|
أسطورة يسوع والشيطان
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 4913 - 2015 / 9 / 2 - 22:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كل نص مقدس، حتى وإن كان في صلبه أسطورياً أو مُخترعاً، فإنه يحمل في رحمه بذرة لـ "ظرف" مجتمعه وثقافته ومواضيع صراعاته، ويحمل أيضاً العوامل المؤثرة على أفكار كاتبه ونفسيته وضغوطات محيطه عليه، ويحمل الخطوط العامة لشخصيته وقدراته وموضوع إيمانه وكفره، ويحمل أوهامه وخيالاته، ويحمل أسلوب خداعه أو مفردات صدقه. ولهذا السبب بالذات فإن دراسة النص المقدس وتفكيك سرده الأسطوري يحمل أهمية في الدراسة التاريخية للمجتمعات التي نشأ فيها وتجلى أول مرة. وحتى أضرب مثالاً مختصراً على عملية التفكيك هذه كخطوة أولى لاستخدامها للوصول إلى "تصور تاريخي" لظرف الكاتب ومجتمعه فإنني سأستخدم أسطورة امتحان الشيطان ليسوع الموجودة في الأناجيل.
أول تجلٍ لهذه الأسطورة كان في حوالي سنة 70 ميلادية، أي بعد حوالي أربعين سنة مِنْ مقتل يسوع. فقد وردت الأسطورة أول مرة في إنجيل مرقس [لاحظ أن كاتب هذا الإنجيل مجهول الهوية، واسم "مرقس" إنما هو من وضع القرن الثاني الميلادي، ولاحظ أيضاً أن ترتيب العهد الجديد للأناجيل والرسائل هو ليس ترتيب تاريخي]، ولم يتعدى سرد الأسطورة سطراً واحداً:
(وكان [أي يسوع] هناك في البرية أربعين يوما يُجرَّب مِن الشيطان. وكان مع الوحوش. وصارت الملائكة تخدمه) [مرقس 1: 13]
بعد حوالي عشر سنوات من ذلك التاريخ، أي في حوالي سنة 80 ميلادية، جلس كاتب آخر مجهول الهوية أيضاً ليكتب إنجيله وأمامه نسخة مكتوبة من إنجيل مرقس، وسُميّ هذا الإنجيل في القرن الثاني الميلادي بـ "إنجيل متّى". هذا الكاتب كان ينقل مباشرة من (نسخة مكتوبة أمامه لإنجيل مرقس). كان ينقل أحياناً حرفاً بحرف وكلمة بكلمة وسطراً بسطر وتعبيراً بتعبير، ولكنه أباح لنفسه أيضاً أن يزيد وينقص، يُحوّر ويطور، يُغيّر ويُبدل، على إنجيل مرقس، بل إنه لم يرَ بأساً حتى في أن (يخترع) نصاً من خياله ومِن ثم ينسبه لـ "الأنبياء" في العهد القديم، الكتاب اليهودي المقدس، ولا وجود لهذا النص إطلاقاً [متى 2: 23]، فهو "اختراع خيالي" تولاه كاتب إنجيل متّى. وعندما أتى كاتب إنجيل متّى لعبارة إنجيل مرقس: (وكان [أي يسوع] هناك في البرية أربعين يوما يُجرَّب مِن الشيطان)، رأى فيها كلاماً عاماً يحتمل التأويل على وجوه متعددة، فأضاف تفاصيل عدة لهذه العبارة وليخلق منها اسطورة قصصية، ولكنها، ومن دون وعي منه أو قصد، حملت الأسطورة التي اخترعها شيئاً من "السذاجة المنطقية والمعرفية" كما سنرى أدناه، ثم اشتهرت القصة من بعده بين المؤمنين بهذا الإله اليهودي المصلوب الجديد. فهو، أي كاتب إنجيل متّى، (وقع في مشكلتين طريفتين وخطيرتين في آن واحد)، تلك المشكلتين، عند تفكيك أسطورته التي اخترعها، أفادت إثبات الاختراع من جهة والبحث التاريخي في ظرفه وظرف مجتمعه من جهة أخرى. لنقرأ القصة في إنجيل متّى والتي اشتهرت من بعده، ومن ثم لينقلها أيضاً كاتب إنجيل لوقا بعده بحوالي خمس إلى عشر سنوات، أي حوالي سنة 85 – 90 ميلادية:
(ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من إبليس. فبعد ما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة، جاع أخيراً، فتقدم إليه المجرب [يقصد الشيطان - إبليس] وقال له: إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً. فأجاب وقال: مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله. ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك. قال له يسوع: مكتوب أيضاً: لا تجرب الرب إلهك. ثم أخذه أيضا إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي. حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد. ثم تركه إبليس، وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه) [متى 4: 1-11]
ذلك السطر الوحيد في إنجيل مرقس تطور إلى "قصة سردية" ذات عناصر محددة. الحادثة، والسرد، وبناء القصة، والشخصيتين الوحيدتين الظاهرتين باسميهما: الشيطان ويسوع، كل هذه العناصر تُريد أن تشرح محتوىً محدداً عن (معنى كلمة عامة) وردت في قصة إنجيل مرقس وهي: (يُجرَّب مِن الشيطان) [مرقس 1: 13]. هذه القصة (تولّدت من حاجة ضمن الفضاء الديني الذي كان يحيط بكاتب إنجيل متّى يُلخصها السؤال: كيف يمتحن [يُجرّب] الشيطانُ إلهه الذي خلقه؟!). هذا هو الهدف الحقيقي من وراء اختراع هذه الأسطورة. كاتب إنجيل متّى كان (يعتقد) أنه قد حلّ الإشكالية، فإذا به قد وقع بأخرى.
إشكاليات أسطورة إنجيل متّى هذه كثيرة، ولا تحتملها مقالة واحدة بالتأكيد، ولذلك سوف أختصر لأركز على المهم منها فقط وهما محورين.
أولاً: تناقض الموقف الإلهي مع السرد الأسطوري:
وهذا هو (الطريف جداً) في هذه الأسطورة، فهي (في بنيتها الأساسية متناقضة). الحادثة التي ترويها الأسطورة (متناقضة) مع سردها للوقائع. فيسوع في إسطورة إنجيل متّى يقول للشيطان: (لا تجرب الرب إلهك) مقتبساً بذلك نص العهد القديم وعبارة سفر التثنية: (لا تجربوا الرب إلهكم) [تثنية 6: 16] [انظر ثانياً في المقالة أدناه]، أي أن (إله العهد القديم يرفض أن يخضع للتجربة)، كذا وبصورة حازمة جازمة لا لبس فيها أو حتى تراجع. إلا أن الواقعة كلها التي تسردها الأسطورة في إنجيل متّى هي باختصار: (خضوع الرب [أي بشخص يسوع في العقيدة المسيحية] لتجربة مخلوق، وليس أي مخلوق ولكن "الشيطان" ذاته)، أي أن الواقعة التي تريد أن تشرحها الأسطورة والسرد القصصي الذي يقتبس تعاليم العهد القديم هما (متناقضان). بل مقدمة الأسطورة في إنجيل متّى، أي: (ثم أُصعد يسوع إلى البرية مِن الروح ليُجرّب من إبليس)، تضع أحد الثلاثي الإلهي المسيحي، الروح القدس، في موضع (اقتياد) عضو آخر في هذا الثالوث، يسوع، إلى الشيطان، أي إلى المناقض القِيَمي للإله، ليُخضعه للتجربة والامتحان. كاتب إنجيل متّى (لم يكن موفقاً في اختيار حبكته القصصية، ولا كلماته، ولا سرده، ولا اقتباساته التي كان يضعها على لسان يسوع في هذه الأسطورة). فأسطورة إنجيل متّى تضع تعاليم الرب من جهة، وتصرفات هذا الرب من جهة أخرى، على طرفي نقيض. بل الأطرف أن هذا الرب [أي يسوع في العقيدة المسيحية] نراه (منقاداً تماماً لمشيئة الشيطان، وليس فقط للروح كما في مقدمة الأسطورة). فلنقرأ العبارات في إنجيل متّى:
(ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل [...] ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها) [متى 4: 5 و 8]
الشيطان هو (الذي يأخذ) الإله في هذه الأسطورة، والشيطان هو (الذي يوقِف) الإله، والشيطان هو (الذي يُري) الإله. وعلى عكس ما يبدو في ظاهر القصة فإن الشيطان قد (أخضَع) الإله المسيحي، أي يسوع، لإرادته [أخذه، أوقفه، أراه]، وهو، أي الشيطان، (هو الذي كان يضحك في نهاية أسطورة إنجيل متّى).
الإله المسيحي يبدو وكأنه (مسلوب الإرادة)، ولو جزئياً، أمام (تجربة الشيطان له). الإله (يبدو متناقضاً) ليس فقط مع شخصيته في العهد القديم، وليس فقط مع تعاليمه في العهد القديم، ولكن مع (إرادته ذاتها) التي تقف على النقيض من إرادة الشيطان. بل الشيطان، في إسطورة إنجيل متّى، يملك ما لا يملكه هذا الإله: (ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عال جداً، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي) [متى 4: 8-9]. هذا شيطان كان يُساوم الإله ليسجد له، مقابل (رشوة)(!!) يقدمها الشيطان لإله فاقد "ممالك العالم ومجدها". ألا يعني أن مجرد إقدام الشيطان على (رشوة الإله مقابل السجود له) أن ذلك كان (خياراً محتملاً قابل للوقوع؟)(!!!). هذا إله كان قابل للرشوة، إلا أن الخِلاف بينه وبين الشيطان (كان على الشرط فقط)، وهذا هو وجه طرافة الأسطورة.
ثانياً: صوت يسوع
في تلك القصة (غاب صوت يسوع تماماً). لا وجود حقيقي ليسوع ولا لكلماته ولا لتجلي إنساني أو إلهي إطلاقاً. الحاضر الوحيد بشخصه هو (الشيطان)، والشخصيتين المتحاورتين الموجودتين في الأسطورة هما: (الشيطان ونصوص العهد القديم) ولا وجود ليسوع إطلاقاً. فكل ما وضعه كاتب إنجيل متّى على لسان يسوع هو (اقتباس مباشر من نصوص العهد القديم)، ولم يتلفظ يسوع برأي أو اعتراض أو تعليم أو تفنيد أو حوار أو مناقشة. ففي تلك الأسطورة، القارئ لا يسمع يسوع، (فهو غائب، لا وجود له)، وإنما يسمع (فقط) اقتباسات من العهد القديم، ولا شيء آخر. سوف أضع أدناه كل ما قاله يسوع في أسطورة إنجيل متّى مع مرادفاتها من العهد القديم:
يسوع في إنجيل متّى: (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله)
الاقتباس من العهد القديم: (لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان) [تثنية 8: 3]
يسوع في إنجيل متّى: (لا تجرب الرب إلهك)
الاقتباس من العهد القديم: (لا تجربوا الرب إلهكم) [تثنية 6: 16] [ملاحظة: الطريف أن بعد هذا الاقتباس مباشرة في سفر التثنية الذي وضعه كاتب إنجيل متّى على لسان يسوع ترد هذه العبارة: (احفظوا وصايا الرب إلهكم وشهاداته وفرائضه التي أوصاكم بها)، وهو ما ألغاه بولس تماماً في الديانة المسيحية كما نراها اليوم]
يسوع في إنجيل متّى: (للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد)
الاقتباس من العهد القديم: (الرب إلهك تتقي، وإياه تعبد) [تثنية 6: 13]
بل حتى مدة الأربعين يوماً وخدمة الملائكة ليسوع في تلك الأسطورة في إنجيل متّى هو (اقتباس مباشر من سفر الملوك الأول) فيما يتعلق بقصة إيليا [ملوك الأول 19: 5-9]. (فلا حضور حقيقي ليسوع). يسوع، وبكل بساطة ووضوح، غائب تماماً في تلك الأسطورة، والحاضر الوحيد في بُنية الأسطورة هما: الشيطان والعهد القديم فقط. وهو ما يؤكد أن (العبارات من العهد القديم قد اختيرت أولاً، ثم بعد ذلك تم تركيب الواقعة الأسطورية والسرد عليها، وإن كانا غير موفقين إطلاقاً كما هو واضح عند تفكيك النص). فكاتب إنجيل متّى كان يكتب لجمهور ذو صفات ثقافية ومعرفية محددة، وهو بالتأكيد كان يشاركهم في بعضها.
كان ذلك تفكيك ابتدائي للنص الأسطوري في إنجيل متّى، ومنه ينطلق الباحث ليعكسه على شخصية الكاتب ومدى ذكائه وثقافته، وما هي الإشكالات التي كان يواجهها، ونوعية الجمهور الذي كان يكتب له.
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسألة تعمد تزوير النص المسيحي
-
في مسألة الترجمة المسيحية
-
بولس – 16 – بولس والنص اليهودي
-
المشكلة المذهبية في الوطن العربي
-
بولس – 15 – بولس والنص اليهودي
-
شذوذ مفهوم الوطنية
-
بولس – 14 – بولس والنص اليهودي
-
بولس – 13 – عصمة النص المسيحي
-
بولس – 12 – بولس والنص اليهودي
-
بولس – 11 – بولس والنص اليهودي
-
نصوص حرق البشر المسيحية - 3
-
نصوص حرق البشر المسيحية – 2
-
نصوص حرق البشر المسيحية
-
بولس – 10 - بولس وإنجيل مرقس
-
لقاء الصالون الثقافي النسائي
-
بولس – 9 - بولس وإنجيل مرقس
-
بولس – 8 – بولس وإنجيل مرقس
-
بولس - 7 - بولس ويسوع
-
بولس – 6 – بولس ويسوع
-
بولس – 5 – بولس والشيطان
المزيد.....
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال اقتحم المسجد الأقصى المبارك 21
...
-
” أغاني البيبي الصغير” ثبت الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي عل
...
-
زعيم المعارضة المسيحية يقدم -ضمانة- لتغيير سياسة اللجوء إذ أ
...
-
21 اقتحامًا للأقصى ومنع رفع الأذان 47 وقتاً في الإبراهيمي ا
...
-
24 ساعة أغاني.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 على النايل
...
-
قائد الثورة الاسلامية:فئة قليلة ستتغلب على العدو المتغطرس با
...
-
قائد الثورة الاسلامية:غزة الصغيرة ستتغلب على قوة عسكرية عظمى
...
-
المشاركون في المسابقة الدولية للقرآن الكريم يلتقون قائد الثو
...
-
استهداف ممتلكات ليهود في أستراليا برسوم غرافيتي
-
مكتبة المسجد الأقصى.. كنوز علمية تروي تاريخ الأمة
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|