|
المعلمون والأساتذة فقراء جدد، وعاصفة في مواجهة رأس المال
محجوب النصيبي أبو محمد
الحوار المتمدن-العدد: 4909 - 2015 / 8 / 27 - 13:30
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
محجوب النصيبي-سيدي بوزيد الأزمة بين قطاع التعليم ووزارة التربية وان التحفت بطابع المطلبية فانها تتجاوز ذلك مخفية وراءها ارضية متفجرة سببتها اختيارات حكومية وسياسة اقتصادية تبرّر مواصلة المواجهة بين المعلمين والسلطة في وقت أضحى فيه مدرسو الابتدائي والثانوي "فقراء جدد". أزمة وجراح بين وزارة التربية والمعلـّمين شهدت تونس في المدّة الأخيرة تصعيدا خطيرا حين قمعت قوات الأمن المعلمين في سيدي بوزيد مستعملة الغاز المسيل للدموع والماتراك تاركة أثرا جسديا عند بعض المعلمين وآثارا نفسية في نفوس بناة الأجيال خاصة وأن المعتدي كان بالأمس تلميذا وكان يطلق على الضحية "سيدي"... ويتجاوز الأثر النفسي المعلمين إلى المجتمع بعد كسر هيبة المعلّم وضرب صورته كقدوة حفرتْ في الصـّميم جراحا عميقة قد يصعب التعافي منها في ظل عدم رغبة السلطة في الاعتراف بفشل الوزير -تواصليـّا- في إدارة أكبر الوزارات من حيث عدد العاملين بها والمنتسبين أو المتعاملين معها وفي ظل إصراره على القفز إلى الأمام وإطلاقه لتصريحات مستفزة للمعلمين الذين طالبوا برحيله خاصة وأن السلطة لم تتلقف البيان الصريح الصادر عن المعلمين حول العجز في التواصل بين الوزير وبينهم إثر عملية الاقتطاع التي وصلت الى 15 يوما أنها، ولم تسارع حتى لحـفظ ماء وجه المعلمين بتنحيتـِه. هذا التعاطي الأمني مع أزمة تعصف بالتعليم الابتدائي (في انتظار عودة أزمة التعليم الثانوي إلى الواجهة بعد ان تم إخمادها باتفاق 6 افريل 2015 الذي لم يـُفـَعـّل بعدُ) يخفي وراءه حقيقة أن الأزمة أكبر من مجرد تحركات لتحسين الدخل وكلّ من يعتبر تحركات للمعلمين في تونس وليدة ردود أفعال على قرارات وردّة فعل على تراجع الوزارة على جملة من الاتفاقيات إنما يحاول ذرّ الرماد على العيون للتغطية على الأزمة التي يعرفها المجتمع التونسي ككل بعد سنوات من ثورة 17 ديسمبر. فقراء جدد لا يزال المجتمع يتذكّر أن المعلمين هم الفئة الوحيدة رفقة زملائهم في قطاع الثانوي التي لم تطالب في 2011 2012 بالزيادة في الأجور معتبرة أن الظروف لا تسمح بذلك وأن الأولويـّة الآن هي لإعادة البناء... إلا أن ما حدث في السنتين وتنامي مطلبية قطاعات كثيرة وحصول البعض منها لاستثناءات وترقيات وتحسين أجور ومنح جديدة إضافة الى المنح والامتيازات التي كانوا يتمتـّعون بها أحدث خللا كبيرا في سلم الرواتب والأجور ليجعل من المعلمين الفئة الأقل أجورا؛ بل إن سلم التأجير في تونس المبني على تصنيفات فرعية أساسها الشهائد العلمية انقلب رأسا على عقب: فئات أقل تمدرسا تحصل على أجر مساو أو يفوق المعلم بحجج وتـِعلاّت لا تقنع إلا المستفيدين منها ورافق ذلك فوارق كبيرة في الأجور إلى درجة أن بعض المهن والوظائف العليا حصل أصحابها على ما يعادل أجر معلم زيادة (600 دينار و700د في الشهر!)؛ يضاف إلى ذلك اختلاف التأجير من وزارة إلى أخرى رغم الاشتراك في الصنف الفرعي وتركز كتلة الأجور عند قلة قليلة من الموظفين الكبار على حساب بقية الموظفين الذين يصنفون ضمن محدودي الدخل حيث يتقاضى موظف واحد ما يعادل أجر 3,5 معلم لترتفع الفوارق الاجتماعية وتتعمق الأزمة. هذه الأزمة في واجهتها المعلمون والأساتذة، لكنها تتجاوزهم لتشمل فئة كاملة كل الطبقة المتوسطة التي كان من المفترض أن تشكل صمام الأمان لأي بناء اجتماعي-اقتصادي-بيئي يترجم في الفعل السياسي... فالطبقة المتوسطة والتي وحسب دراسة للمركز العربي للتخطيط صادرة في سنة 2011 كانت تمثل 79 بالمائة من السكان تآكلت وتراجعت خلال السنوات الأخيرة ليلتحق منها بالفقر القسم الأدنى منها (لا يتجاوز دخلهم 350 دولار) ثم القسم الأوسط منها (بين 350 و500 دولار) والتي تعرف أكبر نسبة تداين واقتراض (القروض الاستهلاكية المستعملة في البناء أو لشراء سيارة تسندها البنوك وتصل إلى 40 في المائة من الأجر). هذه الفئة سميت بالفقراء الجدد. وهم وحسب دراسة ميدانية لمركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالتعاون مع الجامعة التونسية بداية العام 2015 أساسا "صغار الموظفين بالإدارة والمدرسين بالمدارس الابتدائية والإعدادية والعمال والأجراء الذين لا تتجاوز مرتباتهم وأجورهم الشهرية 700 دينار (أي حوالي 450 دولار”) حيث أكدت نفس الدراسة على ارتفاع نسبة الفقر بنسبة 30 بالمائة وترتفع بالتالي النسبة العامة للفقر في تونس إلى أكثر من 47 بالمائة... هذه المعطيات لم تثر اهتمام الحكام الجدد لتونس ولم تجعلهم يبحثون في أسباب الأزمة، بل واصلوا صرف اهتمامهم إلى تأمين الكتل المالية التي أوصلتهم إلى الحكم بتعويضات ومنح وامتيازات وإجراءات استثنائية أججت الغضب في مختلف شرائح المجتمع. ولعلنا لا نضيف جديدا إذا نظرنا إلى تقرير لمركز كونراد هاكيت الدولي والذي ورد فيه أن تونس تحتل المركز الرابع ضمن مجموعة البلدان الأكثر تدنيا للمعيشة من حيث تكلفة المعيشة والقدرة الشرائية لمختلف الفئات الاجتماعية ورخاء العيش متمثلا بالخصوص في الثقافة والترفيه والتنمية والبيئة والحرية والسلم الأهلي والأمن. العوامل الاقتصادية والسياسية للتفقير الفقراء الجدد -المعلمون والأساتذة- هم الفئة الأكثر تعلما ويشكلون الفئة الأكثر تأثيرا في المجتمع لطبيعة التشبيك العلائقي في المجتمع التونسي ولطبيعة توزّعهم الجغرافي في كل مناطق البلاد من الأحياء و الدّشـُرْ إلى الأرياف والقرى والمراكز الحضرية إلى المدن الكبرى وعددهم باعتبار معدل 4 أفراد في الأسرة الواحدة فقط يتجاوز 600 ألف تونسي، وهم يمثلون القوة الضاربة في الدورة الاقتصادية الاستهلاكية وأي تدهور في القدرة الشرائية ولو بدينار ينعكس سلبا على الاستثمار من حيث الإستهلاك والادخار. فما بالك والدولة تطبق "وصفة البنك الدولي والصندوق الدولي" و القائمة أساسا على: 1- المجال الضريبي بتخفيض الضرائب علي الدخول والأرباح التي يحققها القطاع الخاص؛ وتقديم إعفاءات سخية من الضرائب المفروضة على الأرباح والدخول؛ وتقديم تيسيرات جمركية علي الواردات الاستثمارية والوسيطة للمشروعات الاستثمارية؛ واستحداث الضريبة العامة علي المبيعات التي لا تفرق بين غني وفقير؛ واستحداث الضريبة العقارية. 2- تخفيض قيمة العملة بالدعوة إلى السماح بخفض قيمة بحجة زيادة الصادرات وتقليص الواردات، ومن ثمــة تحسين وضع الميزان التجاري، وتشجيع السياحة وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في التدفق إلى الاقتصاد التونسي، وبالتالي تخفيف الضغوط في سوق النقد الأجنبي، ليكون المواطن البسيط والطبقة المتوسطة هي من دفع الثمن. 3- تحرير الأسعار وإلغاء الدعم بتحرير الأسعار وفق العرض والطلب وإلغاء الدعم عبر منع الرقابة علي الأسعار، وإلغاء تدخل الدولة في مجال تسعير المنتجات، والتخلص من الدعم الاقتصادي الذي تتحمله الدولة، وتخفيض الدعم الموجة للسلع الغذائية والضرورية تمهيدا للإلغاء الكلي لهذا الدعم، ورفع أسعار مواد الطاقة وبخاصة مواد الطاقة التي تستخدم في أغراض الاستهلاك العائلي ومساواتها بالأسعار العالمية. لماذا لمْ يطقْ المعلمون صبـْرا؟ قد يتساءل البعض أن هذا الشأن يخص كل التوانسة، فلماذا يتصدى المعلمون له دونا عن غيرهم ؟؟؟ إنما تقولون ذلك لتبرروا مطلبيتكم القطاعية التي تضر بالاقتصاد... الجواب هو أنّ المعلم لا يعيش خارج هذا المجتمع بل هو كتلة من كتله تعبر عنه التزاماته تجاه المجتمع تبدأ من أسرته، وله متطلبات تفرضها القيمة الثقافية والدور الاجتماعي الذي يتحمله بما هو مؤتمن على جملة معارف وخبرات ومراكمات وخصوصيات المجتمع والوافد إليها من المعارف والخبرات من الخارج التي وقع تشذيبها وتهذيبها وتعديلها في السلوك الجمعي للمجتمع للتناسب وقسماته... عملية من الخطورة بمكان تتطلب الشعور بالأمان الاجتماعي. فالمعلم التونسي أضحى في آخر سلم الرواتب والأجور على المستوى العالمي: في المرتبة قبل الأخيرة صحبة المعلم المغربي (350 إلى 450 دولار). وهذه التحركات والمواجهات وإن كانت قطاعية، فإن سلطة رأس المال استعانت بأحد أقطاب الحكم في المشهد الجديد -الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل- للوقوف في وجه هذه العاصفة التي تتهددهم حتى لا يضطروا لإعادة تقسيم الثروة وتوزيعها خاصة وهم يسيطرون على 80 في المائة من خيرات البلاد... وقد أوفت قيادة الاتحاد بـ تعهداتها حين "أجبرت النقابة العامة للتعليم الأساسي على فك الاعتصام في مرة أولى على وعد منه بحل مشكل الاقتطاع، ثمّ وفي مرة ثانية أعدم أي إمكانية لتواصل سلاسل الغضب وتصاعدها بإشرافه ولأوّل مرة على هيئة ادارية تخلّت عن البند الوحيد الذي كان على جدول أعمالها وهو بحث تراتيب المقاطعة ليرتكس الى أدنى أسلوب نضالي (يوما غضب ويوما إضراب). عناقيد الغضب لمْ تهدأ يدرك كل النقابيين أن مثل هذه القرارات تكون في بداية المسار النضالي ولا يمك بأي حال أن تكون تتويجا له... الأخطر في كل ذلك هو محاولات بعض الفاعلين في المركزية النقابية في مواقع مختلفة تحويل الحرب بين المعلمين والسلطة إلى تطاحن بين المعلمين بين مؤيد ورافض مكررين أسلوب السلطة والوزير بمحاولة تجييش الأولياء وشحنهم ضد المعلمين حتى وصل الأمر إلى بعض الاعتداءات في آخر السنة الدراسية الماضية عدى عن الهرسلة والتهجم والسباب. و في كل الأحوال فقد رزع المعلمون والأساتذة بذرة ستكبر رغما عن أنف سلطة رأس المال وأسـّس التحرّك لنواة جديدة وأسلوب جديد في النضال أساسه شلّ حركة قطاع كامل حتى تحقيق المطالب ولن يكون أمام أي قطاع أو مجموعة تطلب حقوقها إلا انتهاج ذلك النهج وربما يصل الأمر يوما إلى الإضراب العام رغما عن البيروقراطية الفاسدة التي ستجد نفسها ساعتها وقد تجاوزتها الأحداث. الفقراء الجدد كانت على أيديهم نذر العاصفة ولا تزال في انتظار سنة دراسية يريدها رأس المال إشهارا له بما حاول إدخاله من إصلاحات على المدارس ويريدها المعلمون والأساتذة انتصارا لمبدأ العدالة الاجتماعية وأوّل مداخلها العدالة في الأجر... وبين الإشهار والانتصار يراقب الشارع تصاعد الأحداث وهو هذه المرة لن ينتظر لمن تؤول موازين القوى لينضم إليها هذه المرة ببوصلة واضحة، ولن يتأخر التحاقه بالمدافعين عن الحق في العيش الكريم. 26 أوت 2015.
#محجوب_النصيبي_أبو_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إدارة بايدن تسمح للمقاولين العسكريين الأمريكيين بالانتشار في
...
-
بايدن يعلق على أحداث أمستردام
-
روسيا تؤكد استعدادها لنقل 80 ألف طن من وقود الديزل إلى كوبا
...
-
رئيس الوزراء اليوناني يقدم مقترحات للاتحاد الأوروبي من أجل ا
...
-
رويترز: البنتاغون يسمح بتواجد متعاقدين عسكريين في أوكرانيا ل
...
-
الناتو يزعم أن التعاون بين روسيا وكوريا الشمالية يمس الأمن ا
...
-
إيران: مقتل 4 -إرهابيين- وجندي في عملية في سيستان وبلوشستان
...
-
قضيّة الوثائق السرية المسربة: مستشارة الحكومة الإسرائيلية تو
...
-
تواصل التنديدات الدولية بالهجمات على مشجعين إسرائيليين في أم
...
-
القضاء الأمريكي يوجه الاتهام لإيراني بالتخطيط لاغتيال ترامب
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|