|
في الهنا والهناك.. وافدون أم مهاجرون؟
كريم راهي
الحوار المتمدن-العدد: 4915 - 2015 / 9 / 4 - 08:33
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
في الهنا والهناك.. وافدون أم مهاجرون؟
- كون آني دكتاتور وأصدر حكم عام يحكم رجال الدين كلهم بالاعدام - على رسلك يارجل! قلتُ له.. متناولاً عن ظهره الحقيبة الثقيلة، وبهدوء حاولت أن يكون حذراً، أكملت: - أنت الآن بأمان، فكّر في اللحظة! فلم يعد هنا من مكان لرجل دين أو دكتاتور، إلاّ إذا كان لاجئاً مثلك.. كلّ ماعليك أن تفعله هو أن تفكّر كيف تجد قضيّتك طريقها إلى دائرة الهجرة، وهم سيتكفّلون بالباقي! الشاب الذي التقيتهُ مصادفةً، وأنا أودّع صديقاً لي في محطة قطارات ستوكهولم المركزيّة، وشت لي سُمرة وجهه بأنّه قادمٌ للتوّ من بلاد النهرين؛ الدم والبكاء.. البلاد التي لا تغيب عنها (الشمس)، ولاريب أن وراء ذلك (الدارمي) العظيم الذي أنشدني إيّاه بمجرد أن سمعني أتحدّث مع صاحبي باللهجة العراقيّة، ما وراءه. - عدكم إقامات؟شگد صارلكم هنا؟ سألني بفضول شديد.. فضّلتُ الصمت، فيما أجابه صاحبي بالنيابة: - تلاثين سنة! كان يبدو على الشاب أنّه كان شديد التوتّر، قدمّت له سيكارة فشكرني بلطف، ووجهت سبّابتي إلى حيث ينبغي عليه رميها بعد الإنتهاء منها. ثمّ أرشدته إلى رصيف القطار الذي سينطلق به صوب الضاحية الشماليّة حيث مخيّم االاجئين، متمنّيا له الإقامة السعيدة، ومُشيراً عليه إلى أن يكون أكثر هدوءاً. شكرني ومضى وهو يُشعل سيجارته، ثمّ التفت لي بنظرة عرفان، قائلاً بصوت عالٍ: - اثنين يتكاتلون ابّيناتهم، آني شعندي باقي بنصهم! عاد بعد دقائق وهو اكثر اطمئناناً، ومعه شاب تبين أنّه رفيق (رحلة الموت) كمّا سميّاها، ملامحهُ تقول أنّه من سوريا، وأنّهُ فرّ منها قطعاً للأسباب ذاتها.. ويبدو أن حديثاً لم يُكملاه على إحدى الجزر اليونانيّة، حيث رسى بهما زورق مطّاطيّ حملهما من أحد مؤانيء تركيا، عاودا إثارته على بعد بضعة أشبار عنّي، أرهفتُ سمعي له، لكن لم أشأ مشاركتهما إيّاه، كان يدور في أغلبه، عن أمراء الحروب، وضحاياها الذين فضّل هذان الإثنان أن لا يكونا منهم. وكنت في استراقي ذاك للسمع، كلّما التقطت عبارة من حديثهما، خمّنت بقيّة الحوار. كلمات من مثل (أولاد عرص، بدها مصاري، لا يُظلم عنده أحد، الخارطيّة، حدود هنغاريا، أولاد النعل، وطنك ما حملك) كانت بعضها تدفعني للابتسام، وبعكسها، كانت تثير فيّ الغيض كلمات كانا يقصدان منها النيل من الأوطان ذاتها التي طردتهما. أكاد أن أقول لهما أنّ الشعوب مغلوبٌ على أمرها، وأن كون مقاتلي داعش خليط من عدّة جنسيّات فهذا لا يبرّر تدويل الحرب الدائرة رحاها في البلدين، لكّنني فضّلت عدم اقحام نفسي في حوار لم يطلب أحد طرفيه إشراكي فيه، واكتفيت بصمتي على مضض. على إنّي لم أطق صبراً حين بدأت ثوابتي تُمسّ أمامي، حين سمعت أحدهما يصف نفسه بالمهاجر، وثارت عندي حميّة اللغة التي غالباً ما تُخرجني عن طوري المكتسب: - أعتقد أن هنالك خلطاً ياعزيزيّ، فأنتما الآن وافدان لأنّكما هنا، يصّح أن يُشار إليكما كمهاجرِين في الهناك فقط.
بعد أن أُنتجت فيلماً عام 1971، تعتزم السينما السويدية إعادة إنتاج رواية (المهاجرون) للكاتب (فيلهيلم موبيري)، وهي الرواية التي صدرت بالعربية بعد سبعين عاماً على صدورها بالسويدية، والتي تحكي ظروف هجرة بضع عشرات من السويديين (وصل عددهم إلى مليون فيما بعد) منتصف القرن التاسع عشر، إلى الأرض الجديدة، في رحلة فرار جماعية هرباً من ثلاثي القهر آنذاك: الإقطاع، الكنيسة، ثم الملك. لي حول الفيلم الذي شاهدته في أعوام وجودي الأولى مُقيماً هنا، رأيٌ يكاد يكون راسخاً بشأن مسألة الهجرة. فعدا عن كوني الآن وافداً وأكتب من وطن بديل، فما أن تنتهي من مشاهدة الفيلم، إلاً وأنت خارج مثلي بنتيجة مفادها أنّ الفقر- وليد شقّي القمع الكهنوتيّ والإقطاعيّ- هو المحرض الرئيس على هجرة أولئك، ووفود أمثالنا رغم فارق الزمن.
إبّان حرب الثماني سنوات، مُلأ الفراغ الذي تركهُ غياب الملايين من الشباب عن ساحة العمل، بأيدٍ عاملة بديلة، دفعتها ظروف القهر والتسلّط إلى أن يفرّ أصحابها من أوطانهم الجاحدة، إلى أخرى أكثر عطاءً، وهكذا صارت كلّ الخدمات والحرف في العراق، من حصّة الستّة ملايين وافدٍ مصري. بعد ذلك بسنوات، سأكون في طرابلس الغرب، هارباً من التسلّط والقهر ذاته، وسيبادر أحدهم، وكان نحيل القامة يعمل ميكانيكيّاً للسيّارت، ليعانقني بودّ، بمجرّد سماعه لنطقي باللهجة العراقية، ثمّ يطبطب على كتفه الأيسر النحيل، ولسان حاله يقول: - حدرتك عِرائي مُش كِده؟ دَنا لحم كتافي كُلّو من خيركو. وسألتقي بعد عقدين من الذكرى الطرابلسيّة تلك، سائحاً سويديّاً جاء يصطافُ في تُركيا، فأحاول أن أقول له بسويديّة متعثّرة، الشيء نفسه، لولا أن تيقّني من أن مواطنيّ بشكل عام، لا يرحبّون بمن يقتحم سويعات استرخائهم، وأنّي مابرحت ابن البلاد ذاتها.
سائليني، حينَ عطّرْتُ السّلامْ، كيفَ غارَ الوردُ واعتلَّ الخُزامْ وأنا لو رُحْتُ أستَرْضي الشَّذا لانثـنى لُبنانُ عِطْـراً يا شَـآمْ قبل أعوام، لم تكن لدى الفرد الشآميّ الكثير من الأسباب، مثلنا، للهجرة.. كانت داعش ماتزال في ظهر أبيها، وكان جيراننا في جبهة النصرة منشغلين عن مجابهة قوّات الأسد بكيل المديح لبطل التحرير القومي وتسمية فصائلهم القتالية باسمه. لكن هذا لم يمنع من أن تظهر أعداد لا بأس بها من التوّاقين لفسحة أكبر من الحريّة. ولم تكن طرق التسلّل إلى فردوس أوروبا آنذاك تتعدى رحلات الطيران المسموح بها (بجوازات أو سِمات دخول مزوّرة)، أو التنقل في رحلات بريّة طويلة وشاقّة. وعقب انكشاف أيّ من هذه الطرق، بات المهربون يقودونهم في طرق بديلة وعرة، وصلت حدّ عبور الحدود الروسيّة الفنلنديّة من معابر منجمدة لا تجرأ قوّات الحدود على الوصول إليها. ولما انكشف أمر هذه المعابر، وشُيّدت لتلك القوّات مقارّ شديدة الحصانة فيها، وصل الحد بمن مازالوا يمتلكون الأمل، إلى التفكير بعبورها بالمناطيد!! الروّاد الأوائل من مهاجري سوريا، والمرحّب بهم، كانوا من مسيحييها في الأغلب، جاؤوا يحملون أعذارهم في أنّهم خسروا في حرب العقائد، بعد أن لوّحوا بأخر غصن زيتون لمناوئيهم من أبناء جلدتهم. وهؤلاء استقلبهم الغرب، وصاروا يمثّلون أغلبية صغار تجّاره وأصحاب الحرف فيه. أمّا من لم يكن من أولئك، فقد كانت له تبريراته الخاصّة للهجرة. هي في أغلبها إنسانيّة، والقليل فقط منهم جاؤوا بسبب معارضتهم لنهج الحكم العائلي الفردي الذي قضى على كلّ آمال بالتغيير. أكمل صديقٌ لي من سوريا أربعة عشر عاماً في سجونها، وابتدأ حياته هنا وهو بعمر الستين، وحين جالستهُ على طاولته في المطبخ، انتبهتُ إلى أنّه لم تعد لديه من رغبة حتّى في تغيير مكان كوب قهوته عليها، بعد أن ظلّ لزمن، يقاوم من أجل تغيير نواميس البلاد وشرائعها، والتي مازالت تعمل بذات الكفاءة.
قوانين الهجرة واللجوء في أوروبا، إذا ما استثنينا تلك التي تتم بوساطة الأمم المتحدة، تقتضي أن يقدّم صاحب الشأن طلب اللجوء بنفسه، من على الأرض التي تسلّل إليها، وبما أنه ليس من السهل الحصول على اللجوء للداخل في أيّ من دول الإتّحاد بسِمة دخول رسميّة، فهذا يعني أنّ عليه أن يصل بطرق غير شرعيّة، ليست تخرج عن التقاليد التي درج عليها جيل مهاجري الدول المنكوبة ممّن سبقونا بعدّة أجيال. وبهذا تفتّق العقل المنعتق، عن آخر طرق النجاة من جحيم البلاد التي لم تحتمل أبناءها، بقوارب مطّاطية يُقسم المهرّبون أنفسهم على أنّها رحلات انتحاريّة مجنونة. كريم راهي - السويد
#كريم_راهي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كُنتُ أباً لِجَنينيِك
-
أن تقتُلَ طَفلاً - قصة قصيرة مترجمة عن السويدية
-
المسير حيثُ البرق
-
مالم يُكتب بالمدادِ على لوح
-
نصوص عن الحب والموت
-
صلاة إستغفار
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
-
كارل ماركس: حول الهجرة
/ ديفد إل. ويلسون
المزيد.....
|