|
التحرير الامريكي ينتهي في ساحات التحرير العراقية.
علي ماجد شبو
(Ali M. Shabou)
الحوار المتمدن-العدد: 4918 - 2015 / 9 / 7 - 02:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لاخلاف حول ثراء اللغة العربية ومفرداتها وكثرة المرادفات فيها، وهو ثراء تتميز به كثير من اللغات الديناميكية والحية، وأستشهد هنا بالتمييز الذي تتمتع به اللغتين الفرنسية والإنجليزية. لغتين أتعامل بهما (في العمل وفي المعيشة) منذ زمن بعيد. غير أن اللغة العربية لها إمتياز خاص قد لايكون، بذات الوضوح، في اللغتين المذكورتين. هذا الامتياز يتجسد بإناقة، ذات جلالة، وشفافية راقية في "المعنى" وليس فَقَط في هيكل "المفردة". ففي العربية مثلاً يُوصف الأعمى بالبصير. إناقة وجمال يُلغيان الإستبعاد والاقصاء الذي تحمله المفردات الوصفية الاخرى من معاني.
في السياسة لغة لها ثراء واسع غير أنها تفتقد الى تلك الإناقة التي تغلف بعض المفردات والمعاني العربية. بل، وغالباً ماتأخذ المفردات معاني مُخاتلة ومضادة ولكنها مصاغة بطريقة تسمح بتقبّلها بسلاسة. وهناك قول "أنجلوساكسوني" عن المهارات الديبلوماسية السياسية يُوصف فيه الديبلوماسي السياسي "بانه الشخص الذي يقول لك (إذهب الى الجحيم..!) بطريقة تجعلك، في واقع الامر، تتطلع الى تلك الرحلة بشوق ..!"
حين أخذت الولايات المتحدة الامريكية على عاتقها "إنشاء" معارضة عراقية (عقب حرب تحرير الكويت في مطلع التسعينيات) والتنسيق بين أطرافها المختلفة والمتناقضة، جاءت بمفردات جديدة كانت غائبةً كليةً عن الاستخدام أو محدودة في إستخدامها عند الطبقة السياسية العراقية وكذلك عند عموم الطبقة المثقفة. المفردات من مثل "مكونات" (Components) والتي تعني العناصر التي يتكون منها المجتمع العراقي. والهدف المعلن من هذه المفردة هو "إشراك جميع مكونات" المجتمع العراقي في "العملية السياسية" ( Political process وهو مصطلح آخر أتى به الأمريكان لتهميش إسم العراق وليس لوصف حالة الحكم وماينبثق عنها، ففي ذات الفترة، أُستبدل أيضاً إسم "فلسطين" بتعبير "خارطة الطريق" )، أي إشراكهم في مجريات الحكم وتفرعاته في العراق. والتفرعات مقصود بها هنا بصفة خاصة ما أصطلح على تسميته بالحكم الرشيد أو "الحوكمة" (Governance). وفي الحوكمة تبدأ مصائب أخرى، ومفاهيم كأسلوب ونوع الحكم (مركزي، فيدرالي، برلماني ...الخ) على صعيد الدولة كما هو على صعيد المجتمعات المحلية كالمدن والمحافظات (Local Governments). ومن الحوكمة الجيدة تنبثق مفاهيم ومبادئ أخرى تشكل أسس ومعايير الشفافية والديموقراطية، والمساءلة ومحاربة الفساد كما تضع الأسس الكفيلة بإنتخابات نزيهة في كل حالات الانتخاب التي تتطلبها الحوكمة و"العملية السياسية" (وفق أدبيات برنامج الأمم المتحدة للتنمية وأدبيات مختلف المؤسسات الدولية المعنية بالتنمية). غير أن مفردة "مكونات" أُستخدمت، في واقع الحال، على عكس مايُشار اليها من عناصر جامعة ومحرّكة للعملية السياسية. وبدأت تتوضح شيئاً فشيئاً، كمفهوم سياسي، يسمح بالتمترس وبإقصاء الآخر. وهكذا تحول هذا المفهوم، بسبب تراكم الفشل في "العملية السياسية"، الى عامل لتجزئة الشعب العراقي الى قوميات وأديان ومن ثم مذاهب. وعلى هذا الأساس تشكلت منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي حركات سياسية متعددة ذات توجهات قومية شوفينية ودينية متعصبة، يجمع كل هذه الحركات جامع أساسي واحد وهو إنها لاتمتلك قاعدة شعبية لها في العراق بإستثناء الاحزاب الكردية والأحزاب الدينية الكبرى. وكانت الولايات المتحدة الموموّل الأساسي لهذه الفرق المختلفة وهي المنسق والقائد لشئونها والناطق بإسمها.
ثم جاءت، في عام 2003، الحرب الحارقة والمدمرة وماتبعها من سرقات ممنهجة لوزارات ومؤسسات العراق وما تلى ذلك من إغتصاب لأملاك الدولة العراقية، وسرقة المتحف العراقي ومختلف المواقع الأثرية الغنية بحضارات العصور الاولى للبشرية ومتحف الفن الحديث والشروع، بطريقة ممنهجة أيضاً، بتمزيق "الهوية العراقية". على أن تمزيق الهوية العراقية جاء على مراحل وعلى إمتداد ما يقارب العقد من الزمان قبل البدء بالحرب. فالأحزاب والحركات المعارضة كانت تتمترس خلف القومية والدين والمذهب وحتى العشيرة، وكان مفهوم "مكونات" هو الطاقة الباعثة على إنطلاقه ونموه. وكانت الهوية الجامعة عبر ذكر "العراق" تحدث، تقريبا فقط، حين التطرق الى البترول. ومن اليوم الاول للحرب المدمرة وماتلى ذلك دأبت الولايات المتحدة على تسميتها ب "حرب تحرير العراق" ولهم في ذلك أسبابهم. ولكن الطريف (والمثير للإشمئزاز) ان كل أفراد الطبقة السياسية كانوا يرددوا كلمة "تحرير"، والبعض لايزال يستخدم هذا التعبير الى الآن على الرغم من النتائج الكارثية التي وصل اليها العراق على الصُعُد الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والتعليمية والثقافية والصحية ...الخ
لنعد الى إستخدام المفردة في اللغة السياسية، "تحرير العراق". أي إطلاق العراق من قيود الديكتاتورية الصدامية والتي بدورها لم تكن لتبخل بإي تنازل يطلبه الأمريكان مقابل السماح لصدام بالتسّيد على العراق، وهو الذي كانت سلطاته قد أنكمشت بفعل الحروب المتتالية منذ عام 1980 وتفجرت بعد خيبات إحتلال الكويت وماتبعه من حصار صارم وقاسي طال كل مناحي الحياة ودمَّر بشكل تام نسيج وتشكيلة المجتمع العراقي. إنكمشت سلطاته، عملياً، من جميع مدن العراق وتحوّل بسلطاته من رئيس دولة الى سلطات أشبه بسلطات محافظ مدينة بغداد الكبرى. وبدأ العراقيون آنذاك، وللمرة الأولى نقدهم بصورة علنية لصدام وللسلطة في مختلف مدن العراق ، وإن كانت بصورٍ متفاوتة. ومع ذلك، فإن الأمريكان الذين قاموا بتجويع وتجهيل ممنهج للمجتمع العراقي هم إذن "سادة تحرير" الشعب العراقي. انها قوة عظمى ولها إرادتها وعلى العراقيين الطاعة ثم الشكر والامتنان لحصولهم على التحرير. قوة عظمى خرجت بجيوشها الرسمية من العراق قبل أربعة أعوام (2011) وخرج العراق معها من عناوين الأخبار في الصفحات الاولى لأهم صحف العالم. إنه خروج يتشح بمقولات الدين المهيمن في العراق "وإذا أُبتليتم فأستتروا". قوة عظمى لكنها، ضمن التزاماتها كدولة محتلة، (كما أُقرّ ذلك بمجلس الأمن في الامم المتحدة وبموافقة أمريكا ذاتها بقرار رقم 1483 الصادر في 22 أيار/مايو 2003)، لم تستطع أن توفر أبسط وأهم مقومات التنمية وأعني الكهرباء في الفترة الممتدة من "التحرير" 2003 الى "الخروج الظافر" 2011. مع أن السلطات المحتلة (الامريكية والبريطانية) تدرك بعمق أهمية الكهرباء الذي هو عَصّب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
كما كانت مختلف شرائح المجتمع العراقي تعاني من كل أسباب الاحتلال، كانت اللغة السياسية ومفرداتها تُمتهن مفاهيمياً وتفرَّغ من معانيها في كل لحظة، بِدأً بتشكيل منظمات المجتمع المدني، التي يفترض أنها منظمات غير حكومية أو منظمات مجتمعية مستقلة تماماً في القرار وفي آليات التمويل الذاتي، ومع ذلك فإن تشكيل غالبية تلك المنظمات كان منظوي تحت حزب معين (ديني او قومي) أو تحت ستار التمويل الدولي. ولعل أبرز هذه المنظمات، وهذه ليست مصادفة، هي تلك المتعلقة بحقوق الإنسان، وهناك أمثلة لاتحصى عن انتهاكات حقوق الانسان في مجالات الحق في المعرفة والحق في حرية الصحافة. ثم هذا الفارق القاسي بين ما يدعو اليه ممثلي الشعب في البرلمان من تخلف مفاهيمي يرتقي الى مستوى الجرائم المنظمة وبين التفتيت غير المجدي لمفهوم حقوق الانسان الذي إظطلعت بنشره الامم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني مثل الحق في بيئة نظيفة، والحق في السكن والحق في التنمية، إضافة الى حقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الشباب ..الخ هذا التفتيت الذي يسمح بتجزئة المبدأ الأساسي وهو "حقوق الإنسان". والذي يعني هنا كافة الحقوق المكفولة للإنسان حسب المواثيق والشرائع الدولية المثبتة في الامم المتحدة.
ومن هنا فإن بقاء أمريكا في العراق جعلها تبدو أمام المجتمع الدولي مثل مدرب الدببه في السيرك، غير أن فصيل هذه الدببه العاملة في السيرك الامريكي لم يتجاوز في معرفته، في غالب الأحيان، أكثر من الخروج من أقبية المساجد الكبرى في العراق، ومن سرّية العمل السياسي بباطنه الديني وطموحه السلطوي. فكيف لها أن تتنطط على الحبال وتحت الاضواء دون أن يقفز معها الكثير من ثقافة تلك المساجد ومن تربية التكتم عن الحقائق مثقلين بكراسي الحكم الشديدة الاتساع بالنسبة لما يتمتعوا به من مواهب. وللخروج من تلك الأزمة ومن الأزمة القانونية و"الاخلاقية" النابعة من إعترافها الرسمي بإحتلال العراق (وقرار مجلس الأمن) ومن الحكم المباشر للعراق (بول بريمر) بدأت أمريكا تعدّ تلك الدببة لحكم العراق، وإن لم ينتهي تدريبهم، فصلاحيات مفهوم "مكونات" المجتمع العراقي لم تعد فاعلة.
هذا إذن زمن الدببه، وهو زمن لا عيون له ليبصر البؤس ولاقدرة له على تلمس الواقع، لكنه أيضاً زمن إلتماس الرفض والاحتجاج، زمن تُفضح فيه الحكومة العراقية بكل تشكيلاتها وبرلمانها ليس فقط لعجزها عن القيام بمهامها كما رُسم لها بل ولأنها مصدر لإهانة كرامة الناس ومصدر يومي لشقائهم وآلامهم. هذا زمن أفتضح فيه زيف الدولة العظمى وأتضح بإن الدولة العظمى الوحيدة التي لاتستطيع جيوش أوربا وأمريكا وتوابعهم في المنطقة من الانتصار عليها هي "داعش" تلك المنظمة الإرهابية التي تعاون الجميع على إيجادها، ففي إستمرارها تأكيد لرسم شرق أوسط جديد يُسقط العرب من كل خرائطه.
إن الاحتجاجات التي عمت غالبية مدن العراق طالبت بالإصلاح السياسي، أي إصلاح نظام الحكم الذي وضعه الأمريكان بعد "تحرير العراق"، وطالبت، هذه الاحتجاجات، بدولة مدنية وعلمانية كما طالبت بإلغاء منهج المحاصصة المعمول به في كل مفاصل الدولة العراقية. هذه المطالَب مجتمعة تشكّل ثورة حقيقية وليس إحتجاجا على الوضع القائم. لا أعتقد شخصيا بان هناك إمكانية للإصلاح بالطريقة الترقيعية التي أقترحها رئيس الوزراء. إن جميع من في الحكومة والبرلمان هم جزء من مشكلة المحتجين العراقيين ولايمكن، إطلاقاً، أن يكونوا هم الحل أو جزء منه.
هذا اذن أوان الشباب لاستعادة الحروف لكلماتها، والكلمات لمعانيها والعراق لشعبه ... كامل شعبه، وربما الخطوة الأولى هي تلك الإحتجاجات الكبيرة في غالبية مدن العراق وفي ساحات تحريره الفعلي.
#علي_ماجد_شبو (هاشتاغ)
Ali_M._Shabou#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق: محاولة للفهم ... -تمرد- أولاد سيزيف.
المزيد.....
-
ماذا فعلت الصين لمعرفة ما إذا كانت أمريكا تراقب -تجسسها-؟ شا
...
-
السعودية.. الأمن العام يعلن القبض على مواطن ويمنيين في الريا
...
-
-صدمة عميقة-.. شاهد ما قاله نتنياهو بعد العثور على جثة الحاخ
...
-
بعد مقتل إسرائيلي بالدولة.. أنور قرقاش: الإمارات ستبقى دار ا
...
-
مصر.. تحرك رسمي ضد صفحات المسؤولين والمشاهير المزيفة بمواقع
...
-
إيران: سنجري محادثات نووية وإقليمية مع فرنسا وألمانيا وبريطا
...
-
مصر.. السيسي يؤكد فتح صفحة جديدة بعد شطب 716 شخصا من قوائم ا
...
-
من هم الغرباء في أعمال منال الضويان في بينالي فينيسيا ؟
-
غارة إسرائيلية على بلدة شمسطار تحصد أرواح 17 لبنانيا بينهم أ
...
-
طهران تعلن إجراء محادثات نووية مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|