|
الإقطاع الإلهي في أورشليم
وفاء البوعيسي
الحوار المتمدن-العدد: 4927 - 2015 / 9 / 16 - 16:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تقديم: يخطئ كثيراً من يعتقد أن نظام الإقطاع Feudalism قد عٌرف فقط بأوربا، أثناء سيطرة الكنيسة على الحياة هناك، إن نظام الإقطاع هو نظام قديم جداً، قِدم الأديان نفسها، بل إن الأديان السماوية الثلاثة هي التي منحت الإقطاع شرعيةً مقدسةً كما سيأتي. ليس للإقطاع تعريفٌ حصري، لكن اتفقت التعريفات المتعددة له، على أنه نظام ٌيصف مجموعةً من التقاليد الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والعسكرية، تميزت باختفاء الدولة وغياب مفهوم المواطنة المتعارف عليه اليوم، لكونه نظامٌ متداخلٌ يحكم هيكلية العلاقة، الناشئة عن رابطة ملكية بين السيد الإقطاعي وبين أقنان الأرض (خدم-عبيد-فلاحين)، في وضع يغلب عليه طابع السخٌرة الجماعية لهم. والإقطاع يتطلب بالضرورة "إقتطاع" جزء من أراضٍ ما أو مسطحات مائية، سواء كانت تلك الأراضي أو المسطّحات خالية أو مأهولة، ليصطفيها الإقطاعي لنفسه، أو يمنحها لغيره ممن يصطفيهم هو ليستعملهم عليها، مقابل خدمات وأعمال يؤدونها له، على أن يكونوا تَبَعاً مُلحقاً له، يرثهم أو يُداوِلهم للغير حين يتنازل عن إقطاعه لآخرين. وتتأسس العلاقة التي تربط الإقطاعي بالأقنان على الولاء التام للسيد، لضمان استمرار حق الإنتفاع بالإقطاعية، والدفاع المستمر عنه وعن مصالحه. تعدد الأقنان على إقطاعية أورشليم: إن وجود الأقنان اليهود بفلسطين وتطلعهم لسحب المزيد من الأراضي الواقعة بين النيل والفرات، يعود بالأساس إلى الإقطاع العقاري الذي ربطه يهوه مع إبراهيم في عهده القديم مع اليهود، حين جعل منهم شعبه المختار مقابل أن يتوّجوه رباً عليهم، قال يهوه في سفر التكوين 15 آية 18 "في ذلك اليوم قطع الربّ مع أبرام ميثاقاً قائلاً لنسلك أُعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهرت الفرات" وفي التكوين 17 آية 7-8 قال "وأقيـم عهـدي بينـي وبينـك وبيـن نسـلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم"، ثم جدد عهده مع إسحاق ابن إبراهيم متجاهلا ّبكر إبراهيم اسماعيل بن هاجر، التكوين 17 آية 19-21، وتكوين 26 آية 2-4 ثم يعقوب ابن اسحاق تكوين 35 آية 9-12، ثم موسى بن لاوي الخروج 33 آية 1-3، ثم سليمان ثم ابنه داوود، وهكذا ظل يهوه يجدد عهده بتمليك بني إسرائيل الأرض الموعودة لهم، مقابل أن يكونوا عبيداً له وحده. وذات نهارٍ متربٍ ببيت لحم، بزغ شابٌ يافعٌ نسب نفسه إلى النبي داوود من ناحية الأم، سمى نفسه المسيح بن الله، وأعلن أنه المخلّص (المسيا)، الذي لطالما انتظروه ليخلصهم من استعباد الأمم الأجنبية، فنزع عنهم الأحقية كونهم خالفوا عهدهم مع الله، وجاءوا من مصر إلى فلسطين، وأنهم لم يفوا بالتزامهم بأن يكونوا عبيده، وفك العهد الذي أبرمه يهوه مع اليهود، ليعقد واحداً جديداً وأخيراً مع "خِراف بني إسرائيل الضالة" من كل الأمم، لتكون كلها أبناءاً للآب السماوي، وفي عظة الجبل يقرر المسيح أنه ما جاء لينقض الناموس والأنبياء (التوارة) بل ليكمل، وأن السماء والأرض ليزلن من العالم ولا يزول حرف واحد من الناموس، إنجيل متّى 5 آية 17-20، وأن العهد القديم هو كلام الرب لا يزيد عليه ولا ينقص منه، ومن يحذف منه شيئاً يُحذف من سفر الحياة، رؤيا يوحنا 22 آية 18-19. وإن كان المسيحي اليوم يناور بشأن ما تعنيه فلسطين إليه، ويتمسك ببعدها الروحي بالنسبة له فقط، إلا أنه لا يستطيع المناورة بشأن رؤيا يوحنا اللاهوتي، التي اعتبرها مؤسسو المسيحية الأوائل كلمة الله الحية، لأنها وحي أُملي بواسطة الروح القدس، هذه الرؤية التي رأي فيها يوحنا مدينةً تنزل من السماء محفوفةٌ بالدفوف والأهازيج، سمّاها أورشليم، رأى لها 12 باباً، على كل باب لم يكن مكتوباً اسم أي واحد من تلاميذ المسيح أو رسله، بل الأسباط! وقد شرح الأب أنطونيوس فكري، والقمص تادرس يعقوب ملطي، هذه الرؤيا بأن يوحنا قد رأى عياناً حين صعد بالروح القدس إلى الملكوت، المدينة التي سيسكن فيها الله أخيراً مع شعبه الجديد، وهي الكنيسة الجديدة لله في مقابل أورشليم القديمة التي سكن فيها مع شعبه القديم، لأن الشعب الجديد قد اتحد فيه بالمسيح، فإن لم تكن هذه الرؤية تمجيد لليهودية ومؤسسيها وملكيتهم المقدسة لأورشليم فماذا يمكن أن تكون، وإن لم يكن المسيحي يعتقد بوجود حق عيني له على أورشليم، فماذا يمكن أن نسمي هذه الرؤية التي لم تسمِ عاصمة السماء باسم مكة، أو القسطنطينية، أو سومطرة، أو روما؟ أليس إلا لأن أورشليم قد انتقلت بالعهد الجديد إلي الشعب المسيحي، بعد أن فرّط بها الشعب القديم، حين خالف الاتفاقية الإلهية معه؟! ومن قلب نجد اللافح بالحر والسخونة، بزغ محمد بن عبد الله، الذي نسب نفسه إلى اسماعيل بن ابراهيم الذي لم يمنحه يهوه أي حق بأرض المعاد، ووهبها لأخيه غير الشقيق إسحاق، وأعلن أنه هو المسيا المقصود بالتوراة والذي تنتظره اليهود، وأن اليهود والمسيحيين ليسوا شعب الله المختار بل العرب، مزاحماً اليهود والمسيحيين معاً على أورشليم، برؤيا الإسراء والمعراج المعروفة، التي حط فيها بُراقه الطائر بالمسجد الأقصى، وكان المسُتخلص من هذه الرؤية، أن النبي قد قابل هناك إبراهيم وموسى وعيسى (مؤسسو الديانتين السابقتين) فأمّهم في الصلاة، وتحمل الإمامة هنا دلالة السيادة عليهم، والتقدم بالشرف والنعمة التي هي الإسلام. أين المشكلة؟ إن المساحة الجغرافيّة المسماة اليوم فلسطين، لعمرها أكبر بملايين السنين من عمر اليهود والرومان واليونان والأراميين والعرب، إنها تنكرهم جميعاً ولا تعرفهم، هي محايدة لا شأن لها بهذه الأسماء، بل العالم كله هو جغرافيا فسيحة مسالمة ومحايدة، لا تعرف هويات ولا جنسيات ولا أديان، قطعة أرض صماء تفتح قلبها على مصراعيه، لمن يعطيها الإهتمام والرعاية فتعطيه الحياة بالمقابل، غير معنيّة هي بألوان وأجناس من مرّوا بها ولا تكترث لتسمياتهم وتبعياتهم، غير أن يهوه في التوراة قد تدخل في أمور العقارات ووراثة الأراضي، فاقتطع جزءاً من تلك الجغرافيا المحايدة عنوةً، وملّكه بالإسم والصفة لأمة مخصوصة اصطفاها لنفسه، دون سائر الأمم وبلا سبب واضح مقابل عبوديتهم له، وحين كبر أبناء العمومة اختلفوا على مزرعتهم، وزعم كل واحد منهم أحقيته العينية في كونه وأمته هم وحدهم الأقيان الحقيقيون للسيد الإقطاعي، وأنهم ملزمون بالدفاع عن كلمته ووهبه العقاري لهم، والآخرين معتدين ولصوص، شذاذ آفاق يجب إبادتهم، وهو خلاف لم يُثمر إلا القتل منذ 68 عاماً، وهو مرشح للبقاء هكذا إلى أجل غير معروف، وقد اجتذب هذا الخلاف أطرافاً خارجية، كأميركا التي تُدافع عن السياسات الدموية لإسرائيل ضد المسلمين الفلسطينيين، والمتطرفين المسلمين الذين لا يرضون بالتفريط بشبر واحد للأرض التي كانت قبلتهم الأولى بالقرآن، والمسيحيين الذين يعتبرون كنيسة المهد هي موطأ نزول ربهم المخلص، وموته لأجل فدائهم على الصليب في شخص المسيح. لقد وجه ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء يهودي لإسرائيل، أمراً إلى وزير الدفاع يغئال يادين، وهو عالم متخصص بالآثار قائلاً: اذهب يا يغئال إلى الصحراء ونقّب في كل شبر منها عن وثيقة تمليكنا أرض المعاد، وقد تفرّغ يادين من حقيبة الدفاع وعاد إلى التنقيب عن الآثار، ووصل حتى الضفة الغربية وصحراء سيناء، باحثاً عن العهد الذي أعطاه يهوه لإبراهيم، وانغمس يادين في البحث لسنوات طويلة عن وثيقة الوهب العقاري تلك، لكنه عاد خالي اليدين، من أي دليل على وجود هذا العهد بل إنه لم يستطع حتى إثبات وجود إبراهيم نفسه! ما هو الحل؟ كما ذكرت، فإن كوكب الأرض هو ملكٌ جماعيٌ لكل ساكنيه من بشر وحيوان ونبات، لكن بعد ظهور الدولة القومية والدولة الوطنية، برزت الحاجة لترسيم حدود بينها وبين دول أخرى مجاورة، بموجب اتفاقيات دولية تحظى بقبول المجموعة البشرية كلها، فيمتنع الإعتداء عليها أو غزوها، أو دخولها بدون أذن مسبق ممثلا بالتأشيرات ومعاهدات التبادل العلمي والعسكري ..الخ، ومن أراد أن يكون طرفاً في هذه الدولة أو تلك لسبب ما، فإن عليه التقدم بطلب قانوني للإنضمام إليها، وبعد عدة سنوات يكون واحداً من أصحاب الأرض، له ما للبقية من حقوق وإلتزامات دون تمييز، هذا هو أرقى تنظيم وصل إليه الإجتماع البشري حتى هذه اللحظة، والمساحة الموصوفة اليوم بفلسطين أو إسرائيل، لن تنحل مشكلتها حتى يقرر اليهود والمسيحيين والمسلمين هناك، أن عليهم جميعا إستبعاد الأديان الثلاثة من خلافهم عليها، وأن يقرروا بشجاعة تبني أكبر قدر ممكن من العلمانية والمدنية، وأقل قدر ممكن من الدين.
وفاء البوعيسي
#وفاء_البوعيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خديجة تكشف أزمة الإسلام
-
محمد ينقلب على خديجة
-
مفاهيم سيئة السمعة (6) الإسلام صالح لكل زمان ومكان الجزء الث
...
-
مفاهيم سيئة السمعة (6) الإسلام صالح لكل زمان ومكان الجزء الث
...
-
مفاهيم سيئة السُمعة (5) الإسلام صالح لكل زمان ومكان
-
مفاهيم سيئة السُمعة (6) الإسلام صالح لكل زمان ومكان
-
مفاهيم سيئة السمعة (5) الإسلام هو الحل
-
مفاهيم سيئة السمعة (4) الإسلام السياسي
-
مفاهيم سيئة السمعة (3) ثوابت الإسلام
-
مفاهيم سيئة السمعة (2)
-
المرأة والدين
-
مفاهيم سيئة السمعة
-
على هامش مقالات الإسلام ليس منهم براء
-
الإسلام -ليس- منهم براء (2)
-
الإسلام -ليس- منهم براء (1)
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|