احمد ضحية
الحوار المتمدن-العدد: 1353 - 2005 / 10 / 20 - 14:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة:
عندما ننظر للمشهد السياسي في السودان :( القوى الشمالية – القوى الجنوبية ) واحتمالات الوحدة والانفصال , في سياق مستقبل العملية السلمية , فاننا نجد انفسنا , نخوض غمار موضوع شائك ومعقد , لصلة العرى التي تربط بينه ب "علم المستقبليات" , الذي في غياب شروطه في السودان , من الصعب التوصل الى احتمالات دقيقة , على ضوء ما يطرحه الواقع من اسئلة ..
فهذا العلم(المستقبليات) , لم يجد اهتماما في السودان , على الرغم من أهميته كعلم معني باستشراف المستقبل , وسط كل هذه التقلبات التي مرت وتمر بها بلادنا . وهو كعلم ينهض بالضرورة في المعلومات , والسودان من الدول التي اشتهرت بحجب المعلومات , وتغييب الاخرين , بل والسعي الى قطع الطريق امام المهتمين , حتى لا يتمكنوا من الحصول على المعلومات , وقد كشفت عن هذا الامر بصورة واضحة , الحرب في الجنوب والازمة في دارفور والشرق ومن قبل الازمة في جبال النوبة .ومن هنا يأتي التقييم للاوضاع السياسية لا يخلو من فراغات ومناطق رمادية . وبالنتيجة تفجر النزاعات والصراعات , بصورة متوقعة جزئيا او غير متوقعة بتاتا !!..
السودان دولة لا تحترم المعلومة , ولا تحترم الدور الذي تلعبه هذه المعلومة , في استشراف المستقبل .ولذلك نجد أن عددا من المسئولين السودانيين , سرعان ما يتورطون في تصريحات غير مسئولة , وذلك لعدم احترام المعلومة ( على سبيل الامثلة القريبة تصريح سبدرات لقناة الجزيرة , لحظة اندلاع احداث الشغب في الخرطوم , إثر مقتل قرنق.. اذ نفى ان يكون هناك اي اضطراب , مع انه في الوقت الذي كان يقول فيه ذلك , كانت المظاهرات تجتاح مركز الخرطوم , وتحرق العربات ويقتل الناس ؟؟) .. نتيجة لتغييب المعلومة , من الصعب القول بوجود رأي عام , ناهيك عن محاولة التعرف على الاتجاهات المحتملة لهذا الرأي العام , وهو ما كشفت عنه الوقائع والاحداث التي ترتبت على الرحيل الغامض لدكتور جون قرنق , بل أن الاستقبال الجماهيري الحاشد والضخم الذي تجاوز المليون , لدكتور قرنق عند عودته للخرطوم بعد غياب 21 عاما , كان مفاجئا وغير متوقعا , وايضا حدث التفاجؤ بهذا العدد الهائل من المستقبلين لقرنق , لعدم وجود استقصاء للرأي العام قبل مجيئه .
كذلك كشف الموقف التفاوضي المتعنت للحكومة , ابان مفاوضات نيفاشا حول (قومية العاصمة ) و(علاقة الدين بالدولة ) عن روح غير ديموقراطية, في السعي لفرض الشريعة الاسلامية . كما يتصورها الحزب الحاكم , دون الرجوع الى اي نوع من انواع الاستقصاء الاحصائي للرأي العام الشمالي , حول هذه المسألة . فكانت رؤية الحزب الحاكم ,التي تحكمت في المفاوضين , لا تستند على اي مرجعية احصائية في الشمال , فكل ما اعتمدت عليه هو, الاعتقاد الخاص لهذا الحزب بقدرته على تعبئة الشعب , وتشكيل وعيه وتجييشه , واستمرارية الحكومة ك"أمر واقع" ؟!.
ونتيجة لهذا الغياب لاستقصاء الرأي العام , نحصل فقط على شائعات , وتنبؤات تنطوي على قصورات منهجية .
فبارتفاع الصوت الجنوبي الانفصالي – اثر مقتل قرنق- والذي لا توجد احصاءات حقيقية تعبر عنه في المراحل المختلفة لنضال الجنوبيين, منذ اندلعت الحرب قبل 21 عاما .. نتيجة لارتفاع هذا الصوت الجنوبي, ارتفع الصوت الانفصالي الشمالي , والذي ايضا لا نعرف وزنه احصائيا , خاصة انه ارتبط بالحركة الاسلامية منذ العهد الديموقراطي, قبل انقلابها سيء السمعة في 1989 . هذين الصوتين الانفصاليين في الشمال والجنوب , اعطيا انطباعا عاما : انهما كتيارين , يمثلان قوتين لا يستهان بهما , ولغياب الاستقصاء لا نعرف بالضبط ان كان تصورهما لنفسيهما صحيحا ام لا .. ولذلك سنحاول هنا قراءة توجهات مختلف القوى : في الشمال والجنوب واتجاهاتها , المحتملة فيما يتعلق بوحدة السودان , خاصة ان خارطة التحالفات الجديدة قد بدأت في التشكل , بتحالف اليمين الطائفي مع اليمين الرجعي ( الأمة / المؤتمر الشعبي, الخ..) ..
اذن نتج الانطباع عن قوة الصوت الانفصالي , بسبب غياب المعلومة الاحصائية . وهنا- في هذه القراءة العامة لوضع القوى السياسية ومستقبل العملية السلمية في مرحلة ما بعد قرنق وانحسار تياره(قرنق) عن المواقع التنفيذية , ازاء تمدد تيار سلفاكير., واحتمالات الوحدة والانفصال , خلال قراءتها مقرونة بالمظاهر العامة – انما نحاول لغياب الاحصاء ترك الاستنتاج النهائي للاخرين , وفقا لمعارفهم الاحصائية التي لم تتوفر لدينا , للأسف!!..ولذلك اصر على انها قراءة تهتم بالمظاهر العامة لما أشرت اليه آنفا ..
مرحلة ما بعد قرنق .. والصوت الانفصالي :
اثر الرحيل المبكر للقائد الوحدوي دكتور جون قرنق ( النائب الاول لرئيس الجمهورية وقائد الجيش الشعبي والحركة الشعبية لتحرير السودان) , ارتفع الصوت الانفصالي الجنوبي والشمالي في آن .. ففي خضم الاحداث المأساوية لمقتل قرنق ارتبك الاقليم والعالم , واهتز السودان نتيجة لغياب الثقة بين الشمال والجنوب .
فجاءت ردود الافعال الجنوبية حادة , بسبب ما أنطوت عليه الذاكرة والوجدان الثقافي الجنوبي من مرارات , وغبائن تاريخية تجاه الشمال . وتوالت ردود الفعل فسقط عشرات القتلى والجرحى من الشماليين والجنوبيين , ما أوحى للجميع أن هذه هي الخاتمة لحلم السلام الجميل , واننا مقبلون دون ادنى شك على صوملة لا تبق ولا تذر !!. فبرزت الاصوات الانفصالية بالصورة التي تابعناها جميعا , في وسائط الاعلام المختلفة داخل وخارج السودان .
هذا البروز الحاد للصوت الانفصالي , هو ما يدفعنا الآن لقراءة مشروع ومستقبل السلام , ومستقبل السودان كقطر واحد , بتأن على خلفية ما عبر عنه اللاشعور السياسي للجنوب والشمال معا , وتمظهر في الاحداث المأساوية التي اشرنا اليها .. فمقتل قرنق أكد على حقيقة واحدة , هي أن اكثر الاصوات ضجيجا في المحكات والظروف الحرجة, التي تمر بها البلاد هي الاصوات الانفصالية , والتي لا تستند الى أي حكمة في المنعطفات الحادة .وتلجأ الى اسهل الحلول , حتى لو كانت خصما على حق أجيال قادمة , أو لم تأت بعد – خاصة أن مثل هذه الاصوت التي ظلت تشكل رصيد وأحتياطي وعضوية الحركة الاسلامية في السودان , لم تفكر في حق الاجيال الموجودة الآن في وطن موحد ., ناهيك عن أجيال قادمة - وهكذا في محاولتها للتخلص من المشكلة لا تدرك ان كل ما تفعله انما يفاقم المشكلة فحسب !!..
وتركيزنا على هذه الجزئية , يجيء في سياق تسليط الضوء , على واحدة من أكثر المناطق توترا في نظام تفكير الشمال والجنوب معا , وربما يجيء توتر هذه المنطقة , بسبب الحرب المأساوية الطويلة بين الطرفين , وما تراكم في الوجدان الثقافي لكليهما, من عناصر سيئة أثرت على صورة الذات عند كل منهما في علاقتها بالآخر .
ولتوضيح ما نرمي اليه سنبدأ بتحليل عدد من عناصر المشكلة , ذات الصلة بارتفاع الصوت الانفصالي ومستقبل عملية السلام .
هدف مشروع السلام :
هدف بروتكول ميشاكوس 2002 ومن بعد اتفاق نيفاشا 2005 الوصول الى ايقاف الحرب عبر اتفاق سلام شامل , كخطوة لايقاف الحرب لا في الحنوب فحسب , بل في كل مناطق النزاعات في السودان (دارفور – الشرق) وهدف كذلك الى جعل الوحدة خيارا جذابا ..
وما أن أنجزت الجزئية الاولى الخاصة بايقاف الحرب في الجنوب , حتى جاءت وقائع مقتل قرنق الغامضة . التي القت اللوم في موته , على أطراف مختلفة في الداخل والأقليم . الامر الذي مثل منعطفا حادا , نسبة للدور الكاريزمي الذي لعبه قرنق, في مسيرة الحرب والسلام في الجنوب والسودان بصورة عامة .
الأمر الذي جعل كثير من الأصوات الجنوبية تصرخ مطالبة بالأنفصال , وهنا نجد أن الانفصال لا تسنده هذه المشاعر الانفعالية الصارخة فحسب , بل يرتكز على نصوص قانونية محددة , اذ ورد كأحد المباديء الاساسية في الاتفاق الاطاري (ميشاكوس) , الذي رحبت به غالبية القوى السياسية , على خلفية علاقتها بالحركة الشعبية , وعلى خلفية موافقتها السابقة على حق تقرير المصير , كما ورد في الوثيقة التي تمخضت عن مؤتمر القضايا المصيرية بأسمرا 1995.
كما أن بروتكول الترتيبات الأمنية , بتأكيده على احتفاظ الحركة الشعبية بجيشها حتى اجراء الاستفتاء , وتكوين الجيش القومي ,من جيش الحكومة السودانية والحركة الشعبية , ينطوي على مبدأ تقرير المصير والانفصال .
ولكن هذا الانطواء كي يطل برأسه عمليا مشروط بعدم تنفيذ اتفاقية السلام , فتنفيذ اتفاق عملية السلام يعني بوضوح : اعادة بناء الدولة السودانية الموحدة على أسس جديدة , قد لاتتفق مع المصالح الحزبية الضيقة لقوى السودان القديم , ولكن موقف هذه القوى منها , لا ينفي أن الأسس التي تدعم وحدة السودان على أسس تختلف عن كل ما سبق أن استقر في الوعي السياسي للشمال والجنوب . هي أسس جذابة لكل المهمشين , الذين هم معنيين أكثر من غيرهم بأنفاذ اتفاق السلام ..
ولكي يتم تنفيذ هذا الاتفاق بحذافيره , حتى يثمر الاستقرار والوحدة المرجوين منه , لابد
من تسامي أطراف الصراع السياسي الأخرى في السودان لمستوى الاتفاق , ويلزم ذلك ان نتوقف عند مفاصل أساسية :
1- دور المثقفين .
2- دور الشعب.
3- دور القوى السياسية في الشمال ( القوى القديمة – القوى الجديدة ).
4- دور القوى السياسية في الجنوب .
5- دور الحكومة وحزبيها ( المؤتمر الوطني – الحركة الشعبية ).
6- تحالف قوى السودان الجديد .
فلكي يتم تحقيق هذه الاتفاقية عمليا على أرض الواقع , والانتصار على العوائق التي تعترضها لابد من اعادة البناء المعنوية للشعب , حتى يتمكن من أداء دوره في هذه المرحلة , وهو دور لا تتحمل عبئه الدولة وحدها , اذ يتحمله معها المثقفين , كذلك لابد من أن تقوم القوى السياسية في الشمال والجنوب , بما في ذلك الحزب الحاكم والحركة الشعبية ,باعادة بناء نفسها والانتصار لقيم الديموقراطية والمؤسسات داخلها , للارتقاء لمستوى المرحلة التي يمر بها السودان , وهي مرحلة تقتضي التحلي بروح المسئولية , بصرف النظر عن موقف البعض من بعض ما ورد باتفاق السلام . مثل ثنائيته كشراكة بين الحكومة والحركة الشعبية .
كذلك من الواجبات الأساسية لهذه المرحلة وحدة قوى السودان الجديد , التي بشرت طروحاتها منذ وقت مبكر بالتحولات التي نعيشها الان , في اعادة بناء الدولة السودانية وكسر الحلقة الجهنمية وتحقيق أطروحة السودان الجديد الناهضة في المواطنة والديموقراطية والعدالة والتنوع في اطار الوحدة .
فما لم يتم ذلك يظل خيار الانفصال مدعوما بالمشاعر الانفعالية التي ابرزتها الاصوات الشمالية والجنوبية الموتورة عقب رحيل قرنق(وانحسار نفوذ تياره الوحدوي عن المواقع التنفيذية داخل الحركة الشعبية) , يظل هذا الخيار مسلطا على البلاد , ويأخذ مشروعيته من النصوص القانونية .
وفي حال فشل القوى السياسية في الارتقاء لمستوى التحديات , التي تواجه البلاد وتحقق الانفصال , يمكننا التأشير على أن السودان اصلا جزء من مجال اقليمي يعج بالاضطرابات والتوترات الاثنية والثقافية والعقدية . وانفصال الجنوب – في حال تحبيذه لهذا الخيار , عقب الاستفتاء – في خواتيم الفترة الانتقالية , قد يؤدي الى اشعال روح الانفصال , في هذا المجال الافريقي المتوتر .
كما أن الانفصال نفسه قد يترتب عليه في الشمال بروز قوي لجماعات وحركات الاسلام السياسي , وقوى التطرف الديني والارهاب . الامر الذي سيجعل القوى القديمة, في مأزق حقيقي – فضلا عن القوى الجديدة التى ستقع تحت دائرة التهديد المباشر للقوى القديمة وجماعات وحركات الاسلام السياسي - ..
الشعب :
من المفارقات ان الحكومات المتعاقبة على حكم السودان , عملت على تغييب الشعب عن تاريخه الحقيقي الذي يمتد ل 25 الف سنة من الحضارات الثرة والمتنوعة – ما يسميه قرنق بالتنوع التاريخي – استعاضت الحكومات المتعاقبة عن ذلك بايهام الشعب, بأنه دولة حديثة التكوين , وأغرقته في شعارات عروبوية واسلاموية وافريقوية , اقصت عنه ماضيه وغيبته عنه , ولم تهتم بإحداث أي نوع من الإنسجام بين فئات الشعب المختلفة , ليحظى هذا الشعب بقدر من الانسجام الذي يمكنه من النهوض والتقدم . فالدولة السودانية في عهودها المختلفة لم تحاول الاهتمام بتحقييق الانسجام في النسيج الاجتماعي لمكونات الشعب , بالتالي لم تتواضع ابدا على جعل أقتراح الهوية السودانية – على حد تعبير فرانسيس دينق الذي نتبناه هنا – كتعبير حقيقي عن هذا الشعب المزيج من العروبة والافريقانية , ويتميز عنهما بخصائصه النوعية المختلفة ك"هوية سودانية" . ونتيجة لهذا التغييب للشعب فقد السودان في مراحل تاريخية مختلفة ,أجزاء من أراضيه الواسعة ,واذا لم يتم تدارك الامور , سيفقد في هذه المرحلة جزء كبيرا آخر من اراضيه , سواء كان بانفصال الجنوب أو السعي الى الحاق الشمال بالجوار , او بناء دويلة الشمال الاسلامية المزعومة ..
الشعب في السودان غير متجانس , ولكن لم يقف عدم التجانس هذا عقبة , ازاء الانفعال مع القضايا الوطنية , والتفاعل معها . وعلى الرغم من عدم ميل هذا الشعب- غالبا - لمجابهة السلطات القائمة تاريخيا لاسباب عديدة اولها انشغاله بلقمة الخبز, والقمع العنيف الذي يتعرض له . الا أنه يلجأ احيانا وفي الحالات الحرجة ,الى الهبات العفوية الشعبوية التي لم يسبقها تنظيم – اذ تجد القوى السياسية نفسها باستمرار, تلهث خلف تظاهرات وانتفاضات الشعب, للحاق بها وقيادتها , بعد أن يكون الشعب عمليا قد عبر عن نفسه, وأفرز قيادته الميدانية – كما حدث في 1964 و1985 وعقب وصول قرنق لاستقباله من قبل الشعب بهذه الصورة الحاشدة التي لم يسبق ان حدثت لزعيم سياسي في السودان – وبالطبع لم تكن القوى السياسية تتوقع ان يكون في استقبال قرنق حشد عفوي بهذه الضخامة - ..
ويؤشر الامر الاول (لهاث القوى السياسية خلف الشعب لقيادته ) على مشكلة تعاني منها القوى السياسية , ويعاني منها المثقفين السودانيين . تتمثل في أن دور القوى السياسية والمثقفين يسجل غيابا فاجعا وجبت معالجته , في هذه المرحلة الحرجة, بالتواصل الحقيقي بين القوى السياسية والمثقفين والشعب , في سبيل ايجاد لغة تفاهم مشتركة , بترك الابراج العاجية الزائفة, والاستعلاء للالتحام مع جماهير الشعب . حتى لا يجد الجميع انفسهم مضطرين في كل مرة ,للركض خلف الشعب لقيادته من الخلف , فذاك اغرب نوع من القيادة !!.
المثقفين :
ثمة وعي عام أن المهمة الأساسية, التي يجب أن يطلع بها المثقفون هي : ابراز المشكلات الكبرى المتعلقة بالأمن والسلم الاجتماعي, وتوفير العدالة الاجتماعية , ومؤازرة حقوق الانسان من مواقعهم المختلفة كمثقفين , أيا كانت معتقداتهم وانتماءاتهم السياسية, او الادوار التي يلعبونها كأكاديميين او اعضاء في مؤسسات مجتمع مدني . وقد فشل المثقفون السودانيون لوقت طويل في اتخاذ مواقف ايجابية, تجاه السلطات التي تعاقبت على حكم السودان , بسبب قصورهم الذاتي أو نجاح النظم المتعاقبة, في احداث اختراقات خطيرة وسطهم , خاصة في مرحلة الانقاذ باسم الشراكة الذكية والمصالح المشتركة , وفي احيان كثيرة استجاب المثقفون , للترغيب قبل الترهيب , ولكل ذلك فشلوا في توضيح القضايا الاخلاقية ,الكامنة وراء الصراع السياسي بين قوى الاستبداد , والمطالب الشعبية, سواء في الجنوب او الشمال او دارفور او جبال النوبة او شرق السودان , او اى هامش اخر ..ناهيك عن المطالب الوطنية التي يقابلها البعض الان ,برفع عقيرته لاشعال نيران الفتن , وجعل خيار الانفصال حتميا – هكذا بضربة لازب!! - ..
ان استمالة المثقفين واغراءهم واستخدامهم , كأدوات لتمرير مشاريع ضارة بمصالح الشعب , هو اول الامور التي يجب تصحيحها – نلاحظ ان قرنق نجح في تغيير صورة السياسي الجنوبي كما هي متعينة في الذهن الشمالي "كسياسي إنتهازي" – والتوحد ضدها . واعني هنا الاصوات الشمالية التي تروج للانفصال بذات القوة التي كانت تروج بها لتجارة الحرب , والخزعبلات حول الملائكة المزعومين واعانتهم للذين يطلقون على انفسهم مجاهدين, ضد اهالي الجنوب وجبال النوبة ودارفور البسطاء !!- لا أدري كيف تهتم الملائكة كل هذا الاهتمام بتشريد البسطاء وقتلهم وحرق مزارعهم واماكن عبادتهم ومنازلهم واغتصاب نساءهم !!- ان السلوكيات السياسية الانفعالية الموتورة التي لا تخلو من توظيفات ايديولوجية للدين, افضت على الدوام الى خراب ودمار البلاد , وما لم يتم حوار علني عام, ومواقف ايجابية طموحة ومتفائلة , من الصعب أن يتجاوز السودان هذا الظرف العصيب ..
والطموح في السلام والتفاؤل وحدهما لا يكفيان , اذ يلزمهما العمل الجاد على هداهما . . صحيح أن القضايا في السودان معقدة , والظروف حرجة , بالقدر الذي يدفع المثقف للتساؤل حول : ما الذي بامكانه ان يفعله فعلا, ازاء كل هذا السقط والركام , ولكن لا مناص من مجابهة كل ذلك , خاصة في ظل احتمالات الانفصال وتفجر العوائق أمام مشروع السلام والوحدة , سواء على المستوى الجنوبي – الجنوبي , او الجنوبي – الشمالي . أو االشمالي – الشمالي ..على الرغم من غياب المؤسسات السياسية الحيوية والاحباط السياسي العام ..
القوى الشمالية :
أوحى اتفاق السلام النهائي الذي تم توقيعه في نيروبي في التاسع من يناير 2005 بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان , للقوى الشمالية أن الضغط على نظام الانقاذ , قد تترتب عليه نتائج ايجابية لها . ولكن سرعان ما خاب ظنها , اذ على الرغم من الضغوطات التي مارستها في سبيل الحصول على بعض المكاسب , الا أنها فشلت فشلا زريعا , فجاء تمثيلها المتأخر في لجنة الدستور ك"تمومة الجرتق" .. فقد تم اقصاءها عمليا لضعفها , الذي ترتبت عليه من البداية عملية الشراكة الثنائية , في ميشاكوس ونيفاشا , وبالتالي يجب الا تلوم القوى السياسية سوى نفسها , لأنها لم تهتم بتقوية نفسها , وفرض وجودها بصورة فاعلة, رغم انها تزعم وتدعي أنها من " قوى المجتمع الحيّة" !!..
السبب الرئيسي في اقصاء هذه القوى, او تهميش دورها هو عدم وضوح رؤيتها , ما جعل المجتمع الدولي والاقليم وطرفي التفاوض, يستهينون بها ويقللون من شأنها , خاصة ان القوى الشمالية ظلت تعمل على تغليب اجندتها الحزبية الضيقة , على الاجندة الوطنية . كما ان الحكومة نجحت ومنذ وقت مبكر , في أحداث اختراقات مريعة داخل هذه القوى , تمكنت خلالها من افراغها من محتواها, وحولتها الى احزاب كرتونية , ما جعلها غير صالحة لان تكون رقما في المعادلات والموازنات السياسية , وهو الامر الذي جعلها تعمل منذ البداية, على اقصاء هذه القوى من المشاركة في المفاوضات, في مراحلها المختلفة ومن ثم الوجود الاسمي, في لجنة الدستور . ما جعل بعض هذه القوى يتخذ موقفا حادا, من اتفاقية السلام (حزب الامة ) ويصر على العزف على اوتار انه لايخرج عن كونه "صفقة ثنائية" . اسوة بالقوى الجنوبية الاخرى في اعتراضاتها على الحركة الشعبية .. وترى ان نظام الانقاذ (المؤتمر الوطني ,الحزب الحاكم ) لا يزال محاصرا بعوامل خارجية واخرى داخلية , الى جانب القرارات الدولية بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة , وعلى وجه الخصوص القرارات : 1590 – 1591 – 1593 ..
حزب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) :
وهو اللاعب الرئيسي بين القوى الشمالية , في مشروع السلام وقد مر هذا الحزب بعدد من المراحل منذ اعتلاءه السلطة, بانقلاب عسكري ذي توجهات اسلاموية كولونيالية في 1989 (مرحلة الثورة والتطرف ) التي افضت الى مرحلة تالية ,هي : المرحلة التي اطلق عليها عرابو هذا الحزب ( مرحلة الانتقال من الشرعية الثورية الى الشرعية الدستورية ) , ونتيجة لتناقضاته الذاتية ومشروعه الاسلاموي ,الافتراضي وتطلعاته الامبراطورية, ودمجه لمؤسسة الحزب في جهاز الدولة , وأثننته للسياسة , وتفاعل الخطاب الاثني داخله, بسبب القمع والاقصاء والتهميش الاسلاموي العروبوي, وبناءه الفكري المبني على تجريدات ذهنية سحيقة التاريخ , لا ترتكز على اساس واقعي عملي .. نتيجة لكل ذلك دخل هذا الحزب, في مغالطات افضت به الى (الانقسام ) الذي مثل احد المراحل المهمة في حياته كحزب , تلت ذلك مرحلة (التفاوض مع الحركة الشعبية ) التي نامل ان تفضي الى الجمهورية الثانية للسودان إذا حدثت معجزة وتفوق تيار سلفاكير على نفسه وأقدم على مشروع سلفه (قرنق) : وحدة السودان بجدية وصدق ..
عندما تضعضع تنظيم المؤتمر الوطني بسبب عوامل محلية واقليمية ودولية , وعوامل ذاتية تخصه وحده , طرح بروتكول ميشاكوس , فوجد فيه مخرجا له من ازمته التي كادت تعصف به , بعد ان عصفت بمشروعية مشروعه الاسلاموي . ولذلك وافق على اجراء مفاوضات السلام , وقدم تنازلات غير متوقعة , مارس خلالها اقصاء مستميتا للقوى الاخرى , في سبيل الاستمرار على السلطة , وبقاؤه فيها لوحده لا شريك له من الشمال !!.
وكشفت تنازلاته واقصاءاته للاخرين , عن حرصه الشديد على استمراريته في السلطة .واستئثاره بها , وأنه في سبيل ذلك لا يتورع عن بيع البلاد شبرا فشبرا , طالما أن هذا الشبر يبعد مسافة كافية عن كرسي السلطة !!.
وحزب المؤتمر الوطني الحاكم , بحكم تكوينه المتناقض يصعب التكهن باحتمالات واتجاهات سلوكه السياسي , اذ لا يمتلك خطة واضحة أو محددة تحكم عمله السياسي , كما أثبتت الكثير من الوقائع والاحداث , كذلك الورطات التي ادخل نفسه فيها ,في كثير من المناسبات بتصريحاته المتناقضة وغير المسئولة .
ولذلك يجد الانفصاليون في تنظيم بهذه المواصفات والتكوين الغريب , بيئة صالحة للنمو والتكاثر , خاصة أن الانفصال أحد الاهداف الاستراتيجية , لعرابي المشروع الاسلاموي في السودان .
وبحكم لا مبدئية هذا التنظيم, وتطلعاته غير المشروعة ,في الانفراد بحكم الشمال, الذي لا يتحقق له الا بفصل الجنوب . تجد القوى الجديدة نفسها مضطرة لوضع جند محاصرته في الفترة الانتقالية على راس اجندتها ..
فكثير من التصريحات المنسوبة لقادة هذا التنظيم سواء العلنية او التي خرجت للعلن , تشير الى عدم حماسه للوحدة, لتناقضها مع استمراريته وبقاءه على دست الحكم .
فراس المال الرمزي الذي يستخدمه هذا التنظيم ,للحصول على أيّ مكاسب سياسية, هو توظيفه للاسلام ايديولوجيا , وفقا لوجهة نظر فقهاءه "فقهاء الظلام" , وفي دولة الوحدة يصعب عليه استغلال هذا الرأسمال , مما يجعل دولة الوحدة تشكل تهديدا مباشرا له, بالانقراض او الانحسار عن المشهد السياسي.
وأتصور أنه من اولويات قوى السودان الجديد الوحدوية إذا استطاعت أن تتحالف مع الحركة الشعبية ,هو الاستمرار في محاصرة أطروحات وتوجهات هذا التنظيم الانتهازي , لصالح مشروع وحدة السودان ومستقبل السودان . فالاستمرار في حصاره والضغط عليه سياسيا يعني اجباره على تقديم تنازلات لصالح مشروع السودان كدولة سلام ووحدة ومواطنة , وبالطبع لن يتم ذلك الا بتعرية الانفصاليين , وشرح ابعاد مخططاتهم غير المعلنة خلال ما تسرب وتم الاعلان عنه, لجس النبض العام وتضليله بان الانفصال حتمي او خيار أفضل .
حزب المؤتمر الشعبي :
وهو انقسام عن المؤتمر الوطني الحاكم, بسبب الصراع على السلطة والثروة على أساس إثني داخل التنظيم – رغم مزاعمه بان المؤتمر الحاكم هو الذي انقسم عليه – وهو الى جانب الحزب الحاكم يمثلان اعلا مستوى ممكن للتعبير عن الانتهازية واللامبدئية التي شكلت وعي قوى السودان القديم , وحفزتها على المغامرة على حساب الاجندة الوطنية , في سبيل مكاسب سياسية محدودة وضيقة . وهو كتنظيم على خلاف القوى الاخرى, ينطوي مثل المؤتمر الوطني على أجندة انقلابية وعسكرية مضادة للديموقراطية وحقوق الانسان – لا غرو أنه يقف الان خلف احدى الحركات الظلامية : العدالة والمساواة في دارفور - فضلا عن أفكاره الزائفة , التي يروج الى انها تستمد مشروعيتها من التجديد الديني . وما يحدث في السودان الان , يتحمل مسئوليته التاريخية بصورة أساسية هذا الانقسام , وحزبه الام (المؤتمر الحاكم ) ..
التجمع الوطني الديموقراطي :
وهو جبهة سياسية أو تحالف أحزاب سياسية. تم أفراغه من مضمونه كتحالف واسع للقوى والتنظيمات الوطنية, بسبب احتكاره من قبل بعض القوى الطائفية واليسار العقائدي , التي تطلق على نفسها توصيف :" القوى الحيّة في المجتمع " .. وبسبب دخول وخروج بعض هذه القوى ,المكونة له وقطعها الطريق امام قوى اخرى من الدخول اليه, دون مبررات واضحة , أو دخول هذه القوى وتلك في تحالفات مع الحركة الشعبية , او اتفاقات مع الحكومة.. نتيجة لكل ذلك تم ضرب التجمع كمنبر واحد وموحد لعدم احترام تقاليد وأسس العمل الجبهوي التي تحكمه كتجمع " موحد". ما ترتب عليه بالنتيجة تعدد منابر المعارضة , ولم تعد مكونات التجمع واضحة , خاصة بعد خروج حزب الامة ودخول حزب البعث (جادين), وحركة تحرير السودان (دارفور) , وتوصل الحركة الشعبية لاتفاق نهائي مع الحكومة .. وعجز التجمع عن اتخاذ قرار موحد حول العودة الى داخل السودان, او الاستمرار في البقاء في المنافي والمهاجر, وصولا الى وقوعه تحت وطء آغراءات "نافع" قبيل تشكيل الحكومة الجديدة , ما جعله في وضع لا يحسد عليه , اذ لم يحصل سوى على " خُفي حنين" . كما أن التأثير الخارجي المباشر او من خلال بعض قوى التجمع المؤثرة , يبدو جليا على ارادة التجمع , الامر الذي خلق المزيد من الارتباك في داخله .
استند التجمع في بداياته (أكتوبر 1989 ) على قاعدة نقابية وحزبية كبيرة , لكن سرعان ما تصدعت هذه القاعدة لما مارسته القوى الكبرى في التجمع من اقصاء لقوى اخرى , خاصة تنظيمات السودان الجديد الديموقراطية . ولم يعد يمثل سوى القوى التي بقيت فيه, لسبب من الاسباب الذاتية التي تخصها , رغم علمها التام انه عمليا ليس له تأثير, ولم يعد له وجود , والاسوأ من هذا ليست لديه رؤية واضحة حول الانفصال, أو الوحدة الامر الذي اربك اطرافه ,فيما يتعلق بقضيتي الدين والدولة , وقومية العاصمة , وهو ما دفع بقوى السودان الجديد للتفكير في العمل بجدية على مشروعها الوحدوي الذي طال تاجيله .
وأتصور أنه لملء الفراغ الذي خلفه غياب وتغييب دور التجمع , أنه لابد من التحرك سريعا لتحويل وحدة قوى السودان الجديد الى تحالف حي , والخروج به من الاطار النظري الذي ظل حبيسا داخله لوقت طويل , فهذه القوى الى جانب الحركة الشعبية(على علاتها وتناقضاتها) تستطيع اعادة صياغة الخارطة السياسية للسودان , وتحقيق حلم السودان الجديد بشكل حاسم ونهائي, بما يجعل السودان يودع القوى القديمة الى الابد .
حزب الأمة :
وهو أحد الاحزاب الكبرى في السودان, وفقا لاخر انتخابات ديموقراطية في 1986 , ولكن لا توجد احصاءات عن وزنه الجيبولتيكي منذ 1989 حتى الان , بسبب الاختراقات الكبيرة التي تمت له من قبل الانقاذ , في مناطق نفوذه, وبسبب ان هناك قوى اخرى نشطت في مناطق نفوذه على حساب رصيده مثل قوى جبال النوبة في كردفان, و التحالف الفدرالي و تحرير السودان والعدالة والمساواة في دارفور , الى جانب القوى الاخرى التي لها بعض الوجود . ولكن نستنتج أن الثقل الجيبولتيكي لهذا الحزب لم يعد كما كان في السابق , خاصة بعد حدوث عدد من الانقسامات داخله , التي كان ابرزها انقسام (مبارك الفاضل) كغيره من الاحزاب الشمالية في اليمين واليمين الطائفي, التي أعمل فيها نظام الانقاذ آلية الاختراق , مستغلا تناقضاتها الذاتية , وعدم مؤسسيتها .
عبر هذا الحزب عن عدد من المواقف غير المقنعة , ترتب عليها خروجه من التجمع , وعودته الى البلاد , كما كان خروجه من البداية من البلاد والتحاقه بصفوف المعارضة في الخارج غير مقنع .
يرى هذا الحزب أن اتفاق السلام مليء بالمناطق الرمادية , والنقاط التي يجب تفسيرها قوميا , وأن الاتفاقية قاصرة على قضايا محددة ولم تستوعب داخلها عددا من القضايا الاخرى المهمة , دون أن يحدد هذه القضايا , اذ يكتفي بالتركيز على التمكين الثنائي المتعدي على حقوق الاخرين ( يعني بالاخرين نفسه بالطبع !!).. ونلاحظ على خطاب هذا الحزب التلاعب بالالفاظ , فزعيم الحزب اخصائي في علم الاحتفاء باللغة , وهلمجرا ..
فما أطلق عليه الافتقار للشمول والتناقض في النصوص ليس صحيحا . والشيء الوحيد الصحيح هو ثنائية الاتفاق, وذلك لضعف التجمع كقوة بسبب سياساته الاقصائية للقوى الاخرى .
الحزب الاتحادي :
وهو ثاني أكبر الاحزاب "تاريخيا" ومواقفه من كثير من القضايا الوطنية السودانية, ليست رهن إرادته . يرتبط هذا الحزب بتحالف وثيق مع الحركة الشعبية (في حياة قرنق), وذلك ايضا تعبير عن إرادة إقليمية أكثر منها وطنية ( في خلق علاقات متميزة مع الجنوب ,سواء مباشرة او عبر وسيط وطني ) ولذلك عبر هذا الحزب عن بالغ قلقه لدى علمه بمقتل قرنق .
لا يزال هذا الحزب اسير الزعامة الدينية, على الرغم من وجود تيارات وسط ديموقراطية جديدة داخله , كما لم ينج هذا الحزب من الانقسامات ,اذ كانت آلية الاختراق التي اعملتها الحكومة في كل القوى , واحدة من الأسباب العديدة للانقسامات داخله , والتي ابرزها انقسام( الشريف زين العابدين الهندي ) .. وهو حزب وحدوي بصورة عامة , لكن المفارقة ان هذا الحزب الى جانب حزب الامة والمؤتمر الشعبي والموتمر الوطني الحاكم (كلها كقوى شمالية ترتكز على الدين ) تلتقي في مصالحها الجوهرية , كاحزاب نافذة ذات صلة عبر انقساماتها المختلفة بجهاز الدولة في السودان , فانقسام الامة (مبارك الفاضل) وانقسام الاتحادي (الهندي) نجده ممثلا في جهاز الدولة والحكومة الجديدة, كما أن للمؤتمر الشعبي وجوده من خلال صورته الممثلة في الحزب الحاكم . وهذه الانقسامات هي ما شكلت تجربة الانقاذ قبل انقسامها الى مؤتمرين شعبي ووطني .
وذلك لان هذه القوى تلتقي جميعها في المصالح المشتركة , التي تربط بعضها ببعض , كما تلتقي على مستوى التفكير الاسلاموي والمشروع السياسي , على الرغم من خلافاتها الظاهرية غير الاساسية, وتلاعبها بالالفاظ والعبارات, لايهام الاخرين بان الخلافات بينها, خلافات جذرية , وفي واقع الامر, تختلف هذه القوى في أوعيتها التنظيمية فحسب , التي تحمل اسماءها المختلفة كاحزاب . وبتحالف الامة مؤخرا مع الشعبي, يتأكد صدق ما نذهب اليه , فهذا التحالف هو مجرد خطوة لتحالف واصطفاف اليمين لمجابهة التحديات التي تطرحها الفترة الانتقالية, وما بعدها . لكن هنا نتوقع ان يتميز تيار الوسط داخل الحزب الاتحادي , على ضؤ خارطة التحالفات الجديدة المتوقعة التي تفرز اليمين عن الوسط عن اليسار . خاصة ان الحزب الاتحادي الان في اضعف حالاته – كحزب الامة تماما – نسبة لاحتلال مؤتمر البجا (إلى حد معقول) لموقع هذا الحزب في شرق السودان الذي يعتبر واحدا من مناطق نفوذه الاساسية.
الحزب الشيوعي السوداني :
وهو حزب صفوي رغم تاريخه الطويل, لم يستطع التحول الى تنظيم جماهيري , ولذلك لا نجده فاعلا سوى وسط المثقفين والطلاب في الجامعات . لم يلعب ادوار مؤثرة لصالح قوى التقدم في التجمع , بل اسهم مع قوى اخرى , على اقصاء القوى الجديدة التي يشعر بانها تمثل تهديدا لمشروعه الفكري والسياسي . وكغيره من قوى السودان القديم ركز على استصحاب النقد العام للعيوب البارزة لاتفاق السلام (الشراكة الثنائية بين الحركة الشعبية والحكومة ) .. وبطبيعته الآيديولوجية كحزب أممي , فهو متحمس للوحدة ..
حزب البعث العربي الاشتراكي :
وهو لطبيعته القومية , وحدوي مثل الحزب الشيوعي . ولم ينجو هذا الحزب مثله مثل القوى الاخرى من الاختراقات المتكررة , بسبب عمل اجهزة النظام من جهة, وبسبب عوامل ايديولوجية فكرية وتنظيمية وسياسية ذاتية, واخرى اقليمية ومحلية , اثر غزو العراق للكويت . فمنذها بدأ هذا التنظيم يتصدع ويتشظى, الى أن أصبح عبارة عن أربعة تنظيمات , أحدها تحت قيادة (جادين) الذي يفكر بتغليب البعد السوداني, على القومي العربي وهو الذي دخل التجمع والثلاثة الاخرى يتبع احدها لسوريا واخر لايزال اسيرا لاحلام الدولة القومية وامجاد العراق المزعومة , وهذين القسمين ينظران الى السودان كمحافظة من محافظات دولة الوحدة العربية المزعومة , والتنوع فيه عبارة عن اقليات لا أكثر . والآخير لا يدري مع من يكون ..
ومع ذلك يتميز هذا الحزب برؤية استراتيجية تحكم عمله , على خلاف القوى الشمالية الاخرى المغرمة بالتاكتيكات على حساب الاستراتيجي الوطني , والتي يلتقي معها هذا الحزب في البعد العربي والاسلامي للسودان . ولكن اثر التحولات التي يمر بها السودان, نجد ان الطروحات العروبوية لهذا الحزب – الى جانب اسمه- تدخله في مأزق لا مخرج منه , وعلى الرغم من ذلك نجد أن مواقف هذا الحزب ظلت ترتبط على الدوام بالتغيير من الداخل , والرهان على الحركة الجماهيرية , التي يمكنها اعادة ترتيب اوراق اللعبة السياسية, على نحو مختلف عما تمخض عنه بروتكول ميشاكوس ممثلا في اتفاق السلام الشامل .
التحالف الفدرالي (احمد ابراهيم دريج / دارفور) :
وهو حزب وحدوي , لا يختلف عن القوى الشمالية الاخرى, الا في بعض الامور مثل نهوض رؤيته في الفدرالية كحل لازمة الحكم في السودان , ومع ذلك ليس له وجود في الشمال, فقد تم حصاره منذ وقت مبكر في اطار دارفور ومثقفيها من القبائل غير العربية , ولذلك نجده يرتكز بصورة خاصة على قاعدة قبلية من هذه القبائل التي اولها قبيلة الفور..
الحزب القومي (غبوش – فلين / جبال النوبة ) :
وهذا الحزب مثله مثل التحالف الفدرالي , ليس له نفوذ الا في اطاره القبلي (جبال النوبة) مع اختلافه عن الفدرالي في تكوينه الذي غالبيته مسيحية .. وليس له اى تاثير كحزب في الشمال , واتصور أنه الى جانب الفدرالي من احزاب السودان الجديد التي يجب ان تكون جزء من التحالف الذي عبر عنه الاعلان السياسي لهذه القوى ...
مؤتمر البجا :
وهوتنظيم مطلبي مثله مثل احزاب الهامش (الفدرالي , القومي ,الخ..) ويرتكز مثلهما على قاعدة اثنية (البجا) , وللحزب الاتحادي تأثير كبير عليه, باعتبار ان البجا منطقة نفوذ اتحادي , هذا التنظيم (مؤتمر البجا) يعتبر احد القوى العسكرية الفاعلة من قوى السودان الجديد , ونتصور أنه يمكن له اذا تمكن من التخلص من نفوذ الاتحادي , من لعب دور فاعل لا على مستوى شرق السودان فحسب , بل على مستوى السودان ككل بتحالفه مع قوى السودان الجديد ..
حركة تحرير السودان(دارفور) :
شهدت الفترة التي تلت مقتل داؤد بولاد الكثير من حوادث الاحتراب القبلي في دارفور وقد آلت الى تشكيل نهائي في الحرب الحالية الدائرة منذ 1998 , حيث تصاعدت اعمال حرق القرى وقتل المواطنين ,وبروز اتهامات للحكومة بضلوعها في هذه الاحداث التي شملت مناطق الفور في جبل مرة والمساليت في الجنينة , وتأجيجها للصراع بموالاتها لاطراف ضد اخرى . وبعد فشل مؤتمر الصلح الذي عقد في الفاشر واثناءه تم احتلال (قولو) في جبل مرة من قبل تنظيم أطلق على نفسه اسم( جبهة دارفور) . التي رفعت علمها ايذانا ببدء الكفاح المسلح . فردت الحكومة على ذلك بالهجوم على قولو , وهكذا مثلت هذه الاحداث تاريخا لمرحلة جديدة في دارفور .. وهكذا برزت حركة (تحرير السودان) كمشروع يستلهم نضال الحركة الشعبية في كفاحه ضد التهميش ورفعه لشعارات السودان الجديد , وهو كتنظيم توجهاته عكس توجهات العدالة والمساواة الذراع العسكري للمؤتمر الشعبي .. ولذلك نتصور انه من القوى الوحدوية الحية..
الحركة المستقلة (مؤتمر الطلاب المستقلين):
وهي صاحبة الاسم (المؤتمر الوطني) عرفت في الجامعات بمؤتمر الطلاب المستقلين , وقد سطت الحركة الاسلاموية في سياق سطوها العام على اسم " المؤتمر الوطني" لتجريد هذه الحركة السودانية حتى من مجرد حقها في حمل اسمها , لشعورها المبكر (أي الحركة الاسلاموية) بأن الخطر القادم على قوى السودان القديم , احد مكامنه الحركة المستقلة .
فمنذ ظهور هذه الحركة في خواتيم السبعينيات من القرن الماضي , أنطوت على فكرة غامضة عن القومية السودانية وهوية السودان الحضارية والسودان الجديد .
تزخر هذه الحركة ببعض الاتجاهات الراديكالية التي رفدت العمل العسكري لقوات التحالف السودانية (عبد العزيز خالد ) , والتي كان بعضها يرى ان تفكك السودان مرحلة لاقامة الوحدة السودانية على أسس جديدة . وهي حركة ناشطة في الجامعات السودانية , ظلت لوقت طويل اشبه بالمجموعة الفكرية منها الى الحركة السياسية , ولم يحدث لها تحول سياسي حقيقي الا بمجيء الانقاذ في 1989 . وهذه الحركة هي احد الاعمدة( في تقديري الخاص ) التي لا يمكن تخطيها في مشروع وحدة قوى السودان الجديد , واقامة الدولة السودانية الموحدة على ضؤ اتفاق السلام .
حركة القوى الجديدة الديموقراطية :
بدأ هذا التنظيم كانقسام عن الحزب الشيوعي السوداني في منتصف تسعينيات القرن الماضي لكن سرعان ما تطور الى تنظيم ديموقراطي مختلف في فكره وخطابه السياسي وبنيته التنظيمية عن الانقسامات المعتادة عن الحزب الشيوعي . فهو قد حسم خياراته الايديولوجية سريعا باعتماده الليبرالية والديموقراطية وهو على عكس قوى الوسط واليسار العقائدي جرؤ على طرح العلمانية بوضوح وبدون مواربة, الامر الذي حدث لاول مرة في تاريخ اليسار السوداني , كمخرج لازمة بلادنا فيما يتعلق بعلاقة الدين بالدولة , وهو من القوى البرامجية النشطة والفعالة المتحمسة للوحدة , وهو رأس الرمح في أى مشروع تحالفي, وحدوي لقوى السودان الجديد .
تنظيمات شمالية صغيرة وغير مؤثرة :
كالحزب الناصري والتنظيم الناصري , وهي احزاب افرزتها تاريخيا , عملية توازنات المشهد السياسي في ذروة النشاط السياسي في الخمسينيات و الستينيات من القرن الماضي, إبان المد الثوري لحركات التحرر في العالم الثالث . وليس لمثل هذه القوى الان وجود فاعل خاصة ان عضويتها هي قيادتها نفسها !!.. ووضعيتها من حيث التأثير على المشهد السياسي لا تذكر ...
كذلك هناك جماعات الاسلام السياسي وحركاته التي نتصور ان الخطاب السياسي الحداثي لقوى السودان الجديد, اذا أتيحت له فرصة كافية, سيتمكن من تقليص نفوذ هذه القوى الظلامية.. التي اصلا نفوذها يعتبر محدودا ..
القوى الجنوبية :
والقوى الجنوبية , على راسها الحركة الشعبية, والجيش الشعبي لتحرير السودان, مواجهة بسؤال مركزي هو : كيفية التحول الفاعل من مرحلة مليشيات الثورة , الى مرحلة القوة السياسية وعملية بناء الدولة , الى جانب كيفية معالجة الصراعات الاثنية البينية , وآليات تفريغ ما تراكم في الوجدان الثقافي لكل اثنية ضد الاثنية الاخرى , الى جانب معالجة الاشكال الاثني المركزي ,كجنوب في مجابهة الشمال. وانتاج اليات تفريغ ملائمة, لما تراكم في الوجدان الثقافي لكل من الجنوب والشمال تجاه بعضيهما البعض .
الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان (SPLAM):
هي اللاعب الاساسي بين القوى الجنوبية , في المشهد السياسي السوداني الراهن. تأسست الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان على يد دكتور جون قرنق في 1983وهي القوة السياسية والعسكرية الاكبر, والاكثر تنظيما وقوة بين القوى الجنوبية . تميزت بنفسها التفاوضي الطويل, وصبرها على تغيير صورة السياسي الجنوبي, كما تشكلت في الذهن السياسي الشمالي (محض انتهازي يتاجر بقضايا شعبه) ونجحت في ذلك , كما اثبتت ان قدرتها على الاستمرار في الحرب لا تقل عن قدرتها , في الجلوس للتفاوض والاستمرار, في سبيل التوصل الى اتفاق سلام . وهكذا نجحت في التوصل الى الاتفاق المجزي للجنوب (نيفاشا) .
لا يخلو هذا التنظيم من انفصاليين , ولكن يظل الأمل معقود على الارادة السياسية الواحدة و المرونة الثورية التي يتميز بها (رغم بروز تيارين بشكل حاد عقب مقتل قرنق : تيار سلفاكير وتيار الزعيم الراحل قرنق), في الإنحياز لمشروع الزعيم الراحل بوحدة السودان وإعادة بناء الدولة السودانية . .
ما يميز هذا التنظيم على المستوى الرسمي هو خطابه الوحدوي , واعلانه الحرص على اعادة بناء الدولة السودانية على أسس جديدة , وأي تحالف لقوى السودان الجديد, بمعزل عن هذا التنظيم يعتبر تحالف غير مؤثر, ولن تكون فاعليته بذات القدر ,الذي يمكن ان يتحقق له لو نجح في التوحد مع قوى السودان الجديد الاخرى, في تحالف راسخ مع الحركة الشعبية , برؤيتهاالوحدوية الواضحة في إعادة بناء الدولة السودانية كما حملها المنفستو الذي لطالما عبرت عنه بخطاباتها الثورية في أحلك الظروف.
القوى الجنوبية الاخرى :
القوى الجنوبية الاخرى , ايضا تمثل لاعبا اساسيا في عملية السلام واعادة البناء الدولة الجنوب . وكانت لها مواقف متحفظة تجاه نيفاشا خلال المفاوضات , وحاولت عمليا مقاومة عملية تهميشها في العملية التفاوضية , التي اعتمدت شراكة الحركة مع الحكومة , وأقصاء القوى الجنوبية والشمالية الاخرى .
نجد من هذه القوى :
الحركة الشعبية لجنوب السودان (دينكا , شلك , نوير) :
ويقود هذه الحركة دكتور لام اكول ورياك مشار, والواجهة السياسية لهذه الحركة هي تنظيم ANF: (الجبهة الوطنية الافريقية ) في الجامعات السودانية وخطابها السياسي وحدوي غير متحمس للانفصال, ويمكن اعتبارها جزء من قوى السودان الجديد .
مجلس تنسيق الولايات الجنوبية :
وهوأصبح في حكم الماضي والتاريخ الآن,ولكن لإعطاء صورة تقريبية لابد من الاشارة اليه كهيئة حديثة النشاة. ارتبطت بالانقاذ عقب اتفاق السلام من الداخل في 1996 وهو عبارة عن قوى انقسمت عن الحركة الشعبية ك(حركة استقلال جنوب السودان) (رياك مشار) والفصيل المتحد(لام اكول ) اللذان كونا ما اطلقا عليه (قوة دفاع جنوب السودان) . كان رئيس هذا المجلس عندما كان موجودا بصورة فاعلة قبل الترتيبات الاخيرة (دكتور رياك قاي)..
جبهة الانقاذ الديموقراطية (VDF):
وهو حزب سياسي انشق عن الفصيل المتحد للام اكول , وانقسم بعد ذلك الى ثلاثة فصائل هي : جبهة الانقاذ المتحدة (مارتن ملوال ) والجبهة الديموقراطية المتحدة (فاروق غاركوث) والجبهة الجنوبية (بيتر سولي) وبصورة عامة يتحمس هذا الحزب لاطروحة السودان الجديد , لكنه مع الانفصال اذا اقتضت الضرورة , كما يلاحظ عليه الانحياز لافريقانية السودان .
اتحاد الاحزاب الافريقية(USAP) :
وهو تكتل يضم في تشكيله أحزابا منتمية الى مناطق جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق , ويصنف هذا التكتل بانه الاكثر معارضة للحكومة , وتبرز في طروحاته النزعة الانفصالية (يوساب جوزيف أكيلو)..
حاولت القوى الجنوبية التي أشرنا اليها مقاومة عملية الشراكة الثنائية ,بين الحركة الشعبية والحكومة على أساس ان هذه الشراكة ,سوف تفرض تهميشا واستبعادا لكافة القوى الاخرى .
خاتمة :
كان وجود جون قرنق بذكاءه وكاريزميته ووحدويته وطموحه في أعادة بناء الدولة السودانية ورؤيته الواضحة حول وحدة السودان . كان وجوده بهذا المعنى يمثل ضمانة كبيرة لاحتمالات الوحدة وفرص اوسع , فيما يتعلق بمستقبل السلام ووحدة السودان والتحول الديموقراطي.. لكن برحيله المفاجيء والغامض والمربك , وما ترتب على ذلك من تاثيرات عاطفية محدودة , نجد ان الطريق نحو الوحدة والتحول الديموقراطي يزداد تعقيدا , لكن يمكن عبوره .. فمهمة العبور الى الضفة الاخرى ليست مستحيلة اذا توافرت ارادة قوى السودان الجديد وتوحدت حول هذا الهدف .
عبر مقتل قرنق عن ان اخطر ما يهدد ايّ عملية سلام هو : الميراث الاجتماعي والثقافي الضخم , هذا الميراث الخطير الذي خرج بالناس الى الشارع فراحوا يخربون الممتلكات ويقتلون بعضهم البعض اثر سماعهم لنبأ مقتله الذي تعددت حوله الاقاويل .. فالقتل والتدمير الذي لحق بالممتلكات في الخرطوم وأماكن أخرى , كشف عن الطبيعة التهديدية التي انطوت عليها الذاكرة والوجدان الجنوبي والشمالي . ولكن هنا ايضا نخرج باستنتاجين : 1- ظن الشمال لوقت طويل ان المشكلة في اطراف السودان , وأستبعد احتمال انتقال أعمال الثورة داخل الحدود المعنوية للشمال او مركزه, لكن تاكد بما حدث أن الخرطوم ليست بمنأى عن أعمال الثورة . 2- كما تاكد الشمال أن المشكلة لم تكن يوما في الاطراف بل هي على الدوام في الخرطوم, هذا المركز المعنوي للشمال القاهر .
من الضروري ان يعيد الشمال قراءة نفسه , لانه بحاجة لتقرير المصير أكثر من أيّ جزء اخر في السودان , وأعني هنا بتقرير المصير: تحرير ارادته السياسية المكبلة كيما يتمكن من تقرير مصيره في السودان السوداني الموحد وبالضرورة ان ذلك لن يتم بمعزل عن عملية تحول ديموقراطي حقيقي , يستطيع استيعاب مشكلة التيارات التي بدأت في البروز سواء كان على مستوى الحركة الشعبية كما اشرنا فيما تقدم أو على مستوى حزب المؤتمر الوطني تياري :( البشير – علي عثمان). فقد مضى الوقت الذي كان ينظر فيه الشمال للاخرين ك"موضوعات" لمشاريعه السياسية القديمة البائسة فهؤلاء الاخرين الان هم "ذوات" وهو موضوع لمشروعهم المصيري : "السودان الجديد" كما عبرت عنه خطابات الحركة الشعبية وقوى السودان الجديد بصورة عامة ..
#احمد_ضحية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟