والمعلومات، كما تشدد التوصية الحادية عشرة من إعلان بكين(44).
ووفقا للبنك الدولي فإنه سوف يتعين رصد ما يتراوح بين 600 مليار دولار و800 مليار دولار من الآن وحتى عام 2005 لتأمين تنقية المياه، وتمويل البنية الأساسية لإمدادات المياه، وتلبية احتياجات الري وإنتاج الطاقة، كما سوف يتعين جمع القسم الأكبر من هذا المبلغ في داخل البلدان ذاتها(45). غير أنه بالنسبة لعدد كبير من البلدان النامية المحدودة الموارد بصورة خاصة فإن من المتوقع، للأسف، أن تزداد الأعباء أسرع من الناتج القومي الإجمالي. وهذا هو السبب في أن جهود التضامن على الصعيد الدولي تبدو لنا ضرورة لا غنى عنها.
ومن الجلي أن الماء سلعة un bien اقتصادية. غير أنه سلعة اقتصادية ذات طبيعة خاصة جدا. ذلك أن قيمتها التبادلية ضعيفة بصورة عامة ولا صلة لها بقيمتها الاستعمالية. ولهذا فإن إرجاع الماء إلى مرتبة سلعة اقتصادية لا يمكن إلا أن يكون نوعا من الاختزال. فالماء، أولا وقبل كل شئ، سلعة ("طيبة") un bien طبيعية إيكولوجية تلعب دورا أساسيا في المحيط الحيوي للأرض كما أنه لا يمكن اختزال وظائفه المفيدة للبشرية إلى مجرد مادة أولية يمكن للبشرية أن تستغلها وتستهلكها كما تشاء. وهو أيضا سلعة ("طيبة") اجتماعية ومالية ينظم القانون استخداماتها البشرية. فالماء مورد نادر، وأساسي للحياة، يجب النظر إليه على أنه كنز طبيعي يشكل جزءا من الميراث المشترك للبشرية. إنه ليس في الواقع مجرد مورد مباشر، بل هو عنصر لا غنى عنه لسلامة النظم الإيكولوجية، بما في ذلك المناطق الرطبة.
ولهذا فإن حقيقة وجود الأسعار لا يجب أن تستبعد التسعيرات التفضيلية وفقا للاستخدامات وقدرات المستعملين. إذ أن من الضروري قبل كل شئ مقرطة الوصول إلى هذا المورد الحيوي، كما فعل في الآونة الأخيرة برلمان جنوب أفريقيا عندما أقر قانونا ينص على أن يرتبط سعر الماء باستعماله ويدعم فئات السكان الأقل ثراء الذين يعتمدون على المضخات الجماعية(46). ومع ذلك فإنه "لا معنى للجوء إلى تثبيت الأسعار في سبيل تحقيق فعالية اقتصادية أفضل إلا عندما يتم قياس الاستخدام بدقة" كما لفت يوري شامير الأنظار عن حق. غير أنه، في معظم البلدان، تشكل صعوبة مثل هذا القياس الدقيق إحدى العقبات الرئيسية أمام استخدام الأسعار كأداة لإدارة الطلب في القطاع المنزلي(47). وفي سبيل إدارة توفير المياه، فإنه سيكون لا غنى عن التوصل في المستقبل إلى حلول وسيطة بين ما هو "تجارى بحت" وما هو "حكومي بحت". ومن هذا المنظور، أوصى المجلس العالمي للمياه في القرن الحادي والعشرين، مؤخرا، بزيادة الاستثمار العالمي في قطاع المياه بنسبة خمسة في الألف، كما أوصى بتخصيص هذه الزيادة لنفقات التعليم أو التدريب أو إعادة التأهيل أو المشورة(48).
مستقبل المياه
لا شك في أن المياه ستكون أحد الرهانات الدولية الرئيسية في القرن الجديد. فالمياه تزداد ندرة نتيجة للاستغلال المفرط للموارد المائية الذي تنهمك فيه بشرية كثيرة العدد تبددها وتلوثها(49). ولهذا فإنها تصير كل يوم سلعة مطلوبة بشدة، قادرة على تفجير النزاعات. ولا يمكن إنكار طابعها الإستراتيجي: يوجد بالفعل أكثر من ثلاثمائة من أحواض الأنهار والبحيرات تتداخل مع الحدود الدولية، وتوجد عشرة أنهار في العالم تعبر ستة بلدان أو أكثر(50). ويعتمد عدد كبير من البلدان في إمداداتها المائية على موارد خارج أراضيها: هذه هي بصورة خاصة حالة مصر، حوالي 100%، وسوريا، 80%، وإسرائيل، 55%(51). كما أن حوالي 40 بلدا يمكن أن تتأثر بالتوترات الحربية نتيجة لنقص المياه(52). وفى غياب تشريع دولي حقيقي بشأن المياه، يغدو اقتسام الموارد المائية مرهونا بعلاقات القوى أكثر منه بالتعاون أو الإدارة الجماعية.
ويلاحظ إسماعيل سراج الدين أن "كثيرا من النزاعات في هذا القرن [العشرين] كان رهانها النفط"(53). ويضيف: "في القرن القادم [الحادي والعشرين]، ستشن الحروب من أجل المياه"، مشاركا في المخاوف التي عبر عنها الملك حسين، ملك الأردن، منذ أعوام قليلة، حين كان يؤكد أنه "إذا قُدِّر أن تنشب حرب أخرى في الشرق الأدنى، فإن رهانها يمكن أن يكون المياه"(54). وينبغي، إذن، أن يتم في أسرع وقت تنفيذ سياسات من شأنها أن تسمح بقدر الإمكان بخفض مخاطر الحرب في المناطق المهددة بالنزاعات على المياه. ويرى محمد لاربى بوغيرا Mohamed Larbi Bouguerra أن هذه المجابهات ليست حتمية: لإثبات هذا، يستشهد بمثال ليسوتو التي تستفيد من إيراداتها من المياه التي تبيعها لجنوب أفريقيا في تمويل التعليم الابتدائي لكل أطفال المملكة(55). وفى بالنثيا Valencia، بإسبانيا، ظل السكان(56) يستفيدون منذ أكثر من ألف عام من محكمة المياه Tribunal d Aigües، التي كان قضاتها المنتخبون يسهرون على التوزيع المنصف لمياه الري من نهر توريا Turia ويقومون بتسوية النزاعات بين المزارعين. ألا يمكن أن تصلح هذه المؤسسة كنموذج لتسوية الخلافات بين البلدان؟
كما يؤكد جوزيف ديلاپينا Joseph Dellapenna، أستاذ القانون الدولي بجامعة ﭭيلانوڤا، في الولايات المتحدة، فقد قام المجتمع الدولي بالفعل بقفزة كبرى إلى الأمام بموافقته في 1997، بأغلبية 104 صوت مقابل 3 أصوات، على اتفاقية الأمم المتحدة بشأن القانون الخاص باستخدامات الطرق المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية(57). وبمجرد أن يتم التصديق عليها من 35 بلدا، ستدخل اتفاقية الإطار هذه في السريان وسوف تتيح تنظيم الاقتسام الدولي للمياه العذبة على أساس قاعدة الاستخدام المنصف. وسوف تتيح هذه الاتفاقية للدول اللجوء إلى القضاء في حالة الخلاف، وسوف تيسر البحث عن حل تفاوضي بدلا من اللجوء إلى السلاح.
ودون أن نهمل السيطرة على الطلب، هل يمكن زيادة العرض حيثما كانت الموارد غير كافية؟ ينبغي في الواقع ألا ننسى أن الماء مورد متجدد يمكن استخدامه مرات عديدة متعاقبة بشرط السيطرة على مشكلات التلوث والتبخر والمعالجة وإعادة التدوير. وإذا نظرنا إلى المشكلة من هذه الزاوية، أمكننا استنتاج أن مدى توافر المياه لكل فرد لن يتم بالضرورة دفعه إلى الانخفاض مع زيادة السكان. وعلى وجه الخصوص فقد تم تنفيذ حلول حتى يتم استخدام المياه المستعملة للمدن، بعد معالجتها، في الري. على أنه ينبغي التحلي بالواقعية عندما نتحدث عن إعادة تدوير المياه المستعملة. والواقع أنه حتى إذا كان بالمستطاع من الناحية التقنية إعادة المياه بعد استعمالها إلى حالة قريبة من الحالة الأصلية لها قبل استعمالها، فإن مثل هذه العملية تقتضي كقاعدة عامة نفقات على الطاقة والمواد الأولية لن تكون بلا نتائج على البيئة والتي لا يمكن أن تتحمل تكلفتها إلا الصناعات أو بعض المدن الكبرى.
وعلاوة على هذا، فإن خيار تحلية مياه البحر يجب التفكير فيه بجدية. وهذا الخيار تستخدمه بالفعل إلى حد كبير بعض البلدان الغنية مثل المملكة العربية السعودية، أو الكويت، أو حتى دول جزرية مثل مالطة. غير أن هذا يتعلق باستخدامات منزلية أو صناعية محلية، كما أن سعر التكلفة ـ حوالي دولار لكل متر مكعب ـ ما زال أعلى مما ينبغي بالنسبة للاستعمالات الواسعة النطاق، وبصورة خاصة في الري. وعلى كل حال فإنه يبدو أن التكنولوجيات الجديدة الأكفأ أداء، خصوصا الأسموزية العكسية (انظر الإطار)، سوف تتيح تحقيق مكاسب في الإنتاجية يمكن، بالاشتراك مع ارتفاع تكلفة المصادر التقليدية للإمدادات، أن تجعل هذا الخيار تنافسيا بصورة أسرع مما سبق التنبؤ به، على الأقل بالنسبة إلى المياه الصالحة للشرب(58). وفضلا عن هذا، ينبغي الإشارة إلى أن تحلية المياه القليلة الملوحة تتم بأقل تكلفة وتهم عددا كبيرا من البلدان.
المياه: حلول مستقبلية
تقوم تقنية مثيرة لتحلية مياه البحر على طريقة الضغط الأسموزي العكسي [= الارتشاح الغشائي العكسي]. وتتمثل هذه الطريقة في ضغط المياه عبر غشاء شبه نفاذ يسمح بمرور جزيئات الماء ويرسب الأملاح؛ ويقترح الكاتب الكناري [من جزر الكناريا] ألبيرتو باثكويث فيغويروا Alberto Vazquez Figueroa استغلال طاقة الضغط التي نحصل عليها في الآبار التي يصل عمقها إلى 700 متر التي يمكن أن تتيح الحصول في الواقع على ضغط جوي يصل إلى 70 وحدة. وهذه الطريقة يمكن أن تحل محل المضخات التوربينية الكلاسيكية المستخدمة في التحلية، وهي مرتفعة التكلفة جدا وشديدة الاستهلاك للطاقة. ووفقا لباثكويث فيغويروا، يمكن أن تتيح هذه الطريقة توفير 72% من التكلفة الخاصة بتقنيات التحلية المستخدمة إلى الآن، مع خفض شديد للاستثمار المبدئي (تكلفة التجهيزات قيمتها 370 مليون فرنك مقابل 580 مليون فرنك للمحطات الكلاسيكية للتحلية). ويصل إجمالي تكلفة الإنتاج إلى 32 بيزيتا لكل متر مكعب من المياه الصالحة للشرب، بفضل هذه الطريقة، وهي تكلفة تمثل أقل من ثلث السعر العادي لمياه التحلية. ومشروع باثكويث فيغويروا هو الآن قيد الدراسة في محطات التوليد الحراري للطاقة، ويستفيد بالفعل من دعم مشروعات استثمار مثل أوبراس سابتيرانياس Obras Subterraneas، وهو مشروع إسباني متخصص في إنشاء المناجم، أو المجموعة المالية إس بي سي ڤاربورج SBC warburg. وعلى كل حال فإن الخبراء، ومن بينهم رافاييل موخيرييغو Rafael Mujeriego، من الجامعة البوليتكنيكية في كاتالونيا، يقدرون أن تقييما كاملا لهذه الطريقة يفرض نفسه وبصورة خاصة حينما كانت تقوم على بناء مستودعات تحت الأرض، يمكن أن تتفاوت تكلفتها وصعوبة تنفيذها بصورة كبيرة.
وتوجد برامج لبناء قنوات مائية بالغة الطول يمكن أن تتيح نقل المياه بين أحواض المياه. وقد احتفظت بهذا الحل فرنسا وإسبانيا: الواقع، أن نقل مياه الرون (حوالي 10 أمتار مكعبة في الثانية) يمكن أن يسهم في تخفيف نقص المياه الذي يعانى منه أكثر من ثمانية ملايين شخص في منطقة برشلونة. ويجعل بناء هذا "الطريق المائي" من الضروري إقامة بنية أساسية (أنابيب تحت الأرض ومحطات ضخ)، مرتفعة التكلفة، غير أن العقبات التقنية يمكن تذليلها على كل حال.
ومن نفس منظور نقل الموارد أيضا، قام خبراء نرويجيون وإنجليز وأمريكيون بتطوير أكياس بلاستيك ذات سعة كبيرة يمكن أن تتيح، من خلال جرها بمقطورات، نقل المياه من بلد إلى آخر أو من قارة إلى أخرى. ويمكن أن يكون هذا الحل أقل تكلفة بكثير من نقل المياه بواسطة صهاريج مثلا. وعلاوة على هذا فإن التجارب التي أجريت إلى الآن أوضحت أن هذه الأكياس (التي تطفو لأن المياه العذبة أخف من مياه البحر) تتحمل العواصف.
المصادر:
« Un écrivain trouve un remède à la sécheresse », Courrier international, n° 338, 24-30 avril 1997 - « Uncharted waters », Financial Times. 20 février 1997 - Ventura, Antoni, « Administering the integral water cycle, trends in Catalonia for 2005 », Prospectiva/5, 1996 - « Les outres à eau font leur chemin », La Recherche, n° 295, février 1997.
ومن وجهة نظر مستقبلية، فإن كل حل لمشكلات المياه لن يحتاج فقط إلى زيادة إنتاجية الموارد المائية وإلى تحسين كفاءات استعمال المياه في مختلف قطاعات الاستخدام ـ الزراعة بصورة رئيسية ـ مما يسمح بتثبيت المسحوبات، بل حتى خفضها، ولكن، وبصورة خاصة، إلى سلوكيات فردية وجماعية جديدة، من خلال نشر أخلاق مائية حقيقية تقوم على مبدأيْ الاستمرارية والتضامن، وسوف تتيح تفادي نزاعات عبثية. والواقع أن البحث عن حل لمسألة المياه ظل، إلى يومنا هذا، يركز جهوده، من الناحية الأساسية، على العرض. إلا أنه بدأ يتضح شيئا فشيئا أنه، في مناطق العالم التي تشتد فيها وطأة ضغط المياه سوف ينبغي التشديد على تحويل الطلب. وبالتالي، فإن ثمة تغيرات ذات طابع أخلاقي سوف يتضح أنه لا غنى عنها.
والواقع أن التكنولوجيا والسوق سوف تكونان حليفتين لا غنى عنهما، غير أن الحل الصحيح يجب البحث عنه، قبل كل شئ، في مجال الثقافة وبالتالي السلوكيات. ويجب أن تقوم أخلاقيات الماء على أربعة مبادئ: الاعتدال، والجرأة، ومراعاة الغير، والاقتسام. الاعتدال، لأن المياه سوف يجب إدارتها وتوفيرها وإعادة تدويرها وإعادة معالجتها. والجرأة، لأن إرجاء التدابير الجريئة إلى المستقبل، بحجة أن هناك مناطق لا تزال مجهولة في هذا المجال، يمكن أن يؤدى إلى الأسوأ: ترك الأزمة تحتد إلى أن يفوت أوان علاجها. ومراعاة الغير، لأن أكثر من مليار وأربعمائة مليون شخص مازالوا بعيدين عن الوصول إلى المياه الصحية والصالحة للشرب. وأخيرا، التقاسم، لأن البديل الوحيد للنزاعات التي تتفاقم يكمن في التضامن، والرغبة في العمل معا، والإنصاف(59).
لقد ورَّثت روما للغرب وجهين للتخطيط العمراني، هما الجسر والقناة، وقد قمنا بتطوير الأول فقط: الجسر. بنينا ملايين الكيلومترات من الطرق التي تسهل النقل البرى لقاء استهلاك مفرط للنفط ومعدلات عالية للتلوث الجوى. ولا يجب فقط أن ننظف أو نزيل تلوث وسائل نقلنا، بل يجب أيضا أن نطور الحد الثاني من المعادلة الرومانية: ينبغي في سبيل نقل المياه وبناء قنوات وطرق مائية في فعالية خطوط أنابيب النفط والغاز. وإلى جانب هذه القنوات، ينبغي بناء مستودعات مائية واسعة النطاق لتجنب أو تخفيف نتائج الجفاف والفيضانات. ولندع أنفسنا نحلم: ذات يوم سوف تجري مياه شمال أوروبا جنوبا حتى المغرب؛ ذات يوم، سوف تنعقد محكمة المياه التي اعتادت الانعقاد أمام بوابة كاتدرائية بالينثيا Valencia، وبنفس الحكمة على المستوى الدولي(60).
وإذا كان الحصول على الماء ينظر إليه اليوم على أنه حق أساسي، فإنه يتحتم علينا التفكير جيدا في المسئوليات التي تنطوي عليها ممارسة ذلك الحق. وقد بدأ طرح هذا التفكير في المنتدى العالمي الأول للمياه الذي عقد في المغرب في آذار/ مارس 1997؛ وينبغي الآن متابعة هذا التفكير والوصول إلى إدارة موحدة حقا للموارد المائية، تكفل رفاهية سكان الحاضر والمستقبل، وكذلك احترام البيئة الطبيعية. وكما أكد جان مارغا، فإننا "لا يمكن أن نوجب على الطبيعة أن تقدم لنا خدمات متناقضة: أن تقدم الماء، من جهة، وأن تفرغ وتمتص نفاياتنا من جهة أخرى". ومن الآن فصاعدا، تتمثل الأولوية في المواءمة بين "استعمال المياه وإدارتها"(61).
وتقتضي استجابة متحضرة لأزمة المياه العالمية فهما أفضل للاعتماد المتبادل بين الموارد المائية وسلوك البشر، وكذلك تدابير ملائمة على المستوى القومي وعلى المستوى عبر القومي. وبإنشاء البرنامج الهيدرولوجي الدولي منذ خمسة وعشرين عاما، أعطت اليونسكو مشكلة المياه الأولوية التي تستحقها. واليوم، يتصرف هذا البرنامج في شبكة واسعة من المشاركين في أكثر من مائة وخمسين بلد، كما أنه ينسق عددا كبيرا من الأنشطة تمتد من متابعة وتقييم تدهور طبقات المياه الجوفية إلى نشر الكتب التعليمية المخصصة للصغار والمدرسين. وحديثا جدا، وفي إطار متابعة المنتدى الأول الذي انعقد في المغرب، ساهم البرنامج الهيدرولوجي الدولي في طرح المشروع الخاص برؤية عالمية للمياه على مشارف 2025، والذي سوف يسعى إلى تعزيز الوعي بين مجموع السكان بمشكلة المياه وتحديد التدابير التي ينبغي اتخاذها للاستجابة لها بطريقة ملائمة.
ونحن لا نستطيع اليوم أن نقدم استجابات قومية بحتة لمشكلات تتجاوز حدود الدول. وكما هو الحال بالنسبة إلى التلوث، تقتضي تجارة المخدرات أو التجارة غير المشروعة للأسلحة استجابات من المجتمع الدولي ككل، كما أن احتمال نشوب أزمة مياه يدعو إلى تعاون جميع البلدان في البحث عن حلول(62). وعلى طول التاريخ، أخذ البشر في اعتبارهم ضرورة توحيد جهودهم واقتسام الموارد لكي يحافظوا على أمنهم المشترك. وقد قدم إليهم الماء، بصورة خاصة، فرصا عديدة لكي يتعلموا العيش معا. وقد صار من الجوهري اليوم أن ننظر إلى المياه على أنها مصدر محتمل ليس للحروب والنزاعات بل للسلام وللرخاء المشترك للبشرية(63).
منطلقات وتوصيات
تجديد وتعميم جهد في مجال الدراسة المستقبلية للاحتياجات والموارد المائية، ولأوضاع أزمة المياه (التوترات بين الطلب والموارد) في مختلف مناطق العالم.
زيادة مساعدة البلدان الصناعية إلى البلدان الأكثر فقرا في الموارد المائية زيادة كبيرة، وبصورة خاصة في ثلاثة مجالات:
التكيف مع الشروط الاجتماعية الاقتصادية المحلية وتطبيق تقنيات ري فعالة وموفرة للمياه،
تطوير إعادة استخدام المياه المستعملة وإعادة تدويرها،
الأبحاث والتطوير حول النباتات المنزرعة الأقل طلبا للمياه والأكثر مقاومة للمياه المالحة، وتحسين إنتاجية الزراعة المروية.
تحسين تقييم آثار مختلف استخدامات المياه على البيئة بواسطة مؤشرات مناسبة.
تشجيع إدراك أفضل لقيمة المياه المستخدمة في إنتاج السلع، خصوصا الزراعية، عن طريق سياسات لتحديد الأسعار تعاقب الإنتاج الأكثر استعمالا للمياه وعن طريق حوافز مالية أو غيرها لوفورات المياه.
التشجيع، على مستوى الحكومات والبلديات، للاستثمارت التي تهدف إلى تأمين إقامة التجهيزات الملائمة لتنقية المياه وإلى تجنب إهدار مياه الشرب الناتج عن قدم شبكات مواسير المياه.
تعزيز إعداد وإقرار وتطبيق تشريع دولي بشأن المياه يتيح، بوجه خاص، إدارة الموارد المائية المشتركة بين بلدان عديدة.
التعزيز، حيثما كان هذا ملائما، لإقامة بنية أساسية لنقل المياه مماثلة لتلك المستخدمة لنقل النفط والغاز.
مضاعفة وسائل التعليم والمعلومات والتوعية، التي سوف تكون ملائمة لكل بلد ولكل فئة من الفاعلين، بالاستعانة على أوسع نطاق بالتقنيات الحديثة للمعلومات والاتصالات، من أجل نشر ثقافة وأخلاق للمياه تقوم على أربعة مبادئ: التسامح، والجرأة، ومراعاة الغير، والاقتسام.
إشارات الفصل 9 هل ستظل المياه جارية؟
(1) Samuel Taylor Coleridge, The Rime of the Ancient Mariner.
(2) Robert Engelman, Pamela Le Roy, Sustaining Water: Population and the Future of Renewable Water Supplies. Population and Environment Programme. Population Action International, 1993,
(3) Mostafa K. Tolba, “Fresh water: a major problem of the 21st Century”, International Conference on World Water Resources at the Beginning ot the 21st Century, UNESCO, Paris, 3-6 juin 1998.
(4) Guy Marblat: “Qui paiera le prix de l eau ?”, Une Terre en renaissance, Le Monde Diplomatique, dossiers Savoirs n° 2.
(5) Source: PNUE, UNU, Journée mondiale de l eau, 22 mars 1999.
(6) Dr Dennis B Warner, WHO, Drinking Water Supply and Environmental Sanitation for Health, Conférence internationale Eau et développement durable, Paris, 19-21 mars 1998.
(7) Cité dans Sandra Postel, “Faire face à la rareté de l eau”, État de la planète, World Watch Institute, Paris, Economica, 1993.
(8) 1.A. Shiklomanov et al., Assessment of Water Resources and Availability in the World, State Hydrological Institute, St. Petersbourg, Russie, 1996.
(9) Ibid.
10) Jean Margat, “L eau et l humanité au XXIe siècle”, note préparée pour l UNESCO, 1997.
(11) Michel Batisse, “Eau et sociétés”, Ena mensuel, n° 198.
(12) Postel, 1993, op. cit.
(13) Malin Falkenmark, 1986.
(14) Postel, 1993, op. cit.
(15) Jean-Paul Besset, “L eau, enjeu de la paix et de la prospérité du XXIe siècle”, Le Monde, 20 mars 1998.
(16) Yves Mamou, “Pression démographique oblige, la pénurie d eau est pour demain”, Le Monde, 2 février 1999.
(17) Roger Cans, La Bataille de l eau, Le Monde, Éditions, 1994.
(18) Houria Tazi Sadeq, “La demande monte, l offre baisse”, Le Courrier de l UNESCO, février 1999.
(19) Mohamed Larbi Bouguerra, “Bataille planétaire pour l´-or-bleu”, Le Monde diplomatique, novembre 1997.
(20) Plan Bleu, “L eau en région méditerranéenne”, 1996.
(21) Shiklomanov et al., 1996, op. cit.
(22) Vazken Andreassian, Jean Margat, Prospective des besoins en eau mondiaux à l horizon 2025, Colloque international “Quel environnement au XXIe siècle ? Environnement, maîtrise du long terme et démocratie”, 8-11 septembre 1996, Abbaye de Fontevraud, France.
(23) United Nations Commission on Sustainable Development, Comprehensive Assessment of the Freshwater Resources afthe World, Report of the Secretary General, E/CN.17/1997/9, 4 février 1997.
(24) Rémi Sadoux, “L´-or-bleu de l an 2000”, Jeune Afrique, 6-12 mars 1996.
(25) Postel, 1993, op. cit.
(26) Sandra Postel, “Economiser l eau des agriculteurs”, État de la planète, World Watch Institute, Paris, Economica, 1990.
(27) Ismail Serageldin, “Water in the 21st century: a dialogue”, Water Policy, n° 1, 1998.
(28) Uri Shamir, “La science et la gestion de l eau”, Rapport mondial sur la science 1998. éditions UNESCO/Elsevier, 1998.
(29) Wulf Klohn, Hans M. Walter, FAO, Perspectives on Food and Water, Conférence internationale Eau et développement durable, Paris, 19-21 mars 1998.
(30) Postel, 1990, op. cit.
(31) Beijing Déclaration, Habitat II International Conference on Managing Water Resources for Large Cities and Towns, 18-21 mars 1996, Beijing. Traduction de l Office d analyse et de prévision de l UNESCO - il n existe pas de traduction officielle de ce document.
(32) International Hydrological Programme - Water in our Common Future, UNESCO, 1993. : انظر أيضا فصل "الصحراء تنمو" في هذا العمل.
(33) WKlohn, 1998, op. cit.
(34) Ismail Serageldin, “Water in the 21st century: a dialogue”, Water Policy, n°1,1998.
(35) United Nations Commission on Sustainable Development, op. cit.
(36) Nguyen Tien Duc, “Les besoins en eau douce”, Futuribles, juin 1994.
(37) Summary and Recommandations of The International Conference on World Water Resources at the beginning of the 21st Century, Water: a Looming Crisis? UNESCO, IAHS, WWC, Paris, 3-6 juin 1998.
(38) Roger Cans, “L état de santé écologique du Rhin est en constante amélioration”, Le Monde, 13/03/96.
(39) Sandra Postel, 1993, loc. cit.
(40) Ibid.
(41) Juan Carlos Núñez, “Mexique: le sucre se met au vert”, Le Courrier de l UNESCO, février 1999.
(42) FY94 Sector Review Water Supply and Sanitation, Banque mondiale, 1994, cité dans Serageldin, Toward Sustainable Management of Water Resources, Banque mondiale, Washington, D.C., 1995.
(43) Roger Cans, “Devenue rare, l eau risque d être l enjeu de conflits futurs entre nations”, Le Monde, 16/8/95.
(44) Beijing Declaration, 1996, op. cit.
(45) Serageldin, Toward the Sustainable Management of Water Resources, Banque mondiale, Washington, D.C., 1995.
(46) Ferial Haffajee, “Afrique du Sud: l eau démocratisée”, Le Courrier de l UNESCO, février 1999.
(47) Uri Shamir, 1998, op. cit.
(48) “Ré--union-- pour une charte sociale mondiale de l eau”, Le Monde, 24 mars 1999.
(49)ينبغي أن نعرف أن حوالي 9400 لتر من الماء ضرورية لتصنيع 4 إطارات سيارات، وأن حوالي 1.4 مليار لتر من الماء ضرورية لإنتاج الكمية العالمية من ورق الجرائد المستخدمة خلال يوم واحد: “Eau douce: à quel prix ?”, Le Courrier del UNESCO, février 1999.
(50) Philippe Collomb, “L homme et l eau”, Population & Sociétés, février 1995, n° 298.
(51) Michel Batisse, Eau et développement durable dans le bassin méditerranéen, Conférence internationale Eau et développement durable, Paris, 19-21 mars 1998.
(52) Virginie Fauroux, “Vers un tribunal mondial de l eau”, Le Figaro, 22 décembre 1997.
(53) The Water Crisis, Banque mondiale, Washington, D.C., 1995.
(54) Françoise Chipaux, “Jordanie: l eau vitale pour la paix”, Le Monde, 21/04/94.
(55) Bouguerra, 1997, op. cit. - The Economist, 20 juin 1992.
(56) “Valence: 10 siècles d eaux tranquilles”, Le- Courrier de l UNESCO, février 1999.
(57) Joseph W. Dellapenna, “Eaux sans frontières: le marché ou la coutume”, Le Courrier de l UNESCO, février 1999.
(58) Rémi Sadoux, 1996, op. cit.
(59) Cf. Federico Mayor, “Pour une éthique de l eau”, Le Courrier de l UNESCO, février 1999.
(60) Federico Mayor, allocution prononcée à l occasion du vingt et unième congrès de l International Water Services Association, Madrid, 22 septembre 1997.
(61) Jean Margat, “Vers une nouvelle culture de l eau au XXIe siècle”, Dialogues du XXIe siècle, UNESCO, Paris, 16-19 septembre 1998.
(62) Federico Mayor, allocution prononcée à l occasion du vingt et unième congrès de l International Water Services Association, Madrid, 22 septembre 1997.
(63) Federico Mayor, L eau et la civilisation, allocution prononcée à l occasion du premier Forum mondial de l eau, Marrakech, 22 mars 1997.
#خليل_كلفت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟